ما بعد الإحيائية الإسلامية

ما بعد الإحيائية الإسلامية

محمد سليمان أبو رمان

يقسم عدد من الدارسين للفكر الإسلامي تطوره التاريخي الحديث إلى مرحلتين؛ الأولى هي الإصلاحية والنهضوية، ومثلها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأبي ضياف وخير الدين التونسي، ومحمد رشيد رضا (في أحد مراحل تطور خطابه الفكري)، واعتبر كل من مالك بن نبي وابن باديس وغيرهم امتدادا لهذه المدرسة الفكرية، التي حاولت التجاوب مع تحدي التخلف والاستبداد ومواجهة الحملة الغربية والاستعمار، ولئن تعددت اتجاهات وسبل الإجابة على التحديات السابقة عند رواد المدرسة، فإنهم جميعا اتفقوا على إدانة الظروف الحضارية التي عايشوها والسعي الحثيث إلى التجديد الحضاري والفقهي، واتفقوا كذلك على ضرورة الإفادة من الغرب والحداثة والنظر في الأسباب التي أدت إلى تقدم الغرب وتخلف المسلمين، وقد تجلى الجواب من خلال عدة فرضيات: محاربة الاستبداد (عبد الرحمن الكواكبي)، الإصلاح الديني والتجديد السياسي (جمال الدين الأفغاني)، السنن الكونية (مدرسة محمد عبده).

 

تلا هذه المدرسة تاريخيا بروز الاتجاه الإحيائي والذي تحول في بؤرة خطابه الفكري والسياسي من الاهتمام بمسألة النهضة والإصلاح إلى جدل "الهوية" في ضوء إرهاصات الاستقلال والصراع الفكري الذي احتدم بين التيارات الفكرية والسياسية العربية العلمانية والإسلامية، فقد أدت وفاة الإمام محمد عبده إلى انقسام مدرسته التجديدية إلى اتجاهين؛ علماني (قاسم أمين وسعد زغلول) وإسلامي (محمد رشيد رضا، وجمعية الشبان المسلمين)، ومثلت جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها الشهيد حسن البنا تلميذ رشيد رضا البداية الحقيقية للإحيائية الإسلامية وعبرت عنها بشكل كبير الحركات الإسلامية المتعاقبة بتنوع أطيافها الفكرية والسياسية.

 

إلا أنَّ الإحيائية الإسلامية ذاتها شهدت مراحل تاريخية متعددة عكست كل منها تفاعل الحركات الإسلامية مع الظروف السياسية والثقافية، وأدت إلى خطابات فكرية متباينة في النظر إلى القضايا الرئيسة والمحورية كمفهوم الدولة الإسلامية والتعددية السياسية، والنظر إلى الحداثة والحريات العامة، ومنهج التغيير السياسي. وتمثلت المدرسة الإحيائية في اتجاهين رئيسين: مدرسة حسن البنا وحسن الهضيبي والقرضاوي والغزالي ومجموعة من الرموز الذي كانوا أكثر انفتاحا وتفاعلا مع الحالة السياسية العربية برؤى غير راديكالية تقوم على التعايش، ويسجل المفكر الإسلامي إبراهيم غرايبة أن جماعة الإخوان المسلمين –صيغة حسن البنا- لم يحتو نظامها الأساسي على هدف إقامة الدولة الإسلامية وإنما الدولة الصالحة.

 

في مقابل الاتجاه السابق ظهر الاتجاه الإحيائي المتشدد الذي شكلت كتابات كل من سيد قطب والمودودي أيدلوجيته الرئيسة، ومثلت الأدبيات الرئيسة له، وكما يسجل عدد كبير من الباحثين فإن هذا الاتجاه سيطر على الحركة الإسلامية طيلة فترة الخميسنيات والستينات، وامتد إلى العالم العربي انطلاقا من مصر، حيث كان الأخوان في السجون يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والقتل، في حين اعتبر كتاب "معالم في الطرق" (لسيد قطب) بمثابة "المنفستو الإسلامي" الذي قدّم للرؤية الراديكالية الإسلامية والتحول في منهج جماعة الأخوان المسلمين من انفتاح وتعايش البنا إلى مفاصلة سيد قطب ومحمد قطب وعبد السلام فرج، إلا أن هناك اتجاه داخل الفكر الإحيائي ما يزال يرفض أن هناك اختلافا بين مدرسة البنا وقطب، وربما أبرز من يمثل هذا الاتجاه هو د. محمد أبو فارس، والذي لا يرى في سيد قطب ورؤيته سوى امتدادا تاريخيا لحسن البنا.

 

ومن رحم الإحيائية المتشددة ولدت مدرسة الغلو والتطرف في مصر، وتأسست جماعات الجهاد، والتي اعتمدت بداية على أفكار سيد قطب ومحمد قطب والمودودي إلا أن دائرة أدبياتها السياسية تحولت بشكل أكبر –فيما بعد- للتراث السلفي(ابن تيمية والشوكاني)، وعكس كتاب عبد السلام فرج "الفريضة الغائبة" بوادر ايدلوجيا التحالف القادم بين السلفية والجهادية، الامر الذي ظهر بوضوح -فيما بعد- مع التيار السلفي الجهادي (التنظير الحركي أيمن الظواهري، أسامة بن لادن) والتنظير الفكري (أبو قتادة الفلسطيني، أبو محمد المقدسي، أبو بصير الشامي).

 

مع فترة السبعينات حدثت مراجعات داخل الحركات الإحيائية الإسلامية، وعاد الأخوان المسلمون في مصر –ثم في الدول الأخرى- من رؤية سيد قطب إلى رؤية البنا مرورا بكتاب الهضيبي "دعاة لا قضاة".

 

في مقابل الاتجاه الإحيائي الإخواني برافديه السابقين، بدأت الحركة الإحيائية السلفية تنتقل من الديار السعودية إلى الدول المختلفة في العالم العربي والإسلامي، وساهم في نشر هذه الدعوة وازدهارها الكبير في الثمانينات أموال النفط التي نفخت فيها بتواطؤ من النظم العربية المحافظة والعالم الغربي لمواجهة خطر الثورة الشيعية الإيرانية 1981، ولاحتواء الخطر الشيوعي، إلا أن المدرسة السلفية، بصيغتها السعودية الوهابية التقليدية، قد انقسمت في التسعينات إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة: التقليدي (المتحالف مع النظام المحافظ العربي)، الإصلاحي ( محاولة الاقتراب بخجل من إصلاحية رشيد رضا وابن باديس العقلانية المستنيرة أو التأثر بأدوات النشاط الاجتماعي للإخوان المسلمين: السلفيون الإخوان، السروريون..)، الجهادي (برز بقوة بعد حرب الخليج الثانية ويشكل امتدادا للجماعات السلفية المصرية وعولمة للجهاد بعد تجربة أفغانستان وتمثل جماعات العنف السلفي المنتشرة اليوم هنا وهناك أبرز تعبيراته الحركية).

 

في الحقيقية فإن التيارات الإحيائية السابقة (بما في ذلك السلفية) على اختلاف تنوعاتها وروافدها الفكرية وتعبيراتها الحركية، قد أغفلت بشكل كبير موضوعة التجديد والنهضة، وتحت ضغط الواقع وتعبئة الظروف السياسية والاجتماعية المختلفة برزت تساؤلات الهوية والاختيارات السياسية، فانتقل خطاب هذا التيار من التأكيد على مواجهة تحدي التخلف والاستبداد والهجوم الخارجي الحضاري وشروط التفاعل مع الحداثة ومقتضياتها إلى تحدي مواجهة الخطاب العلماني والسلطات القطرية العربية والتغول الأمني والسياسي، الأمر الذي أدى إلى غياب سؤال الأمة والنهضة والحداثة الإسلامية في مقابل هيمنة سؤال السلطة والهوية والمواجهة مع التيارات العلمانية.

 

وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة مهمة: بأنه وفي ظل ازدهار مدرسة الإحيائية الإسلامية وحركات الإسلام السياسي المختلفة، وتزاوج هذه المدرسة في كثير من الأحيان مع الفكر السلفي، فقد كان هناك اتجاه فكري إسلامي يمتد إنتاجه الفكري إلى السبعينات والثمانينات والتسعينات يعبر عن رؤية إصلاحية تحترم إنتاج المدرسة الإصلاحية والنهضوية، وترفض عملية الإلغاء والتخوين التي تمت من قبل الإحيائية الإسلامية لتلك المدرسة، إلاّ ان هذا التيار الفكري بدوره عانى من الإهمال على المستوى الإعلامي والثقافي العام، ولم تحتفل الإحيائية الإسلامية كثيرا بأفكاره، وفي مقابل هذا التيار الأقرب إلى العقل والانفتاح والتفاعل مع الحكومات القائمة تبنت الإحيائية الإسلامية في روافدها المختلفة خطاب الانقلاب على الحكومات القائمة وإقامة الدولة الإسلامية، فيما كان هذا التيار لا يرى فارقا كبيرا؛ إذ يعتبر الدول القائمة هي إسلامية ويتبنى ضرورة العمل على إصلاح أوضاعها في ظل تجديد فقهي وفكري إسلامي يسمح بإزالة "الشزوفرينيا" السياسية والفكرية في العالم العربي، ويعيد كل من التيار الإسلامي والعلماني إلى عباءة محمد عبده التي ترمز إلى الفكر الإسلامي المستنير التجديدي.

 

واليوم، يسجل عدد من الباحثين والخبراء العرب والغربيين عودة الحياة إلى مدرسة الإصلاح من خلال التيار الفكري السابق، فأوليفيه روا ( المفكر اليساري الفرنسي) يرصد في كتابيه "فشل تجربة الإسلام السياسي" و"عولمة الجهاد" الكثير من الظواهر التي تدل على نمو اتجاهات إسلامية متعددة كلها تشير إلى تجاوز المجتمعات الإسلامية اتجاه الإحيائية الإسلامية، كما يسجل في كتابيه حالة التراجع للحركات الإحيائية، فيما يتحدث رضوان السيد عن الإسلاميين الجدد، ويراجع مازن النجار كتاب "إسلام بلا خوف" ويتحدث رضوان زيادة (وإن كان بتحامل غير موضوعي لا مجال لمناقشته هنا) عودة الحديث عن النهضة في ظل ما يسميه "أيدلوجيا النهضة"، وكذلك يسجل المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز عودة الروح للمشروع الإصلاحي.

 

إلاّ أن الذي يعبر بوضوح عن التيار الجديد وتصوراته هو أحمد كمال أبو المجد في كتابه "رؤية إسلامية معاصرة" (1993)، ثم عاد عبد الوهاب المسيري قبل سنوات قليلة ليؤكد على وجود "خطاب إسلامي جديد" في مقابل الخطاب القديم، ولعل أبرز ملامح الخطاب الجديد –كما يسجلها المسيري نفسه- هي في الانتقال مرة أخرى من السلطة ومحوريتها إلى الأمة ونهضتها، وإعادة قراءة التاريخ وفق منطق الصيرورة والتحول، كما يختلف هذا الخطاب مع الخطاب الإسلامي القديم من الحداثة، فالخطاب الجديد يتفاعل مع الحداثة من المنظور النقدي الموضوعي، ويقدم رؤيته المنبثقة من النظرية المعرفية الإسلامية للوجود والإنسان والمجتمع.

 

ووفقا للقائمة التي يقدمها المسيري لأصحاب هذا الخطاب، نجد أنها تنقسم إلى عدة اتجاهات الاتجاه الأكاديمي الذي يعبر عنه سيف عبد الفتاح ومنى أبو الفضل ونصر عارف ولؤي صافي وجماعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والاتجاه الفقهي الذي يعبر عنه القرضاوي والغزالي وطه علواني، والاتجاه الفكري والتنظيري الذي يعبر عنه طارق البشري ومحمد سليم العوا وأحمد كمال أبو المجد، والاتجاه السياسي الذي يعبر عنه راشد الغنوشي وغيره.

 

في الحقيقة قيمة هذا التيار وأهمية خطابه السياسية تتمثل بأن اهتمامه التنظيري يتجه نحو إعادة الاعتبار للتجديد الفكري والتنظير الذي يحاول أن يتناول مشكلات الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي، ويتخذ منهج الإصلاح السياسي العام على مستوى المجتمع والأمة، ويبتعد عن تمثيل حركة أو حزب سياسي إسلامي بعينه. كما أنه يحمل رؤية أكثر تعقلا للتغيير والإصلاح السياسي في التفاعل مع الواقع. ويأخذ منهجا متقدما تنويريا في فهم الإسلام وتفسيره ويبتعد به عن حالة الصدامية الكبرى مع العصر، في مجال الفنون والآداب والثقافة، ويستطيع أن يقدم خطابا إسلاميا واقعيا يمكن تطبيقه.

 

أبرز معالم هذا الخطاب في تفسير الدين ووظيفته الاجتماعية والسياسية تتمثل بالتأكيد على دور الدين في المسؤولية المدنية والأخلاقية وحقوق المواطنة وحفظ رأس المال الاجتماعي، والتعددية السياسية والشرعية والمعارضة البنيوية.

 

المصدر: مجلة العصر

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك