أفق الداعية بين الضيق والسعة

أفق الداعية بين الضيق والسعة

حسن الأشرف

 

الأفق الدعوي الرحب هو تلك المساحة التي تمتد أمام كل داعية إلى الله، ليمنحه بصيرة غير محدودة تدفعه لسبر أغوار الحقيقة، والنفاذ إلى عمق الأمور في شتى شئون الدين والحياة عامة، وفي مسائل الدعوة المباركة وقضاياها بصفة خاصة.

 

لكن الأفق لا يكون دائما واسعا ورحبا، بل تعتريه في أحايين كثيرة أعراض الضيق مما يفضي بالداعية إلى مجانبة التقدير الصحيح وعدم وضع الأمور في نصابها.

 

فما مظاهر الضيق في أفق الداعية إلى الله؟ وأين تكمن الأسباب المؤدية إلى هذه الحالة؟ وهل من مخرج يضمن عودة الداعية إلى جادة دعوته بأفق واسع رحب؟. * أسباب تؤدي لضيق الأفق:

 

لعل من أهم الدواعي التي تؤدي إلى تشكل أفق ضيق عند الداعية إلى الله عز وجل:

 

1- التهاون في طلب العلم، وعدم تتبع مسائل العلم في مختلف مناحيه، والنهل من معينه الذي لا ينضب؛ فالجهل لا يفضي في نهاية المطاف إلا إلى نوع من العجز عن قراءة الواقع واستشراف المستقبل، من خلال هذه القراءة الواقعية للمجتمع وما يختلج فيه.

 

2- محدودية قدرة الداعية على التأمل والنظر والتفكر والتدبر، وهي محددات أساسية لبلوغ الداعية سقف الاطلاع والرحابة في التفكير والتعبير، ومن ثَم التواصل مع الغير من أفراد المجتمع.

 

3- وقوف الداعية عند حروف الألفاظ، وعدم نفاذه إلى معانيها وحمولاتها، فيكون الفهم قاصرا عن إدراك الضروري إدراكه، فيستخلص الداعية عن هذا الفهم القاصر للنص أحكاما اجتهادية قاصرة المعنى أيضا؛ لأن المنطلق الأصلي كان خاطئا، فكيف لا يؤثر على النتائج؟. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "رُب شخص يفهم من النص حكما أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين"!.

 

4- التبعية العمياء للشيخ؛ إذ تجد الداعية أو طالب العلم لا ينظر إلا من خلال نافذة شيخه، فإن كانت نافذة الشيخ نافذة واسعة يدخلها الضوء والهواء الكافيان لتنفس شرعي واضح المعالم والحدود دون إفراط ولا تفريط، كانت نافذة الداعية أيضا على مقياس وشاكلة نافذة الشيخ، وإلا فلا. والتقيد الحرفي الصارم بنظرة الشيخ لا شك أنه يخلق عند الداعية ذهنية خمولة بليدة، غير قادرة على النقاش والاجتهاد، بعيدة عن ملَكة الإبداع وتقديم الدعوة في لباس عصري جذاب يثير المدعوين خاصة فئة الشباب منهم.

 

5- الخلل في ترتيب الأولويات عند الداعية إلى الله، وهذا مرده الجهل بفقه الأولويات أو ما يطلق عليه الدكتور يوسف القرضاوي "فقه مراتب الأعمال"، ويعني وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدم الأَوْلى فالأوْلى بناء على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي ونور العقل، فيوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم بلا طغيان ولا خسران، مصداقا لقول الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاج وعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظالِمِينَ . الذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَة عِندَ اللهِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} (التوبة: 19، 20)، والداعية الذي لا يمتلك ميزان فقه الأولويات يسقط في فخ المصلحة الآنية إن عاجلا أم آجلا؛ الأمر الذي يضر بالداعية نفسه وبالدعوة برمتها.

 

6- الغلظة والتشديد في الدعوة، فنجد الداعية الذي لا يمتلك نواصي الأفق الرحب يؤاخذ الناس حتى على تقصيرهم في بعض الأمور المستحبة، فيدعوهم بشيء من الغلظة والجفاء كأنهم تركوا أمرا واجبا، أو فرضا لا يجوز تركه بحال من الأحوال. * السبيل إلى سعة الأفق:

 

يستطيع الداعية إلى الله تعالى أن يوجه طاقاته وجهوده إلى أهداف محددة، على ضوء القرآن والسنة، بالفهم الصحيح والدقيق لحقيقة الإسلام وقواعده، ذلك أن الدين الإسلامي مليء بالحقائق والقواعد والمفاهيم التي تساعد على سعة الأفق، ويجب فهم هذه الحقائق فهما سليما وصحيحا. كما أن تواضع الداعية، وتدريب نفسه على التعلم مهما بلغ في مجال الدعوة من شأو، يفتح الآفاق الواسعة والبصائر النافذة، ويطرد الكبرياء والغرور الذي يصيب كل داعية في صلب عطائه وإخلاصه.

 

ثم إن الدعاة سعاة، فينبغي على الداعية أن يذهب إلى المدعو؛ ففي تحرك الداعية نحو الآخر، واحتكاكه به ومعرفة واقعه وطريقة عيشه، والاطلاع على آماله وآلامه، تتسع مدارك الداعية إلى الله، ويتسع أفقه ليشمل الغير دون تهميش لهذا أو ذاك، ودون إقصاء لفلان أو علان، أو تكبر على هذا الشخص أو ذاك. والداعية مطالب بأن يتسع أفقه لعموم الناس، الموافقين والمخالفين على السواء.

 

ولكي يُبعد الداعية إلى الله عن نفسه داء ضيق الأفق، عليه أن يدربها على النفور من ادعاء امتلاك الحقيقة، وأن يمزق شعار: قولي صوابٌ لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب؛ إذ يجب على الداعية أن يتربى على الاستعداد الصادق لسماع ما عند الآخر، وأن يترك الفرصة له للتعبير عن بنات أفكاره وآرائه، بدون إشعاره أن ما يقوله تافه أو غير مجد أو خاطئ حتما.

 

يقول الأستاذ عبد الله بن العيد، الباحث في الدراسات الإسلامية: "إنه من المؤسف حقا أن نجد الداعية لا يمتلك القدرة على سماع الغير وتقدير ما عندهم من أفكار وآراء، بل يمكن أن تعرض على الداعية أحيانا الآراء المخالفة وذهنه مغلق خارج التغطية، متيقنا -عن سابق إصرار وترصد- بأن ما سيقال له مجرد ترهات وأباطيل لا أصل لها من الحقيقة؛ فعنده الحكم على الأمور والأشياء بمقياس: إما أبيض أو أسود! والواجب أن يلزم نفسه بسماع ما عند المدعو وغير المدعو ثم يحكم بقبوله أو رده بالدليل الشرعي، مع إيجاد العذر للمخالف، لا الرفض من أجل الرفض انطلاقا من هواه الشخصي". فالتجرد للحق معين عظيم على سعة الأفق ولا شك.

 

وليأخذ الداعية المصاب بداء ضيق الأفق الحكمة والموعظة من قصة الفقيه إسحاق بن راهويه الذي التقى بالإمام الشافعي في مكة، فتناظرا حول مسائل عديدة، والعجيب أنهما في بعض المسائل رجع الشافعي إلى قول إسحاق، ورجع إسحاق إلى قول الشافعي، كل واحد منهما أعجبته حجة الآخر ودليله، فقال بها، وهذا نموذج الانتصار للحق فقط والتجرد له، بعيدا عن الهوى أو الغرور أو الكبر بما عند الداعية من علم أو شهرة.

 

كما أنه من المعينات على سعة الأفق عند الداعية ضرورة نهجه لخطة واضحة الوسائل والأهداف، بغية الانفتاح على ثقافات الغير وواقعهم، وتعلم ممارسة فنون الدعوة العملية من خطابة ومحاضرة، ودرس، وحوار، ومناظرة ووسائل أخرى، والاعتناء باللغات الأخرى غير العربية؛ وهو ما يمنح الداعية اطلاعا واسعا ينفي عنه سمة الضيق في أفقه وطريقة تفكيره.

 

وقبل هذا وذاك، الداعية الحريص على أن يكون أفق دعوته ممتدا أمامه لا يحده حاجز، يجدر به أن يكون خلقه حاميا لعلمه ومعرفته الشرعية من أخطار الانزلاق في سراديب الشهوات ومتاهات النزوات، ومن هذه الأخلاق الحامية له أن يكون أمينا على شئون الدعوة المباركة، بالتواضع أمام من هو أعلم منه وأفقه، ورد الأمر له، الشيء الذي يكسر جذوة الرغبة في احتكار المعرفة المفضية إلى ضيق الأفق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" رواه الترمذي وحسنه. * حسن الأشرف: كاتب مغربي

 

المصدر: إسلام أون لاين

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك