ختان الذكور والإناث عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، الجدل الديني والطبي والاجتماعي والقانوني

ختان الذكور والإناث عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، الجدل الديني والطبي والاجتماعي والقانوني

بقلم: حميد زناز

هل يمكن أن تحدثنا باختصار عن الآثار المحتملة لختان الذكور على المجتمع؟

 إذا ما عرف الذكور أنّ للختان أثرا على العلاقة الجنسيّة، فإنهم سوف ينظرون لأنفسهم نظرة سلبيّة، ممّا يحطّ من تقديرهم لأنفسهم، خاصّة أن للعلاقة الجنسيّة علاقة قويّة بتقدير الذات. وهذا له أثر شخصي واجتماعي. فالذي لا يقدّر نفسه لا يقدّر الآخرين. ويؤدّي ذلك إلى الانعزالية والإحباط واستعمال المخدّرات. ولكي يعوّض عدم تقديره لنفسه، يحاول البعض اتخاذ تصرّفات خاصّة. فهو سوف يفضّل العلاقة الجنسيّة مع الصغيرات في السنّ حتى يثبت سيطرته ويرفع من تقديره لنفسه. ومن المعروف أن العلاقة الجنسيّة مع من هم أصغر سنّاً ظاهرة منتشرة في العالم الأمريكي والعالم الإسلامي الذي يمارس الختان.

 

 

يتساءل البعض عن نسبة أطبّاء الولادة والأطفال والمجاري البوليّة الذين اختاروا هذه المهنة مدفوعين بكرههم للختان. فيقول «جولدمان» بأنه رغم وجود آثار ضارّة للختان، فإنه من الصعب لمؤيّدي ختان الذكور أن يغيّروا رأيهم وذلك لعوامل نفسيّة قويّة. ومن تلك العوامل ميل الشخص الذي وقع ضحيّة أمر ما أن يعيد ذلك على غيره. وهذا ما يجري في الختان: فالذي خُتن يحاول إعادة الختان على غيره. وقد بيّنت الأبحاث أن الأطبّاء الذين يدافعون عن الختان هم من المتقدّمين في السن والذكور والمختونين.

وهناك من يربط بين الختان وبين ظاهرة ارتفاع نسبة العمليّات التي تجرى على النساء في الولايات المتحدة دون ضرورة طبّية. فمن المعروف أن كل المجتمعات التي تمارس ختان الإناث تمارس أيضاً ختان الذكور. وإذا اعتبرنا أن ختان الذكور ينقص اللذّة الجنسيّة، فهذا يعني أن من يجد نفسه محروماً من حقّه في اللذّة، فهو أيضاً يرفضها لغيره تحت أستار مختلفة منها الخوف والجهل والجراحة الطبّية. والرغبة في الحد من لذّة المرأة بختانها قد تكون إحدى نتائج ختان الذكور. ولذلك يكون التعرّض لختان الذكور شرطاً مسبقاً لكي يتم القضاء على ختان الإناث.

 

 

ويلاحظ أيضاً أن النساء المختونات هن اللاتي يقمن بختان البنات، وكذلك الرجال المختونون هم الذين يقومون بختان الذكور. كما أنّ الرجال يؤيّدون ختان الإناث. فالمبتور يحاول دائماً أن يتصرّف مع الغير كما تصرّف الغير معه. وهكذا تدوم عادة الختان. ويؤدّي نظام العدوى هذا إلى بغض لكلّ من هو غير مختون. ولذا وضعت الحواجز الدينيّة والاجتماعية بينه وبين جماعة المختونين: فلا يُقبل زواجه أو شهادته أو مشاركته في العبادة أو دفنه في المقابر العامّة. ويُعتبر مسبّة كبرى القول لشخص أنه غير مختون أو ابن غير مختونة. وهنا يقارن البعض بين هذا التصرّف وبين الذين انتهكوا جنسيّاً في المجتمعات الغربيّة. فهم يقومون بدورهم بانتهاك غيرهم.

 

 

وترى عالمة النفس «اليس ميلير» أن هناك صلة بين ختان الأهل لطفلهم، وختان هذا الطفل لابنه عندما يكبر. وهذا هو أحد أسباب دوام عمليّة ختان الذكور والإناث التي تعتبرها هذه العالمة عمليّة انتهاك للأطفال وأبشع عمليّة إجراميّة تكرّسها البشريّة باسم الدين ولا يتدخّل القانون لمنعها، تحت دعوى أن ذلك يجري لمصلحة الطفل. وتقول هذه العالمة أن المؤرّخين وعلماء النفس سوف يستمرّون طويلاً في التحقّق من الأسباب الكامنة وراء هذه العادة الغريبة لأنهم ينسون في مناقشاتهم التفسير الوحيد الذي لا بد أن يظهر يوماً ما. فماذا عساه أن يفعل الطفل الذي عذبه أهله الجهلة؟ ألن يحاول هذا الطفل أن ينتقم عندما يكبر؟ إنه فعلاً سوف ينتقم إلاّ إذا ما تم شفاء جرحه. فالطفل الذي تمّ التعدّي عليه لا بدّ أن يتعدّى على غيره من الأطفال مؤكّداً بأنّ ذلك لا يضرّهم ما دام أهله الذين يحبّونه قد فعلوا ذلك معه. أضف إلى ذلك أنّ الختان يصوّر على أنه مطلب ديني، ممّا يعني في عقول الناس أن الدين لا يمكن أن يكون قاسياً.

 

 

بدأ معارضو ختان الذكور في طرح أسئلة حول علاقة الختان بالتصرّفات غير الاجتماعية والعنف، خاصّة في الولايات المتحدة التي تعتبر المجتمع الأكثر عنفاً في العالم. فمعدّل القتل في هذا البلد يساوي 14 مرّة ما هو عليه في اليابان و8 مرّات ما هو عليه في الدول الأوروبيّة. ويحاول البعض تفسير هذه الظاهرة بعوامل اجتماعية مثل المخدّرات، وضعف التربية الأخلاقيّة، ووجود الأسلحة بيد الناس، والعنف في التلفزيون، وغياب الأب عن العائلة، وضعف المستوى الدراسي، والبطالة، والعنصريّة، وتدنّي الشعور الديني. ولكن بيّنت دراسة أن مستوى الجريمة في هذا البلد قد ارتفع جدّاً خلال الثلاثين سنة الماضية التي شهدت ارتفاع نسبة المختونين. ممّا يوعز أن هناك علاقة بين الختان والعنف.

 

 

وأوسع أنواع العنف في الولايات المتحدة هو العنف الذي يتم داخل البيت. فتقدّر نسبة الأزواج الذين يتعدّون على بعضهم البعض بـ 12%. وفي عام 1993، وجد أن 29% من النساء اللاتي قُتِلن، قد تم قتلهن بيد أزواجهن أو أصدقائهن. فهل هناك علاقة بين كون أن كل 25 ثانية هناك طفل يختن وأن كل 15 ثانية هناك رجل يضرب امرأة؟ إن ضرب الرجل للمرأة قد يكون بقصد السيطرة عليها أو رد فعل على عدم تلبيتها لحاجته. وهذا ينبع من الاعتقاد بأن بيت الرجل هو قلعته، وأن المرأة ملكه. وهذا لا يختلف عن اعتقاد من يوافق على الختان أو يجريه على الأطفال. ففي كلتا الحالتين هناك شعور بحق فرض إرادة الشخص على الآخر. وقد أثبتت دراسات أن انتهاك الأطفال يجعل منهم أزواجاً عنيفين. والختان هو انتهاك جسدي للأطفال. وبعض المختونين يرون أن أمّهاتهم لم تحمينهم عندما تم التعدّي عليهم بالختان. ومن هنا يأتي الشعور بالانتقام من النساء دون وعي بالأسباب التي أدّت إلى هذا الشعور. وهذا لا يعني حتماً أن كل المختونين يتعدّون على النساء. ولكن الختان قد يكون أحد عوامل العنف ضد النساء.

 

 

 يعني قد يكون سببا في انتشار الاغتصاب؟

 

 

الاغتصاب هو نوع آخر من الاعتداء على النساء ويخفي رغبة في الثأر. فهناك في الولايات المتحدة مليونا حالة اغتصاب سنوياً، وأكثر حوادث الاغتصاب لا يعلن عنها. وقد بين بحث أن 15% من الطلاّب مارسوا الجنس اغتصاباً مرّة على الأقل. وقد يكون الاغتصاب من الزوج ذاته. وقد بين بحث أن 60% من الطلاّب قد يغتصبون امرأة في بعض الظروف. و46% من النساء تعرّضن لاغتصاب أو محاولة اغتصاب في حياتهن. ونسبة الاغتصاب في الولايات المتحدة تبلغ سبعة أضعاف الاغتصاب في دول المجموعة الأوروبيّة. فهل هناك صلة بين هذا الاغتصاب وما يحدث للرجال الأمريكيّين في صغرهم من خلال الختان؟

 

 

هناك تماثل بين الختان والاغتصاب. ففي الختان يتم ربط الطفل وتعريته وبتر قضيبه قصراً. وهذا لا يختلف عمّا يجري في عمليّة اغتصاب النساء. فكليهما يتم فيه التعدّي على الأعضاء الجنسيّة. والاختلاف الوحيد هو العمر وطبيعة الفعل. وقد عنون الدكتور «مورجان» عام 1965 مقاله عن الختان «اغتصاب القضيب». ويشير عالم النفس «باري وانهولد»، وهو رئيس برنامج الدراسات حول العنف في جامعة كلورادو الأمريكيّة، إلى أن المختونين يعيشون في حالة غضب. فالختان هو أوّل عمليّات اغتصاب للرجال.

 

 

والاغتصاب والختان يؤدّيان إلى نتائج مماثلة. فالختان يؤدّي إلى فقد الثقة في الغير والعزلة كما في الاغتصاب. والمرأة التي تغتصب كثيراً ما تكبت الألم وتسكت عنه رافضة التكلم عمّا أصابها. وهذا ما يحدث مع المختونين. وكما أن الخاتن يرى أن الطفل لا يحق له رفض الختان، يعتقد المغتصب أن المرأة لا يحق لها رفض العلاقة الجنسيّة. وكما أن البعض يعتقد أن المرأة المغتصبة تتمتع بالاغتصاب ولا تحس بالألم، فكذلك هناك اعتقاد بأن الطفل لا يتألم بالختان ولا يتأثر به. والذين يغتصبون النساء يظهر أنهم أنفسهم كانوا ضحايا اغتصاب. وارتفاع نسبة الاغتصاب في الولايات المتحدة يتطلب بحث الصلة بين هذه الظاهرة وظاهرة الختان.

 

 

وهل له صلة بالاعتداءات الجنسية على الأطفال؟

 

 

أحد أنواع العنف في الولايات المتحدة هو الانتهاك الجنسي للأطفال. وقد بيّنت دراستان بأن 38% من النساء تم انتهاكهن جنسيّاً في صغرهن. ودراسة أخرى بيّنت أن هذه النسبة تصل إلى 45%. وهذه الأعداد قد تكون أقل من الحقيقة لأن النساء لا يقبلن في الغالب التكلم عن هذه المواضيع، وقد يقع الانتهاك ولا تتذكره المرأة. ولذا يمكن اعتبار هذه النسبة 60%.

وهناك من يرى علاقة بين الختان وانتهاك الأطفال. فالذين ينتهكون الأطفال يعانون من انخفاض في تقدير أنفسهم، وإحساس بعدم القدرة. وهذه العوارض نفسها تنتج عن الختان. وهم أيضاً يعانون من صعوبة في تحقيق حاجاتهم الجنسيّة، وهذا أيضاً ناتج عن الختان. وإذا أحس الطفل أنه قد أغتصِب جنسيّاً فإن ذلك سوف يقوده إلى اغتصاب غيره. وإن كان من المؤكد أن ليس كل المختونين ينتهكون الأطفال، وأن أسباب انتهاك الأطفال متعدّدة، إلاّ أن ذلك يتطلب البحث في ما إذا كان الختان هو أحد تلك الأسباب.

 

 

هناك من يرد بعض أنواع الانتحار إلى الختان؟

 

 

ارتفع معدّل الانتحار في الولايات المتحدة بصورة كبيرة خلال العقود الأخيرة، خاصّة بين الذكور. فما بين عامي 1950 و1990 ازداد معدّل الانتحار 3,4 مرّة بين الشباب الذين يتراوح عمرهم بين 13 و24 سنة. وقد كان انتحار الذكور 6,5 مرّات أعلى ممّا هو بين الإناث عام 1990. والانتحار ينتج عن الانعزالية وكبت الشعور العاطفي والخجل. وهذه كلها من مخلفات الختان. هناك أيضاً ظاهرة وفاة الأطفال فجأة تحت عمر سنة والتي تصيب 6000 طفل سنوياً في الولايات المتحدة، من بينهم 60% ذكور. ويجب هنا دراسة مدى تأثير الختان على هذه الظاهرة. فإذا ما اعتبرنا أن الختان يشابه الاغتصاب، وأن الاغتصاب يقتل إرادة وروح الإنسان، فلا يمكن استبعاد أن يكون الختان أحد أسباب هذه الظاهرة. وربما يكون حتى سببا في انتشار ظاهرة السرقة .

 

 

 "أنا مختون إذن أنا لص"! كيف؟

 

 

تمثل السرقة مشكلة كبيرة في الولايات المتحدة. وقد تم اقتراف 12,2 مليون حالة سرقة عام 1992. ومعدّل السرقة في هذا البلد في ارتفاع.

هذا وهناك من يعتبر الختان عمليّة سرقة لأنها تجري على ممتلكات شخص دون إرادته. فالتيّار اليهودي المعارض للختان يرى فيه مخالفة للوصيّة التوراتيّة «لا تسرق» (الخروج 20:15). ونجد تعبير السرقة في كتاب السيّدة الصوماليّة «واريس ديري». فهي تقول في كلامها عن ختان الإناث الذي عانت منه: «إني أعرف أن عدد النساء الغاضبات مثلي اللاتي لن يتمكن من الرجوع إلى الوراء أو يسترجعن ما سُرق منهن في تزايد». وتضيف في مكان آخر: «إني أعتقد أن الجسد الذي أعطاني الله إيّاه عند ولادتي كان كاملاً. لقد سرقني الرجال، وسلبوني قوّتي وتركوني مع عاهتي. لقد سرقوا منّي أنوثتي. وإن كان الله قد حكم بأن بعض أعضائي غير ضروريّة، فلماذا إذاً خلقها؟»

ويرى «جولدمان» أن هناك شبها بين الختان والسرقة. فالذي يُسرق يغضب، ويحس باليأس، ويحاول أن يقلل من أهمّية ما سُرق منه لحماية نفسه. وكثير من المختونين قد يقللون من أهمّية ما تم سرقته منهم. وإذا ما اعتبر شخص أنه تم سرقته فإنه سوف يسرق غيره كما سُرق هو. فهل الختان هو أحد الأسباب التي تدفع الأشخاص للسرقة رداً على ما فعل ضدّهم؟ هل هناك صلة بين ارتفاع معدّلات السرقة ومعدّلات الختان؟

 

 

كتبت مرة ما ملخصه أن الختان قد يكون سببا في اندلاع الحروب. ألا تظن أن هناك مبالغة ما ؟

 

 

يمكن للمجتمع، مثله مثل الأفراد، أن يوجّه غضبه وعنفه داخلياً وخارجياً. وكل ما يساعد في زيادة العنف الفردي يساعد في زيادة عنف المجتمع وميله لشن الحروب. فعدم الثقة، والتقدير المنخفض للذات، ونقصان التعاطف مع الغير، والرغبة في السيطرة عليهم، وكبت العواطف هي من مكوّنات النفسيّة الأمريكيّة. وهذا يؤدّي بدوره إلى الحروب. وهذا لا يعني أن المختونين هم الذين يشنون الحروب، ولكن ليس من المستبعد من أن يكون الختان إحدى المؤثرات في شنها. واستبعاد افتراض تأثير الختان على التصرّفات الاجتماعية لأنها مجرّد تخمينات يعني بحد ذاته رفض معرفة ما إذا كان هناك علاقة سببيّة بين الختان وتلك التصرّفات خوفاً من اكتشاف آثارها. وهكذا يسد الباب أمام البحوث الاجتماعية حتى لا نطرح تساؤلات حول الختان. وننقل هنا فقرة من كتاب السيّدة الصوماليّة «واريس ديري» حول علاقة ختان الإناث بالحرب في بلدها: «إن الحروب القبليّة، مثلها مثل ختان الإناث، هي نتيجة عنف وأنانيّة الرجال. لا أحب أن أقول ذلك، ولكن هذه هي الحقيقة. فهم إنّما يفعلون ذلك لأنهم متشبّثون بأرضهم وممتلكاتهم، والنساء جزء من تلك الممتلكات ثقافيّاً وقانونيّاً. ولو أننا خصينا الرجال، لأصبحت بلدنا جنّة! فقد يهدأ الرجال ويصبحون أكثر إحساساً بما يحيط بهم. من دون دفعة التستوستيرون المتتابعة، لن يكون هناك حروب، ولا مذابح، ولا سرقات، ولا اغتصاب. فلو أننا قطعنا أعضاءهم الجنسيّة وتركناهم يتيهون دون علاج حتى يسيل دمهم ويموتون أو يعيشون، فقد يفهمون لأوّل مرّة ما يفعلون تجاه نسائهم».

 

 

تتحدث عن لوبي طبي يدافع عن ختان الذكور في أمريكا يقبل بل ويدافع بكل ما أوتي من قوة عن هذا الاعتداء على ملايين الأطفال من أجل مصالح مالية ضخمة. فهل للاقتصاد دور في استمرار الختان في الغرب؟

 

 

يرى اليهودي المؤمن في الختان أمراً إلهياً موجّهاً إلى إبراهيم ونسله (التكوين 10:17). وتوارث المسلمون هذا الرأي عن اليهود، وبعضهم زاد عليه بأن الختان كان سُنّة لآدم وأولاده من بعده. ولعّل أولاده تركوه، فعاد الله وأمر إبراهيم بإحيائه. وللمؤمن أن يعتقد ما يشاء في العِلّة الأولى للختان. أمّا علماء الاجتماع والمفكرون فإنهم يرجعون نشوء الختان وتطوّره إلى أوضاع اقتصادية.

 

 

تقول الدكتورة نوال السعداوي: «إذا عرفنا من التاريخ أن الأب لم يكن حريصاً على معرفة أطفاله إلاّ من أجل أن يورثهم أرضه فإننا ندرك أن السبب الرئيسي لنشوء الأسر الأبويّة كان سبباً اقتصاديّاً. ومن أجل أن يحمي المجتمع مصالحه الاقتصادية فإنه يدعمها بالقيم الأخلاقيّة والدينيّة والقانونيّة. وعلى هذا فإن دراسة التاريخ توضّح لنا أن حزام العفة الحديدي وعمليّة الختان ومثيلاتها من العمليّات الوحشيّة ضد رغبة المرأة الجنسيّة لم تنشأ إلاّ لأسباب اقتصادية. بل إن استمرار مثل هذه العمليّات في مجتمعنا حتى اليوم إنّما هو أيضاً لأسباب اقتصادية. إن آلاف الدايات والحكيمات والأطبّاء الذين يثرون على حساب عمليّة ختان البنات لا يمكن إلاّ أن يقاوموا أيّة محاولة للقضاء على مثل هذه العادات الضارّة. وفي المجتمع السوداني جيش هائل من الدايات يعشن على هذه العمليّات المتكرّرة من فتح أعضاء المرأة وإغلاقها في مناسبات متعدّدة ما بين زواج وولادة وطلاق وزواج مرّة أخرى».

 

 

وتربط نظريّة حديثة نشوء كل من ختان الذكور والإناث بعنصر جغرافي واقتصادي. تقول هذه النظريّة بأنه قَبل 6000 سنة حدثت تقلبات مناخيّة قاسيّة في المناطق التي يطلق عليها اسم «صحرآسيا» الممتدة من شمال إفريقيا إلى أواسط آسيا. ومن جرّاء هذه التقلبات حل «النظام الأبوي» العنيف محل «النظام الأمومي» المسالم الديمقراطي الذي كانت تسيطر عليه الأم. وهذه المجتمعات التي يسيطر عليها «النظام الأبوي» تنظر نظرة قلقة للجنس ويسيطر فيها الرجل على المرأة ويحتل فيها الإله دوراً كبيراً.

 

 

وتقول هذه النظريّة أنه في زمن المجاعة يصبح اهتمام الأهل بالطفل أضعف ورد فعلهم لصراخه أقل. والأم في بحثها المتواصل عن الطعام القليل لا تستطيع أن تعطيه الحنان الضروري، خاصّة إذا كانت هي ذاتها محرومة من الحنان في طفولتها. وكما مع القردة الأم التي ربّيت دون أم، فإنها تصبح أقل اعتناءً بأطفالها. وهكذا تنمو القساوة في العلاقة بين الأهل وأطفالهم. وبعدها تنشأ عند المجتمع نظرة غاضبة وقلقة نحو الأم. فتتدخّل المعتقدات والقوانين والعادات والطقوس لكي تسنّ عددا من المحرّمات بخصوص المرأة. ويؤدّي إضعاف العلاقة بين الأم وابنها إلى إضعاف العلاقة بين المرأة والرجل. وهذا بدوره يؤدّي إلى تطوّر العنف والساديّة التي تدور حول الأعضاء الجنسيّة، ومن بينها عادة ختان الذكور والإناث. وبعد تغلغل هذه الطباع في المجتمع تصبح صفة مميّزة يحملها أفراده في هجراتهم وتصيب العدوى غيرهم من الشعوب. وحتى إن تغيّرت الظروف الجغرافيّة التي كانت الدافع الأوّل لنشوء مثل هذه الطباع، فإن هذه الأخيرة تستمد قوّتها من كونها أصبحت تشريعاً وعادة. ولكي يتم إنهاء الختان لا بد من تغيير النظام الاجتماعي الأبوي العنيف الذي يصاحبه.

 

 

وتلاحظ هذه النظريّة أن بؤرة ختان الذكور والإناث نشأت في المناطق الشرقيّة الشماليّة لإفريقيا أو في الجزيرة العربيّة ومنها انتقلت إلى مناطق أخرى مع الهجرات البشريّة وخاصّة الفتوحات الإسلاميّة. وموازياً لهذه المنطقة، هناك مناطق جغرافيّة أخرى مستقلة مارس سكانها كل من ختان الذكور والإناث، مثل القبائل الأستراليّة وبعض قبائل الأميركتين. وفي هذه المناطق أيضاً رافق الختان تقلبات مناخيّة قاسيّة.

 

 

وإن كان للعامل الاقتصادي دور في نشوء الختان، فله أيضاً دور في تحوّله من طقس ديني إلى طقس طبّي. فهناك كثير من اليهود الذين يفضّلون إجراء عمليّة الختان في المستشفى على يد طبيب في الأيّام الأولى بعد ولادة الطفل مخالفين في ذلك التعاليم الدينيّة التي تفرض إجراء الختان ضمن طقس ديني وفي اليوم الثامن. وهذا التصرّف نابع من كون الختان في المستشفى أقل كلفة من الختان الديني الذي يتطلب إحضار خاتن من مدينة أخرى وتعويضه ماليّاً حسب المسافة التي يقطعها. ويلاحظ هذا التحوّل فيما يخص ختان الذكور والإناث في المجتمعات الأخرى. فالختان الطقسي تتبعه احتفالات يشارك فيها الكثيرون وتكلف مصاريف ليس في مقدور كل واحد تحمّلها. لذا تم التخلي عن المظاهر الخارجيّة مع الإبقاء على الختان الذي أصبح يجرى في المستشفى فور الولادة. ويشار إلى أن الختان الفرعوني حل محل حزام العفة المكلف والذي يتطلب معرفة فنّية، كما حل محل نظام الحريم الذي لم يعد من السهل تأمين الخصيان له وتحمّل تكاليفه.

 

 

وتغيير الأوضاع الاقتصادية من أهم العوامل التي يمكن من خلالها القضاء على ختان الإناث. فالمرأة التي لها عشرة أطفال عليها أن تسعى لإطعامهم. وسوف تسعى لتزويج بناتها إذا كان الزواج هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من أعبائهن. وإذا ما فرض الرجال الختان كشرط للزواج، فإن المرأة سوف تخضع لشروطهم. أمّا إذا كانت للبنات إمكانيّة للعيش اقتصاديّاً دون زواج، فإن أمّهن لن تقبل بشروط الرجال. ولذا يجب إعطاء النساء والفتيات وسيلة اقتصادية للعيش حتى لا يتمكن الرجال من فرض شروطهم عليهن. وعلى الدول الغربيّة التي تكافح للقضاء على ختان الإناث في الدول الإفريقيّة تخصيص جزء من أموال التنمية لصالح النساء الإفريقيّات لتأمين استقلالهن الاقتصادي.

 

 

كون الختان مصدر ربح للأطبّاء والخاتنين، هل هو عائق كبير أمام اختفائه؟

 

 

إن الهدف الأوّل والوحيد للطبيب من إجراء الختان قد لا يكون دائماً الحصول على ربح مادّي. ولكن من المؤكد أن الطبيب الأمريكي الذي يرفض إجراءه يتعرّض لخسارة ماليّة قدّرتها مؤلفة أمريكيّة بـ 10000 دولار سنوياً. وهذا المبلغ الذي يخسره الطبيب الرافض سوف ينتهي إلى جيب طبيب منافس آخر. ولذا يمكن اعتبار رفض ذاك الطبيب إجراء الختان من الأعمال البطوليّة حقاً.

ويتضح دور ربح الطبيب في معدّل الختان ممّا حدث في إنكلترا. ففي بداية الحرب العالميّة الثانية كان معدّل الختان في الطبقات المرفهة هناك يصل إلى 80%، وفي الطبقة العاملة إلى 50%. وكان الأطبّاء هناك يتذرّعون بمكافحة العادة السرّية. ولكن بعدما أخذ هذا البلد بنظام التأمين الاجتماعي انخفض معدّله تدريجيّاً إلى أن وصل إلى ما يقارب الصفر في السبعينات. لقد فقد الأطبّاء الإنكليز السبب الحقيقي الذي كانوا من أجله يجرون الختان: أي الربح المالي، إذ لم يعد هناك فرق في معاشهم، أجروا العمليّة أم لم يجروها.

ويثير معارضو ختان الإناث نفس المشكلة. فهم يرون أن الربح عامل انتشار لهذه العادة في الدول الإفريقيّة. فكثير من الخاتنات تعتمد على هذه العمليّة كوسيلة لكسب لقمة العيش. وحتى تنجح حملة مكافحة ختان الإناث، تبيّن أنه من الضروري الاعتناء بالخاتنات وتعليمهن مهنة يكسبن منها لقمة العيش حتى يتخلين عن إجراء ختان الإناث.

 

 

كأننا دخلنا مرحلة "الختان الصناعي"، والتجارة في الغلفة!

 

 

عندما أخذ الأطباء بإجراء الختان كان لليهود السبق في اختراع آلات تحل محل السكين والمقص. وقد ساعدت هذه الآلات في تثبيت عادة الختان إذ أن من يشتريها لا بد له من أن يستعملها لتغطية تكاليفها. وقد قامت الشركة الأمريكيّة المصنّعة لملزم «جومكو» بالدعاية له في الدول التي لا تمارس الختان مثل ألمانيا الغربيّة والشرقيّة. ففتحت مركزاً للتوزيع في مدينة «اولم» الألمانيّة عام 1957. وقد تم ختان 150 طفلاً في مستشفى دون تخدير بواسطة هذا الملزم في مدينة «دارمشتادت» عام 1959 ضمن حملة للترويج له. وفي عام 1968، كان هناك اتفاق لختان 2832 طفلاً في ألمانيا الشرقيّة بواسطة هذا الملزم أملاً في انتشاره في هذا البلد. إلاّ أن هذه الحملة توقّفت بعد نقد الأوساط الطبّية الألمانيّة للختان في أوائل السبعينات. وقد انتقلت الشركة إلى محاولة ختان أطفال الدانمارك فتم ختان 18 طفلاً عام 1973 بهذا الملزم ونشرت دعايات له في المجلاّت الطبّية الدانماركية. ولكن كان هناك رفض شعبي لمثل هذه الإجراءات.

 

 

كانت الغلفة وما زالت تعتبر عند البعض عضواً نجساً. وقد تعبّد البعض بها أو أستعملها لمداواة العقم. ومنهم من وضعها في فم طفل قَبل ختانه لتقيه هجوم الأرواح الشرّيرة. ومنهم من دفنها مع الخاتن لتضمن ثوابه في الآخرة. وبجانب هذه الاعتقادات الخرافيّة، هناك من رأى في الغلفة سلعة تجاريّة. فقد أصبحت للغلفة استعمالات صناعيّة وطبّية. فهي تدخل في صنع بعض مستحضرات التجميل كما تستعمل في إجراء التجارب الطبّية وفي ترقيع المحروقين. فكلما كان الجلد حسّاساً وخلاياه قادرة على التمدّد، كلما كان تكثيره أسهل وأفضل. وهاتان الميّزتان تتواجدان في الغلفة.

 

 

منذ الثمانينات، بدأت بعض المستشفيات الخاصّة بتزويد الشركات والمعامل الطبّية والدوائيّة بغلفات جنت من ورائها أرباحاً طائلة. فقد تباهت شركة عام 1996 بأن رأس مالها يقدّر بـ 663,9 مليون دولار. وفي مقال صدر عام 1992، قدّرت المعامل الطبّية أن تجارة زراعة الجلد ستصل إلى مبالغ تراوح المليار والنصف إلى ملياري دولار سنوياً في نهاية التسعينات.

وبما أنه ليس لعمليّة الختان أسباب طبّية، بل رغبة الطبيب في تحقيق ربح من ورائها، فإن معارضي ختان الذكور يرون في تجارة الغلفة مشكلة جديدة تعرقل حملتهم. فما دام هناك طلب على الغلفة، فلا بد من توفيرها بختان أكبر قدر ممكن من الأطفال. فأخذ المعارضون يحذّرون الأهل من أن المستشفيات والأطبّاء الذين يجرون عمليّة الختان يسرقون غلف أطفالهم ليبيعوها. فأحد تلك المستشفيات في الولايات المتحدة يبيع الغلفة بـ 35 دولار.

 

 

حاول معارضو ختان الذكور لفت نظر شركات التأمين إلى أن عمليّة الختان ليست ضروريّة طبّيا، حتى لا تقوم بدفع تكاليفهاً. إلاّ أن لتلك الشركات منطق آخر. فقد ردّت شركة تأمين تقول:

«نحن على علم بأنه لا حاجة طبّيا لهذه العمليّة […] ونحن نشجّع مشتركينا على عدم إجرائها. إلاّ أن إجراءها لا يكلفنا شيئاً بسبب طبيعة العقد مع المستشفيات. فنحن ندفع تكلفة يوميّة مهما كانت الخدمة المقدّمة. ولذلك اخترنا الاستمرار في دفع العمليّة لأننا نشعر بأن عدداً كبيراً من مشتركينا يريدون ذلك. وإذا رفضنا دفعها فقد يكون رد فعل مشتركينا سلبيّاً […]. لذلك قرّرنا الاستمرار في تقديم هذه الخدمة لهم. إن الخلفيّة التي تدعم الختان ثقافيّة واجتماعيّة وليست طبّية. ونحن نستجيب لطلب اجتماعي وثقافي بدفعنا هذه العمليّة».

ونشير هنا إلى أن بعض شركات التأمين تخلت عن دفع تكاليف الختان. فقد أرسلت إحدى تلك الشركات واسمها Pennsylvania Blue Shield في أوّل يناير 1987 رسالة لمشتركيها تعلمهم فيها أنها لن تغطي من الآن فصاعداً تكاليف عمليّة ختان حديثي الولادة بناءً على «أبحاث طبّية تفيد بأن عمليّة الختان ليس لها فائدة طبّية». وقد طالبت تلك الشركات من الأكاديميّة الأمريكيّة لطب الأطفال وغيرها من الهيئات الطبّية أخذ موقف من الختان لتعتمد عليه في قرارها.

 

 

هذا ويلجأ الأطبّاء أحياناً للغش لتخفيف الأعباء عن الأهل. فقد أخبرني أستاذ جامعي مسلم مصري في لندن بأنه ختن أطفاله في المستشفى. وعندما سألته هل دفع تكاليف العمليّة أجاب بأن الطبيب كان متعاوناً معه فكتب أن سبب الختان كان ضيق الغلفة. وهذا ما يجري أيضاً في فرنسا حيث لا يدفع التأمين الاجتماعي إلاّ العمليّات الضروريّة طبّياً.

 

 

هل من أمثلة ؟

يتطلب تغيير المجتمع سواعد ومالاً. وهناك تعبير فرنسي يقول: «المال عصب الحرب». ومثل سويسري يضيف: «من يدفع يأمر».

لقد أصبح الغرب والمنظمات الدوليّة التي تدور في فلكه مصدر رئيسي لتمويل منظمّات مكافحة ختان الإناث. وبما أن الغرب يرفض الدخول في جدل حول ختان الذكور، فإن تلك المنظمات تتفادى هذا الموضوع. ويلجأ الغرب أحياناً إلى التهديد بقطع المعونات الاقتصادية عن الدول التي لا تناهض ختان الإناث. وتشير منظمة «أرض النساء» الألمانيّة بأن أحد أهدافها حجب المعونات عن تلك الدول.

 

 

وسلاح المال ليس حكراً على الحكومات. فمؤيّدو ختان الذكور يلوّحون بالملاحقات القضائيّة لكي يستمر الأطبّاء في إجراء ختان الذكور وشركات التأمين في تغطية تكلفة هذه العمليّة. فقد كتب الطبيب «وايزفيل»، صاحب نظريّة حماية الختان من التهابات المسالك البوليّة، مقالاً يقول فيه بأنه إذا تم وضع صبي في عمليّة غسل كلى بسبب التهاب المسالك البوليّة لعدم ختانه، فإن شركات التأمين التي ترفض دفع تكاليف الختان سوف تعتبر مسؤولة عن ذلك.

 

 

هذا وتشجّع الجمعيّات المعارضة للختان رفع قضايا ضد الأطبّاء الذين يجرون ختان الذكور. ويشير محام أمريكي دافع في قضايا ختان بأن تلك القضايا سلاح فعّال. فهي وسيلة لتثقيف الأطبّاء وردع المستشفيات وتنبيه شركات التأمين بأن الختان عمليّة خطيرة وغير ضروريّة. وهي وسيلة للربح لكل من المحامي وموكله. وكل قضيّة يتم كسبها يعني مزيد من ضغط شركات التأمين على المستشفيات والأطبّاء للكف عن هذه العمليّة المكلفة قضائيّاً. أضف إلى ذلك أن هذه القضايا سوف تثير انتباه العامّة وتثقّفهم.

 

 

في كتابك متابعة دقيقة للمعركة القانونية والعلمية والدينية والأخلاقية الدائرة بين الذين يرون في الختان ضرورة صحية وواجب ديني والذين لا يرون فيه غير اعتداء صارخ على سلامة الجسد . فهل سينتصر العقل وملايين الأطفال أم إيمان الآباء والتجارة بالغلفة؟

 

 

في القرن الثامن قبل الميلاد عبر النبي الشاعر اشعيا عما تتمناه البشرية من سلام ووئام حتى بين البشر والحيوانات، قائلا: «يسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي، ويعلف العجل والشبل معاً، وصبي صغير يسوقهما […]، لا يسيئون ولا يفسدون» (أشعيا 6:11 و9).

لا يستطيع المجتمع أن يعيش في فوضى تاركاً أفراده يتصرّفون كما يشاؤون ليس فقط في علاقتهم مع المجموعة بل أيضاً في علاقتهم مع أفراد العائلة أو حتى في تصرّفهم الذاتي. فالإنسان لا يعيش منعزلاً عن مجتمعه وعليه أن يخضع لقواعد تضمن التعايش السلمي داخل هذا المجتمع. وإلاّ فأن هذا المجتمع يتعرّض للتحلل الداخلي.

 

 

وتفادياً لهذا التحلل الداخلي، قام المجتمع بسن قواعد ذات طابع قانوني أو طابع أخلاقي تفرض احترام حياة الفرد وسلامة جسده، وتحدّد الحالات التي يمكن فيها التعدّي على هذا الحق المقدّس، إذا كان ذلك لصالح الفرد، كقطع يد مريضة للحفاظ على باقي الجسد، أو كإعدام مجرم اقترف ذنباً خطيراً يهدّد الأمن العام. وضمن هذا الإطار منعت القوانين الضحايا البشريّة كقرابين للآلهة، كما حدَّت من حق رب البيت في التعرّض لحياة أو سلامة جسد أبنائه أو حتى عبيده. ويدخل في ذلك الحق في سلامة أعضائه الجنسيّة. فتم منع الخصي في العصر الروماني.

 

 

إلاّ أن البشريّة ما زالت متمسّكة بعاداتها وغرائزها القديمة، بشكل أو بآخر. فرغم تقدّم العقل البشري في مجالات جمّة حتى استطاع أن يصل إلى القمر، ويخترق الذرَّة، ويحوّل العالم إلى قرية صغيرة من خلال نظام شبكة الانترنيت العملاقة، إلاّ أنه ما زال مُصِرّاً على التعدّي على الأعضاء الجنسيّة للأطفال، ذكوراً كانوا أو إناثاً. فشرعة الغاب التي كانت تتحكم في المجتمعات الهمجيّة في العصور الغابرة ترمي بظلالها على عصرنا هذا، فتذهب ضحيّتها ما لا يقل عن خمسة عشر مليون طفل سنوياً، منهم ثلاثة عشر مليون ذكر، ومليوني أنثى. وكما يذكر المثل: «الطبع غلب التطبع». فلك أن تعلم القط القراءة والكتابة وركوب المركبات الفضائيّة والتحكم في أكثر الآلات تعقيداً، إلاّ أنك لن تستطع أن تمنعه من أكل الفئران. وما زال حتى يومنا هذا قول النبي أشعيا السابق الذكر حلماً صعب المنال.

 

 

إلاّ أن البشريّة لا يمكنها أن تعيش بلا أحلام، ولا أحد يستطيع أن يمنعها من أن تحلم بعصر يعيش فيه أطفالها ذكوراً وإناثاً في سلام، دون تعدّي على أعضائهم الجنسيّة، رافضة التحجّج بيهوه أو بالله، برجال العلم أو برجال الطب. وقد بدأ فعلاً بعض ذلك الحلم يتحقّق، خاصّة فيما يتعلق بالإناث. إلاّ أن الطريق إلى تحقيق هذا الحلم ما زال طويلاً فيما يتعلق بالذكور. فختان الذكور تحيط به أسوار منيعة من الكذب والتدجيل والتحايل والمصالح الماليّة والدوافع السياسيّة التي لا يمكن كسرها إلاّ بعد جهد جهيد.

وإذا ما قَبلنا بحق البشريّة في الحلم، فلا بد من أن نعترف بأن حركة معارضة ختان الذكور والإناث دون تمييز تعتبر إحدى قوى الإصلاح الاجتماعي في عصرنا، إن لم تكن أهمّها على الإطلاق. والمشاركون في هذه الحملة يعرفون ذلك حق المعرفة. ففي المؤتمر الثالث الدولي للختان الذي عقد في جامعة مريلاند عام 1994، وقف القس «جيم بيجلو» خاطباً: «نحن الروّاد. من قَبلنا الهمجيّة، ومن بعدنا تبدأ الحضارة». فالهمجيّة تتصدّى للأطفال الأبرياء وتبتر أعضاءهم الجنسيّة، أمّا الحضارة فترفض مثل هذا التصرّف.

 

 

ولا تتخيّل هذه الحركة الإصلاحيّة بأنها سوف تغيّر الوضع بين ليلة وضحاها. فنظام العبوديّة تطلب مئات السنين لإلغائه، وما زال له بعض الرواسب في دول مثل موريتانيا والسودان، إضافة إلى بعض مظاهر الرق في الدول المتقدّمة ودول العالم الثالث. وإلغاء ختان الذكور أكثر صعوبة من إلغاء نظام العبوديّة لأن وراءه قوى دينيّة كبرى متمثلة في اليهود والمسلمين والمتعصّبين بين المسيحيّين، كما وراؤه المستفيدون ماليّاً بين الأطبّاء. والأطفال الذين يجرى عليهم الختان لا يمكنهم أن يثوروا كما ثار العبيد. فهم لا يملكون إلاّ الصراخ أمام أهلهم والجماعات الدينيّة وأصحاب المهن الطبّية. ولا بد لهم من مدافع جسور لا يلعب الدين في دماغه، ولا ينبهر بهالة الأطبّاء، ولا يدخل مال الختان وثمن الدم في حسابه.

 

 

إن كل شخص يقوم بمجهود يأمل أن يتوّج مجهوده بالنجاح. والأمل الذي أود أن أعبّر عنه في نهاية هذا الكتاب أن يؤدّي مجهودي ومجهود المناضلين قَبلي وبعدي في القضاء على كل من عادة ختان الذكور وختان الإناث. ولكن متى يمكن الوصول إلى مجتمع يحترم أطفاله ولا يعرّضهم للبتر نتيجة الهوس الديني والطبّي والاجتماعي؟ الجواب سهل: بقدر الجهد والمجاهدين يتحقّق الهدف. لذا أهيب بالقارئ الكريم إلى ضم صوته إلى صوتي هذا. ولنتذكر أن رحلة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. ومهما طالت الرحلة ومهما طغت القوى الظلاميّة، فإن الأجيال اللاحقة سوف تحتفظ في ذاكرتها في أن هناك من لم يوافق على ما يتعرّض له الأطفال من معاملة سيّئة فرفع صوته عالياً لكي تكف تلك المعاملة.

http://www.alawan.org/%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك