تحرير المصطلحات أولاً

تحرير المصطلحات أولاً

عبد العزيز محمد قاسم

 

عندما سئل سماحة الوالد مفتي عام المملكة - إبان استضافته لنا في منزله- عن موقفه من التصنيفات الفكرية، أجابنا بأن هذه التقسيمات تضرّ أكثر مما تنفع، وأتذكر أن بعض الدعاة الحضور راجعه في جزئيات مهمة في الموضوع، إلا أن سماحته كان حاسماً تجاه هذه المسألة.

 

في لحظة حديث سماحة المفتي وَمَضت أمامي- وأنا في ذلك المجلس الإيماني العامر- لقطات من حواري مع مذيع قناة (الحرة) الأستاذ حسين جرادي قبل أسابيع وقتما تحدث في برنامجه عن موضوع عودة صديقنا العزيز جمال خاشقجي لسدّة رئاسة تحرير صحيفة (الوطن) واصفاً حبيبنا أبا صلاح بأنه ذلك الليبرالي السعودي، وأفاض بأن تلك العودة المظفرة تدخل في دائرة الصراع بين الإسلاميين والليبراليين السعوديين، وغيرها من تلك التهويلات الإعلامية، بالطبع لم أستطع كتمان ابتسامة كبيرة وشامتة أيضاً في المذيع المحترف الذي لمح ذلك، وقال لي على الهواء: ربما لابتسامتك يا أخ عبدالعزيز مغزى، وأعطاني دفة الحديث، وبادرته مباشرة بأن مبعث الابتسامة وصفك لأخينا جمال بأنه ليبرالي، وبودي تصحيح هذا الوصف البعيد عن حقيقة أبي صلاح. فالرجل ربيب التيار الإسلامي في السعودية، وهو أحد أولئك المجاهدين في أفغانستان من حقبة الثمانينيات، وهذا تاريخه في المحضن الديني بين يديه، ولو وضعنا الرجل تحت مجهر ومشرط الليبرالية بحرفية مصطلحها العلمي، أو قسناه على مسطرة (الليبرالية التونسية كمثال) لألفينا الخاشقجي ليس إسلامياً أصولياً فقط، بل أصولياً متطرفاً. المسألة في حقيقتها أن للرجل آراء انفتاحية وإصلاحية، ربما تخالف السائد الديني المحلي، وليس هذا مسوغاً لأن تغدق عليه وصفك الذي قلت.

 

من موقعي أرصد أن ثمة لبساً كبيراً وخلطاً معيباً في مفاهيم ومصطلحات عدة تتداول في أتون الاحتراب الفكري المحلي، وربما كان أهمّ تلك المصطلحات هي الليبرالية والعلمانية والأصولية والتطرف.

 

ثمة دعاة يسوطون بعض الكتبة ممن يختلفون معهم بالليبرالية غالباً وبالعلمانية أحايين قليلة، والإشكالية هنا من جهتين، فالطرف الذي يَقذف لا يعي تماماً أبعاد هذين المصطلحين، وهل يتحقق في عقيدة وذات الرجل الذي رماه بالعلمنة أو الليبرالية شروطهما عليه، فيما الطرف الآخر يدّعي البعض منه أنه ليبرالي، ولا يفقه المسكين من الليبرالية سوى عداء التيار الإسلامي فقط، فانحصر كل فهمه- زاده الله من فضله- أن مجرد مماحكة التيار الديني والتجديف ضد أدبياته هي الليبرالية البرّاقة التي يتباهى بها في مجالسه الخاصة.

 

نحن-أيها السادة- بمسيس الحاجة لتحرير هذه المصطلحات التي تتطور يوماً بعد يوم، وانفلتت من محاضنها وسياقاتها التاريخية التي ترعرعت. ولا تكفينا كتب المعاجم على أهميتها في التعريف الدقيق بها، بل من الضروري - توازياً مع ذلك- ملاحقة آخر استخداماتها وما انتهت إليه، والتعريف بالمجالات الجديدة التي اخترقتها، كي يَعي – على الأقل- أولئك الذين يتقاذفونها كنه وحقيقة ما يتراشقون به.

 

إيماءة:

 

عندما يكون الحوار حول موضوع شرعي على أساس علمي متين، وبين متخصصين يستصحبون النهج النبوي وآدابه في الحوار، لا بدّ وأن يكون لهذا الحوار ثمرة تنعكس على الفكر والوطن، وها نحن ندلّ في ملحق(الرسالة) بحوارات راقية اقتعدت أمكنتها في التاريخ الصحافي المحلي، ولعل أحد هذه الحوارات ما يدور في أعدادنا الحالية حول المولد النبوي الشريف، وأحيّ ابتداءً جميع المشاركين فيه على تحليهم بهذا الرقي، وأخصّ الأكاديمي بجامعة أم القرى د.لطف الله خوجة، الذي سررت منه بهذا الإنصاف والموضوعية التي تليق بطلبة العلم، عندما فرّق بين من يتدارس سيرة سيد ولد آدم بعيداً عن الغلو والمنكرات الشرعية من عزف ورقص، وبين من يقع في تلك المحظورات. حيث ذهب أخونا الخوجة إلى أن الفريق الأول متأولٌ مجتهدٌ ولكنه مخطئ، وهذا رأيٌ أسمعه لأول مرة من أستاذ عقيدة محسوب على التيار المعارض للمولد، ومعنى ذلك أن أولئك القوم المحتفلين بالمولد سيصيبون الأجر الواحد – بحسب رؤيته أنهم مخطئون- في ما كان سائداً في أجوائنا الشرعية التأثيم والبدعية التامة على الإطلاق.

 

من ثمرات الحوار أنه فتح كوّة جديدة أيضاً تتمثل في أن جهابذة علماء السلف اختلفوا في المولد، بل أن منهم من قام بالدفاع عنه كابن حجر العسقلاني، وهُمْ مَنْ هُمْ في منزلتهم ومكانتهم..

 

وفي انتظار ما سيسفر عليه السجال، الذي أتمنى على المشاركين التجرد للحق.. والحق فقط. * د.عبد العزيز محمد قاسم: كاتب سعودي

 

المصدر: جريدة المدينة السعودية، ملحق الرسالة بتاريخ 23/4 /1428هـ

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك