لا إنكار على مجتهد ولا مُختَلف فيه

لا إنكار على مجتهد ولا مُختَلف فيه

علي الحمادي

هذه القاعدة ذكرها علماؤنا من سلف هذه الأمة لما فهموا روح وأدركوا أن هذه الأمة لا يمكن أن يستقيم أمرها وأن تبقي أمة واحدة بعيدة عن النزاع والشقاق إلا بإدراك هذه القاعدة.

 

إن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي في حياة البشر، ولو لم تقر هذه الحقيقة لكان ذلك مخالفاً لطبيعة البشر وفطرتهم، ولتسبب ذلك في تمزيق هذه الأمة والقضاء عليها.

 

إن الذي جعل السلف رضوان الله عليهم في وحدة ومنعة، وفي بعد عن التشاحن رغم اختلاف آرائهم هو إدراكهم أنه لا إنكار من مجتهد ولا إنكار على أمر مختلف فيه.

 

فلكل رأيه الذي يجب أن يُحترم، ولكل اجتهاده الذي ينبغي أن يُقدر ما دام المجتهد موثوقاً في دينه وأمانته وعلمه وتقواه.

 

" فهذا ابن قدامة المقدسي رحمه الله يقول في مختصر منهاج القاصدين (ص 113): " ويشترط في إنكار المنكر أن يكون معلوماً كونه منكراً بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد، فلا حسبة فيه".

 

وورى أبو نعيم في الحلية (6/368) بسنده عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قوله: " إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره، فلا تنهه".

 

وروى الخطيب البغدادي : ( الفقيه والمتفقه، 2/69) عن سفيان الثوري قوله: " ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به ".

 

ونقل ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/186) عن الإمام أحمد رضي الله عنه تحت عنوان: " لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ فيه خلاف في الفروع ". ما نصه: " وقد قال أحمد في رواية المروزي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم...".

 

ويستثنى القاضي أبو يعلى ( الآداب الشرعية، 1/186) من ذلك إذا كان الخلاف ضعيفاً في مسألة من المسائل، وقد يؤدي عدم الإنكار إلى محضور متفق عليه، إذ يقول: " ما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد... فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته ".

 

 

وهذا الذي يكون فيه الحق واضحاً، والأدلة بينة من الكتاب والسنة والإجماع، أما إذا خلت المسألة من ذلك كله، فلا إنكار على مجتهد.

 

وقال النووي في الروضة ( تنبيه الغافلين، النحاس، ص 101): " ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره، وإنما ينكرون ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً ".(1)

 

وفي الفتاوى سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: فهل ينكر عليه أم يهجر ؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين ؟

 

فأجاب: " الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم ".(2)

 

وسئل كذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله: عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز " شركة الأبدان "(3) ، فهل يجوز له منع الناس؟ أي منعهم عن العمل بها.

 

فأجاب: " ليس له من منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك، لاسيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار.

 

وهذا، كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.

 

ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على " موطئه" في مثل هذه المسائل منعه من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم.

 

وصنف رجل كتاباً في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه " كتاب الاختلاف " ولكنه سمه " كتاب السنة ".

 

ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.

 

وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا، كان في الأمر سعة.

 

وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.

 

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها الحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه ".(4)

 

" وروى أن عمر رضي الله عنه قضى في المسألة المعروفة باسم " المسألة الحجرية " (5) في الميراث بعدم التشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم، ثم رفعت إليه مرة أخرى، فقضى فيها بالتشريك.

 

فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا!! فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم.

 

وبهذا فسر ابن القيم في أعلام الموقعين (ج 3/ 99-130) قول عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: " ولا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم، فراجعت فيه رأيك، وهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ".

 

وروي ( في إعلام الموقعين، ج1، 74): أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت ؟ يعني في مسألة كانت معروضة للفصل فيها، فقال الرجل: قضي عليّ وزيد بكذا.. فقال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا.. قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك ؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي، والرأي مشترك ".(6) الهوامش :

 

(1) عبد الحميد البلالي، فقه الدعوة في إنكار المنكر، دار الدعوة، الكويت، ص 112-113.

(2) أحمد ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المجلد العشرون، الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشرفين، مكة المكرمة، 1404هـ، ص 207.

(3) شركة الأبدان: هي أن يشتركا فيما يملكان بأبدانهما وجهدهما من الأشياء المباحة كالاحتطاب والاصطياد واستخراج المعادن ونحو ذلك، وقد أجازها الأئمة الثلاثة ومنعها الشافعي.

(4) أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، المجلد الثلاثون، الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشرفين، مكة المكرمة، 1404هـ، ص 79-80.

(5) المسألة الحجرية: هي أن تموت المرأة وتترك زوجاً وأماً وإخوة لأم وإخوة أشقاء، فمقتضى ظواهر النصوص حرمان الأشقاء لأنهم عصبة ولم يبقَ لهم شيء، وهذا ما قضى به عمراً أولاً، فقال بعضهم: هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة، فشرك بينهم.

(6) يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، دار الصحوة، ص 109-112.

 

المصدر: د. علي الحمادي، خفافيش أعماها النهار، ص 30-35

الأكثر مشاركة في الفيس بوك