الحق والشعب.. بين هارون وابن حنبل
الحق والشعب.. بين هارون وابن حنبل
إسلام العدل
يشغل البال هذه الايام سؤال في غاية الأهمية, وهو “أيّ المسألتين أولى في التقديم؛ إحقاق الحق أم توافق الشعب؟”, وأثناء بحثي استوقفني مشهدين يستحقان التأمّل والتدبّر, وأن نقف عندهما علّنا نجد لهذا السؤال إجابة, أو على الأقل ننير بصيرتنا ببعض الأبعاد:
- المشهد الاول:
“إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي” (طه: 135) في هذا المشهد قدّم هارون التوافق الشعبي على الحق المطلق, (وقد كان في العقيدة وليس في رأي عام يحتمل الصواب والخطأ), فهل حدث لديه خلل في العقيدة أم أنه أعمل عقله في طبيعة قومه وطريقة تفكير أخيه موسى.. الثابت علمه أنه لم يُصَب بخللٍ في عقيدته إطلاقًا, بل وقد كان يدرك أنَّ أخيه موسى سيعنفه على هذا!
أتخيل من لم يتبع السامري من بني اسرائيل, ماذا كان موقفهم من هارون الذي يعرف الحق البيّن ولم يدفع الباطل الفج, ويقف في وجهه مصادمًا له مقدمًا عدم التفريق بين القوم (التوافق الشعبي) على إحقاق الحق الذي يعرف أنه سيعود بعودة موسى؟, أي أنَّ هارون عليه السلام قدَّم التوافق الشعبي على إحقاق الحق, لحين يأتي الوقت الأنسب لإحقاقه بأقل الخسائر..
- المشهد الثاني:
أثناء توجه الإمام أحمد بن حنبل من محبسه لساحة الجلد, كان كمن لا يستطيع المشي, فكأنه محمولًا, وذلك من خشيته فتنة الضرب, فقد كان يقول: “والله لا أخشى الموت فهي الشهادة, ولا أخشى السجن فهو خلوة, لكني أخشى فتنة السوط”, وأثناء ذلك, إذا بلصٍ يُدعى هيثم الطيار يقول له: “اثبت يا إمام ولا تذل, فذلة العالم يذل لها العالم”.. وكأن هذه الكلمات جاءت لتثبته على الحق في وجه إرادة السلطان الظالمة الطاغية.
أتخيل هذا المشهد لو أنَّ الإمام تخاذل عن الثبات على الحق الذي فُتن فيه الناس, ولم يكن بينًا لهم مع طغيان السلطان عليه أو أستمع لنصائح من حوله بأنَّ له عذر واتبع قول الله تعالى: “إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ” (النحل: 106).
هذان المشهدان يضعانا أمام سؤال في غاية الأهمية:
لماذا صادم الإمام أحمد بن حنبل السلطان من أجل إحقاق الحق الملتبس أمره على الناس, ولم يصادم النبي هارون قومه وتمهَّلَ معهم من أجل إحقاق الحق الذي لا غبار عليه؟
أعتقد أنَّ الإجابة تكمن في السؤال ذاته, و تمر عبر نقطتين هامتين يحكمان فكرة الصدام المباشر, أو بالأحرى درجة المواجهة:
- مع من تدور المواجهة: السلطان أم القوم؟
- ما هو موقف الحق بالنسبة للقوم: بيّن أم مُلتبس؟
وهذا يجعلنا أمام ثلاث حالات رئيسية:
- الحالة الأولى: مواجهة السلطان والحق بيّن للقوم:
لو كان السلطان على الباطل والحق بيّن للجميع, فقد خاب السلطان وخسر إذ استعدى الجميع عليه, حينها يكون القوم في وجه السلطان.
- الحالة الثانية: مواجهة السلطان والحق ملتبس على الناس:
فالثبات الثبات لا مفر, فلو لم يثبت لفرض السلطان الباطل على الناس, والتبس الحق عليهم, وظنوا أنَّ ما فرضه السلطان هو الحق, ولذا كان موقف الإمام أحمد مصادمًا للسلطان ليصبح الحق جليًّا فيتبعه القوم, ويكون القوم في مواجهة باطل السلطان, والحق بيّن لهم وقد زال الالتباس فيخيب باطل السلطان ويخسر.
- الحالة الثالثة: مواجهة القوم (الحق بين أو ملتبس):
في هذه الحالة لا تنتصر المواجهة إلا بالدعوة وإقناع الجماهير بالحق, وهذا ما حدث في حالة هارون, لم يصادم القوم لأنه يعرف أنه لو صادم القوم لخسرهم, وما استجابوا لدعوته, فتصير خسارته أكبر.
وفي الحالات جميعها كلمة السر هي القوم وليس السلطان وليس الإمام الثابت وليس النبي المرسل, فالسلطان لا يحكم إلا برضى القوم, والإمام يثبت لا ليصادم السلطان بل حتى لا يذل القوم أمام ظلم السلطان وباطله, والنبي يرسَل حتى يهدي القوم لا ليصادمهم, ولا تنتصر رسالته إلا بإيمان القوم بها, ولا تنتشر إلا بعمل القوم وتطبيقهم لها..
وقد أبدع الإمام حسن البنا إذ يقول: “لا تهدموا على الناس أكواخ عقائدهم البالية, بل ابنوا لهم قصورًا من العقيدة الصحيحة, ليتركوا هم أكواخهم وينتقلوا إليها طوعًا لا كرهًا”.
إذًا فمفتاح الإجابة هو الشعب, فإذا أردت أن تثور على سلطان فليكن هدفك أن يكون الشعب معك, لذا ابحث كيف تكسب تعاطف الشعب وتصنع التوافق الشعبي, وإذا أردت تحكم البلاد كذلك, فليكن هدفك أن يكون في صفك الشعب, فابحث كيف ترضيه وتحقق أمنه ورخاءه, فكلمة السر واحدة في الثورة والحكم: “إنه الشعب”!