قضايا التنوع التطرف والوسطية التطرف والاعتدال

قضايا التنوع التطرف والوسطية التطرف والاعتدال
الجمعة، 30 أبريل 2010 عبد الستار قاسم

لا يوجد تعليقات
يتم على مستوى الوطن العربي تداول تعبيري الاعتدال والتطرف لدلالة على مواقف سياسية أو اجتماعية أو دينية، وأصبح نعتا معتدل ومتطرف مألوفين في مختلف الأوساط بما فيها الشعبية. وقد أعطت الزاوية السياسية تركيزاً على هذين النعتين بسبب تأثير وسائل الإعلام التي تستقي مادتها الإعلامية من مصادر غربية. دأب السياسيون الغربيون ومعهم وسائل الإعلام على وصف من يتمشون مع السياسة الغربية في المنطقة أو من لديهم الاستعداد للتعاطي معها والحوار من داخلها بالمعتدلين، وأطلقوا صفة المتطرف على من يختلف في مواقفه جذرياً عن المواقف الغربية. فبالنسبة للغرب، بصورة عامة، يعتبر الشخص الذي يريد مثلا أن يقيم دولة إسلامية تطبق الشريعة متطرفاً، أما الذي يفصل الشعائر الدينية عن الحياة العامة معتدلاً ويكون اعتداله أرقى إن لم يكن ممارساً للطقوس. وكذلك بالنسبة للذي يريد تحرير فلسطين وذلك الذي يعترف بإسرائيل ولديه الاستعداد للتفاوض معها، الأول متطرف والثاني معتدل. الداعون إلى الانطلاق العلمي والتقني متطرفون، أما الذين يكتفون باستيراد التقنية فمعتدلون. الساعون من العرب إلى تطوير أسلحة يدافعون فيها عن أنفسهم في مواجهة الذين طوروا أسلحة الدمار الشامل،حسب ما هو سائد من تفسيرات للمصطلحات، متطرفون، أما المستكينون الراضون بما هو قائم فمرضيون.

يعطي تعبيرا اعتدال ومعتدل انطباعاً إيجابياً ورنة جميلة في الأذن، أما تعبيرا التطرف والمتطرف فمنفران ويثيران الاشمئزاز والرفض والعداء. المعتدل شخص محترم ومنطقي وإنساني ويمكن التعامل معه باحترام متبادل وتفاهم، أما المتطرف فضيق الأفق ومتشنج ومتناقض وبهيمي ولا يمكن الوصول معه إلى تفاهم أو معاملته باحترام. الاعتدال عبارة عن قيمة إنسانية لا يتحلى بها إلا الذين ارتقوا بإنسانيتهم، أما التطرف فقيمة منحطة لا يتمسك بها إلا من تغلبت حيوانيتهم على إنسانيتهم. ولهذا يسمع العربي العديد من القادة العرب وغير العرب يسهبون في الهجوم على المتطرفين ويتهمونهم بأنهم يهدمون المصالح الوطنية والمنجزات الإنسانية.

يبدو أن القوي هو الذي يحدد تعريف المفاهيم والمصطلحات وذلك بحق القوة، وربما في هذا ما يعكس واقعاً ساد على مدى حقب تاريخية طويلة. الغرب الآن هو صاحب القوة وهو المكتشف والمبدع والمخترع وهو الذي يصدّر آخر ما توصل إليه في مجالات التقنية والسياسة والفلسفة والطعام وأنماط اللباس والموسيقى وغيرها. وهو الذي يُصدر القرارات حول حقوق الإنسان وقضايا الديمقراطية والتعددية وما شابه ذلك على الرغم من أنه قد لا يكون مطبقاً لكل القيم والمثل التي يتحدث عنها ويدعو لها. تتعزز قدرته على تعميم أو علمنه مفاهيمه بالحكومات والأنظمة التي تدور في فلكه أو تتلقى منه الدعم بمختلف أشكاله أو تخشى سطوته وانتقامه. وتتعزز أيضاً بفعل المثقفين الذين إما تأثروا بالرؤية الغربية بطرق متعددة أو يعملون كسماسرة معرفة يروجون الفكر والثقافة الغربيين مقابل بعض المال أو المتع.

أي أن المفاهيم ترتبط بالمصلحة وليس بقيمة كونية أو مبدأ إنساني. الغرب هو القوي وهو الذي يرى أن مصلحته حق وأن سلوكيات الناس يجب أن تعكس الحق الذي يعتبر نقيضه باطلاً. وبهذا لا يمكن أن تحمل المفاهيم معاني ثابتة أو مدلولات مطلقة وإنما تبقى متغيرة المعنى والدلالة تبعاً لتغير معايير القوى ومصالح القوي ولتقلب الأقوياء. لكل مصلحة وتبعاً لها هناك تعريف، والتعريفات تتباين حسب تباين المعطيات والظروف والأحوال. فما هو حق أو اعتدال الآن قد يصبح باطلاً أو تطرفاً غداً، والعكس صحيح. من المحتمل أن يكون شخص إرهابياً اليوم، لكنه يغدو معتدلاً ومرغوباً فيه في اليوم الذي يلي، وهكذا.

ولهذا ترفض الفلسفة السياسية الدلالات التي يضعها الغرب لمصطلحات مثل الاعتدال والتطرف لأنها انتهازية وظرفية ومتقلبة ولا تعبر عن كونية المفهوم أو إنسانيته.

من الناحية الفلسفية يعتبر الاعتدال وسطاً بين طرفين نقيضين، وهو خير تعبير عن التمسك بالحق والدفاع عنه والعمل على تحقيقه. الكرم، على سبيل المثال، يعبر عن موقف معتدل أو يشكل اعتدالاً لأنه وسط بين الإسراف والبخل. الإسراف عبارة عن رذيلة بسبب ما يجر على المرء من مشاكل وهموم، وكذلك البخل الذي يجعل الحياة ضيقة مقيتة. والشجاعة تعبر أيضاً عن اعتدال لأنها وسط بين التهور والجبن. يؤدي التهور الى ظلم وهلاك كما أن الجبان ظالم لنفسه ويُسلم نفسه للهلاك. الكرم عبارة عن فضيلة وكذلك الشجاعة والإخلاص والوفاء. الفضلية هذه حسب رأي العديد من الفلاسفة ومنهم أفلاطون هي الاعتدال. ولا تبتعد الأديان السماوية عن هذا المفهوم. فأمة المسلمين، مثلاً، أمة وسطاً لا تزيغ ولا تطغى، لا تظلم ولا تسلم نفسها لظلم، وتقيم الميزان في مختلف نشاطات الحياة. أما الجبن والغدر والخيانة والبخل فعبارة عن رذائل لما لها من وقع سلبي على النفس الإنسانية لصالح النفس الحيوانية أو الشهوانية.

لغوياً، تعود كلمة الاعتدال إلى الجذر عَدَلَ والذي يعني الاستقامة مع التسوية، وفي هذا معنى العدل الذي يشمل النواحي المادية والمعنوية على حد سواء، وهو أيضاً إقامة الحق والدفاع عنه. دينياً ولغوياً وفلسفياً يرتبط الاعتدال بالحق وإقامته والدفاع عنه والإصرار عليه، ولا علاقة له بمصلحة أو بمنطق القوة أو انتهاك حرمة. المعتدل هو ذلك الواقف مع الحق فلا يفرط بحق له ولا يعتدي على حق الآخرين. لا يسمح بأن تُنتهك حرماته أو أن يُستعبد أو يُعتدى عليه ويعمل على تصحيح الوضع إن حصل خلل، ولا يسمح لنفسه أن يُلحق ظلماً بأحد أو أن يستغله أو أن يحقر طاقاته وأوضاعه. أي أن الاعتدال عبارة عن مبدأ كوني صالح لكل زمان ومكان بغض النظر عن الأقوياء والضعفاء وعن المجريات التاريخية والذاتية والمصلحية، والمعتدل هو من يتمسك بهذا المبدأ ويصر على تطبيقه بدون تمييز أو انحياز أو محاباة أو تجاهل أو تغاضي.

بناء عليه، يُعتبر التعريف الغربي الاعتدال أو الموقف منه انتهاكاً لمبدأ كوني لأنه يضع المصلحة فوق الاعتبارات الإنسانية وتعريف الحق المتسامي إلى المطلق. فالحق من الناحية الإنسانية لا تصنعه القوة وإنما هو الذي يطوع القوة لخدمته بحيث تشكل رادعاً لكل معتد أثيم، أما إذا كان الحق في خدمة القوة أو هو بعينه القوة من فإن الأمور ترتد ضد الإنسانية فتتبدل القيم العليا والمبادئ الكونية وتتحول إلى كرة يمكن أن تتقاذفها أقدام اللاعبين. ولهذا لم تَسمُ العلاقات الإنسانية بين المجتمعات والدول في ظل تعريف الحق بالقوة واكتست حلة من الجبرية والتسليم بأوضاع يصعب استبدالها أو السيطرة عليها، وبدل أن تكون التأثيرات متبادلة استحوذ أصحاب القوة على الحيز الأوسع للتأثير بالآخرين أو السيطرة عليهم .

الحق هو نقطة الاعتدال وكل ابتعاد عنها عبارة عن تطرف، ويزداد التطرف حدة كلما ازداد الابتعاد عنها سواء ناحية اليمين أو اليسار أو أعلى أو أسفل، الخ. فمن ابتعد عنها ليقبل أقل من حقه يكون قد زاغ أو تهالك أو جبن أو تنازل وهو بذلك ليس معتدلاً أو غير معتدل، ومن ابتعد عنها ليأخذ أكثر من حقه يكون قد طغى أو ظلم أو تهور أو اعتدى وهو بذلك ليس معتدلاً أو غير معتدل. وعليه يكون الجبن تطرفاً وكذلك التهور، وعلى ذات التصنيف يكون الزيغ والطغيان والإسراف والعدوان والتسليم له. وهذه في النهاية سلوكيات يمكن تصنيفها تحت عنوان الظلم حيث يكون المعتدي على حقوق الناس ظالماً للآخرين ولنفسه، ويكون القابل بالظلم ظالما لنفسه وللآخرين. الأول يعتدي على الآخرين لكنه يؤذي نفسه أيضاً بخروجها عن الاعتدال، والثاني يؤذي نفسه ولا يصونها في مواجهة الاعتداء ويفتح الباب أمام الآخرين لإلحاق الظلم به. وفي كل الحالات هناك تطرف يخرج عن الحق، وحيث أن الحق أمانة فإن التطرف خروج عن الأمانة، والخروج عن الأمانة خيانة. الأمين قائم بالحق يفي بالتزاماته تجاه نفسه وتجاه الآخرين، وإذا تخلى خان نفسه وخان الآخرين سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو شعباً أو أمة.

يعيدنا هذا إلى طرح بداية المقال ونعتي الاعتدال والتطرف المعمول بهما على المستوى الرسمي الغربي وأغلب وسائل الإعلام. غزا اليهود الصهاينة أرض العرب والمسلمين واغتصبوها وشردوا أهلها بقوة السلاح وفي وضح النهار. هذا إلا إذا كان هناك من يرى أن الغزاة هم العرب وأن الصهاينة استردوا حقهم بدحر المعتدين الآثمين. لكن إذا كنا على قناعة بأن العدوان أتى من الصهاينة وأن الأرض عربية إسلامية وأن الفلسطينيين هم أصحاب الحق والأرض فإنه لا يمكن أن يسمى القبول بدولة اليهود على أرض فلسطين اعتدالاً. القبول بها عبارة عن تطرف لأنه تنازل عن حق ليس كرماً وإنما هزيمة وعلى حساب تكامل الأمة وأرضها. وكذلك الأمر بالنسبة للقبول بالتشريد والتراخي في استعادة الحقوق.

هذا أيضا صحيح فيما يخص استغلال الثروات العربية من قبل الغير والتسليم بتجزئة الأرض العربية وفق إرادة المستعمرين. القبول بمظلة الغير من أجل الحصول على الأمن والاطمئنان يدخل ضمن نفس المنطق لأن من يسلم أمره لغيره لا يضمن عثرات المستقبل. التسليم بقرارات دولية تتغذى على الحقوق العربية وتنتهك حرمة الأرض والإنسان ليس اعتدالا وإنما عبارة عن تطرف يعبر عن عجز وعن عدم رغبة في التغلب على أسباب الضعف. المستسلم لضعفه متطرف لأنه يمنح الغير أو العدو الفرصة للسيطرة عليه وتطويعه واستغلاله. ومشكلته لا تكمن في أن نقيضه أو عدوه قوي وإنما في ضعفه هو والناجم عن إرادة خاوية. والإرادة الخاوية عبارة عن تطرف أيضا لأن صاحبها يتخلى عن طاقة داخلية هائلة تؤهله للتغلب على الصعاب وتحقيق التوازن الأخلاقي وإقامة الحق والدفاع عنه.

المتطرف نحو التنازل أو القبول بالاستغلال وسيطرة الآخرين عليه لا يقوم بالأمانة الملقاة عليه ويتخلى عنها. وبما أن التخلي عن الأمانة خيانة فإن المتنازلين عن الحقوق العربية تحت أي شكل من أشكال التبريرات يمارسون الخيانة. شعارات التعاون الدولي والمحبة بين الأمم والشعور بالمسؤولية تجاه الاستقرار العالمي وغيرها لا تجدي نفعا ولا تقنع طفلا يعي أن اللعب لا يستمر بكرته هو فقط. الاعتراف بإسرائيل ليس فضيلة ولا اعتدالا ولا الجلوس معها على طاولة المفاوضات ولا إقامة علاقات تجارية معها. هذه جميعها أعمال متطرفة لا يقبلها العقل ولا الإنسان السوي.

المعنى أن المتمسكين بالحقوق العربية من تحرير فلسطين إلى تحرير كل الأراضي العربية المحتلة وتحرير الثروات العربية والإنسان العربي من الاستبداد والظلم هم المعتدلون. الباحث عن القوة من أجل الدفاع عن نفسه وصيانة حقوقه واسترجاعها ليس متطرفا وإنما مؤمن بمبدأ كوني ينطبق عليه كما ينطبق على الآخرين. من الاعتدال أن يصر المرء على استعادة كامل الحقوق العربية سواء تلك التي انتهكتها إسرائيل أو الدول الاستعمارية. ومن الاعتدال تطوير أسلحة دفاعية ورادعة وبناء قاعدة زراعية واقتصادية تكفي العرب وتحررهم من الاعتماد على الغير. ومن الاعتدال أن يصر الشعب على حريته فيقاوم الاستبداد والقهر والقمع. وكذلك فيما يخص التعاون مع الآخرين الراغبين في العمل الجماعي من أجل خير الإنسان والتقدم الحضاري العالمي. المعتدل هو الذي يمد يده من أجل الخير وليس الذي ينبطح من أجل أن تدوسه الأقدام. وإذا كان هناك من تفسير آخر لهذا غير الجعجعة الإعلامية والفهلوة فبودي أن أسمع.

د.عبد الستار قاسم – باحث وكاتب فلسطيني

المصدر:
http://www.alwihdah.com/diversity-issues/extremism-and-moderation/2010-0...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك