اختلاف الفقهاء وأثره في اختلاف العاملين للإسلام

اختلاف الفقهاء وأثره في اختلاف العاملين للإسلام

د. عبد الله الفقيه

رئيس لجنة الفتوى بالشبكة الإسلامية - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ــ قطر

ورقة عمل مقدمة في مؤتمر (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق) المنظم من قبل جامعة الخرطوم ــ قسم الثقافة الإسلامية 23 ــ 25 جمادى الأولى 1425هـ الموافق 10ــ12/7/2004م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على نبيه الكريم

 

سيكون الكلام تحت هذا العنوان في مقدمة وفصلين وخاتمة، أما المقدمة فهي في تعريف الخلاف وظروف نشأته، وأما الفصلان فالأول منهما في ذكر أسباب خلاف الفقهاء، والثاني في ذكر أسباب خلاف العاملين للإسلام الآن، وأما الخاتمة فتوصيات.

 

المقدمة

 

الاختلاف لغة مصدر اختلف، والاختلاف نقيض الاتفاق، ويستعمل عند الفقهاء بمعناه اللفظي، وكذا الخلاف.

 

الفرق بين الخلاف والاختلاف:

 

للعلماء طريقتان في استعمال هذا الاصطلاح، فمنهم من يرى أنهما لفظان مترادفان يستعمل كل واحد منهما في الدلالة على نقيض الاتفاق سواء أنشأ ذلك عن دليل أم نشأ عن غير دليل، ومنهم من خص لفظ "الاختلاف" بما كان ناشئاً عن دليل، ولفظ "الخلاف" بما كان ناشئاً عن غير دليل(1).

 

ولا شك أن هذا في مجرد الاصطلاح، أما أصل اللغة فلا يوجد فيه ما يشهد لهذا المنحى قطعاً. ظروف نشأة الخلاف:

 

قبل الشروع في ذكر أسباب الخلاف لا بد أن نطل إطلالاً سريعاً على ظروف وملابسات نشأة هذا الخلاف، وإن اشتمل هذا الإطلال على ذكر بعض أسبابه فإن ذلك لمجرد التمثيل ليس إلا، لأننا سنتناول هذه الأسباب مرتبة، وذلك بحسب ما يسمح به الوقت ويتناسب مع المقام.

 

إن من نظر إلى ظروف نشأة هذا الخلاف في مسائل الفقه وجد أنه كان يحصل في مرات كثيرة، لكنه سرعان ما كان يزول ويرجع أحد أطرافه إلى رأي الطرف الآخر لتبيُّن أن قوله هو القول الحق، وذلك إما لكونه عارفاً بهذا الدليل ولكنه كان غائباً عن ذهنه، وإما لكونه غير عارف به أصلاً ولم يطلع عليه، ومن أمثلة الأول ما وقع لعمر، فقد نهى على المنبر ألا تزاد مهور النساء عن عدد ذكره ميلاً إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد عليه في مهور نسائه فقامت امرأة من جانب المسجد وذكَّرت عمر بقول تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [سورة النساء:20]، فترك عمر قوله: وقال كل أحد أعلم منك حتى النساء، وفي رواية أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ.

 

وقد كان يعلم الآية ولكنه نسيها.

 

وقد يذكر العالم المجتهد الآية أو السنة، ولكنه يتأول فيهما تأويلاً من تخصيص أو نسخ أو معنى ما.

 

أما عن الحال الثاني فنقول: كم فات كبار الصحابة ــ وهم أئمة الدين وأعلام الهدى ــ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أسباب ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ذوي معايش يطلبونها، وكانوا في ضنك من القوت شديد، فمن تاجر يغادي الأسواق ويماسيها طلباً لقوته وقوت عياله وما يجهز به نفسه للغزوات الكثيرة، ومن منهمك في إصلاح نخله، وكانوا مع كل ما هم فيه من شدة وضيق حريصين كل الحرص على ألا يضيع أحد منهم فرصة في الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم والاستفادة منه، إذا وجد أدنى فراغ مما هو فيه. وكان بعضهم أوفر حظاً في هذا الجلوس من بعض، وذلك لقلة مشاغله لكونه لا زوجة له ولا أولاد فكان أكثر سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء أبو هريرة فقد قال إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة ولولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً ثم يتلو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة:159ــ160]، إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفْق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطنه ويحفظ ما لا يحفظون(2).

 

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتى ويحضره فتواه بعض الناس دون بعض، وكان يقضي ويحضر قضاءه بعضهم دون بعض، وكان ربما أمر بأمر أو نهى عن أمر في غير حالي الفتوى والقضاء، ويحضر ذلك بعضهم دون بعض، فلا يعقل أن يحيط أحدهم بكل ما صدر منه صلى الله عليه وسلم.

 

وكانوا مدركين لهذه الحقيقة أعني حقيقة عدم الإحاطة.

 

ولهذا لما ولي أبو بكر الخلافة كان إذا نزلت به النازلة ليس عنده فيها نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل من حضر عنده من الصحابة فإن وجد عندهم نصاً قضى به، وإلا اجتهد في الحكم فيها، وقد ظلوا على هذا الحال طيلة خلافة أبي بكر، لا يكادون يختلفون اختلافاً في نازلة إلا رجع بعضهم إلى رأي الآخر، فانعقد إجماعهم أو كاد، هذا باستثناء النزر اليسير من المسائل التي ظل الخلاف فيها قائماً.

 

نقطة تحول كبرى:

 

وهي أنه لما مات أبو بكر وولي عمر بعده فتحت الأمصار وتفرق الصحابة في الأقطار، واستقر المقام بكل مجموعة منهم في مصر من الأمصار، وكانت تنزل النازلة بأهل مكة أو أهل المدينة أو أهل اليمن أو أهل العراق أو أهل الشام أو أهل مصر فيفتي فيها من نزلت بهم من الصحابة بما يحصل عندهم فيها، وربما كانت هذه الفتوى مستندة إلى عموم أو اجتهاد سائغ، لولا كون المسألة قد ورد فيها نص يخصها غاب عمن أفتى هذه الفتوى، فقد حضر المدني ما لم يحضر المصري وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وقد ظل الحال على هذا بعد انقراض عصر الصحابة فترة من الزمن، فقد كانت كل طائفة من التابعين يفتون بما استقر عند من أدركوا من الصحابة، ومن هنا طغت آراء ابن عمر على فتاوى من بالمدينة من التابعين، لأنها كانت محل إقامته، وقد كان من أطول (المكثرين) لبثاً فيها، وكذا الحال بالنسبة لأهل مكة مع ابن عباس وبالنسبة لأهل الكوفة مع ابن مسعود.. وهلم جرَّا..

 

فلم يكن أهل مصر يخرجون عن فتوى من رووا عنه إلا نادراً، وظل الحال على هذا عند ظهور من بعد التابعين كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فقد جرى هؤلاء الأئمة على نفس طريقة من سبقوهم، فقد سلك كل واحد منهم مسلك من أخذ عنهم من التابعين وتابعي التابعين من أهل بلده.. إلخ.

 

تلكم كانت نبذة سريعة عن ظروف نشأة الخلاف وملابسات حصوله أول ما نشأ، وبعدها سننتقل إلى أسباب حصول الخلاف. الفصل الأول : في أسباب حصول الخلاف عند الفقهاء

 

السبب الأول:

 

عثور البعض على دليل لم يعثر عليه الآخر، يقول ابن القيم وهو يتكلم عن أسباب حصول الخلاف:

 

"منها أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلَّف أن يكون عالماً بموجبه، فإذا لم يبلغه وقد قال في تلك النازلة بموجب ظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس أو استصحاب فقد يوافق الحديث المتروك تارة ويخالفه أخرى، وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد، واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأحواله وخصوصاً الصديق الذي لم يكن يفارقه..."(3).

 

السبب الثاني:

 

هو كون الحديث قد بلغه لكن لم يثبت عنده لضعف من رواه عنه لكونه مجهولاً أو سيء الحفظ أو متهماً، ويكون هذا الحديث بعينه قد ثبت عند غيره لكونه قد رواه له الثقات بالسند المتصل.

 

السبب الثالث:

 

اعتقاد أحدهم ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره، فقد يعتقد أحد الأئمة ضعف رجل ويعتقد آخر قوته ويكون الحق تارة مع المضعِّف لاطلاعه على سبب خَفِيَ على الموثق، ويكون تارة مع الموثق لعلمه بأن ذلك السبب غير قادح في روايته وعدالته، إما لأن جنس ذلك السبب غير قادح أصلاً، وإما لكونه له فيه عذر أو تأويل يرفع عنه الحرج بسببه.

 

وقد يكون للمحدث حالان حال استقامة وحال اضطراب فيحكم الموثق بأن الحديث صحيح ظناً منه أنه مما رواه في حال الاستقامة، ويحكم القادح بأنه ضعيف ظناً منه أنه مما رواه في حال الاضطراب وهنا يأتي دور أهل التحقيق والتدقيق.

 

السبب الرابع:

 

اشتراط بعضهم في خبر الواحد العدل شروطاً يخالفه فيها غيره كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيهاً إذا خالف ما رواه القياس، واشترط آخرون انتشار الحديث وشيوعه إذا كان مما تعم به البلوى.

 

السبب الخامس:

 

أن ينسى الحديث أو الآية كما نسي عمر: (وآتيتم إحداهن قنطاراً)، وآية (إنك ميت وإنهم ميتون).

 

السبب السادس:

 

عدم معرفته بمدلول بعض ألفاظ الحديث لكونه غريبا عنده: المزابنة، المحاقلة، المخابرة، الملامسة، المنابذة.. ونحوها من الكلمات الغربية التي اختلف العلماء في تأويلها، ومن هذا القبيل: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"، فمنهم من فسر الإغلاق بالإكراه، وهم أهل الحجاز، ومنهم من فسره بالغضب، وهم أهل العراق، ومنهم من فسره بجمع الثلاث في كلمة واحدة فإنه مأخوذ من غلق الباب أي أغلق عليه باب الطلاق جملة.

 

يقول ابن القيم: والصواب في لفظ الإغلاق أنه الذي يغلق صاحبه باب تصوره أو قصده كالجنون والسكر.

 

ومما يدخل تحت هذا السبب، وهو السبب السادس، الخلاف العارض من جهة كون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو على معناه عند التقييد (المجاز) كمسألة القرء(4)، والخيط الأبيض من الخيط الأسود(5).

 

السبب السابع:

 

أن يكون عارفاً بدلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا ينتبه لدخول هذا الفرد المعيَّن تحت اللفظ، إما لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد وأنه مماثل لغيره من الأفراد المشمولة باللفظ المذكور، وإما لعدم حضور ذلك الفرد بباله، وإما لاعتقاده اختصاصه بما يجعله خارجاً من اللفظ العام.

 

السبب الثامن:

 

اعتقاده أنه لا دلالة في اللفظ على الحكم المتنازع فيه.

 

السبب التاسع:

 

هو أنه لما ظهرت المذاهب الفقهية المعروفة اشتغل كل أتباع مذهب بجمع وتحرير أقوال إمام مذهبهم، ووضع أصول المذهب وتقعيد قواعده، واتسعت دائرة الخلاف إلى أن أصبحت مواطن الاتفاق قليلة جداً، وقد نشأ عن الاختلاف في القواعد اختلاف كبير في الفروع.

 

وما دامت كل قاعدة اختلف فيها ينشأ عن ذلك اختلاف في الفروع المتفرعة عنها فلك أن تتصور حجم الخلاف، وحتى القواعد الخمس الكبرى والتي عليها مبنى الفقه كله والتي يقال إنها سالمة من الاختلاف في الجملة فيها خمس وهي:

 

(1) الشك لا يرفع اليقين.

(2) الضرر ينفي.

(3) المشقة تجلب اليسر.

(4) العادة تَحكَّم حيث لا تجور.

(5) الأمور بمقاصدها.

 

وإلى هذا أشار من قال:

واعلم بأن الفقه مبناه على ** خمس قواعد إذا ما تجتلى

لا يرفع اليقين شك والضرر ** ينفى وتجلب المشقة اليسر

تحكم العادات حيث لا تجور ** وبالمقاصد تبين الأمـور

 

ــ نقول ــ حتى هذه القواعد لم تسلم في واقع الحال من الخلاف بل يزداد الأمر تعقيداً، ودائرة الخلاف اتساعاً إذا أدرك الباحث حقيقة وهي أن هذه القواعد الخمس والتي قلنا إن الاتفاق قد وقع بين الفقهاء عليها في الجملة –إن سلم لنا هذا القول- لا يكادون يتفقون على شيء ذي بال مما بني عليها من الفروع عند التطبيق والتخريج فما يكون ضرراً عند هؤلاء لا يكون ضرراً عند أولئك وما يعد مقصداً معتبراً للشارع عند قوم لا يعد مقصداً معتبراً له عند آخرين.. وقس على ذلك.

 

السبب العاشر:

 

هو المعاصرة والاحتكاك، وهذا لا تجد له ذكراً عند من يتكلمون في أسباب ورود الخلاف، والواقع أن ما ينشأ من الخلاف بين المتعاصرين أشد عمقا واتساعاً مما ينشأ بين غيرهم، وقد فطن لهذا الباب أهل الحديث فردوا قدح بعض المعاصرين في بعض يقول السيوطي في ألفيته:

 

واردد مقال بعض أهل العصر في بعضهم عن ابــن عبد البــر

 

والسيوطي يشير هنا إلى ما ذكره ابن عبد البر في هذا المعنى، ومنه ما روي بإسناده إلى الحسن ابن أبي جعفر قال: "سمعت مالكاً بن دينار يقول: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس في الزريبة تنصب لهم الشاة الضارب فينب هذا من هنا وهذا من هاهنا"(6).

 

وقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء قصة أشهب مع الشافعي وذكرها غيره أيضاً، وملخصها أن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: إنه سمع أشهب يدعو على الشافعي بالموت، وفي رواية أنه كان يدعو عليه في السجود، وأن الباعث له على ذلك خشيته من أن يضيع مذهب مالك، وقد بلغ الخبر الشافعي فقال:

 

تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى ** تجهز لأخرى مثلها فكأن قد

وقد علموا لو ينفع العلم عندهـم ** لئن مت ما الداعي علي بمُخْلد(7)

 

ولهذا قال الشافعي أيضاً:

 

ألا قل لمن بات لي حاسدا ** أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في ملكه ** لأنك لم ترض لي مـا وهـب

فكان جزاؤك أن خصني ** وسد عليك باب الطـــلب

 

وقصة البخاري وقصة سيبويه مشهورتان، وقد مات كل واحد منهما غماً وكمداً من سوء ما تعرض له من معاملة قاسية من قرن من معاصريه، فمات البخاري طريداً مشرداً من الحافظ الذهلي، ومات سيبويه بعد أن تآمر عليه إمام القراء وإمام النحاة وهو قرن له وهو الكسائي.

 

وقد وجدت أثراً لهذه الظاهرة استرعى انتباهي وهو أن بعض المؤلفين يختمون كتبهم بما يؤذن بشعورهم بمرارة بسبب ما وقع من بعض معاصريهم، فقد أنشد السيوطي في خاتمة كتابه الإتقان أبياتاً قديمة مشهورة وهي:

 

ادأب على جمع الفضائل جاهداً ** وأدم لها تعب القريحة والجسد

واقصد بها وجه الإله ونفع مــن ** بلغته ممن جدَّ فيها واجتهد

واترك كلام الحاسدين وبغيهم ** هملاً فبعد الموت ينقطع الحسد

 

وكذلك فعل ابن هشام النحوي في خواتم بعض كتبه فقد أنشد هو الآخر قول القائل:

 

إن يحسدوني فإني غير لائمهم ** قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

فدام لي ولهم ما بي وما بهــم ** ومات أكثرنا غماً بمـــا يجـد

 

ويقول الزمخشري:

 

زمان كل خب فيه خــب ** وطعم الخل خل لو يـذاق

لهم سوق بضاعتها نفـاق ** فنافق فالنفاق له نفـــاق ولئن كان المشتغلون بنقد الأسانيد قد تنبهوا لهذا الأمر فقد تنبه له بعض الفقهاء أيضاً، يقول خليل بن إسحاق المالكي وهو يعد المواطن التي لا تقبل فيها الشهادة لأجل العداوة يقول: "ولا عالم على مثله"، فمجرد كونهما عالمين متعاصرين يجعلهما في مظنة العداوة بحيث يكون ظن ذلك ظناً غالباً يمنع قبول شهادة أحدهما على الآخر.

 

وقال المواق في التاج والإكليل عند قول خليل المتقدم: "ولا عالم على مثله" قال ابن وهب: لا يجوز شهادة القارئ على القارئ يعني العلماء لأنهم أشد تحاسداً(8).

 

ومن المعلوم أن ابن عرفة قد خالف ما ذهب إليه خليل وشراحه في هذه المسألة، ولا يهمنا هنا ما هو القول الراجح بل الذي يهمنا هو أن المعاصرة سبب من أسباب ظهور الخلاف قد لا يفطن له الكثيرون، فلا يكاد الناس يعرفون لعالم قدره إلا بعد أن يوارى جثمانه الثرى ولسان حاله معهم ينشد قول القائل:

 

لا ألفينك بعد المـوت تندبـني وفي حياتي مـــــا زودتني زادا

 

السبب الحادي عشر:

 

هو أن إنكار القياس والالتفات إلى العلل والمقاصد عند أهل الظاهر ومن على شاكلتهم يقابله توسع شديد في النظر إلى المقاصد والعلل عند آخرين، مما يجعل هوة الخلاف بينهما متسعة بشكل كبير حتى وصل الأمر ببعض العلماء ــ كالنووي ــ إلى عدم اعتبار أهل الظاهر في الإجماع بحيث يمكن أن يعد الإجماع منعقداً مع وجود المخالفين منهم.

 

ومما يدخل تحت هذا السبب القول بسد الذرائع المفضية إلى الحرام.

 

السبب الثاني عشر:

 

حول النسخ، وقد نشأ عن الخلاف في مسألة النسخ خلاف في فروع كثيرة لا تكاد تدخل تحت حصر، ومن أشهر مواطن هذا الخلاف هنا موطنان:

 

الأول: هل الزيادة على النص نسخ؟ فمذهب الأحناف أنها نسخ، ومن الأمثلة التي يظهر فيها الخلاف في هذه المسألة مسألة اشتراط أن تكون الرقبة في الظهار مؤمنة حملاً على الرقبة في كفارة القتل، فمذهب الأحناف أن الإيمان في رقبة كفارة الظهار ليس مشروطاً؛ لأن الله قال فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ومقتضى الآية إجزاء الرقبة المطلقة فمن قيدها بالإيمان كان زائداً على النص، والزيادة على النص نسخ.

 

يقول إمام الحرمين في البرهان: ووجه ادعائهم كونها نسخاً أن مقتضى الخطاب يتضمن الإجزاء مع الإطلاق، والزائد يرفع الإجزاء في الإطلاق وهو متضمن الآية فاقتضت الزيادة رفع ما تضمنه الإطلاق من الإجزاء فكان ذلك نسخاً من هذه الجهة(9).

 

الموطن الثاني: هو أن تكون الآية قد نسخت آيات كثيرة كآية السيف فقد زعم جماعة أنها نسخت ما يربو على مائة آية، ويعنون بذلك آيات الدعوة للكفار والحوار معهم والمهادنة والموادعة معهم، ولا شك أن هذا بعيد عن صوب التحقيق.

 

السبب الثالث عشر:

 

هو أن في كل مذهب من المذاهب مدرستين إحداهما تدعو إلى الأخذ بما قام عليه الدليل ولو لم يكن هو مشهور المذهب، والأخرى تدعو إلى الأخذ بما تسميه مشهور المذهب ولو خالف الدليل، ونرى أن هذا الخلاف ناشئ عن الخلفية العلمية لكل واحدة من المدرستين، فهنا من أتباع المذهب من اشتغلوا بالحديث والتفسير مع الاشتغال بفروع الفقه، وهنالك من شغلهم حفظ الفروع والتخريجات عن الاشتغال بالدليل.

 

ولا شك أن الطائفة التي تشتغل بالدليل من أتباع المذهب هي صاحبة التحقيق والتوفيق عند مواطن النزاع، ومن هذه الطائفة من الشافعية ابن حجر والنووي على سبيل المثال لا الحصر، وإليكم هذا المثال: يقول النووي بعد إيراده لحديث مسلم في نقض الوضوء بلحم الإبل: احتج أصحابنا ــ يعني الشافعية ــ بأنباء ضعيفة في مقابل هذين الحديثين، وكأن الحديثين لم يصحا عند الإمام الشافعي.

 

ولذا قال إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به، والصحيح في ذلك ــ والكلام لا يزال للنووي ــ ما ذهب إليه الإمام أحمد وعامة أصحاب الحديث.. إلى أن قال: الجديد المشهور لا ينقض وهو الصحيح عند الأصحاب والقديم أنه ينقض وهو ضعيف عند الأصحاب، لكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل وهو الذي أعتقد رجحانه، وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه(10).

 

ومحل الشاهد عندي من هذا أن البيهقي والنووي من عظماء أئمة الشافعية، وهما من أئمة الحديث في نفس الوقت.

 

وقد ظهر الخلاف في المذهب المالكي بين المدرستين، مدرسة الدليل ومدرسة التقليد، أقول ظهر بينهما ظهوراً أشد من ظهوره بين غيرهم من أهل بقية المذاهب، ولم يخلُ ما جرى من ذلك بين هاتين المدرستين من نتف وطرائف.

 

ومن ذلك ما جرى بين منذر بن سعيد البلوطي من علماء الأندلس وبين معاصريه من الأندلسيين فقد قال مخاطباً لهم:

 

عذيري من قوم يقولون كلما ** أردت دليلا هكذا قال مالك

وإن قلت قالوا قال أشهب قوله ** ومن لم يقل ما قاله فهو آفك

وإن زدت قالوا قال سحنون قولهم ** وقد كان لا تخفى عليه المسالك

وإن قلت قال الله، ضجوا وأكبروا ** وقالوا جميعا أنت قرن مماحك

وإن قلت قد قال الرسول، فقولهم ** أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك

 

وسنتوقف عند هذا القدر من ذكر أسباب الخلاف بين المتقدمين، ولم نرد حصر هذه الأسباب ولا يتسنى ذلك في مثل هذا المقام، وإنما ذكرنا ما نرى أنه هو أشهر هذه الأسباب وأكثره التصاقاً بما نحن فيه. الفصل الثاني : في أسباب اختلاف العاملين للإسلام الآن

 

(1) من هذه الأسباب ما يعود إلى الأسباب المتقدمة، ومن ذلك دعوى النسخ في بعض الآيات، يقول الأستاذ عمر عبيد حسنه: "لقد أدى مجرد الاستشهاد بالآيات والأحاديث وتنزيلها على غير محلها إلى الكثير من التناقض والتضاد، ودعا إلى التعسف في التعامل مع النصوص نسخاً وترجيحاً وما إلى ذلك؛ حيث ذهب بعض القائلين بالنسخ إلى اعتبار آية السيف ناسخة لما يربو على مائة آية من آيات الدعوة والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن في حين أن المشكلة فيما نرى هي في فقه الحالة، وما يلائمها من الحلول الشرعية، ففي مرحلة وحالة قد يكون الحكم: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، وفي حالة قد يكون: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)، وفي حالة التعبئة العامة: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة)، وفي حالة التعاهد والموادعة: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)"(11).

 

ومما يدل على فساد القول بأن آية السيف نسخت ما يربوا على مائة آية أمران الأول: أن الأصل عدم النسخ، ولإثبات النسخ طرق معروفة، وليس مع أصحاب هذا القول ما يثبت النسخ بهذه الطرق.

 

الأمر الثاني: أن الخلفاء الراشدين وأمراء الجنود الإسلامية ظلوا يصالحون ويهادنون ويوادعون عملاً بمقتضى هذه الآيات، فلو كان حكمها منسوخاً ما ساغ لهم ذلك.

 

(2) المعاصرة وقد تقدم الكلام فيها.

 

(3) انتماء العاملين لمدارس فقهية مختلفة فهنالك منتمون لأهل الظاهر، وهناك منتمون لأهل المذاهب الأربعة، ومن هؤلاء من ينتمي لمدرسة الدليل، ومنهم من ينتمي لمدرسة التقليد، وهنالك أسباب أخرى لم تكن معروفة بحجمها التي هي به الآن عند المتقدمين أوجدتها ظروف جدَّت وأوضاع فرضت نفسها ومن هذه الأسباب:

 

أولاً: ترتيب الأولويات فمن الناس من يرى أن الأولى التركيز على جانب العقيدة..

 

ومنهم من يرى التركيز على فضح خطط أعداء الإسلام وتعريتها ووضع الخطة القادرة على دفعها..

 

ومنهم من يرى أن الأولى لم الشمل أولاً.

 

ثانياً: موضوع المشاركة في الانتخابات، فمنهم من يرى أن المشاركة فيها إقرار لمبدأ كون الحكم لغير الله.. ومنهم من يرى أنه وسيلة لإحقاق ما يمكن إحقاقه من الحق.

 

والذي نراه هنا أن موضوع المشاركة من المواضيع الخاضعة لمراعاة المصلحة التي ينبغي أن يترك الحكم فيها لأهل الحل والعقد من البلاد التي هي فيها، وهم من جمعوا بين علم السياسة وعلم الشرع، فهم أهل الذكر هنا والله جل وعلا يقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). الخاتمة

 

نرى أنه مما يعين على تجاوز هذه المحنة أمور:

 

الأول: إعداد ميثاق للعمل يشارك فيه جميع العاملين للإسلام من أهل القبلة وينص في هذا الميثاق على أمور:

 

الأول: ترتيب الأولويات، ويستعان في هذا بالكتاب والثابت من السنة، وبقواعد الفقه فإن فيها ما يفيد في هذا إذا هُذِّبت هذه القواعد ونُقِّحت وركز على ما يلامس الواقع منها دون غيره، ومن هذه القواعد على سبيل المثال لا الحصر: درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.

 

ومن مستندات هذه القاعدة تحريم الخمر والميسر مع التصريح بأن فيهما منافع قال تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) [سورة البقرة:219].

 

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم))(12).

 

فقد قيَّّّّد الإتيان في المأمور به بالاستطاعة وأطلق في جانب المنهي عنه، ولم يقيد مع أن المرء غير مكلف باجتناب ما لا قدرة له على اجتنابه في الجملة، فلم يبق للتقييد بالاستطاعة في جانب المأمورات والإطلاق عن التقييد بها في جانب المنهيات ــ نقول ــ لم يبق لهذا فائدة غير بيان أن جانب المنهيات أعظم من جانب المأمورات إذا تعارضا.

 

ومنها قاعدة التدرج في الأمور ــ وهي تحتاج إلى تهذيب وتنقيح ــ ويستشهد لها بواقع حال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد مكث زماناً يدعوا إلى التوحيد، ثم انضاف إلى التوحيد الصلاة وبعض العبادة.. وظل التغيير في تدرج إلى أن وصل الأمر بالمجتمع إلى القمة في الالتزام بالدين، بل إن كل أمر جاء الشرع بتحريمه وكان أهل الجاهلية شديدي التمسك به لم يحرم إلا بالتدريج، وذلك كالخمر والربا، تقول عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري: ((إنما نزل أول ما نزل منه ــ يعني القرآن ــ سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب: بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده)).

 

ويبين ذلك أيضاً قول الله جل وعلا: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [سورة النساء:77]، أي قيل لهم في مرحلة من المراحل الأولى للدعوة كفوا أيديكم عن القتال ولو كان لمجرد الدفع؛ فماتت سمية تحت التعذيب، ومات ياسر تحته، وفي المسلمين رجال أشداء ذوو نجدة وبأس لكن لمَّا يؤذن لهم بالدفاع في ذلك الوقت.

 

ويستشهد هنا أيضاً بحديث معاذ في بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم..)) الحديث المتفق عليه.

 

ووجه الشاهد منه واضح وهو التدرج في خطاب المدعوين والانتقال بهم بيسر وهدوء من حال إلى الحال التي فوقها، فلو أنهم أخذوا بالأمر كله مرة واحدة كان ذلك سبباً في صدهم.

 

ومنها قاعدة عدم الافتيات في أمور يدفع الجميع ثمنها ولسان حالهم قول القائل:

 

جررت على راج الهوادة منهـم ** وقـد تلحق المولى العنود الجرائر

 

ويجب التنبه إلى أن الخلاف على ترتيب الأولويات قد يؤدي إلى كوارث غير محسوبة كما حصل يوم الجمل، وما تبع ذلك يوم صفين، وما نشأ عن ذلك من أمور ألقت فيها الفتن بظلالها وقد ظلت الأمة تدفع ثمنها إلى اليوم كظهور فكر الخوارج حينئذ، ومن تلك المآسي قتل الحسين وما نشأ عنه، وولاية الحجاج وما نشأ عنها، وهذا كله لمجرد التمثيل وإلا فالوقائع العظام هنا لا تحصى، هذا الأمر كان خلافاً على ترتيب الأولويات، فقد كانت عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم يرون أن أول ما يجب فعله هو أن يقتص من قتلة عثمان فيما كان علي يرى أن أول ما يجب فعله إخماد الفتنة ثم بعد ذلك القصاص، فلا معنى لإقامة حد والناس في هرج ومرج والدولة في تفرق وتشرذم وأركانها تتهاوى.

 

ومما يعين على ذلك أيضاً:

 

(1) تعويد الناس خصوصاً المهتمين منهم بالدعوة على أن يكون المرجع عند الاختلاف هو الاعتصام بالكتاب والسنة، وألا يترك ما ثبت من الدليل لقول أحد كائن من كان، ولكن ذلك يتم بحكمة وتريث.

 

(2) البعد عن الافتراق المذموم: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، فالمطلوب أمران: التزام بما صح، وبعد عن التفرق، ولا يكون ذلك إلا بوضع مناهج تؤدي في النهاية إلى هذا الغرض، فلا يكفي مجرد التلقين.

 

(3) بدء التعاون فيما تم الاتفاق عليه، وإرجاء ما بقي معلقاً إلى مؤتمرات أخرى.

 

(4) التواصي على عدم التجريح والإطناب في الإنكار.

 

(5) توجيه الباحثين من طلاب الدراسات العليا وغيرهم إلى أن يكون ما يقومون به من إعداد الرسائل والبحوث العلمية صاباً في هذه القناة.

 

(6) الاستفادة من جهود وخبرات كل من تدرجوا في حل الخلافات التي كانت توجد بينهم من غير المسلمين فما كان بينهم من الخلافات أكبر بكثير مما هو حاصل بيننا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها))(13).

 

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم)) والحديث في صحيح مسلم من رواية جدامة بنت وهب الأسدية رضي الله عنها، ومحل الشاهد منه هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي عرفنا منه أنه كان يحب مخالفة الكفار ويدعو إلى ذلك لم يجد أي حرج في أن يعلِّمنا في هذا الموطن أنه عدل عن النهي مستفيداً مما علمه من حالهم.

 

وبالجملة فإن عند المسلمين من عوامل الاجتماع ما ليس عند غيرهم والشاعر يقول:

 

ولم أر في عيوب الناس عيباً ** كنقص القادرين على التمام

 

وإننا نرى الأمم الآن تتجمع وتتكتل لا يجمعها دين ولا عرق..

 

ونحن نزداد تشرذماً وتمزقاً وديننا واحد ووطننا واحد ممتد، وثرواتنا لا تحصى ونحن غثاء كغثاء السيل.

 

وهنا نقطة لا بد من تسجيلها وهي أن أزمة الأمة اليوم أزمة نُخَب وليست أزمة شعوب، فالشعوب أثبتت في مواطن كثيرة أنها مع هذا الدين، ولكنها لا تجد من هم قادرون على جرِّها إليه، وهذه حقيقة يجب أن يعترف بها وأن يبذل الوسع في سبيل تلافي ما يمكن تلافيه وتدارك ما يمكن تداركه، وتسخير جميع الوسائل في سبيل ذلك. * د. عبد الله الفقيه : رئيس لجنة الفتوى بالشبكة الإسلامية - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ــ قطر

 

الهوامش :

1- الموسوعة الكويتية (خلاف).

2- متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.

3- الصواعق:2/542 فما بعدها.

4- فمنهم من فسر الإقراء في قوله تعالى: ثلاثة قروء، بالإطهار ومن فسرها بالحيضات.

5- يقول ابن القيم: فهمت طائفة من الخيط الأبيض والخيط الأسود الخيطين المعروفين، وفهم غيرهم بياض النهار وسواد الليل. (الصواعق: 2/556).

6- جامع بين العلم وفضله 2/151.

7- السير: 10/72.

8- التاج والإكليل.

9- البرهان 1/290.

10- المجموع 2/70.

11- نظرات في فقه الخطاب ص: 52 ــ 53.

12- متفق عليه.

13- رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة.

 

المصدر: مؤتمر (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق)

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك