هل النقد مطلوب لذاته أم وسيلة للارتقاء بقدرة العقل على الفعل؟

هل النقد مطلوب لذاته أم وسيلة للارتقاء بقدرة العقل على الفعل؟

نور الدين العويديدي

اقترن العقل في الفلسفة الحديثة بالنقد، وحظيت المهمة النقدية للعقل، بالكثير من الإجلال والإكبار، لكن هذه المهمة مهددة بأن تتحول لدى قطاع واسع من النخبة العربية والإسلامية إلى أداة للتدمير وجلد الذات، لأن الإسراف في الشيء، وعدم التنبه لحدوده، يجعله يخرج عن المهمة التي قام من أجلها.

 

ويأخذ هذا الأمر أهميته وقيمته سياسيا، فضلا عن أهميته الفكرية، من كونه يتنزل في مواجهة هجمة خارجية عاتية، تواجهها أمتنا، وتبرر نفسها بإصلاح حال العرب والمسلمين، وإخراجهم من الضعف والتخلف والاستبداد واضطهاد المرأة، الذي ينخر الوضعين العربي والإسلامي، وتستند في ذلك إلى بعض التقارير المغرقة في السلبية في تناول حال الأمة، على شاكلة تقارير التنمية العربية، التي باتت معتمدة بشكل رسمي من الولايات المتحدة الأمريكية في تبرير هجمتها على منطقتنا.

 

وبغض النظر عن التوظيف الخارجي، فثمة تيار في النخبة العربية والإسلامية يبتسر قراءة حال الأمة، بالميل إلى التركيز على "النقد الذاتي"، والإسراف في إظهار الجوانب السلبية في أمتنا وشعوبنا، بحجة كشف عيوب الذات، من أجل إصلاحها والارتقاء بها. لكن هذا التيار لا يكاد يرى ما في الأمة من إيجابيات، وهي كثيرة، وجديرة بالتسجيل، ولا ما يحدث في أحوالها من تقدم، أو ربما يتعمد تجاهله، بشكل يكاد يستحيل إلى عائق للنهوض والتقدم، لأن أي نهوض وأي تقدم يحتاجان إلى أساس يبنيان عليه، غير أن الإسراف في النقد، والرؤية السوداوية لحال الأمة، تنسفان ذلك الأساس من أصله، فينعدم البناء بانعدام أساسه.

 

يعتبر هذا التيار النقد مهمة ضرورية وعاجلة وملحة، من أجل التقدم بحال الأمة، واستعادة الدور العظيم، الذي لعبته في التاريخ، حتى ليكاد ذلك يجرئ البعض من "المنتمين" لهذا التيار على التخصص في النقد، وإظهار العيوب، وكشف السلبيات، ويقف عند ذلك الحد، على اعتبار أن النقد مطلوب لذاته، فلا يرى بسبب ذلك سوى ما في الأمة من سلبيات ونقائص.

 

لا شك أن النقد مطلوب وبنّاء ومفيد في نهوض الأمم، ولكنه ليس مطلوبا في ذاته، بل من أجل مهمة يؤديها هي الارتقاء بقدرة العقل على الفعل في وضع الأمة. ولا يتحقق ذلك ما لم يكن نقدا متوازنا، ومحددا ودقيقا، وما كان، وهو الأهم، مقدمة للإصلاح والنهوض، لا يتوقف عند حد كشف السلبيات والعيوب و"التخصص" فيها، فيكون الحال عندئذ كحال الطبيب، الذي يكشف عن المريض، ولا يصف له العلاج، فيبقى مرضه يلازمه ويستفحل مع الزمن، أو كحال الطبيب، الذي لا يرى في المريض سوى المرض والوهن، ولا يرى ما فيه من قدرة على مواجهة الداء الذي فيه، من خلال الاهتمام بجوانب الصحة فيه، وعادة ما تكون أكثر من جوانب المرض، واتخاذها أساسا لعلاج الداء ومحاصرته. * الغرق في رؤية السلبي:

 

ويجد المتابع لـ"التيار النقدي" الذي يوجد له أتباع في سائر المدارس الفكرية والسياسية والدينية العربية والإسلامية، تركيزا مبالغا فيه على أمراض الأمة، من دون الانتباه إلى عوامل الصحة والقوة فيها، حتى ليكاد البعض منهم ينتهي إلى اليأس من الإصلاح والنهوض. وهذا أمر طبيعي. فالطبيب الذي لا يجد في مريضه سوى المرض يرى علاجه مستحيلا، ويرى القبر أقرب إليه من أي شيء آخر.

 

فالتيار النقدي في الصف العلماني يرى أمتنا مريضة بالروح السلطوية، وبالثقافة الأبوية الاستبدادية، واضطهاد النساء، ومريضة بالعقلية العشائرية والقبلية، وبالروح الغيبية البعيدة عن الواقع. وينتهي بعض دعاة هذا التيار إلى اعتبار الخلل الحاصل في جسم الأمة خللا جوهريا لا يقبل الإصلاح حتى تنسلخ الأمة عن روحها وثقافتها وكل ما يميزها، ويجعلها أمة مميزة من دون الأمم.

 

والتيار النقدي في الصف الإسلامي يرى الأمة مريضة بالانحلال والتفسخ والميوعة وبالتقليد والتبعية والانبهار بالغرب وفقدان البوصلة، وضياع الدين، والقابلية للاستعمار. وينتهي بعض دعاة هذا التيار إلى تكفير الناس، واستباحة الدم والعرض والمال، فيتحول بذلك إلى خنجر في قلب الأمة، وهو يرمي إلى النهوض بها، وإعادتها إلى جوهرها وطبيعتها، بحسب فهمه لها.

 

ولا شك أن الاختلاف مع هذا التيار ليس نابعا من إنكار السلبيات، التي في الأمة، فهذا غير ممكن، لأن السلبيات موجودة وكثيرة، ولا يستطيع أحد أن ينكرها، طالما كانت موجودة، وطالما كان له عقل وعين يبصر بهما الواقع. وإنما الاختلاف معه في التركيز على السلبيات، وإبرازها، حتى تحتل المشهد وحدها أو تكاد، وعدم الانتباه للإيجابيات وإبرازها وهي كثيرة جدا في الأمة، وتحتاج إلى التنويه إليها. فالتركيز على السلبيات يحطم المعنويات، ويحول دون البناء. أما إبراز الإيجابيات، مع الانتباه للسلبيات، فيتيح لنا أساسا سليما نبني عليه ونطوره، مع الحرص على تجنيبه السقوط في ما هو سلبي.

 

ومما كشفته التجارب العديدة أن الكثير من المتطرفين في نقد الأمة ينتهون إلى اليأس من إصلاح حالها، ويؤول بهم المآل إلى التطبيع مع ما هو أسوأ في واقعها، الذي ثاروا عليه ونقدوه بحدة وعنف في ما سبق. فخذ بعض السياسيين الفلسطينيين، الذين يلومون الشعوب العربية، ويرون الأمة عاجزة عن فعل أي شيء لقضيتهم، و"يدندنون" باستمرار على اختلال موازين القوى الدولية على حساب الأمة، ويشددون على موت الشعوب والحكومات، وعدم سعيها لتغيير تلك الموازين المختلة، وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره بنفسه، ويقلع شوكه بيديه، فهم ينتهون، بسبب اليأس من الأمة، واليأس من إصلاح حالها، إلى التطبيع مع أعدائها، والارتماء في أحضانهم، بمبرر الواقعية، وغياب السند، واختلال موازين القوة. * عين السخط تبدي المساوئ:

 

ومن عجائب الأمور أن يلتقي "النقديون" في التيارين الإسلامي والعلماني في كثير من المواقف، رغم ما بينهم من فروق واختلافات سياسية وإيديولوجية. فتراك تسمع من الواحد منهم، بكثير من الاستخفاف والاستهانة، وكأنه يتحدث عن أمة غير أمته، وهو يقول إن إسبانيا تطبع من الكتب في العام الواحد أكثر مما يطبع العرب من كتب خلال ألف عام، أو أن اقتصاد أصغر بلد في الاتحاد الأوروبي أكبر من اقتصاديات كل الدول العربية مجتمعة.

 

وينتهي بعض أولئك الناقدون المغرمون بالنقد، الذاهلون عما سواه، إلى استخلاصات مشوهة، مفادها أن العرب ليسوا أكثر من صفر على الشمال، وأن لا دور لهم ولا وزن، حاضرا ومستقبلا، في موازين القوة الدولية، مسرفين في تعداد ما للقوى الكبرى من تفوق اقتصادي وتكنولوجي، حتى يؤول الأمر بهم، بخلاف ما يرومون تحقيقه، إلى توهين العزائم، وإقناع الكثير من الناس باستحالة الإصلاح، وباستحالة تغيير موازين القوة، ما دام الاختلال فيها كاسحا وعظيما إلى حد غير قابل للتجاوز.

 

ويذهل هؤلاء، وهم يرددون ذلك الكلام، ومن بينهم مؤرخ شهير هو الدكتور هشام جعيط، عن أن العرب لم يكونوا شيئا مذكورا قبل الإسلام، وأنهم كانوا أمة أمية لا تعرف الكتابة ولا الكتب ولا تطبعها، ولم يكن اقتصاد الجزيرة العربية، في ذلك الحين، يعدل اقتصاد أي إقليم من أفقر أقاليم فارس أو الروم، حتى إن بعض الفاتحين، حين انداحت جيوش الفتح، شرقا وغربا، تدوخ أعظم إمبراطوريتين عرفهما التاريخ، حتى ذلك الوقت، وتحمل رسالة فريدة للعالم، لم يكن يعرف أن ثمة في الأعداد ما هو أكثر من الألف، والقصة في ذلك شهيرة ومعروفة، لكن ضعف الاقتصاد وقلة الكتب لم يكن يعني بالمطلق أن العرب لم يكونوا شيئا في موازين القوى، إذ في العرب ما هو أهم من الثرى الاقتصادي والتقدم التكنولوجي وهو الرسالة، التي يبشرون بها، والإنسان الذي يحملها ويتمثلها، ولم تفسده الثقافة المادية، ولا طبخه الترف. * نقد يجافي الحقيقة:

 

ولا يقف نقد العرب وأحوالهم وثقافتهم عند حد، إذ صار البعض يتنافس فيه ويتفنن. فمن قائل بسيطرة ثقافة العشيرة والقبيلة على الحياة العربية، إلى قائل بقابلية العرب للاستعمار، إلى قائل بلا تاريخية الثقافة العربية والإسلامية، وأن العرب لا يزالون يعيشون في القرون الوسطى، يلوكون قضايا أجدادهم ويعيدون طرحها من جديد، في زمن غير الزمان الذي وجدت له.

 

وإذا كان بعض النقد يعبر عن حقيقة، ويفترض أن يكون مقدمة للإصلاح، فإن نقدا آخر، أكثر حجما وتنوعا، يظلم الأمة ظلما بيّنا لا جدال فيه، وسنأخذ على ذلك مثالين اثنين. ففي القول بالقابلية للاستعمار (مالك بن نبي) إجحاف ظاهر بتاريخ طويل من المقاومة والجهاد والبطولات، امتدت على مسافة قرون طويلة، ولا نزال نراها تتجسد أمامنا كأروع ما يكون في فلسطين والعراق، حتى إن العربي يذهب إلى الموت بقدميه، وكأنه ذاهب إلى عرس. وفي الماضي القريب كان المجاهدون الليبيون، ممن قاتلوا المستعمر الإيطالي مع المجاهد عمر المختار، يعقلون ركبهم، ويقاتلون حتى الموت، ويفضلون الشهادة على القبول بالعيش أذلاء تحت استعمار بغيض، فأين القابلية للاستعمار؟.

 

أما الذين يبخّسون من الثقافة العربية والإسلامية، ويتهمونها بأنها ثقافة قبلية وعشائرية متخلفة، فتراهم يعددون الأمثلة على حضور القبيلة ودورها الواضح في الحياة السياسية في العديد من الدول العربية، وكأنهم بذلك قد عثروا على المفتاح السحري لسر تخلف العرب والمسلمين. والسبب في ذلك أن هؤلاء مفتونون بنمط العلاقات الاجتماعية والسياسية، التي تميز حياة الغرب الحديثة، ويتخذونها مقياسا يقيسون إليه أحوالنا وظروفنا، ويحاولون فرض ذلك النمط علينا، وقياس تخلفنا وتقدمنا بدرجة تمثله والتطابق معه أو البعد عنه.

 

ومشكلة هؤلاء المفتونين أنهم بلا ثقافة تاريخية وبلا وعي تاريخي، يحاولون شطب كل شيء يجدوه عندنا ولا يجدوه في الثقافة الغربية، لأنها المقياس الذي يقيسوننا عليه. وتبشيعهم للقبيلة والعشيرة لا يمكن له أن يقلل من دور هذه المؤسسة، حتى وإن سجلوا عليها العديد من السلبيات، وفيها ولا شك سلبيات كثيرة. لكنها تظل مؤسسة بالغة الأهمية، لعبت أدوارا بالغة الأهمية في تاريخنا القريب والبعيد، إذ كانت الحاضن الأساس للأمة حين تضعف أشكال التضامن الأخرى، ففي المجاعات والكوارث الطبيعية والحروب، تكون القبيلة وثقافة التضامن بين أفرادها حام مهم للأمة وضامن لاستمرارها. وبعض دولنا التي ضعفت فيها القبلية والعشائرية حتى اضمحلت أو انتهت، سجلت تغولا هائلا للدولة، التي باتت تتعامل مع الناس باعتبارهم أفرادا، معزول بعضهم عن بعض، تلتهمهم مثل التنين، ولا تجد من حسيب لها أو رقيب، وكانت في الماضي تصطدم مع القبيلة، التي تحمي أبناءها، وتوفر لهم الحاضن الضروري لأمنهم.. فهل انتقلنا مع زوال القبيلة إلى ما هو أفضل منها؟ أم إلى ما هو أسوأ بكثير؟

 

ومن الخطأ النظر إلى القبيلة باعتبار الولاء لها نقيضا للولاء للدولة الجامعة الموحدة. فقد أقام الإسلام، على امتداد قرون طويلة، دولة عظيمة، مترامية الأطراف، وضمن لها ولاء راسخا من مواطنيها، طالما ضمنت لهم العدل والكرامة، لكن الولاء للدولة لم ينقص شيئا من الولاء للعشيرة أو القبيلة، كما لم يكن الولاء للقبيلة والعشيرة على حساب الولاء للدولة. والخطئ كل الخطئ وضع الولاء للدولة نقيضا للولاء للقبيلة.

 

وقد نجحت التجربة التاريخية العربية والإسلامية في ضمان الولاء للدولة، من دون الحاجة للقضاء على القبيلة، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من بعده، قد جعلوا تنظيم الجيوش وتنظيم الكثير من جوانب إدارة الدولة وحياة المجتمع، يقوم على أساس الانتماء العشائري والقبلي، من دون أن يجدوا في ذلك التناقض الموهوم، الذي يركز عليه بعض مثقفينا اليوم. ولكن الإسلام نجح في تحقيق ذلك بعد أن نجح في نَظْم الانتماء للقبيلة في إطار انتماء أكبر هو انتماء لدولة موحدة، ولثقافة كبرى جامعة، هي الثقافة الإسلامية، التي فعّلت ما في القبيلة والعشيرة من إيجابيات، من دون أن تسقط أسيرة لما فيها من سلبيات. * أحوال الأمة تتحسن:

 

يتجسد الخطاب النقدي المتطرف، غير الأكاديمي، والذي يعتبر امتدادا له، في ما يذاع في بعض الفضائيات العربية من برامج تستضيف شخصيات أميل إلى العدمية، في النقد والتجريح، منها إلى الرؤية المتبصرة المتوازنة. لكن تلك الشخصيات تجد تشجيعا وترحيبا بأفكارها، بالنظر لما في أوضاعنا العربية من سوء غير مقبول. إذ يشعر الكثير من المواطنين العرب بأن أوضاعهم الراهنة في أسوأ أحوالها، ولذلك يسمع المرء في الكثير من القنوات الفضائية ما يعبر عن غضب عربي عارم على الحكومات والأنظمة، مشددين النكير عليها وعلى تقصيرها وعجزها وضعفها وتهاونها.

 

وإذا كان ذلك النقد والغضب العارم يعبر بوجه ما عن ضعف الوضع العربي، وغرق الأنظمة في حالة العجز الفاضحة، في مواجهة الأخطار التي تتهدد الأمة، فإنه يعبر، أكثر من ذلك، ويكشف عن طموحات العرب الكبيرة، وعن شعورهم بأنهم أجدر بحياة أفضل، وبموقع دولي يحترم تاريخ أمتهم، وعراقة حضارتهم، ويرون واقعهم بعيدا عن طموحاتهم المشروعة كل البعد.

 

وحتى يصبح قلق العرب من أوضاعهم منتجا وفعالا، يجب الانتباه لما يتحقق في أوضاع الأمة من إيجابيات، والبناء عليها، بهدف مراكمة الإنجازات، لا إهمالها وغض الطرف عنها، والتركيز على السلبيات دون سواها. وسنأخذ في هذا السياق بعض الأمثلة:

 

- فقد كانت أمتنا أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي مجرد مناطق نفوذ بين عملاقين كبيرين يتصارعان. وقد انقسمت دولنا بين المعسكرين، فبعضها انحاز إلى هذا المعسكر، وبعضها الآخر انحاز للمعسكر الآخر. أما اليوم، وبالرغم من أن الكثير من الحروب والأهوال تجري على أرضنا، وهو ما يوحي ظاهرا بأن أحوالنا تسير من سيء إلى أسوأ، كما يرى النقديون، إلا أن ما يحدث في الواقع خلاف ذلك، فبالرغم من جريان الحرب على أرضنا، فإنها تجري بين إرادة أمتنا في التحرر وبين قوى استعمارية، لم تعد ترضى بغير الهيمنة المباشرة علينا. وقد أتاح ذلك لشعوبنا أن تأخذ شأنها بيدها، ولا تتركه لغيرها، كما كان في السابق. وها نحن نرى شعوبنا وقد بدأت تقهر غزاتها، وتجعل من مشاريعهم للهيمنة مكلفة وباهضة الثمن، مما يعني أن السير في هذا الطريق حتى نهايتها سينهي الهيمنة على منطقتنا. وها نحن نرى أيضا سائر شعوب الأرض تقف إلى جانب حقنا، مما جعل قضايانا في بؤرة الاهتمام العالمي، بعد أن لم يكن أحد يأبه لذلك. ومن المفيد الانتباه إلى أن أعداء أمتنا باتوا محاصرين أخلاقيا، يدافعون عن شرعية عدوانهم، والعالم كله يقف معنا أخلاقيا في وجوههم، حتى إن إسرائيل وأمريكا باتتا في استطلاعات الرأي أخطر دول العالم على السلام العالمي، كما حصل في استطلاع رأي شعوب دول الاتحاد الأوروبي.

 

- المعركة الجارية بين العدو الصهيوني والشعب الفلسطيني واللبناني، أجبرت هذا العدو، الذي يفخر بأنه قاعدة عسكرية متخمة بشتى أنواع السلاح، على التراجع المستمر منذ انتصاره الكاسح في عام 1967. فمنذ ذلك التاريخ والعدو يتراجع، سلما أو حربا، بعد أن عجز على هضم ما ضم إلى جوفه من أرض وسكان. وقد كانت هزيمته في لبنان وانسحابه منه عام 2000 خائبا ذليلا من أبرز تراجعاته. وها هو العدو يستعد للانسحاب اليوم من قطاع غزة، وغدا إن شاء الله من الضفة الغربية، محاولا تغطية انسحاباته بالتورط في المزيد من الإجرام ضد الشعب الفلسطيني وقياداته. والعدو الذي عرف سابقا بحرصه على ترك حدوده مفتوحة للغزو والتوسع، وكان يتحدث عن إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، قد بات اليوم في موقع دفاع، يحاصر نفسه بالجدران والأسوار، حتى يرد هجوم الشعب الفلسطيني عليه، ويحاول أن يحمي القاعدة التي أقام عليها مشروعه، لكن بيت العنكبوت هذا سينهار على ساكنيه، وذلك غير بعيد بإذن الله.

 

- أما ما يجري في العراق، برغم كل ما فيه من آلام وأوجاع، فإنه يكشف بجلاء حالة التقدم الكبير، التي حصلت في أوضاع الأمة، والتي تحتاج إلى الانتباه إليها جيدا. فمعلوم أنه كان بوسع دولة غربية واحدة، قبل قرن، أو أقل من ذلك، أن تحتل عددا كبيرا من دولنا، وتسيطر عليها لعقود طويلة. فقد احتلت بريطانيا لوحدها نصف الكرة الأرضية والكثير من دول وشعوب أمتنا. واحتلت فرنسا لوحدها أيضا جزء آخر كبيرا من دولنا وشعوبنا. لكننا صرنا الآن نرى ثلاثين دولة غربية، بما فيها الدولة العظمى: أمريكا، عاجزة عن السيطرة على العراق بمفرده، بعد تمكن أبنائه من ناصية التقنية، وانتشار ثقافة الاستشهاد والمقاومة بينهم.. فماذا يعني هذا؟ هل يعني أن الأمة تتأخر أم يعني أنها تتقدم؟

 

وبالمختصر المفيد، فإن هناك إيجابيات كثيرة قد لا نلمسها ولا ندركها "بالعين المجردة"، حصلت في وضع الأمة، والحالة العراقية تكشف واحدة منها بجلاء.. أوليس استعصاء دولة واحدة من دولنا على دول كثيرة معادية، بعد أن كانت دولة واحدة قادرة أن تسيطر على عدد كبير من دولنا، يعد من علامات التقدم؟..

 

إن وضع الأمة انتقل انتقالا كبيرا من السلب إلى الإيجاب، فأمتنا تتزايد عددا ونوعا، وكفاءة أبنائها في هضم علوم العصر ومعارفه، من دون فقدان الهوية والروح الجامعة الموحدة، تتزايد باستمرار، حتى وإن بقت الأطر المادية لم تعرف التحول ذاته. وهذا تطور غير بسيط لابد من الانتباه له، ولابد من الكف عن إدمان النقد المدمر، الذي لا يرى في الأمة إلا كتلا من السلبيات، بعضها فوق بعض. فالأمم إذا أرادت أن تنهض يجب أن تنظر لما فيها من إيجابيات وتفعّلها، لا أن تعكف على ما فيها من سلبيات، تضخمها وتلوكها باستمرار، وتنظر للعالم من زاويتها، وتظل تجلد ذاتها باستمرار.

 

في المقابل هناك سلبيات كثيرة في واقع الأمة وشعوبها، جدير بنا رصدها ووضعها تحت مبضع التشريح والبحث، لا إنكارها، أو محاولة تجاهلها. غير أن ذلك لن يحقق الهدف منه طالما لم نضع نقاط قوتنا أساسا لعملنا، وتجنب روحية جلد الذات، لأن الأمم لا تنهض باجترار هزائمها، وإنما بتخليد بطولاتها، وإبراز ما فيها من إيجابيات، لأن الحديث معد كالمرض. وقد جاء في الأثر أن من قال "هلك الناس فهو أهلكَهم". * نور الدين العويديدي : رئيس تحرير مجلة أقلام أون لاين

 

المصدر: مجلة أقلام أون لاين العدد 12 ، أكتوبر - نوفمبر 2004

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك