ضمير الأمة إذ يقدم السياسي على المذهبي

ضمير الأمة إذ يقدم السياسي على المذهبي

ياسر الزعاترة

 

مع عملية الوعد الصادق البطولية التي نفذها حزب الله وما تلاها من تداعيات، عادت جدلية السنة والشيعة إلى البروز من جديد، وبالطبع تبعاً لمجيئها في ظل الحشد المذهبي الواسع النطاق على خلفية ما يجري في العراق، وهو حشد وصل حد التشكيك في حزب الله اللبناني تبعاً لكونه شيعياً، إذ لم يستوعب عقل البعض أن حزباً توجهه إيران المتهمة بمحاربة العرب السنة في العراق يمكن أن يخوض مواجهة حقيقية مع الصهاينة.

 

على أن ذلك لم يغير في حقيقة أن الغالبية الساحقة من أبناء الأمة الذين وقفوا موقفاً مناهضاً للقوى الشيعية المتحالفة مع الاحتلال في العراق، قد انحازوا إلى حزب الله في مواجهته الجديدة مع الصهاينة، الأمر الذي لا تشكل المظاهرات الكبيرة تعبيراً كافياً عنه، لأن واقع المشاعر كان أكبر من ذلك بكثير، فكيف يمكن تفسير هذا الموقف؟

 

في تحرير المسألة لا بد من الإشارة ابتداءً إلى أن الغالبية الساحقة من أبناء الأمة الإسلامية طوال القرون كانوا من السنّة، الأمر الذي لم يتغير هذه الأيام (أكثر من 80 في المائة من المسلمين سنة)، بصرف النظر عن التفسيرات التي يسوقها الطرف الآخر لهذه الظاهرة بالرجوع إلى جدلية السلطان والقرآن. ومن هنا لم ينظر السنة إلى أنفسهم يوماً بوصفهم طائفة تخاف على نفسها ومعتقداتها، وتحميها من خلال التشكيك في عقائد الآخرين، كما يفعل بعض أتباع المذاهب الأخرى.

 

على رغم هذا الواقع الذي يجعل السنّة هم الغالبية بين المسلمين، إلا أنه لم يسجل عليهم، ربما باستثناءات محدودة، أنهم أساءوا إلى إخوانهم الشيعة، وعموماً فإن ما سجله التاريخ من تلك الصدامات لم يصل يوماً حدود الحرب الأهلية أو الاقتتال الشامل. ومقابل صوت التكفير شبه الصريح للسنة في المذهب الإثني عشري تبعاً لاعتبار الإمامة من أركان الإيمان، فإن صوت التكفير المقابل في أوساط السنة كان طوال الوقت محدوداً جداً، وهو في الغالب متشدد مع طوائف لا حصر لها من السنّة أنفسهم. وتبقى المواقف الرسمية في هذا البلد أو ذاك، تلك التي لا تعبر عن الضمير الشعبي، بقدر تعبيرها عن مصالح السلطة وحساباتها، بدليل أن السنّة في إيران على سبيل المثال مهمشون على نحو لا يقل سوءاً عما يحدث مع الشيعة في بلاد عربية "سنّية" إذا جاز التعبير.

 

النظام العراقي السابق كان جزءاً من هذه المعادلة، فالموقف من الشيعة أو الأكراد لم يكن ذا صلة بالأسئلة المذهبية أو العرقية، بل بمسألة الولاء، بدليل أن صدام حسين لم يتورع عن قتل أقرب الناس إليه حين خالطه الشكل في ولائهم. وفي العموم فقد كان القتل والاضطهاد سياسياً وليس طائفياً أو مذهبياً.

 

لا شك أن النزاع المذهبي أو الطائفي يشكل وصفة تدمير لأي مجتمع ولأية أمة، وقد دفع المسلمون أثماناً باهظة للنزاع التاريخي بين الصفويين والعثمانيين، لكن الموقف يغدو أكثر سوءاً عندما تكون الأمة في مواجهة غزو خارجي يحرص على بث الفرقة وتطبيق سياسة فرّق تسد بين الناس حتى يتمكن من السيطرة عليهم. وقد سمعنا أحد الأمريكيين الصهاينة المعروفين (مارتن إنديك) يتحدث صراحة عن تطبيق تلك السياسة في العراق كمسار وحيد يسهل إمكانية السيطرة عليه.

 

جاءت الأزمة العراقية بعد سنوات من تجاوز العقدة المذهبية التي أطلت برأسها خلال النصف الثاني من مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، وكان لجهاد حزب الله اللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان والانتصار التاريخي الذي تحقق على يديه دور مهم في ذلك، الأمر الذي جعله، وعلى رأسه السيد حسن نصر الله رمزاً للتعايش بين مذاهب المسلمين ووحدتهم في مواجهة العدوان الخارجي. ولا شك أن وقوع إيران في دائرة الاستهداف الأمريكي طوال السنوات الماضية، كما هو حال العراق ودول عربية أخرى، فضلاً عن الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية، قد أعطى مزيداً من الدفع للغة التآلف والتكاتف بين المسلمين بعيداً عن أسئلة المذهبية.

 

بعد موقف غالبية القوى الشيعية المهادن للاحتلال في العراق والمناوئ لأهل السنة، المتشدد في اعتبارهم أقلية تابعة لصدام حسين، وصولاً إلى ما يشبه الاقتتال الأهلي، عادت النعرة المذهبية لتطل برأسها من جديد، لاسيما في ظل بروز مشاعر ومظاهر استقواء في أوساط بعض شيعة السعودية والخليج على خلفية ما جرى في العراق. ولا شك أن لهذه الحالة دوراً في إثارة الجدل الذي اندلع هذه الأيام حول الموقف من معركة حزب الله في مواجهة العدوان الإسرائيلي.

 

ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن السبب الكامن خلف موقف المسلمين السنة داخل وخارج العراق من الشيعة بعد الاحتلال الأمريكي لم يكن متعلقاً بأسئلة المذهبية وتفاصيلها، بقدر صلته بالموقف من الاحتلال. وعندما خرج الإمام الخميني بثورته العظيمة لم يتوقف المسلمون الذين ساندوه بقوة في العالم أجمع عند سؤال مذهبه وتفاصيل فتاواه على رغم ما كان يروجه البعض عنه من كتب ومقالات تحمل الكثير من الطروحات والأفكار التي تؤذي أهل السنّة وتستفز مشاعرهم.

 

في لبنان حصل أمر كهذا، فقد تحول حسن نصر الله، وقبله الشهيد عباس الموسوي، فضلاً عن علماء من وزن السيد محمد حسين فضل الله إلى رموز كبار في وعي المسلمين بلا استثناء من دون السؤال عن تفاصيل مواقفهم المذهبية، وبالطبع تبعاً لمواقفهم السياسية الرائعة في نصرة قضايا الأمة.

 

لقد تأكد من خلال الحالات المشار إليها أن الأمة يمكن أن تتسامح إلى حد كبير في سياق الأسئلة المذهبية عندما يكون الموقف من قضاياها المصيرية مميزاً. وقد برزت هذه المعادلة أيضاً إثر نزوع السيد مقتدى الصدر إلى مقاومة الاحتلال خلال العام الثاني لسقوط بغداد، قبل أن يبدأ الموقف منه في التغير إثر تركه المقاومة، والأهم، بعد اتهام جيشه المسمى جيش المهدي بحوادث قتل ضد أهل السنة في الآونة الأخيرة.

 

خلاصة القول هي إن العقل الجمعي للأمة لا ينحاز إلى أسئلة المذهبية والفئوية حين يكون الصراع موجهاً ضد الخارج المعادي، بل ينحاز للمواقف القوية والمبدئية، حتى من أناس يرفض كثيراً من ممارساتهم في سياقات أخرى، فكيف حين يكونون مؤمنين موحدين؟! * ياسر الزعاترة: كاتب أردني

 

المصدر: صحيفة الشرق القطرية 14/08/2006

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك