دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية

دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية

عبد المجيد عمر النجار

 

* تمهيد:

إن العقيدة الإسلامية في تحديدها لحقيقة الوجود والإنسان والكون هي "الفكرة" التي صنعت الحضارة الإسلامية، -إذ كل حضارة هي ثمرة فكرة تحدد هذه الحقيقة- وستبقى على مر الدهر هي التي تحرك الأمة إلى هذه الحضارة: استئنافا، وتعديلا، وترشيدا، كما حركتها لصناعتها ابتداء. ولكن هذه العقيدة يتوقف عملها في الدفع الحضاري على كيفية تحمل المسلمين لها. فإن كان تحملها يجري على حال صفاتها وصحتها كما جاءت عليه في حقيقتها من جهة، وكان يجري من جهة أخرى على عمق من النفوس بحيث تأخذ بمجامعها، وتحشد قواها، أفضى ذلك إلى الدفع الحضاري، وإن كان ذلك التحمل يجري على حال تكون فيه صورة العقيدة على انحراف وتشويش أو تجزئة واختصار، وكان من جهة أخرى يجري على حال لا تتجاوز فيه العقيدة مجرد أفكار وخواطر ومعلومات تقع في الأذهان، ولا تنفذ لتأخذ بمجامع القلوب، فإنها حينئذ تتعطل دافعيتها للنفوس، فلا يكون لها أثر يذكر في الفعل الحضاري، ويكون إذن التراجع والانحسار في التحضر، ويكون العجز عن النهوض لاستئنافه من جديد. وقد كان الخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية في تحملها لعقيدتها عاملا حاسما في انحسارها الحضاري سواء ما آل إليه الأمر من انحراف في التصور العقدي، أو من سطحية في التحمل الإيماني تراخي بها الدفع الإرادي للعمل الحضاري. وهذا الخلل بمظهريه هو نفسه الذي يعوق الأمة اليوم عن الانطلاق من جديد للنهوض الحضاري عاملا أساسيا من عوامل الإعاقة، فيكون إذن إصلاح الخلل عاملا أساسيا من عوامل النهضة، بحيث لا يمكن أن يحدث في حياة الأمة الإسلامية انتعاش معتبر، فتنمو هذه الحياة في وجوهها المختلفة وتستأنف شهود التحضر إلا بإصلاح عقدي يرشد تحمل الأمة لعقيدتها لتقع في النفوس من جديد موقع الدفع إلى العمل الصالح المعمر في الأرض، المنمي للحياة.

 

وتحمّل العقيدة الإسلامية يكون على درجات متعددة، أولها الفهم، وذلك بتصور هذه العقيدة على حقيقتها كما ورد بها الوحي. وثانيها التصديق بحقيقتها، سواء في نسبتها إلى مصدرها، أو في قيمتها الذاتية مطابقة للواقع، وتأدية إلى الخير والصلاح. وثالثها صيرورتها مرجعا موجها للفكر في كل ما يتجه إليه البحث، وما ينتهي إليه من النتائج. ورابعها صيرورتها دافعة للإرادة كي تنطلق في سبيل الفعل والإنجاز. وفي كل درجة من هذه الدرجات في تحمل الأمة الإسلامية اليوم يوجد خلل يستوجب الإصلاح، ليتم من إصلاح الاعتقاد تفصيل صلاحه ورشده جملة، ولتكتمل بذلك العناصر التي تجعل من الوضع العقدي للمسلمين عامل نهضة حضارية حينما يصبح بالإصلاح وضعا صحيحا، كما كان عند إنشاء التحضر الإسلامي في دورته الأولى.

 

وفيما يأتي سنتناول بالبيان كيفية الإصلاح العقدي في درجاته الأربع المشار إليها، وذلك من خلال ثلاثة عناصر أساسية: أولها: ترشيد الفهم للعقيدة الإسلامية ترشدا تستقر به هذه العقيدة في النفوس صحيحة صافية جازمة. وثانيها: التأطير العقدي الشامل، بحيث تكون العقيدة هي المرجعية الأساسية التي يصدر عنها فكر المسلم وعمله جميعا. والثالث: هو التفعيل الإرادي للاعتقاد حيث يكون اعتقاد المسلم مؤديا إلى إرادة فاعلة تنطلق في إنجاز العمل الصالح. وفي كل عنصر من هذه العناصر نبين كيف أن الإصلاح العقدي فيه يثمر دفعا إلى النهضة، ولكننا في عنصر رابع نجمل ذلك الدور المتأني من جملة العناصر الثلاثة، ونسميه عاملية الرشاد الاعتقادي في التحضر، وفيه نبين كيف أن هذا الإصلاح العقدي كفيل بإحداث النهضة الإسلامية، أو المساهمة الأساسية فيها، ونناقش المقولات المختلفة لذلك. * ترشيد الفهم العقدي:

 

نقصد بترشيد الفهم العقدي أن يحصل للمسلم تصور لمفهوم العقيدة مطابق قدر الطاقة الإنسانية لما هي عليه في حقيقتها التي جاءت عليه في الوحي، خالصة من أي زيادة أو نقصان أو تغيير أو اضطراب. ويشمل هذا الترشيد ثلاثة عناصر أساسية: ترشيد مصادر الفهم، وترشيد المدلول العام للعقيدة، وترشيد المفردات العقدية.

 

أ‌. مصادر الفهم

 

جاءت العقيدة الإسلامية بينة في نصوص القرآن والحديث، وبمقتضى المبدأ الإسلامي الذي يجعل فهم نصوص الوحي قدرا مشتركا بين المسلمين، ويمنع أي كان من أن يدعي احتكار فهم تلك النصوص وتفسيرها ونصب نفسه الناطق الرسمي باسمها لتصبح أفهامة وشروحه ملزمة للناس، بمقتضى ذلك المبدأ فإن نصوص القرآن والحديث تكون هي المصدر الوحيد لمعاني العقيدة الإسلامية الذي يتجه إليه المسلمون لتحصيل مفاهيمها وضبط مدلولاتها.

 

غير أن نصوص القرآن والحديث تختلف في إخبارها بحقائق العقيدة، فبينما بعضها يخبر بطريق القطع في الدلالة وفي الثبوت، فإن بعضها الآخر يخبر بطريق الظن في أحدها أو فيهما معا، ولهذا فإن المسلمين لما نظروا في هذه النصوص لتحصيل مفاهيم العقيدة منها، فإنهم اتفقوا في الفهم فيما يتعلق بالعقائد التي وردت قطعية الثبوت والدلالة، وهي العقائد الأساسية من مثل وحدانية الله وثبوت النبوة والبعث. ولكنهم اختلفت أفهامهم في تلك العقائد التي وردت ظنية في الدلالة أو في الثبوت، أو فيهما معا.

 

واختلاف المسلمين في الأفهام التي وقع فيها اختلاف لم يبق عند حد ما تقتضيه الحجة العلمية الصرفة في دلالة النص على معناه، أو في ثبوت نسبته إلى مصدر الوحي، بل داخلته ملابسات أخرى كثيرة، يعود بعضها إلى تفاعلات المجتمع الإسلامي في تطوره السريع، وما نتج عن ذلك التطور من المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويعود بعضها الآخر إلى الصراع العقدي والثقافي الذي نشأ عن انتشار الإسلام في أرض الأديان والمذاهب والفلسفات مشرقا ومغربا.

 

ومن هذه الملابسات المعقدة تطورت الخلافات في الفهم العقدي وتوسعت حتى انتهت إلى ما عرف في التاريخ الإسلامي بالفرق الإسلامية، التي هي في حقيقتها فرق مبنية على الاختلاف في الفهم العقدي. ولما تميزت الفرق بكياناتها، وتوسعت أنظارها واهتماماتها، ولابست الحياة الإسلامية العامة بجميع وجوهها: سياسة واجتماعا واقتصادا، انضافت في أنظارها وتقريراتها العقدية ملابسات أخرى إلى تلك الملابسات التي أشرنا إليها آنفا. وهي ملابسات يعود أكثرها إلى ما نشب بينها من صراع فكري بالأساس، وسياسي اجتماعي في بعض الأحيان، صراعا يجاوز في حالات كثيرة حدود العدالة والقسط ليؤول إلى تحكمات المكابرة والأهواء، أو إلى المصادرات والإلزمات التي لا تستند إلى الأدلة والحجج.

 

وقد أسفرت هذه الملابسات كلها عن وضع من الفهم العقدي لمسائل كثيرة لم تكن فيه نصوص الوحي هي المصدر الأول والأخير في الفهم، بل داخلته عوامل أخرى عن قصد أو غير قصد، تبدت فيه مظاهر من التأويل وألوان من التعصبات التي تصدر كلها عن غير خلوص في الالتزام بالنص ومقتضياته الذاتية.

 

ولما تطاول الزمن، وآل الأمر إلى الجمود والتقليد في الفكر كله بما فيه الفهم العقدي، استقرت الأفهام العقدية المختلف فيها على وجوه اختلافها منسوبة إلى أصحابها من الفرق والأشخاص، وكان استقرارها متضمنا الملابسات التي أدت إلى الاختلاف فيها، كما أدت إلى استمرار الثبات عليها من قبل أصحابها. وكان التقليد صارفا عن النظر في تلك الأسباب والملابسات التي وقع تناسيها، واستقر حال الأمة على أن تتحمل عقيدتها على تلك الأفهام مباشرة وكأنما هي مصدر للفهم العقدي مستقل بذاته، دون الرجوع بالفهم إلى المصدر الحقيقي الذي هو نصوص القرآن والحديث، فيما يشبه ما أصاب أحكام الشريعة من التزام فيها بأقوال الفقهاء والمفتين السابقين دون الرجوع إلى مصدرها الأصلي من القرآن والحديث.

 

والناظر اليوم في كتب العقيدة ودواوين الفرق الإسلامية، وهي التي تمثل الأفهام العقدية للأمة، يجد أنها فيما هو مختلف فيه ينأى كثير منها عن المقتضيات الحقيقية لنص الوحي، وذلك بتأويلات مفرطة تميل بإفراطها حينا إلى ناحية الباطن، وتميل حينا آخر إلى ناحية الظاهر، فإذا بها تبدوا غريبة عن الوحي، سواء في المواطن الخاصة التي كانت مناطا للفهم المباشر، أو في الروح العامة والمقاصد الكلية للقرآن والحديث. ومن جهة أخرى فإن كثيرا من الأفهام المختلفة يظهر عند التدقيق فيها أن اختلافها لا يعدو أن يكون اختلافا ظاهريا ناشئا عن اختلاف مصطلحات أو عن تشبث بالتمايز في سياق التعصب المذهبي.

 

وهذا الوضع الذي آل إليه الفهم العقدي أصبح فيه المسلمون كأنما يتخذون لفهم عقيدتهم مصدرين ملزمين: الوحي من جهة, وأفهام الفرق والعلماء وتفسيراتهم من جهة أخرى، وذلك بمقتضى التقليد و المذهبية الضيقة المتعصبة، كما انتهى إلى ذلك حالهم منذ قرون عديدة.و لا شك في أن هذا المآل المتمثل في ازدواجية المصدر الذي تؤخذ منه أفهام العقيدة قد كان له ضرر كبير لحق بالأمة، وكان سببا معطلا لمسيرة التحضر، وعائقا يعوق النهوض لاستئناف تلك المسيرة من جديد.

 

وعلى سبيل التمثيل لتلك الأضرار الناشئة عن ازدواجية المصدر نذكر تلك النـزاعات بين الفرق، وما أهدر فيها من طاقات، وما آلت إليه أحيانا من تدابر بين المسلمين قد يصل إلى حد الاقتتال. ولا تزال أثار تلك النـزاعات باقية إلى اليوم تسبب الفرقة والخصام، تستحضر فيها خصومات الماضي حتى وإن أصبحت تلك الخصومات غير ذات موضوع في الحاضر، وتشخص فيها فرق من التاريخ حتى وإن أصبحت نلك الفرق أثرا بعد عين ليس لها في الواقع وجود.

 

ونذكر في ذلك أيضا العديد من التصورات العقدية التي خالفت مراد الوحي، وانحرفت عن الصورة الحقيقية كما وردت فيه، وذلك بحكم التأويلات المتطرفة يمينا أو شمالا، فإذا هي تقعد الأمة عن ممارسة مهمتها الحضارية أو تسهم في ذلك بقدر كبير. ومن تلك التصورات المنحرفة ما فشا في قسم كبير من الأمة من عقيدة الجبر التي تعطلت بها الأسباب في الأذهان، فانكفأ الناس عن طلبها في تعاملهم مع بعضهم وفي تعاملهم مع الكون، وسقطوا في الاتكال، فإذا هو الخمول والسكون، وإذا هو التراجع الحضاري، ثم العجز عن الحركة لمعاودة النهوض. ومثل هذه العقيدة المنحرفة فيما آلت إليه أفهام المسلمين كثير، وآثارها في مسيرة التحضر بالغة الضرر وهي تعود كلها بسبب متين إلى الازدواجية في مصادر فهم العقيدة.

 

وبناء على ما تقدم فإن من أول مظاهر الترشيد في تحمل الأمة لعقيدتها هو أن تؤوب في هذا التحمل إلى المصدر النصي مصدرا وحيدا لفهم العقيدة، بحيث تطلب حقائق العقيدة وتضبط صورها بالرجوع إلى القرآن والحديث مصدرا ملزما وحيدا؛ وأما أفهام السابقين من الفرق والعلماء والباحثين فإنها تصبح لا تعدو أن تكون وسيلة مساعدة على الفهم المباشر من القرآن والحديث، ويصبح الرجوع إليها مقتضى من مقتضيات المنهج في البحث والنظر، وليس بحال مقتضى من مقتضيات التدين باعتبارها مصدرا للعقيدة، وحينئذ فإنها تكون مبسوطة على بساط الامتحان والنقد، فيؤخذ منها ويرد، ويتحرى منها ما هو أقرب إلى الحق بقطع النظر عن نسبته إلى الفرق والأشخاص.

 

وإذا كان العموم من أفراد الأمة لا يقدرون في واقعهم الحالي الرجوع المباشر إلى نصوص القرآن والحديث لتحديد أفهامهم العقدية، فإن النخبة القادرة منها على ذلك يقتضي الرشد في فهمها أن ترتبط مباشرا بهذه النصوص لتجعلها المصدر الملزم للتصور العقدي ثم تتوسع هذه السيرة شيئا فشيئا بتوسع قدرة المسلمين على الارتباط المباشر بالقرآن والحديث، ويصبح ذلك سنة عامة للناس يكون الاحتكام فيها في الأفهام إلى نصوص الوحي، ولا تتخذ آراء المتناظرين والشراح إلا مساعدات على الفهم يستأنس بها استئناسا في غير إلزام.

 

وحينما تخلص الأمة أوبتها إلى القرآن والحديث في فهم العقيدة، فإنها ستنفتح لها أبواب الفهم الصحيح، وتتخلص من منحرفات الصور ومبتدعاتها: إذ أن العكوف على النص القرآني والحديثي عكوفا متأنيا خالصا من نـزعات الهوى والعصبية من شأنه أن يبصّر بوجوه الحق في مدلولاته العقدية فكثير من موارد تلك المدلولات قاطع في الدلالة والثبوت، وما كان فيها ظنيا لا يلبث أن يثبت يتبين مدلوله برد بعضه إلى بعض لدراسته ضمن وحدة موضوعية تتكامل فيها المعاني الجزئية لتكوّن المعنى الكلي، وأخذ بعين الاعتبار للسياقات التي ترد فيها المعاني العقدية، فإنها عنصر مهم في تحديدها. ولو جمع في كل معنى من معاني العقيدة ما ورد فيه من آيات وأحاديث، ثم درست تلك الآيات والأحاديث بالمنهج الذي ذكرنا بعيدا عن الموجهات الخارجية لكان الانتهاء إلى مدلول هو المدلول المراد من الوحي، لالتقى عنده الناس معضمهم إن لم يكونوا كلهم1.

 

إن حقائق العقيدة ثابتة لا تتغير، وهي ليست متعلقة بظرف من الظروف أو بحال من الأحوال، فالله واحد في كل حين، والآخرة حق أبدي والإنسان مكرم في كل زمان، وهو مكلف بإقامة الخلافة في الأرض إلى يوم القيامة، وهكذا الأمر في كل حقيقة من حقائق العقيدة، فأي مسوغ لوجود اختلافات في الأفهام سوى تحكيم الاعتبارات الظرفية، إن لم تكن اعتبارات الهوى والعصبية؟ وإذا كان الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية يسوغه أن هذه الأحكام موضوعة لمعالجة أحوال واقعية، وهي متغايرة بتغير الظروف، فيكون لكل ظرف حكم يحقق فيه مقصد الشريعة، فإن أحكام العقيدة وضعت تتصف بالإطلاق الذي لا تقيده الظروف، فمسوغ الاختلاف فيها غير وارد مثل أحكام الشريعة. وقد جانب المعتزلة قديما الصواب حينما دفعهم إخلاصهم في إثبات وحدانية الله إلى المغالاة في التشبث بمقولة وحدة ذات الله وصفاته، ومقولة خلق القرآن لمواجهة التثليث المسيحي الذي كان يهاجم التوحيد الإسلامي2، فهم قد حكموا ظرفا معينا من الواقع في فهم حقيقة من حقائق العقيدة، ولكن مجانبة أكبر للصواب تتمثل في تنازع فئات المسلمين اليوم حول هذه القضية، وقد ولت الظروف التي نشأت فيها، والأطراف التي تنازعت حولها منذ قرون.

 

وحينما يتخذ النص القرآني والحديثي مصدرا وحيدا لفهم العقيدة الإسلامية، ومنطلقا أوليا لتبين مدلولاتها، فإن الخلافات في تصورها ستؤول إلى الزوال إلى حد كبير، وستلتقي الأفهام على قدر مشترك من المعاني، هي المعاني التي جاء الوحي يريدها، على قدر ما في طاقة الإنسان من القدرة على المطابقة بين مراد المخاطب وتصور المتلقي. وحينئذ فإن الأمة تتجاوز أوضاع الفرقة المستنـزفة للطاقات وتتوحد جهودها في محاولة النهضة، كما أن تصورها العقدي لحقيقة الوجود والإنسان والكون سيكون التصور الصحيح الدافع لتلك الجهود الموحدة في طريق الحل والإنجاز.

 

ب. مدلول العقيدة

 

بعد ترشيد التحمّل العقدي فيما يتعلق بالمصدر الذي يكون منه الفهم، فإن الضرورة تدعو أيضا إلى ترشيد هذا التحمّل فيما يتعلق بمدلول العقيدة نفسه، فإن هذا المدلول أصابه هو أيضا الاضطراب والتحريف، كما أصابه الانكماش والاختصار، وكان لكل ذلك انعكاس سلبي على الأمة في مسيرتها الحضارية نكوصا ونهوضا على مرور تاريخها.

 

والترشيد المتعلق بمدلول العقيدة ذو أهمية بالغة، ذلك لأن العقيدة هي أساس الدين، وهي بالتالي المحدد الأصلي للهوية الإسلامية، وهي المحرك الأساسي لحركة التحضر، والطابع له بطابعه المميز؛ فمدلولها إذا بحسب ما يكون تصوره في الأذهان سعة وضيقا، ووضوحا وغموضا، يكون عمل العقيدة في النفوس تحقيقا للهوية الإسلامية فيها، ودفعا لها إلى التعمير في الأرض والخلافة فيها، وذلك بمقتضى كون العقيدة الإسلامية هي التي تقوم مقام الفكرة الدافعة إلى التحضر كما أشرنا إليه آنفا. وعلى سبيل التوضيح، فإن عقيدة يمتد مدلولها ليشمل تحديد مهمة للإنسان في حياته هي مهمة التعمير في الأرض، فيكون أصلا من أصولها سيكون أثرها في النفوس، طبعا لهويتها وتحديدا لعلاقتها العملية بالكون، أثرا مختلفا لا محالة عن الأثر الذي تحدثه تلك العقيدة لو انحسر مدلولها عن تحديد هذه المهمة للإنسان فأهملت فيها، أو اندرجت ضمن تعاليم ثانوية في نطاق التشريعات العامة. وإذن فإن مدلول العقيدة كما تتصوره في الأذهان، سعة وضيقا، له بالغ الأثر في تحديد المسلك العملي الناشئ عنها.

 

وإذا كان مدلول العقيدة الإسلامية ظل في أذهان المسلمين مشتركا بين أجيال الأمة في ثبوت امتداده على مساحة تمثل الأسس الكبرى من المعاني العقدية مثل الوحدانية والنبوة والبعث وما تنطوي عليه من المعاني الجزئية، فإنه في مساحة أخرى من المعاني ظل عرضة للتمدد والتقلص عبر تاريخ المسلمين، سواء كان ذلك عن شعور أو غير شعور، فإذا ببعض المعاني الجزئية تعد من مدلولات العقيدة عند بعض الناس وفي بعض الأزمان، وتعد خارجة عنها -وإن كانت مندرجة ضمن التشريع العام- عند بعض آخر وفي أزمنة أخرى؛ وخذ في ذلك مثالا من تطبيق أحكام الشريعة في جملة من مظاهر الحياة الاجتماعية، فقد ظل عند المسلمين أحد المدلولات الثابتة في العقيدة، ولكن شقا غير قليل من المسلمين انسحب من أذهانهم هذا المدلول منذ بعض الزمن، فإذا تطبيق تلك الأحكام غير ملزم من الوجهة العقدية، فانحسر مدلول العقيدة في تصورهم عن هذه المساحة من المعاني. ولا شك لهذا الاضطراب في مدلول العقيدة أثره السلبي في حياة الأمة، مما يستلزم ترشيدا هو الذي عنيناه بعبارة ترشيد المدلول.

 

وحينما نبحث في الأصول النصية أو حتى في كتب التراث عن تعريف يضبط مدلولها بصفة محددة فإننا لا نظفر في ذلك بما يفي بالغرض، ولكن ظل متعارفا بين المسلمين مدلول جملي للعقيدة يتمثل في تلك الحقائق التي جاء بها الدين، وطلب من المسلم أن يتحملها بالتصديق القلبي، حتى إذا ما خرج بعض منها من نطاق التصديق انتفت بسبب ذلك صفة الإيمان وانتقض الاعتقاد جملة. وقد كان هذا المدلول الجملي المتعارف بين المسلمين متأسسا على حديث نبوي جاء يحدد حقيقة الإيمان فجعلت هذه الحقيقة مدلولا للعقيدة، وهذا الحديث هو قوله صلى الله عليه وسلم "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"3. والحقيقة أن مدلول العقيدة في هذا الحديث مدلول مجمل، وهو يحيل على مساحة أخرى واسعة من معاني العقيدة في الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن الإيمان برسول الله المراد به الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه"4، فالتصديق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام ثبتت نسبتها إليه هو جزء من مدلول العقيدة حسب هذا التعريف.

 

والمتأمل في القرآن الكريم يجد في بياناته مصداقا لهذا المدلول العام للعقيدة بحيث يشمل هذا المدلول الإيمان بكل ما جاء به من عند الله في القرآن والحديث من أوامر ونواه، فإنكار أي منها وتعطيل العمل به مع ثبوت نسبته إلى الوحي يعد ناقضا للعقيدة، وهو مدلول قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44)، وقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (النساء:65). ففي هاتين الآيتين نفي لصفة الإيمان عمن أنكر حقيقة التعاليم الإلهية بعد ثبوتها، أو عطّل العمل بها تعطيل حجود5؛ وبمفهوم المخالفة فإن مدلول العقيدة يمتد ليشمل الإيمان لكل هذه التعاليم تصديقا بحقيتها وبوجوب العمل بها.

 

وقد ظل هذا المدلول العام للعقيدة هم المدلول السائد في أذهان المسلمين طيلة العهد الأول، حيث لم يظهر تخصيص لهذا المدلول بمعان دون غيرها مما هو مطلوب من الدين على وجه القطع سواء كان تصديقه بالقلب، أو تصديقا بالقلب وعملا بالسلوك. وقد بدا ذلك بينا في أقوال الصحابة والتابعين، كما بدا في بواكير المؤلفات العلمية على يد أوائل العلماء من الأئمة، وهم المعبرون عن ضمير الأمة، والممثلون لتوجهها العام في التدين، فالكتب المروية عن هؤلاء الأئمة كانت تمتزج فيها أحكام الدين المتعلقة بوجود الله وتوحيده، وبالنبوة واليوم الآخر، مع أحكام الدين المتعلقة بالصلاة والزكاة والحج في سياق أنها جميعا تمثل مدلولا للاعتقاد باعتبارها مطلوبات دينية يتوجب الإيمان بحقيتها والعمل بها.

 

وبتقدم الحركة العلمية نشأ في القرن الثاني علم خاص بالعقيدة هو علم الكلام أو علم التوحيد أو الفقه الأكبر، وبرزت في هذا العلم قضايا من الدين دون أخرى، وذلك بسبب ما كانت تتعرض له تلك القضايا من تحديات من قبل أهل الأديان والثقافات القديمة، مثل التوحيد والبعث ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو كانت تتعرض له من تحديات من قبل تفاعلات الحياة الاجتماعية مثل قضية القضاء والقدر6. ثم ظلت تلك القضايا تزداد في هذا العلم بتزايد الطوارئ المتحدية عبر الزمن حتى استقر علم العقيدة على الموضوعات التي استقر عليها عندما كمل نضجه وتوقف نموه في القرن الخامس للهجرة.

 

و المتأمل في الموضوعات التي تناولها علم العقيدة بالبحث كما انتهت إليه في كبرى المدونات الجامعة لهذا العلم، مثل كتاب المواقف لعضد الدين الإيجي (توفى 756) بشرح السيد الشريف الجرجاني (توفى816)، يجد أنها لم تستوعب كل مساحة مدلول العقيدة، بل هي تناولت قضايا أساسية كبرى تتركز على وجود الله تعالى وصفاته، والنبوة والبعث، والقضاء والقدر والإيمان، وما يتعلق بها من مسائل فرعية، وما يمهد لإثباتها من مقدمات هي خارج العقيدة أصلا مثل مسائل طبيعية وأخرى نظرية عقلية.

 

والسبب في اقتصار علم العقيدة على هذه القضايا دون غيرها أن هذا العلم نشأ علما ذا غاية دفاعية: إذ هو كما استقر عليه الأمر في تعريفه: "علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه."7 فهو إذن معني بالمسائل العقدية التي يقتضي الحال الدفاع عنها إثباتا لها وردا للشبه الموجه إليها، واندراج المسائل فيه إنما كان بناء على الحاجة إلى الدفاع عنها، إما بأسباب خارجية أو داخلية. و قد كان الأمر كذلك تاريخيا فنشوء البحث في هذه المسائل كان متطاولا في الزمن بحسب حدوث الأسباب الداعية للدفاع8، والمسائل التي لم تدع الحاجة إلى الدفاع عنها لم تدرج بصفة أساسية في علم العقيدة، فلم تصبح ضمن مسائله إلا أن تكون بصفة عارضة.

 

ولما توقف الفكر الإسلامي عموما عن النمو والإبداع بعد القرن الخامس، ومن ضمنه الفكر العقدي، كلّ هذا الفكر عن مهمة الدفاع العقيدة بالتصدي للتحديات المستجدة الموجهة لمسائل دينية، بعض منها قد لا يكون تعّرض إلى مثل تلك المسائل التي تدعو الحاجة إلى الدفاع عنها تباعا بمقتضى تعرضها للتحديات، وبذلك توقف هذا العلم في مسائله، وانغلق على مواضيعه السابقة، وأصبح العمل فيه لا يعدو أن يكون ترتيبا وتبويبا، أو شرحا وتوسيعا، أو اختصارا وتهذيبا.

 

وبمرور الزمن أصبح كثير من متأخري المسلمين يقع في نفوسهم الظن بأن مدلول العقيدة الإسلامية إنما هو محدود بحدود المسائل التي انتظمها علم العقيدة وانغلق عليها بحكم توقفه عن النمو قرونا طويلة، وأما ما عدا ذلك من مسائل الدين فهي مسائل شرعية وليست عقدية، فلم تدرج ضمن هذا المدلول، ولم يكن لها إذن منـزلة من الرسوخ في النفس والتأسس فيها كما كان لتلك المسائل الأخرى، ولم يكن لها بالتالي موقع التوجيه والدفع الذي يكون للمسائل المندرجة ضمن مدلول العقيدة، إذ تشكل تلك المسائل بمقتضى صفتها العقدية الموقف الديني العام للفرد المسلم وللأمة عامة، وهي التي توجه الحياة كلها؛ إذ العقيدة هي الموجهة للحياة.

 

ولو تأملت أوضاع المسلمين من حيث مدلول العقيدة في أفهامهم كما انتهى إليه الأمر منذ قرون، وكما هو الأمر اليوم عند عامة المسلمين، بل عند كثير من خاصتهم المتعلمين وعند بعض من المختصين في علوم الدين، لو تأملت ذلك لوجدت أن هذا المدلول يتركز على القضايا الأساسية في العقيدة، وهي الإيمان بالله والنبوة والوحي والملائكة والقدر، وما هو مندرج ضمنها، وأنه لا يتسع لمسائل أخرى ذات معان عقدية أيضا، يدخل التصديق بها إلى دائرة الإيمان، ويخرج التكذيب بها إلى دائرة الكفر، ومن أمثلتها مسألة حاكمية الشريعة الإسلامية، وموالاة الكفار، والروح كجزء من التركيب الإنساني، ومهمة الخلافة في الأرض كغاية لحياة الإنسان، والعدالة الاجتماعية كقاعدة في بناء المجتمع. فهذه المسائل وأمثالها رغم ما لها من مدخل في تحقق الإيمان وعدمه، إلا أنها لا تدخل اليوم ضمن دائرة المدلول العقدي عند الكثير من المسلمين، وإنما هي عندهم مسائل شرعية لا ترقى إلى درجة الاعتقاد، ولا تراها تدرج في اهتماماتهم التعليمية والدعوية ضمن المؤلفات والبيانات العقدية.

 

وقد أدى هذا الانحسار في مدلول العقيدة في الذهنية الإسلامية إلى نـزوع هذا المدلول منـزعا تجريديا ابتعد به عن وجوه الحياة العملية، حيث أصبحت الأذهان تنصرف في تحمّلها للعقيدة إلى عالم الغيب دون وصل له بعالم الشهادة من واقع الحياة الجارية؛ إذ كأنما الاعتقاد يقتصر على الاعتقاد بالغيب، وكان لذلك انعكاس سيء على الحياة العملية للمسلمين، إذ تقاعست هذه الحياة عن الاندفاع نحو التعمير في الأرض باستثمار الكون، وترقية الإنسان بالحرية والعدالة والسعي الدؤوب لتحقيق الخلافة، فهذه مسائل خارجة في دائرة الوعي عن أن تكون مسائل عقدية، وماذا يدفع توجيه الحياة إليها إذا لم يكن إيمان بأنها من صلب العقيدة الإسلامية؟ ويشيع اليوم في دوائر الكثير من الدعاة والمؤسسات الدعوية والتعليمية الدينية، فضلا عن دوائر العامة من المسلمين، يشيع الاهتمام الكبير لمسألة الجن كمسألة عقدية، بينما لا تدرج مسألة العدالة الاجتماعية، أو موالاة الكفار ومعاداتهم، أو مهمة الخلافة ضمن ذلك الاهتمام العقدي، فكيف إذن يمكن أن تتجه حياة المسلمين في اتجاه النهوض الحضاري؟ وكيف لا تبقى العقول مشدودة نحو المجرد دون قدرة على الفعل في الواقع؟

 

ومن ذلك يتبين أن الضرورة تدعو -عاملا من عوامل الدفع للفعل الحضاري- إلى أن يتم في الأمة ترشيد في تحملها لمدلول العقيدة بتوسيع هذا المدلول في الأذهان ليشمل دائرة من المسائل أفسح من هذه المسائل التي يشملها الآن، ولتكون صورته في النفوس كحقيقة في واقع الأمر كما جاء في القرآن والحديث، وكصورته التي كان عليها في أذهان أوائل المسلمين حينما كانوا يفهمون انطلاقهم في الآفاق لنشر الدعوة وتحرير العباد من الطواغيت، والتعمير في الأرض على أنه جزء من مدلول العقيدة، فكان انطلاقهم فاعلا، وإنجازهم الحضاري مشهودا، وما كانوا في ذلك الفهم لمدلول العقيدة إلا صادرين عن روح القرآن والحديث في تعدية هذا المدلول إلى دائرة واسعة من تعاليم الدين ذات البعد العملي، هي أوسع بكثير من تلك التعاليم ذات البعد النظري، وإن تكن هي الأساس الأول للاعتقاد. لقد جاء في القرآن المكي، وهو المؤسس للعقيدة في النفوس، وصل دائم، بين حقائق الوحدانية والبعث والنبوة من ناحية، ومفاهيم اجتماعية مثل كفالة اليتامى والمساكين، والقيام بالعمل الصالح، من ناحية أخرى، وفي ذلك أبلغ الدلالة على تعدية دلالة العقيدة إلى مثل تلك الحقائق، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن إعادة بناء الفهم العقدي بترتيب مفردات العقيدة في نطاق هذا المدلول؟

 

* مفردات العقيدة:

 

أن ترشيد مدلول العقيدة في تصور المسلمين يستلزم نظرا جديدا في المفردات العقدية التي تندرج في ذلك المدلول بمقتضى ما يراد من ترشيد، وهذا النظر يقتضي إدخالا جديدا للعديد من مفردات العقيدة في الوعي العقدي للأمة، بحيث تصبح هذه المفردات تتنـزل في الأذهان على أنها أسس في الدين، وأن الإخلال بها إنما هو إخلال بالدين. وليس ذلك من باب الابتداع، وإنما هو من باب إرجاع المفاهيم إلى نصابها الحقيقي، وإحلالها في التصور الذي جاءت عليه في نصوص الوحي، والذي كانت عليه في أذهان أوائل المسلمين. ويستلزم هذا الترشيد إبرازا للمفردات العقدية العائدة وتأصيلا لها في نصوص الوحي، لتصبح بذلك كله مدرجة دعويا وتربويا ضمن الدعوة إلى العقيدة الإسلامية والتربية عليها، ومدرجة علميا ضمن علم العقيدة الذي يمد الدعاة والمربين بمادة الدعوة في هذا المجال.

 

وفي نطاق هذا الترشيد فإن المفردات الأساسية للعقيدة، وهي تلك التي ضبطها حديث الإيمان الآنف الذكر، ستبقى بصفة دائمة وفي الأحوال كلها هي مركز الثقل للتصور العقدي للمسلمين؛ إذ هي جوهر الدين وأساسه. ولكن قضايا أخرى جزئية مدرجة في المنظومة العقدية كما هي في وعي المسلمين يمكن أن تؤخر في الترتيب والاهتمام لتزاحمها مفاهيم عقدية من تلك التي يقتضي الترشيد إبرازها من جديد وإدخالها في الوعي العقدي للأمة، وبذلك يكون الترشيد العقدي متناولا لذوات المفردات، ولمجالها ومراتبها في منظومة الاعتقاد.

 

ترشيد المفردات: الترشيد في مستوى ذوات المفردات من حيث إبرازها مجددا في الوعي العقدي يمكن أن يتناول قضايا متنوعة منها ما هو ذو بعد خلافي9 عام، وبعضها ذو بعد اجتماعي وآخر ذو بعد كوني، ورابع ذو بعد تشريعي، وهي في عمومها ذات صلة ببعضها قد تبلغ مبلغ التداخل، وهي أيضا كذلك بالنسبة لسائر مفردات العقيدة الأخرى، ولكن تقسيمها إنما هو على سبيل البحث والبيان.

 

والقضايا ذات البعد الخلافي العام تشمل حقيقة خلافة الإنسان في الأرض باعتبارها المهمة التي خلق من أجلها الإنسان، وتشمل أيضا حقيقة الإنسان نفسه في خلقه الأول وفي تركيبه من المادة والروح، وفي قيمته الذاتية ومنـزلته في الكون. كما تشمل أيضا شهادة الأمة الإسلامية على الناس، باعتبارها المهمة التي أناطها الله بها إزاء الأمم، تبليغا للدعوة إليها وإنقاذا لها من الظلال، وتنويرا لها بالعلم والدين، وقياما إزاءها بالقسط والعدل.

 

إن هذه القضايا هي من صلب العقيدة الإسلامية، إذ لو اعتقد معتقد أن الإنسان ليس له من مهمة في الحياة، وأن وجوده ليس إلا عبثا أو نقمة، أو اعتقد أن مهمته لا تتجاوز إشباع الرغبة وتحقيق اللذة لكان بذلك خارجا من ربقة العقيدة الإسلامية، مارقا من الدين كله. وكذلك الأمر لو اعتقد أن الإنسان ليس إلا بعدا ماديا صرفا في تكوينه، أو أنه كائن تافه حقير لا قيمة له في معرض الموجودات الكونية، أو أن الأمة الإسلامية أمة منكفئة على ذاتها لا شان لها بالأمم والشعوب، أو أنها مطلوب منها أن تعمل على استعباد تلك الشعوب وقهرها وإبقائها في غياهب الجهل والضلال والانحطاط، فكيف إذا لا تبرز هذه القضايا لتكون في وعي المسلم من ضمن المعتقدات التي يتحدد بها الانتماء للدين والخروج منه؟ إن انسحابها من مساحة هذا الوعي يمثل لا محالة خللا عقديا يستلزم التصويب والترشيد.

 

والقضايا ذات البعد الاجتماعي تشمل حقيقة العدالة الاجتماعية، وحقيقة التكافل بين أفراد الأمة، وكفالة الأمة لأفرادها، وحقيقة الحرية الشخصية والعامة بضوابطها، وحقيقة حق الإنسان في التكريم المادي والمعنوي، فهذه القضايا هي أيضا من مدلول العقيدة الإسلامية. فكثيرة هي الآيات والاحاديث التي تقرن هذه الحقائق الاجتماعية بحقيقة التوحيد أو حقيقة النبوة أو البعث جاعلة إياها بعدا من أبعادها ولازمة من لوازمها، ونذكر في ذلك على سبيل المثال قوله تعالى في أسباب المصير إلى الجحيم كما جاء على ألسنة الكفار حينما سئلوا: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، َقالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين) (المدثر: 42-46)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما أهل عرصة أصبح فيهم أمرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله تعالى."10وأمثالها مما هو في موضوعها كافية في بيان اندراج هذه الحقائق الاجتماعية ضمن مدلول العقيدة، وهي مستند لترشيد هذا المدلول في أذهان المسلمين بحيث تصير مندرجة فيه ضمن وعيهم العقدي.

 

والقضايا ذات البعد الكوني تشمل قضية تسخير الكون للإنسان وأنه معد لأجله، ومنفتح لاستعطائه، وممهد له لينجز مهمتهم التي من أجلها خلق، وقضية استثمار الكون والانتفاع بمرافقه وتسخير مقدراته لبناء الحياة في اتجاه الغاية العليا وهي تحقيق الخلافة، ابتداء بالتدبر والتفكر لتحصيل العلم، وانتهاء بالاستثمار التطبيقي النفعي لذلك العلم، وقضية الرفق بالكون و الحفاظ عليه من أن تناله أيدي الفساد والتدمير. فهذه القضايا ذات بعد عقدي كما جاء في القرآن والحديث، فقد جاء في القرآن الكريم من الأوامر المؤكدة المكررة للتأمل في الكون والتدبر فيه والانتفاع به ما يرقى بهذه الحقيقة إلى أن تكون في دائرة الاعتقاد، وقد جاء في الحديث النبوي خبر المرأة التي دخلت النار في هرة، وهو إشارة إلى فداحة التخريب في الكون والإفساد فيه، وفداحة العقاب الذي ينتهي إليه في الآخرة، مما يبين البعد العقدي لهذه القضية. ولو تعطل ارتفاق الكون بالعزوف عن التدبر العلمي وعن الاستثمار النفعي، وكذلك لو عومل الكون بالإفساد والتدمير، لتعطلت مهمة الإنسان التي من أجلها خلق، فكيف لا يكون ذلك إذن مندرجاً ضمن دائرة مدلول العقيدة؟

 

والقضايا ذات البعد التشريعي تشمل كل أحكام الشريعة الإسلامية من حيث الإيمان بحقيقتها. فحكم الوجوب للصلاة والزكاة والحج، وحكم الحرمة للزنا والربا والخمر، وكذلك سائر أحكام الشريعة، يندرج الإيمان بحقيّتها ضمن مفردات العقيدة، إذ جحودها والتكذيب بها يفضي إلى انحلال الإيمان وانتقاضه، ولهذا السبب فإن الفارابي (توفي 339ﻫ) في تعريفه لعلم الكلام، (وهو العلم المفصل لمفردات العقيدة) ضمن إحصائه للعلوم، عرفه بقوله: "صناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف ما خالفها بالأقاويل"11. وهو يقصد بالآراء الأحكام الدينية المطلوب تحملها بالتصديق القلبي مثل الوحدانية والبعث، ويقصد بالأفعال الأحكام المطلوب تحملها بالتصديق والعمل مثل الصلاة وحرمة الزنا، فقد صارت إذن كل الأحكام الثابتة من الشريعة أحكاماً عقدية من حيث الإيمان بها، وهي تندرج ضمن علم العقيدة من حيث الاستدلال عليها ونصرتها بالبرهان. وقد رأيت هذا التعريف لعلم الكلام أنضج تعريف وقفت عليه وأكثره شمولاً ودقة.

 

إن المفردات التي أوردناها آنفاَ لم تكن غائبة في أذهان المسلمين عن الوعي الديني العام، ولكنها كانت غائبة عن الوعي العقدي في تلك الأذهان، وهو الذي به تحتل موقعاً دافعاً موجهاً للحياة كلها. ولذلك فإنك لا تجد لهذه المفردات حضوراً في الخطاب العقدي لا في جهود الدعاة، ولا في كتب العقيدة ومؤلفاتها، ولا في مناهج التربية والتعليم. وقد تجد في هذه كلها بيانات وافية في الإطار العقدي عن العلاقة بين ذات الله وصفاته هل هي عينٌ أو غيرٌ؟ وعن القرآن الكريم هل هو قديم أو مخلوق؟ وعن الجنة والنار هل هما مخلوقتان من قبل يوم القيامة؟ وهل حكمهما الأبدية أم الفناء؟ ولكنك لا تظفر بأي بيان عن مهمة الخلافة في الأرض، وعن تكريم الإنسان، وعن العدالة الاجتماعية، وعن ارتفاق الكون، اعتباراً في ذلك لكون تلك مفردات عقدية، وهذه لا تندرج في مدلول العقيدة، وهذا خلل بيّن في الاعتقاد آل إليه أمر المسلمين منذ زمان.

 

ومع كون هذه المفردات العقدية لا تقع في الذهن الإسلامي ضمن دائرة الوعي العقدي، فإنها أيضاً تتعرض لتحديات كبيرة من قبل الثقافة الغربية، تتمثل في تلك المذاهب التي تدعو إلى عبثية الحياة بصفة مباشرة أو غير مباشرة، مثل الوجودية وامتداداتها في الفنون والآداب، وتلك المذاهب المادية التي تفسر الإنسان على إنه بعدٌ مادي صرف، وتلك التي تقوم على الفردية المطلقة التي يتلاشى فيها معنى العدالة الاجتماعية، وهذا فضلاً عما تتعرض له عقيدة حاكمية الشرع من هجومات مباشرة نظرية كما يبدو في المذهب العلماني، وعملية كما يبدو في ميدان القانون الوضعي الذي غزا العالم الإسلامي. ولهذه المذاهب كلها، الظاهر منها والمستتر، أغراض هجومية على المعتقدات الإسلامية، ولتلك الأغراض تحققات في الواقع، مختلفة الأشكال.

 

وحينما يضاف هذا التحدي لما ذكرت من المفردات العقدية إلى ما كان حاصلاً من انسحابها من الوعي العقدي في الذهنية الإسلامية، فإن وضعها يزدادا سوءاً في واقع التدين الإسلامي، بما يخشى أن يؤول الأمر فيه إلى انحراف عقدي أفدح على صعيد التصديق الإيماني، وعلى صعيد الأثر العملي معاً. وذلك كله يدعو حيثياً إلى أن تدرَج هذه المفردات ضمن جهود التوعية العقدية لتصبح مجدداً واقعة في وعي الأمة موقع الاعتقاد الواعي المكين في النفوس، بدلاً من الموقع الهامشي الذي تنـزل فيه الآن فلا يثمر في واقع الحياة العملية شيئاً يذكر.

 

ترشيد الترتيب: حينما تدرج هذه المفردات في المنظمة العقدية من الوعي الإسلامي فإن ترشيد الاعتقاد يتعدى أيضا الترتيب الذي تكون عليه المفردات العقدية في الأذهان، بحيث تتنـزل فيها بحسب اعتبارات ليست هي تلك التي تترتب بها اليوم مفردات العقيدة في أذهان المسلمين، فتحدد أحجام الاهتمام بها، وأقدار حضورها في الوعي شده وخفة، ومدى استخدامها في الإيقاظ والتوجيه والدفع، وإنما اعتبارات أخرى يقتضيها هي أيضاً الترشيد ليترشد الترتيب التي تفضي إليه.

 

والوضع القائم حالياً في مراتب المفردات العقدية كما هي في وعي المسلمين هو وضع منحدر في معظمه من قرون خوال أفضى إليه أيلولة الفكر العقدي الإسلامي إلى الجمود على الموروث الواصل إليه، فاستصحب فيما استصحب ترتيب المفردات كما كان عليه الأمر في قرون النضج والاكتمال لعلم العقيدة في القرن الثالث والرابع والخامس للهجرة.

 

ولما نتأمل الوضع الحالي لتراتب المفردات العقدية للكثير من المسلمين بل لمعظمهم، كما يبدو في اهتمام الدعاة، وفي مؤلفات العقيدة، وفي مناهج التعليم، فضلاً عن تصور العامة من أفراد المسلمين، حينما نتأمل ذلك نلفي أن هذا الترتيب الحالي لتلك المفردات تحكمه اعتبارات يعود بعضها إلى تحديات قديمة كانت قد وردت على العقيدة، وإذا بذلك الاهتمام يُسْتصحْب إلى الآن مع زوال التحديات التي اقتضته في ذلك الزمن، ويعود بعضها الآخر إلى خصومات وخلافات مذهبية بين الفرق المختلفة، فكانت بعض المسائل يبرزها ذلك الخلاف، وتتخذ الآراء فيها مستمسكاً للتميز والاستقلالية المذهبية، وربما عاد بعض منها إلى ولع الخيال الشعبي بأخبار المغيبات والخوارق فتبرز المسائل العقدية ذات الصلة بذلك، وتبقى بعد ذلك مقدمة المرتبة رغم تبدل الأحوال والظروف. وهكذا نجد بحسب هذه الاعتبارات مسائل عقدية ذات صفة جزئية ثانوية تحتل مركزاً مهماً في حجم الاهتمام بها، وتتقدم على مسائل أخرى ذات أهمية حقيقية في البناء العقدي الإسلامي. ومن الأمثلة في ذلك: العلاقة بين ذات الله وصفاته، وخلق القرآن ورؤية الله، وتأويل الصفات الخبرية والشفاعة، وطبيعة الجنة والنار والجن وأحكامه، فهذه المسائل وأمثالها إنما أخذت من الاهتمام حيزاً كبيراً لظروف وأحداث معينة، أو لخصومات ونـزاعات بين الفرق، وأكثر ذلك لم يبق منه اليوم شيء، ويكفي في الاعتقاد بها تحكيم خبر نصي من القرآن والحديث لتستقر في مكانها الطبيعي من الوعي العقدي للمسلم.

 

والحقيقة أن ترتيب المفردات العقدية في منازل الوعي العقدي للمسلم نوعان: ترتّب بحسب ذات المفردات، وتتقدم فيه الأصول على الفروع، والكليات على الجزئيات، وهو الذي ينبغي أن تستقر عقيدة المسلم عليه: إيماناً بالله وبالنبوة وبالبعث، ثم بسائر التفاصيل فيها، وسائر الغيبيات التي جاء بها الخبر الشرعي. وترتّب دعوي تقتضيه متطلبات الدعوة، فتقدم حسب هذه المتطلبات مسائل وتتأخر أخرى للدفاع عنها في هجوم موجه إليها، أو لإحيائها من غفلة طرأت عليها، أو لتحفيز المسلمين بها ودفعهم إلى الحركة والنهوض. وبحسب هذا النوع يقتضي الحال في واقع الأمة اليوم أن تتأخّر في وعيها العقدي مفردات كثيرة كتلك التي ذكرناها منذ حين، وأن تتقدم لتصبح في صدارة الاهتمام مفردات أخرى كتلك التي أوردناها آنفاً، والتي كانت مسحوبة من دائرة المدلول الاعتقادي، فإن تلك المفردات هي الكفيلة اليوم بإيقاظ الأمة من غفلتها، ودفعها لتعاود الحركة، وتبنى الحياة الخلافية بارتفاق الكون والشهادة على الناس كما سنبينه بعد، ولا يخفى أن قصدنا بتقديم هذه المسائل في الترتيب، إنما هو في نطاق الحقائق الأساسية للاعتقاد وليس تقديماً لها عليها. لا في الترتيب الذاتي، ولا في الترتيب الدعوي.

 

وحينما ينتظم فهم العقيدة على الأسس التي بيناها فيما يتعلق بمصدر العقيدة ومدلولها ومفرداتها، فإن ذلك سيعكس لا محالة رشاداً في تصور العقيدة التصور الصحيح كما هي عليه في مصادرها، وكما كانت عليه في عهد السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، أولئك الذين اندفعوا بتصورهم ذاك يُغمرون الأرض تعميراً شاملاً، فإن انحراف التصور واضطرابه إنما ينشأ عن خلل الفهم، فإذا ما رشد الفهم رشد أيضا التصور الحاصل منه. فسيكون ذلك عاملاً أساسيا من عوامل النهضة، إذ التحضر الإسلامي لا يقوم إلا على التصور العقدي الصحيح سواء في حال الابتداء كما كان، أو في حال الاستئناف كما نرجو أن يكون12. * التأطير العقدي الشامل:

 

ليست العقيدة الإسلامية مفاهيم تنحصر قيمتها في التصديق القلبي بها في حدّ ذاتها، وإنما ذلك هو جزء من الإيمان بها فحسب، باعتبار أنّ معرفة الحق والإيمان به فضيلة مطلوبة في ذاتها. والجزء الثاني من تلك القيمة هو ما يحدثه الإيمان بالعقيدة من أثر شامل في حياة الإنسان الفكرية والعملية. وتلك نقطة فارقة بين العقيدة الإسلامية وسائر العقائد في المذاهب والأديان.

 

وفي نصوص القرآن والحديث تأكيد مستمر على هذه الحقيقة، وإرشاد دائم إليها علما من الله تعالى بسرعة ما يقع للناس من الانحراف فيها بالفصل بين الاعتقاد وبين العمل الفكري والسلّوكي، وذلك في مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران:191)، حيث يجعل التفكر في خلق الله تعالى من مظاهر الكون بعدا من أبعاد الإيمان بالله، وقواه تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النور:55) حيث يقرن الإيمان بالعمل الصالح إقران تلازم يترتب عليه الجزاء. فالإيمان بالعقيدة في الآيتين هو إيمان يمتد كي تكتمل قيمته إلى الفكر والسلوك معاً.

 

وبعد مُدة من تحقق وحدة العقيدة والعمل في أذهان المسلمين طرأ على هذه الوحدة انفصام بدأ خفياً ثم استفحل مع مرور الأيام. ولعل أول مظهر من مظاهر الانفصام تمثل في تلك النـزعة التجريدية التي نـزع إليها علم الكلام الذي اختص بالبحث في العقيدة الإسلامية، فإذا هو يوغل في المباحث العقدية من وجهة نظرية افتراضية تعتمد المحاجة العقلية في غير صلة تذكر بالآثار التي تحدثها العقيدة في الحياة العملية. هكذا كان مبحث التوحيد على سبيل المثال يجنح إلى الإيغال في بيانات استدلالات على وحدانية الذات الإلهية، دون أن يمتد امتداداً ذا بال إلى الوحدانية في الأفعال، والوحدانية في الحكم، والوحدانية في المعبودية، وهي التي من شأنها أن تجعل المؤمن بالتوحيد يظهر توحيده في تفكيره وأعماله، وكذلك الأمر في العديد من القضايا العقدية الأخرى.

 

ولو تأملت حال المسلمين اليوم، وفي الحال التي استصحبوها منذ قرون لألفيت واقعاً من الإرجاء يسيطر على وضعهم العقدي رغم أن معظمهم لا يؤمنون بالإرجاء نظرياً، ذلك أنك تراهم يصدقون بالقلب ولكنهم لا يعملون بمقتضى تصديقهم في السلوك، فيجري هذا السلوك على غير مقتضى الاعتقاد، ولعل هذا الوضع يُعد في أحد وجوهه أيلولة خاطئة دفع إليها الجهل والغفلة لما انتهى إليه أهل السنة، وهم معظم المسلمين من تقرير أن الإيمان بالعقيدة تنعقد حقيقته بالتصديق القلبي فقط، وإنما يعتبر العمل بمقتضاه كمالاً من كمالاته فحسب13، ولم يكن سلف الأمة من الصحابة والتابعين إلا معتبرين الإيمان تصديقاً وإقراراً وعملاً في غير فصل ولا تفصيل قد يؤول بالناس إلى ما آلوُ إليه من الإرجاء، فليت المسلمين استصحبوا ذلك الفهم الشامل للإيمان، إذن لما ذهبت بهم الغفلة إلى تأخير الأعمال كما آل إليه أمرهم اليوم.

 

وقد ازداد هذا الانفصال بين الإيمان والعمل استفحالاً في واقع الأمة لمّا نبتت فيها طائفة لا تكتفي بتأخير الأعمال غفلة و جهلاً، ولكنها تجعل ذلك مبدأ نظرياً، وتعده فهماً من أفهام الدين، وإذا كان هذه النابتة قليلة العدد في إطار الأمة الواسعة، إلا أنها تسيطر على حظوظ الأمة ومواقع القرار فيها، فأجرت الحياة العامة على نمط لا صلة له بالعقيدة، التي تبقى إيماناً مجرّداً في الأذهان لا علاقه له بتوجيه الحياة، وتلك هي النـزعة المعروفة بالعلمانية.

 

ويقتضي ترشيد الاعتقاد في الذهنية الإسلامية أن يعاد في تلك الأذهان ربط الصلة بين الإيمان بالعقيدة بكل نوازع المؤمن إلى الفكر و العمل، بحيث يكون ما يعمر العقل من الاعتقاد كالإطار الذي ينطلق منه ويعود إليه كل تّصرف المسلم بالفكر والسلوك.

 

أ‌. التأطير العقدي للفكر: إن الفكر يسبق العمل، وليس العمل إلا نتاجاً للفكر. ولا يكون الفكر الإسلامي رشيداً إلا إذا كان موصولاً بالاعتقاد، صادراً عنه، ويتم ذلك بأن يكون المسلم في كل ما يفكر فيه لإنتاج الرؤى والتصورات والمخططات والمشاريع مستحضراً للعقيدة الإسلامية استحضار تكون به تلك العقيدة حالاً له، لا مجرد مفردات يحملها ذهنه. وبهذا الاستحضار الحالي يتكيف الفكر بمقتضيات العقيدة أولاً في مستوى القصد والعزم، فيوضع إذن الفكر في سياق الاعتقاد ابتداءً، ويوطد على نهجه ليتحرك ضمنه. ثم يتكيف بعد ذلك حركة بنائه للأفكار والصور بمقتضيات العقيدة بأن يتّخذ من معانيها ومقاصدها ناظماً ينظم كل تلك الرؤى والصور، ويكوّن منها بناءً متكاملاً في كل ميدان أراد فيه بناء حتى تكون العقيدة هي الروح السارية في كل فكرة بعينها، وفي كل بناء فكري مركب.

 

وعلى سبيل التمثيل لذلك فإن الفكر الإسلامي إنما يكون رشيداً عقدياً حينما يكون نظره في الكون لبناء صورة علمية عنه موجهاً في كل حين بحقيقة وحدانية الله في أفعاله، تلك الوحدانية التي كان بها الكون موحّد القانون، فتحصل إذن تلك الصورة العلمية متّولدة عن وحدانية الله، وحينما يكون نظره لإنتاج قوانين تنظّم المجتمع موجهاً بوحدانية الله في الحكم، وحينما يكون نظره في النظام الاقتصادي موجهاً بحقيقة أن الملكية الحقيقية إنما هي ملكية الله، وليس الإنسان إلا مستخلفاً فيها، وحينما يكون تخطيطه لبرامج استثمار الكون موجهاً بعقيدة الارتفاق انتفاعاً ورفقاً في الوقت نفسه، وهكذا الأمر في كل منشط من مناشط الفكر.

 

وإذا كان الفكر الإسلامي مهمتّه الأساسية أن يصوغ من الشرع أحكاماً توجه الحياة، إما صياغة فهم فقط من النص، أو صياغة اجتهاد، فإن أكبر تجليّاته إنما تبدو في الفكر التشريعي المعبر عنه بعلم الفقه بمعناه الواسع، سواء كان فقهاً تعبدياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً.

 

وحينما نطبق المبدأ الذي بيّناه آنفاً في التأطير العقدي للفكر على الصورة الحالية التي عليها الفكر الشرعي موروثه عن عهد الانحطاط مفصولاً فيها الوجه العلمي عن الوجه العقدي، حينئذاك فإن الترشيد الاعتقادي يقتضى أن يصاغ الفكر الشرعي من جديد صياغة عقدية بحيث تبدو فيه روح العقيدة سارية في مفرداته، وفي هيكله العام، مؤطّرة له في كل مساراته. ويكون ذلك بأن يتم هذا التأطير بصورتين متكاملتين:

 

الصورة الأولى: أن يعمد الفكر الشرعي إلى كل محور من المحاور الأساسية للشريعة فيدرج بين يديه مبحثاً عقدياً يتعلق به، ويكون ذلك المبحث كالسيد لكافة قضايا المحور، يوجه بناءها وترتيبها والاجتهاد فيها عن قرب. فإذا محور العبادات على سبيل المثال يتقدمه مبحث عقدي في العبادة في المفهوم الإسلامي وخصائصها وأبعادها الروحية والتربوية، ومحور المعاملات الاقتصادية يتقدمه بحث في المال من الناحية العقدية من حيث حقيقة الملكية في المفهوم الإسلامي، وأهميتها في الخلافة في الأرض. ومحور الأنكحة يتقدمه مبحث في الأسرة من حيث أهميتها في البناء الاجتماعي، ودورها في التعمير، وقداسة روابطها ومواثيقها. وهكذا يمكن أن تدرج في منظومة الأحكام الشرعية، بحسب ما يناسب كل محور فيها، مباحث عقدية أخرى من مثل: قيمة الإنسان المبينة على التكريم، وغاية وجوده التي هي الخلافة في الأرض، وحقوق الإنسان في العدل والمساواة، وعلاقة الإنسان بالكون ومنـزلته فيه، والعدالة الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي، بحيث لا يخلو باب من أبواب الأحكام الشرعية إلا ويُسند إلى مبحث تأصيلي من مباحث العقيدة.

 

الصورة الثانية: أن تقرن القضايا و الأحكام الشرعية المندرجة في محاورها العامة بمغازيها العقدية القريبة المندرجة في مباحثها الكلّية المصدّرة بين يدي المحاور بحيث لا يقرر حكم في النظر أو في التطبيق إلا وهو مرتبط بسند عقدي جزئي بالإضافة إلى استناده العام في نطاق محوره إلى السند العقدي العام للمحور كل‍ّه، فإذا حكم منع الاحتكار على سبيل المثال مرتبط عند تقريره بمغزى عقدي تربوي هو محاربة الأنانية، والجشع والبغي، وذلك في نطاق ارتباطه ضمن محوره الاقتصادي بمبدأ عقدي عام هو أن الملكية الحقيقية للمال هي ملكية الله، وإذا حُكم الوجوب في بعض وجوه الإنفاق التي يلزم بها ولي الأمر أثرياء الأمة مستنداً إلى مغزى عقدي هو حقّ كفالة المحتاج في المجتمع، وذلك في نطاق ارتباطه ضمن محوره الاجتماعي بمبدأ عقدي عام هو تكريم الإنسان وحفظه من الهوان، هكذا الأمر في سائر أحكام الشريعة حينما يباشرها الفكر بالتقرير والصياغة والتطبيق.

 

وبالتكامل بين هاتين الصورتين يكون الفكر الشرعي، وهو يعالج واقع الأمة بأحكام الشريعة، موجهاً بالعقيدة في كل حال، فإذ ثماره من الأحكام تنتظم في سياق عقدي انتظاماً محكماً، فما من حكم يتقرر إلا وقد توجه بمغزى عقدي كلي عام، ثم أحكام توجيهه بمغزى عقدي جزئي في نطاق ذلك الكلّي، فتصبح الشريعة بذلك في توجيهها لمناشط الحياة كافة موصولة بالعقيدة، لما كان من تأطير عقدي دائم الفكر الذي يقررها، فتسري إذن روح العقيدة في كل خاطرة فكر، وفي كل حكم شرعي.

 

ونحسب أن الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" كان له غرض في هذا المعنى من الوصل بين العقيدة والشريعة في نطاق غرضه الأعلى الذي هو الإحياء الروحي لعلوم الدين، ذلك أنه رأى أن علوم الشريعة إنحرف بها أهلها إلى فصل أحكامها، كما تقررها أفهامهم، عن روح العقيدة الإسلامية، فتبددت بذلك وتشتتت، فألّف هذا الكتاب الذي بناه على صورة فقهية لأغراض من أهمها "ترتيب ما بددوه، ونظم ما فرقوه14، وذلك بإعادة الربط بين العقيدة وأحكام الشريعة، فإذا هو يصدر كتابه ذا الصورة الفقهية بمبحث عقدي عام شامل ترجم له بكتاب قواعد العقائد، ثم هو يتعهده بالوصل بينه وبين مغزاه العقدي ليكون الفكر المستنبط أو الفكر القارئ المتفهم مرتبطاً دوماً بمعاني العقيدة، مقاومة منه في ذلك لما رآه من "ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب، وانخداعهم بلامع السّراب، واقتناعهم من العلم بالقشر عن اللباب"15.إنها حركة ترشيد عقدي قام بها الغزالي يريد بها تأطيراً عقدياً للفكر كله، وهو ما تدعو الحاجة إليه الآن في نطاق ما ندعو إليه من الترشيد العقدي16.

 

ويلحق بالفكر في هذا المجال كل ما هو شبيه به من ألوان المنازع الإنسانية في توليد الصور والتعبير عنها، مثل سائر الآداب والفنون شعراً وأناشيد ورسوماً وحركات جسمية وسواها، فإنّها هي أيضاً ينبغي أن تكون موصولة بمعاني العقيدة صادرة بتوجيه منها، بحيث تكون واقعة في النفوس موقع الدفع إلى المتعة الجمالية بآيات الله في الكون، أو موقع الحث على العمل والتحفيز إليه، أو موقع الإثارة للدفاع عن النفس أو عن الإنسان المظلوم عامة، أو الإثارة للحركة في سبيل نشر الخير والحق بين الناس لتحقيق معنى الشهادة عليهم، فهذه المواقع التي تقعها في نفوس المخاطبين إنما هي دالة على المواقع التي منها تصدر من المخاطبين، وهي مواقع التوجيه العقدي الشامل17.

 

ب- التأطير العقدي للعمل: إذا كان الفكر هو أصل العمل فإن التأطير العقدي للفكر لا يغُني عن التأطير العقدي للعمل أيضاً، ذلك أن العمل إذا لم يكن موجهّاً توجيهاً عقدياً مباشراً فإنه قد يطرأ عليه انقطاع عن مفاهيم العقيدة، حتى وإن كان الفكر الذي هو امتداد له مبنياً بناء عقدياً، فما أيسر ما ينحرف السلوك العملي عن الصورة الذهنية الحاصلة بالفكر، حتى وإن كانت صورة مؤطرة تأطيراً عقدياً. ولعل هذا هو أحد معاني الحديث النبوي الذي فيه تعوّذ من علم لا ينفع18، فهو تعوّذ من صورة ذهنية تكون صحيحة في ذاتها مبينة على مقتضيات عقدية، ولكن العمل التطبيقي عند حاملها لا يجري على حسبها، بل يجري منحرفاً عنها، مقطوع الصلة بموجهها العقدي فلا يكون له نفع.

 

وربما كان الخلل الأفدح الذي يصيب المسلمين منذ زمن هو انقطاع الأعمال عن موجهاتها العقدية، أكثر مما هو انقطاع أفكارهم عنها. ولو تأملت التقريرات الفكرية المحددة لنظام السياسة الشرعية على سبيل المثال، لألفيتها جارية منذ بداية نشوئها قواعد علمية على أصول العقيدة: عدالة وشورى وتحكيماً للشريعة، وتكافلاً اجتماعياً، وهي تقريرات يقرّها الجميع حاكماً ومحكوماً، وتجري فيها أفكارهم في إذعان، كما تنطق بها ألسنتهم وأقلامهم في تحمل واعتراف، ولكن العمل الذي جرى عليه واقع الحكم بعد الخلافة الراشدة، انقطع في الغالب عن الأصول، فإذا هو الظلم والاستبداد على نحو ما هو معلوم. وتقاس على ذلك أوضاع كثيرة في حياة المسلمين.

 

ولا ينصلح هذا الخلل إلا بتعدية التوجيه العقدي إلى العمل أيضا بعد تعديته إلى الفكر. وإنما تكون هذه التعدية بحضور المعاني العقدية حضوراً دائماً في ضمير المسلم حال مباشرته العمل سواء كان عملاً تعبدياَ بالمعنى الخاص، أو عملاً تعميرياً عاماً، وأن يجعل من ذلك الحضور مادة في إنجاز حركاته العملية الجزئية، وفي ترتيب تلك الحركات أعمالاً متكاملة، فإذا المصلي بذلك يصوغ حركات صلاته وهيئته العامة فيها من استحضار ربه خضوعاً ومذلة وخوفاً ورجاء، وإذا بالمزارع يصدر في فلحه وبذره عن استحضار لعقيدة الخلافة في الأرض والتعمير فيها بوصف ذلك مهمة من خلقه الله من أجلها، وإذا المهندس وهو يقيم المدينة تخطيطاً وبناء، توجه تخطيطه وبناء عقيدة وحدانية الله تعالى في رعايته لجميع خلقه، وفي توجه الجميع إليه بالخضوع والطاعة، فيضع المسجد الجامع في مركزها، ومساجد أخرى في كل حي من أحيائها، وهكذا يكون المسلم في كل عمل صادراً عن توجيه عقدي باستحضار دائم لحقائق العقيدة في النفس.

 

ولو ارتفعنا بهذا الأمر في التأطير العقدي للعمل من حالة الفردي إلى حالة العمل الجماعي الذي تقوم به الأمة بإشراف وترتيب من نوابها في مستوياتهم المختلفة لتحقيق المصالح العامة، لو ارتفعنا بذلك ما وجدنا الأمر مختلفاً، فالأعمال العامة التي تقوم بها الأمة هي أيضا ينبغي أن تصدر عن مبادئ العقيدة، وأن تتوجه بوجهتها، بعد أن يكون الفكر الذي سبق تلك الأعمال قد صدر عن تلك المبادئ وتوجه بوجهتها. وهكذا تكون إنجازات التصنيع، ومشاريع الري وبناء المدن، وتجييش الجيوش جارية على مقتضى العقيدة، يطرأ عليها التعديل بحسب تلك المقتضيات. ولكنها تبقى دوماً موصولة بها موجهة بوجهتها.

 

وربما عبر عن هذا المعنى من التأطير العقدي للعمل بتعبير جريان الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة، ذلك أن هذه المقاصد وإن تفرعت فروعاً إلا أنها تعود في مجملها إلى المقصد الأعلى وهو تحقيق خير الإنسان وصلاحه بالتزام أوامر الله ونواهيه، وهو حقيقة عقدية كلية. فيكون جريان الأعمال على تحقيق مقاصد الشريعة تعبيراً عن الصلة بين العمل والعقيدة: ولذلك فإننا نعد علم مقاصد الشريعة علما واصلا بين علم العقيدة من جهة وعلم الفقه الذي يضبط الأعمال من جهة أخرى. ومن مظاهر الخلل المتمثل في ضعف الصلة بين العقيدة والعمل في واقع الأمة الإسلامية ما يلقاه هذا العلم الجليل من زهادة فيه، وتهميش له ضمن الثقافة العامة للمسلمين. وذلك ما يدعو في نفس الوقت إلى إحيائه والاهتمام به في نطاق الترشيد العقدي الذي نحن بصدد البحث فيه عاملاً من عوامل الدفع إلى التحضر.

 

ودوران العمل على مقاصد الشريعة بوصفها رابطاً بينه وبين العقيدة يقتضي أن تلحظ في الأعمال كلها مآلاتها من المصلحة أو المفسدة. فتبنى بحسب تلك المآلات، وتتعدل وتتكيف بحسبها أيضاً، ذلك أن العمل له صلة بالواقع الإنساني والبيئي الذي لا يضبطه منطق مطرد صارم كصرامة المنطق الذي يحكم الأفكار، ولذلك فإن الأعمال ربما أجريت على صورة قُدر أنها تحقق مقاصد الشريعة فتكون موصولة إذن بمقتضيات العقيدة، ولكن يتبين خلال الإنجاز أو بعده، لملابسات واقعية لم يضبطها التقدير، أنها آلت إلى مالم يتحقق فيه المقصد، فانقطعت صلتها إذن بالمعتقد، وحينئذ ينبغي أن تعدل إلى ما فيه تحقيق مقصدها لترتبط من جديد بموجهها العقدي، على نحو ما يكون في بناء مصنع يقدر أنه يوفر الخير للناس ويحقق التعمير في الأرض، ولكن يتبين في أثناء العمل فيه أنه يسبب من التلوث البيئي ما فيه فساد كبير فيعدل إذن بحسب ما فيه حفظ للبيئة الكونية وخير للإنسان، وهكذا يكون المقصد، وهو معنى عقدي كما ذكرنا، المؤشر الدائم الذي تتجه باتجاهه الأعمال، وتتكيف بحسبه كل مناشط المسلم. وهذا ضرب من الترشيد بالغ الدقة، ولكن لا مناص من أن يأخذ اليوم طريقه عنصراً في الإصلاح الدافع إلى النهوض، وإلا بقيت أعمال المسلمين تسير على غير هدى من العقيدة فلا يكون لها أثر إيجابي في النهضة المنشودة كما سنبينه بعد حين.

 

إن من عناصر الرشاد في الاعتقاد إذن أن تصبح العقيدة التي يتحملها المسلمون إطاراً مرجعياً وحيداً وشاملاً، منه يصدرون بدءً ومعاذا في التفكير كله لتحصيل صور الرؤى والأفكار والحقائق، وفي التطبيق العملي السلوكي لتلك الأفكار والصور والرؤى، واعتقاداً لا يكون له هذا الدور التوجيهي الشامل الملزم هو اعتقاد مختل ولا يأتي بثمار ولا يحرك إلى خير، وإن كان في ذاته جارياً على وجه الحق في مدلوله وفي مفرداته على الصورة التي بيناها سابقاً. * التفعيل الإرادي للاعتقاد:

 

الاعتقاد هو التصديق بمفردات العقيدة تصديقاً يشمل حقيقتها في ذاتها كما يشمل صلاحها للإنسان وخيريتها المطلقة لحياته. وللاعتقاد في حلوله بالنفس درجات يقوم وسطها خط فاصل بين نوعين منها: نوع يبقى الاعتقاد فيه حبيس الذهن، ولا يكون له سلطان على إرادة الفعل، ويمكن أن نسميه بالاعتقاد الساكن، ونوع يقوى فيه الاعتقاد حتى يتعدى إلى الإرادة فيكون له سلطان عليها يحركها به لتنطلق في إنجاز الأعمال، ويمكن أن نسميه بالاعتقاد الفاعل.

 

وقد كانت مذاهب اليونان الفلسفية تعتبر معرفة الحق فضيلة قائمة بذاتها، ولا تضفي على آثارها العملية قيمة تذكر، وذلك بما هي في عمومها مذاهب نازعة إلى التجريد، عازفة عن الأعمال، ولكن العقيدة الإسلامية جاءت بمفهوم آخر يكون في الاعتقاد محددة قيمته بآثاره العملية، فأصبح فيه التصديق الذهني بالعقيدة ليس معتبراً في ذاته إلا قليلاً، وإنما قيمته تكتمل حقاً بما يؤدي إليه من الأعمال، وذلك ما أشار إليه ابن خلدون في قوله معبراً عن العقيدة بالتوحيد: "إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي، وإنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس"19، والمقصود بهذه الصفة التي تتكيف بها النفس ذلك السلطان الذي يكون للعقيدة على الإرادة فيوجهها في طريق الأعمال.

 

وقد كانت الأجيال الأولى من المسلمين تتنـزل العقيدة في نفوسهم تنـزلاً مباشراً في الدرجات التي تدفع إرادتهم إلى الأعمال، فما أن يتحمل الواحد منهم الإيمان بهذه العقيدة حتى يندفع مباشرة في العمل بما تقتضيه في الواقع في وجوهه جميعاً، جهاداً ونشر دعوة، أو إنشاء وتعميراً في الأرض، أو طلباً للعلم الديني والكوني. ولم يكن معهوداً لدى تلك الأجيال ذلك الاعتقاد السكوني الذي يقصر عن تحريك الإرادة العاملة، فيجتمع الاعتقاد والقعود في الرجل الواحد في ذات الوقت. ومن خير ما يرمز للاعتقاد، الذي يتنـزل في النفس تنـزيلاً مباشراً في موقع الدفع الإرادي للعمل، قصة ذلك الصحابي في غزوة أحد حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن قتلت أين أنا؟ قال: في الجنة، قال: فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل"20، ذلك التنـزل المباشر للإيمان بالجنة لم يمهله ليصير عملاً حتى لأكل تمرات كان بصدد أكلهن، وكذلك كان الأمر في حال ما بين الاعتقاد وسائر الأعمال عند تلك الأجيال من التأثير المباشر.

 

ولكن خلفت أجيال من المسلمين بعد ذلك اختلف عندها الأمر، فإذا العقيدة تقع في النفوس عند كثير منهم موقعاً باهتاً، لا يمتد آثره إلى الإرادة فيحركها لتدفع الجوارح إلى العمل إلا قليلاً وعلى تطاول في الأثر، ذلك أنها عند بعضهم انحدرت إليهم تقليداً من الآباء، ولم يكابدوا فيها معاناة التأمل لتكتسب به من القوة ما تتعدى به إلى التأثير في الإرادة، وعند بعض آخر جنحت بها مغالاة العقل في التقرير والتفصيل والمجادلة حتى حجبتها عن التمكن من مجامع النفس لتؤثر في الإرادة، وظلت أقرب إلى الظاهرة العقلية المجردة منها إلى الفكرة المتفاعلة مع كيان الإنسان كله، فتدفعه إلى إنجاز الأعمال. وسواء كان السبب هذا أو ذاك فقد آل مراد سواد المسلمين إلى واقعهم الراهن الذي فيه تراهم "يتسابقون في انضباط السلوك الظاهر، وفي حساب التعاويذ والأذكار، وطويتهم هواء، لا تجيش بحواثّ الإيمان وعزائمه التي تحدث النهضة في واقع الحياة21. ولذلك فإنه كان لزاماً أن يمتد ترشيد الاعتقاد ليشمل أيضاً علاقة العقيدة بالإرادة الفاعلة، فتكون هذه العلاقة علاقة فعل وانفعال تثمر إنجاز العمل الصالح المؤسس للنهضة، وربما يكون هذا الترشيد متمثلاً بالأخص في أمرين أساسيين:

 

أ. الجزم الاعتقادي

 

إن الإرادة الفاعلة لا يحركها التحمل العقدي إذا كان حاصلاً في النفس على درجة من الشدة والقوة، بحيث يتولد من الإيمان بالحق حواثّ تحث الإرادة على دفع الجوارح إلى الفعل في الإرادة، إلا إذا كانت متأتية بالاقتناع الذاتي الحاصل بمعاناة التأمل والتدبر في مفردات تلك العقيدة، أو في مبادئها الأساسية على الأقل. وأما إذا كان ذلك الإيمان حاصلاً من خارج الذات وراثة أو تقليد فإنه لا يبلغ في النفس التأثير الفعلي أو على سبيل النذور، ذلك أنه يظل أبداً يحمل في نفس المؤمن صفة الغيرية والغرابة، إذ هو متأت من خارجها فيكون فيها كالعارية بشعور أو بدون شعور، فتنصد عن أن تنفعل به الانفعال المحرك للإرادة في طريق الفعل، ولكن حينما يكون الإيمان بالعقيدة حاصلاً في النفس بعد معاناة السعي الذاتي بالتدبر، فإنه حينئذ يحل فيها على صفة من القربى والانتماء تنفتح بهما للانفعال به فيكون له أثر في تحريك الإرادة.

 

وقد جاء القرآن الكريم يشدد النكير على التقليد الذي لا يستند على شيء سوى انحدار المعتقد من الآباء والأجداد، ويكون ذلك الانحدار هو السند الوحيد للحقيقة فقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف: 23-24). ثم يوجه العقول بدلا من ذلك إلى النظر والتأمل والتدبر كما في قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) (العنكبوت:19-20). وقد اعتبر عند علماء العقيدة أن الإيمان إنما يكون إيماناً معتبراً حينما يكون ناشئاً عن النظر المفضي إلى الجزم، وأما إيمان المقلد فقد تراوح عندهم بين البطلان أصلاً والضعف الذي يقصر به عن المطلوب الديني22. وأحسب أن من موازين هذه المعايرة للإيمان ميزان أيلولته إلى التأثير على الإرادة الفاعلة أو عدمها، إذ إيمان التقليد لا يؤول إلى ذلك خلافاً للإيمان الجازم.

 

والمتأمل في أحوال الأمة كما آل إليه أمرها اليوم يجد أن السّواد منها يتحمّل العقيدة تحمّل تقليد لا تحمل نظر وتدبر، سواء كان ذلك التقليد تسليماً بعقائد الآباء، أو محاكاة لما عليه الهيئة الاجتماعية العامة، أو تعلما من معلمي العقيدة ومشايخها الذين يلقنون العقيدة تليقناً مجرداً ضمن العلوم الصورية التي تلقن للمتعلمين. ولو بحثت في هذه الأمة لوجدتهم قلة أولئك الذي حصلوا إيمانهم بمعاناة النظر والتدبر، فجاسوا خلال الأنفس والآفاق لينتهوا إلى إيمان مكسوب من قبلهم، فيه من قوة الجزم ما يشتد به على النفس فتندفع إلى العمل، فكيف بأمة سوادها يحمل إيمانه وراثة وتقليداً أن تكون لها عزيمة تنهض بها من السبات؟ إن تلك العزيمة لا تكون إلا بأن يتحول موقع الإيمان في النفوس من درجة التقليد إلى درجة الإيقان الذاتي بالنظر والتأمل.

 

وليس المقصود بالنظر والتأمل تلك القياسات المنطقية المعقدة التي درج عليها المختصون في علم الكلام، فإنها ليست في طاقة عامة المسلمين، فضلاً عن أنها قد لا تنشئ الإيمان الجازم، وإنما المقصود به استنهاض الفطرة الاستدلالية الكامنة في كل النفوس على قدر مشترك بينها، ثم على أقدار قد تتفاوت بين فرد و آخر، لُيبسط محصول العقيدة الموروثة على تلك الفطرة بحسب أقدارها بسطاً تقلب فيه تلك العقيدة على الآيات الكونية والاجتماعية تقليب بحث لا تقليب شك، على هيئة فعل إبراهيم الخليل في استعراضه لأحوال النجوم وانتهائه باليقين الجازم بألوهية الله الدائم القيوم. وإن هذا الاستنهاض للفطرة الاستدلالية في النفوس لهو اليوم متوفر الدواعي والمقدمات والآلات أكثر من أي وقت مضى، فإن كتاب الكون فتحت صفحات كثيرة منه، فبانت آيات الله فيه جلية، وأن أديان الناس ومذاهبهم التي وضعتها عقولهم بان خسرانها جلياً أيضا، ومن هذه وتلك يمكن تأليف مادة ذات فعالية شديدة لاستنهاض فطر المسلمين في هبة دعوية وتربوية شاملة لتحويل إيمانهم من موقع التقليد إلى موقع الجزم على النحو التالي:

 

أولاً: استنهاض الفطرة الكونية: إن كل نفس إنسانية تنطوي على ما يمكن أن نسميه بالفطرة الكونية، وهي متمثلة في نـزوع طبيعي إلى البحث عن علل الموجودات الكونية وأسبابها، ولهذا ظل الإنسان يبحث عن هذه العلل منذ فجر تاريخه إلى اليوم، ولهذا أيضاً وجهه القرآن الكريم إلى النظر في الكون وآياته لاكتشاف أسبابه والوصول إلى الحق العقدي منها، استثماراً لهذه الفطرة وتوجيهاً لها نحو تحققها الطبيعي.

 

واليوم، وقد كشفت العلوم الطبيعية عن حقائق كثيرة من سنن الله في الكون، وأصبحت هذه الحقائق ميسورة التناول والفهم لسواد الناس بما تيسر من وسائل التقديم والشرح، فإنه يمكن أن تستخدم وسيلة دعوية ناجحة تقدم للمسلمين مخاطبة فطرتهم الكونية، فتبين لهم ما في هذا الكون من عظمة الصنع ودقة النظام وغائية الصيرورة. وحينما يقفون على ذلك ويرونه رأي العين، توجه فطرتهم إلى سبب الأسباب في ذلك كله، فتنفعل النفوس إذن بذلك انفعالا جديدا، ويحصل الاقتناع بعقيدة الألوهية وما يتبعها من العقائد حصولاً ثانياً، تنـزل فيه منـزلة الجزم بعد ما كانت نازلة منـزلة التقليد. وقد رأينا برامج تلفزية في هذا الشأن تحدث في النفوس انقلاباً إيمانياً لا تحدثه وسائل الدعوة والتعليم النظرية الجافة، وذلك أنها خاطبت عن قرب الفطرة الكونية في المسلم فاستنهضتها لتحصيل الإيمان الجازم. ولا يخفى أن كثيراً من المحلدين الذين يمارسون البحث في العلوم الكونية تحولوا إلى الإيمان بما وقفوا عليه من أسرار الكون وآيات دقته ونظامه23.

 

هذا وقد بات من البين اليوم أن العقلية العليمة التجريبية التي تنفتح للفهم والاقتناع بما هو علمي تجريبي أصبحت عقلية سارية في قطاع كبير من المسلمين تأثرا بالعقلية السائدة في التحضر الغربي. ويمكن أن تستثمر هذه الخاصية بتوجيه العقول إلى حقائق العلم الكوني، ثم توجيهها إلى دلالات تلك الحقائق على ما وراءها من حقائق أخرى غيبية، فإنها حينئذ لا تملك إلا الإذعان الإيماني، ولكنه إذعان حصل بمعاناة النظر والتدبر، وهو إيمان الجزم القادر على تحريك إرادة الفعل.

 

ثانياً: استنهاض الفطرة النفعية، إن في الإنسان نـزوعاً فطرياً إلى تحصيل المنفعة متمثلة في معان كلية من الأمن والطمأنينة والكفاية ورغد العيش، ومتفرعة إلى فروع وجزئيات كثيرة. وهذه الفطرة المشروعة كثيراً ما تدفع الإنسان إلى البحث عن الحقيقة من خلال ما يتحقق لهم من النفع، وقد أصبح هذا الأمر اليوم فلسفة سائدة في الغرب متمثلة في المذهب النفعي، وقد أصاب شيء منها عالم المسلمين، وتسرب إلى كثير من أهله. وإذا كان هذا المذهب انحرف بالفطرة الإنسانية عن حقيقتها، حيث انحصر النفع فيه في منافع الرجل الأبيض، ولو كان ذلك على حساب شقاء الأمم والشعوب الأخرى، إلا أن أصل الفطرة النفعية يمكن استثماره فيما نحن بصدده من ترشيد الاعتقاد.

 

إن العالم اليوم تتوفر فيه الشواهد الكثيرة على إفلاس المذاهب والأديان في تحقيق المنفعة للإنسان. ولا أدل على ذلك من أن هذه الحضارة الغربية العاتية في إنجازها المادي لم تحقق لأهلها الأمن والطمأنينة والهناء، عن أن يتحقق ذلك لسائر الأمم والشعوب الأخرى وقد أصبحت هذه المعاني تضج بها محافل الفكر الغربي نفسه فيما يشبه النذير بالمآل لهذه الحضارة24.

 

وإذن فإنها تتوفر فرصة ثمينة في أن يعرض الإسلام في مبادئه العقدية على المسلمين أنفسهم من المقلدين في إيمانهم عرضاً تظهر به تلك المبادئ من حيث ما يحققه للناس من الخير والمنافع بموازينها الإنسانية العامة، ذلك من خلال التجربة الحضارية الإسلامية التي قامت على تلك المبادئ ومن خلال اللازمة المنطقية بين حقائق العقيدة في ذاتها وآثارها في نفع الإنسان، وبالمقارنة مع فشل كل المذاهب والأديان في تحقيق هذا النفع. وإن هذا العرض من شأنه أن يجعل المسلم يعيد تحصيل عقيدته بما يستثير فيه من فطرة المنفعة. فترقى تلك العقيدة في نفسه إلى منـزلة الجزم بعد النظر في آثارها، والاقتناع بأنها الحل الوحيد الذي يحقق للإنسان السعادة والخير25.

 

إذا ما سلك الدعاة والمربون مسلك استنهاض الفطرة الكونية والفطرة النفعية في نفوس المسلمين، فإن ذلك من شأنه أن يحرك النفوس، وينفض عنها غبار التقليد، فتنهض لتحصل عقيدتها بذاتها تحصيل الناظر في الآفاق وفي الآثار العملية، فتنخرط إذن هذه العقيدة في سياق التأثير على الإرادة، وتدفع بها إلى العمل التعميري الصالح بعدما كانت مستكنة في النفوس، وكأنما هي غريبة عنها لانحدارها إليها من خارجها. وليس هذا الأمر بعزيز على هذه الأمة في واقعها الراهن، فإن أقدارها من الفطرة ومن القابلية للنظر والفهم لا تقل عن أقدار أهل الجاهلية الذين تأملوا العقيدة الجديدة بسليم فطرتهم، فآمنوا بها إيمان الجزم، فانطلقت بهم الإرادة إلى الإنشاء الحضاري المشهود، إذن هو ترشيد لاعتقاد المسلمين ضروري لدفعهم في سبيل النهوض.

 

ب- الإحياء الروحي للاعتقاد

 

الإيمان بالعقيدة يتحمله المسلم بالتصديق والإذعان، وقد كان المسلمون الأوائل يتم التصديق والإذعان عندهم بكافة الطاقات في ذواتهم عقلية وروحية وعاطفية، فما أن ينبلج الإيمان في النفس حتى تتضافر على تحمله مدارك العقل مع أشواق الروح مع منازع العاطفة، فإذا الله تعالى في نفوس المؤمنين يسلم العقل جازماً بوجوده وصفاته، وتنـزع العواطف إلى محبته وخوفه ورجائه، وتهفو الروح إلى لقائه، وهكذا الأمر في كل عقيدة. ومن هذا الوضع في تحمل الإيمان تتكون شدة له في النفوس فيأخذ بمجامعها، ويدفع بالإرادة دفعاً قوياً إلى العمل والإنجاز وذلك سر من أسرار تلك القفزة الحضارية المشهودة في ذلك الزمن القصير.

 

ولكن بعد بعض الزمن تغير وضع هذا التحمل الإيماني ليميل إلى التحمل العقلي الصرف تسليماً بالعقيدة حسبما يقتضيه العقل في غير سند روحي وعاطفي يذكر. وقد عزز من هذا الوضع الجديد نشوء على العقيدة نشوءً عقلياً لرد الهجوم العقلي على أصول الدين الإسلامي، ثم تطوره على ذلك باطراد، حيث قام هذا العلم على المقايسة العقلية الصرفة فيه شيء كثير من التجريد والجفاف. ولما آل أمر المسلمين إلى التخلف العام، تعزز هذا الوضع أيضاً مرة أخرى، فأصبح الاعتقاد قواعد ورسوماً عقلية لا تكاد تتجاوز في نفس المؤمن التصديق العقلي الناشئ عن التقليد إلى أي ركن آخر من أركان الذات الفسيحة. وقد كان هذا الأمر داعياً الإمام الغزالي لأن يؤلف كتابه "إحياء علوم الدين"، وهو يقصد الإحياء الروحي في مواجهة الجفاف العقلي الذي آل إلى واقع من علوم الشكليات والرسوم.

 

وفي واقع المسلمين اليوم صورة من هذا المجال الذي آل إليه الاعتقاد، إذ ترى الإيمان بالله وبسائر العقائد الأخرى لا يتجاوز عند سواد الناس أن يكون مسلمة عقلية تنحدر بالتقليد في الغالب، دون أن تخالطها معاني الخوف والرجاء والحب والشوق إلى لقاء الله، فتعطلت إذن دواع كثيرة من شأنها أن تجعل الإيمان فاعلاً في الإرادة دافعاً لها نحو العمل، ولا يخفى أن العواطف وأشواق الروح لها من التأثير في الاندفاع إلى العمل ما يوازي أو يفوق تأثير الإيمان العقلي إذا كان عن جزم فكيف إذا كان عن وراثة وتقليد؟!

 

ولهذا الأمر فإن التفعيل العقدي للإرادة بدفعها إلى الإنجاز يقتضي ترشيداً عقدياً يتمثل في إحياء روحي للاعتقاد، بحيث يصبح تحمل المسلم لعقيدته تحمّلاً عقلياً، فإذا تصديقه العقلي الجازم بالله تعالى يسنده خوف منه ورجاء، ويجلله حب وشوق إلى اللقاء، وإذا تصديقه بالنبي صلى الله عليه وسلم يخالطه حب له وتأسٍ به في أخلاقه وأفعاله، وإذا الإيمان التصديقي بالآخرة مضمخ باستشعار دائم لمواقفها وما فيها من أهوال، وتحسب دائم أيضا لمشاهد الجزاء فيها ثواباً وعقاباً، وهكذا الأمر في كل حقيقة من حقائق العقيدة.

 

ويمكن أن يتم هذا الترشيد بتخفيف الدعاة والمربين في خطابهم العقدي من غلواء العقل الصارم في تقرير العقيدة بأن يتجه الخطاب أيضاً إلى الفطرة العاطفية الروحية في الإنسان إلى جانب خطاب العقل، فتستثار تلك الفطرة للتحمل هي أيضاً الإيمان بالعقيدة بما يناسب طبيعتها، وذلك بتقرير العقيدة وعرضها في أبعادها العقلية والروحية في الآن نفسه، فيكون الدليل العقلي مقروناً بالدليل العاطفي على نحو ما إذا عرض وجود الله من خلال آثاره في الكون، فيعرض ما في مشاهد الكون من الدقة والنظام لمخاطبة العقل، كما يعرض ما فيه أيضاً من مظاهر العناية والرحمة واللطف لمخاطبة العاطفة، فينتهي العقل إلى التسليم المنطقي، وتنتهي العاطفة إلى حب الله الرحمن الرحيم والشوق إليه، حتى إذا استقرت العقيدة في نفس المؤمن كانت منتشرة في جميع حناياها، ممتدة إلى جميع زواياها، فتجيش إذا بالعزم الذي يدفع الجوارح إلى السعي العملي استجابة لاقتناع العقل من جهة، وتلبية لنداء العاطفة والشوق الروحي من جهة أخرى. وقد كان القرآن الكريم يسلك ذلك المسلك المزدوج في الخطاب العقدي، فهو كما يوجه الأنظار إلى آيات الله في صنعتها ونظامها ليستنهض العقول، يوجه خطابه أيضا إلى العواطف ليستثيرها في اكتساب الإيمان كما في قوله تعالي: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم: 32-34)26.

 

يبدو إذن أن الوضع الاعتقادي للمسلمين كما هو حاله اليوم يمقتضى ترشيداً لوصله بالإرادة وصلا يكون به مستثيراً لها لتندفع في سبيل الإنجاز السلوكي لمقتضيات الدين وأغراضه في الحياة العملية، ويلتقي في هذا الترشيد دفع الاعتقاد من وضع التقليد إلى وضع الجزم الناشئ من الاقتناع الذاتي، مع إحيائه إحياء روحياً عاطفياً ليكون بهذا وذاك عاملاً من عوامل التحضر الإسلامي. * عاملية الرشاد الاعتقادي في التحضر:

 

لقد أوردنا الرشاد الاعتقادي بعناصره الثلاثة في مورد حسبانه عاملاً من عوامل النهوض بالمسلمين لاستئناف الشهود الحضاري، والدفع بهم نحو التنمية الشاملة مادياً ومعنويا، وربما خفي على البعض وجه التأثير لهذا الرشاد الاعتقادي كما شرحناه في إنهاض المسلمين رغم ما كنا نشير إليه في ذلك الحين والآخر. ولذلك فإننا نشرح هذه العاملية بعناصرها المتكاملة في هذا الموطن استكمالاً لبيان عامل الرشاد الاعتقادي في التحضر.

 

إن مكانة العقيدة في نهضة الأمة وتحضرها هي مكانة حاسمة كما بينا ذلك سابقا، وذلك ما تثبته التجربة التاريخية للمسلمين حيث لم تكن حضارتهم المشهودة إلا ثمرة لعقيدتهم التي اعتنقوها متقاطرين إليها من ديانات وملل ونحل كثيرة متنوعة عجزت كلها عن إنشاء حضارة شاهدة على الناس كالحضارة الإسلامية، كما يثبته أيضا التحليل المنطقي لحلقات العقيدة الإسلامية ومفرداتها من حيث تأديتها إلى نتائجها اللازمة في ترقية الإنسان ترقية مادية ومعنوية.

 

ولكن العقيدة الإسلامية إذا كانت من حيث ذاتها تفضي إلى التحضر بصفة منطقية، فان أيلولتها بالفعل إلى إحداث التحضر في واقع الناس تتوقف على الكيفية التي بها يتحملها المسلمون وهو ما سميناه بالاعتقاد، فقد تكون هذه الكيفية على نحو من السداد بحيث تثمر به العقيدة ثمرتها في واقع الحياة، وقد لا تكون كذلك إن قليلاً أو كثيراً، فلا تثمر في ذلك الواقع شيئاً أو لا تثمر إلا شيئاً قليلاً، فالرشاد الاعتقادي الذي عرضناه -عاملاً من عوامل التحضر- إنما هو عنصر تفعيل للعقيدة في نفوس المسلمين كي تثمر اندفاعهم إلى العمل الصالح في سبيل تنمية حياتهم المادية والمعنوية. ويكون ذلك التفعيل بحسب العناصر التي ذكرناها على النحو التالي:

 

أ. عاملية رشاد الفهم

 

إن العقيدة إنما تدفع إلى العمل بحسب ما تكون عليه في تصور المسلمين من حيث مدلولها العام أولاً، ومن حيث مفرداتها التفصيلية، إذ النفوس تنفعل بالصورة التي تحصل فيها عن الحقائق لا بالحقائق في ذاتها. وحينما تحصل صورة العقيدة في مدلولها لدى المسلمين اليوم على النحو الذي وصفناه من الشمول، فإنها ستغير لا محالة في هيئة انفعال بها: إذ ستتنـزل قضايا عديدة ذات صلة بالواقع الكوني والاجتماعي في الوعي العقدي للأمة ويصبح بذلك تحقيق مقتضياتها بالفعل محدداً من محددات الفصل بين الإيمان والكفر، مما يكون له أثر بالغ في النـزوع إلى العمل والإنجاز والتعمير، ويتكون من ذلك أوبة عامة إلى الفعل في الحياة العملية بما وقر في النفس من أن ذلك هو مقتضى من مقتضيات الاعتقاد الذي أصبح ذا أبعاد عملية في العلاقات الكونية والاجتماعية.

 

وعلى سبيل التفصيل فإن الخلافة في الأرض لما تتنـزل في الأذهان منـزلة الاعتقاد فإن ذلك من شأنه أن يجعل المسلم يجدّ في التعمير في الأرض باعتباره عنصراً من عناصر الخلافة إذا هو تقاعس عنه اختلف عقيدته، وكذلك العدالة الاجتماعية وتكريم الإنسان والشهادة على الناس، فإنها حينما يتحملها المسلم على أنها عقائد فسيكون ذلك عاملاً على السعي في تنـزيلها على الواقع، إذ هي تكتسب من صفتها العقدية ما يثقل به وزنها في ميزان الأعمال فتأخذ طريقها إلى الفعل. ألا ترى كيف أن المسلم اليوم يقوم بشعائر الصلاة والزكاة والصيام والحج باعتبارها تحقيقاً خارجياً لعقيدته في توحيد الله ووجوب عبادته، فإذا ما جاء أمر الكفالة الاجتماعية والعدالة بين الناس والنهوض بتبليغ الدين إلى العاملين، رأيته يقعد عن ذلك، إذ هو لا يجد تلك المعاني في وعيه العقدي فيحسب أنها مما لا يضر كثيراً التقاعس عنه، ولو وجدها في وعيه العقدي كم

 

المصدر: مجلة (إسلامية المعرفة) العدد 1

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك