إشكالية الحوار مع الآخر المختلف

إشكالية الحوار مع الآخر المختلف

ماجد الغرباوي

لم يكن الحوار مع الآخر المختلف طارئاً على فضاء الحضارة الاسلامية، ومنهجها في الدعوة الى الله تعالى، بل مارس المسلمون الحوار مبكراً على مستويات شتى مع حضارات وديانات ذات منحى فكري ـ فلسفي لا يلتقي بالضرورة مع الافق الفكري ـ الفلسفي للرسالة الاسلامية، بيد ان نقاط الالتقاء ساهمت في خلق مناخ ملائم لاستعراض الافكار ومعالجة الاشكاليات التي ارتهنت عقل الآخر واثارت تحفظاته ضد القيم الجديدة. وكان المنهج القرآني حاضراً في الحوارات العقيدية والفكرية، وكان المسلمون اشد حرصاً على الانطلاق من نقاط الالتقاء استجابة لقوله تعالى : (قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله، فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)، وقد تطورت العلاقة في ظل المنهج القرآني، الى مستوى الدخول في دين الله افواجاً، بعد التخلي عن ترسبات الماضي الثقافي والانفتاح على الحضارة الوافدة.

 

وبأسلوب (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) حسم المسلمون الحوار والمعارك الكلامية لصالح الحضارة الاقوى، وفتحوا امام اشعاعات الدعوة الجديدة آفاقاً رحبة امتدت لتطال اقاليم الشرق والغرب، متحدية بنموذجها كل الحضارات البشرية القائمة على الجهل واللادين . وهو نموذج فرض نفسه عبر معطيات منجزه الحضاري التي اثرت في الحياة، ورفدت الامم بزخم معرفي انتزعها من واقعها السيئ، وارتقى بها الى مستوى انساني رفيع في اعقاب ردح طويل من الزمن عاشته في ظل عبودية استبدادية قوامها القوة والعنف والتزوير.

 

ولم يواجه الحوار الحضاري الاسلامي في مراحله الاولى تحدياً إلا من قبل شعوب كانت تحتفظ بانساق فلسفية وسياقات فكرية تتحكم بأداء العقل وتمنع اي مراجعة من شأنها تقويض البنى الفكرية له .

 

فاضطرت، هذه الشعوب اخيراً الى التكيّف مع الوافد الاسلامي بعد مقاومة عنيدة، ونجحت بتقديم نموذج حضاري اسلامي تفوح منه رائحة الموروث الثقافي بقوة، وظلت الترسبات الثقافية ثاوية في اللاشعور تتحين الفرص لتؤكد ذاتها من خلال ما تقدمه من فهم للنص الديني. وربما اضفت، من منطلق القوة، المادية او المعنوية، قدسية للفهم الجديد تنافس قدسية القيم والمبادئ الاسلامية وربما تطيح بها، وقد تعكس في الخارج، في بعض الاحايين، صورة ملتبسة عن الدين يدفع الاسلام ثمنها ويتحمل المسلمون مسؤوليتها . ويتميز هذا النمط من التفكير ـ عادة ـ بمنحاه القومي، او القومي الاسلامي، وملاحقته المستمرة لبقايا حضارته المندثرة ليصيرها نموذجاً حضارياً يكافئ النموذج الاسلامي، ويطمح ان يدخل معه في نزال من اجل مستقبل لا يلغي الماضي، وان كان بالياً، وانما يستنفذ كل طاقته ليرسم له صورة مشرقة في اذهان اتباعه.

 

وهؤلاء لا يخفون احقادهم على الاسلام، ويعتبرون الفتح الاسلامي غزواً عسكرياً اطاح بحضارتهم، فيلعنون اللحظة التاريخية التي اتاحت فرصة الغزو لبلدانهم، وقضت على قيمهم، قيم الضلال والامية المقيتة.

 

ولم يتخل المسلمون عن شروط الحوار مع الآخر، رغم تماديه واصراره على التمسك بموروثه الثقافي المثقل بحمولته الفكرية اللادينية، واللاحضارية في احيان كثيرة . فلم يرفضوا الآخر ولم يتعالوا عليه، وظل جانبه الانساني نقطة مضيئة تستقطب الداعية الاسلامي كقاعدة اساسية للحوار. وبهذا الشكل ظلت العلاقة تحتضنها الروح الاسلامية بخصائصها الانسانية، وبشجاعتها في الانفتاح على الآخر مهما كانت درجات الاختلاف ونسبها.

 

وقد اثمر الانفتاح في تخصيب العلاقة وتطويرها ومن ثم استثمار العناصر الايجابية في الحضارات الاخرى بغية تمثلها واعادة صياغتها في ضوء البنى الفكرية والعقيدية للحضارة الاسلامية . ولعل الترجمة عن اليونان والفرس والهنود والروم تؤكد صدقية الاسلام في الانفتاح على الحضارات الاخرى، كما ان نجاح الاسلام في اقامة دول في : المدينة المنورة، الشام، بغداد، القيروان، المغرب، آسيا الوسطى، وتركيا، يؤكد حجم التأثير في الاوساط التي امتد اليها دون تراجع او خيبة امل، وذلك بفعل الغزارة المعرفية والعلمية والقدرة على توصيل المعرفة للاخر في اطار الشمولية الاسلامية .

 

ولم يكن الغرب بعيداً عن التأثر باشعاعات الحضارة الاسلامية، وقد اعترف علماؤهم بفضل الثقافة الاسلامية على تطور العنصر العلمي والمعرفي الغربي الذي اوجد النهضة الحضارية الحديثة .

 

وعندما نراجع فصول الحوار الحضاري التي خاضها المسلمون في القرون الاولى من تاريخ حضارتهم، لا نجد اية اشكالية تعيق حركة الحوار آنذاك، او تغير وجهته، فاشكاليات الحوار الحضاري، ايّ حوار ومع اية حضارة، تتلخص في اشكاليتين : الاعتراف بالآخر المختلف وعدم الغائه او تهميشه، والقدرة على الانفتاح والتفاعل الثقافي معه . والتاريخ الاسلامي معنا في تأكيد نقاء الاجواء الحوارية، في مقاطعها التاريخية الاولى، من اي من الاشكاليتين .

 

فالآخر في وعي الاسلام، اياً كان انتسابه الديني والعرقي، يتصف بذات المواصفات الانسانية للفرد المسلم، وحينما يعتنق الاسلام يقف على قدم المساواة في الحقوق والواجيات مع جميع المسلمين، بقطع النظر عن انحداره الطبقي او القبلي او الاقليمي . وقد اكتظ القرآن الكريم بخطابات موجهة الى مطلق الانسان : «ياايها الانسان ...»، «يا ايها الناس ...»، واعترفت تلك الخطابات القرآنية ايضاً بمعتنقي الديانات الاخرى «يا اهل الكتاب ...»، ولم يشعر المخاطب باي تعال او غطرسة في لهجة الخطاب، كما لم يواجه باي لون من الوان التهميش او الرفض . ولم يعش، في ظل النموذج الحضاري الوافد، اية دونية او تبعية تختزل الانسان او تشيئه، وظلت تشمله ـ كغيره من المسلمين ـ قيم التفاضل على اساس التقوى، بعيداً عن اللون واللغة والجنس .

 

واما على صعيد الانفتاح على الآخر المختلف فانه مبدأ قرآني رسخته جملة من آيات الذكر الحكيم، ومارسه المسلمون بثقة عالية دون تردد او وجل، حتى توغلوا في الممنوع وناقشوا اخطر القضايا بما فيها الغيب والمسلمات الايمانية، وكان رائدهم في كل ذلك المنهج القرآني الصريح في تعامله مع القضايا الفكرية والعقيدية .

 

هذه الارضية وفرت مناخاً صالحاً للحوار وساعدت على تطوير الفكر وتوالد المعرفة، ونجح المسلمون في اقتحام الموانع الفكرية المصطنعة وتواصلوا مع الفكر الآخر، يستنطقوه ويفعّلوا عناصره الايجابية ليتمثلوها ويعيدوا بناءها.

 

من هنا حقق الحوار الحضاري نتائج كبيرة على صعيد نشر الرسالة في ارجاء واسعة من العالم رغم تنوع الثقافات التي صادفت المد الاسلامي، الا ان تلك الثقافات لم تشكل تحدياً صعباً يعرقل حركة الاسلام، او يحد من قوة تأثيره في نفوس الشعوب التي انفتحت تواً على اشعاعات حضارته، بعدما وجدوا فيها صدقية واضحة في دعاواها الانسانية . * الحوار الحضاري الراهن

 

يختلف الحوار الحضاري الراهن عن سابقه باطراف الحوار، واشكاليات الحوار، فاذا كان الاسلام يمثل المركز والذات قبل قرون، فقد اصبح الغرب وامريكا بالخصوص تمثل المركز الذي تدور حوله الاطراف، وهي بلدان الشرق بشكل عام والبلدان الاسلامية بشكل خاص.

 

ثم ان الحوار الحضاري الراهن مبتل بالاشكاليتين المتقدمتين، لهذا يبقى التفاؤل بمستقبل افضل في ظله امراً صعباً. وليس هذا مجرد تحليل او توقع متشائم بل ان ما بايدينا من وثائق تكفي دليلاً عليه.

 

فليس وعي الغرب للاسلام يساعد على الحوار، وليس الانفتاح الثقافي لواقع المسلمين يؤيده . ومن هنا نحن بحاجة الى آلية اكثر فاعلية تطور اداء الحوار الحضاري الى مستوى يكافئ طموح المشاريع المقترحة له . وفي هذا السياق نحن بحاجة الى تفكيك الاشكاليات المعيقة للحوار واعادة بناء عناصرها بحيث تفضي الى صالح جميع الاطراف المشتركة فيه . وهنا سنلقي نظرة مكثفة على واقع اخطر طرفي الحوار الحضاري المرتقب، وهما الحضارة الاسلامية والحضارة الغربية، لنتعرف عن قرب على مدى اهليتهما للحوار من خلال دراسة تقيمية تطال الوعي المتبادل لكلا الحضارتين، وقدرة الاطراف المتحاورة على الانفتاح رغم درجات التباين بينهما. * الاسلام في وعي الغرب

 

منذ ان امسك الغرب بناصية العلم وبدأ اول خطواته على طريق التقدم الصناعي والتكنولوجي حتى اخذت تتراجع القيم الانسانية في منظومته الاخلاقية، وبدأت تحل قيم جديدة تكرس الحس العنصري، وتفترض وجود عناصر بشرية راقية، هو الغرب، واخرى تنحدر عن اصول متخلفة، هم الشرق، ومنذ ذلك الحين اخذ الغرب يحتقر الآخر ويهمشه ويفرض عليه انساقه الثقافية بعد ان يحطم بنيته المعرفية، وقديماً حوَّل الغربُ الشرقَ موضوعاً للدراسة والبحث بهدف استغلاله واذلاله، دون ان يعترف له بانسانيته، ولم يسمح له بحق الحياة مستقلاً عنه . وظل الآخر يدور في فلك المركز مقموعاً في داخله، مضطهداً، يتخطفه بريق الحضارة الغازية، ويلهث من اجل اللحاق بها.

 

وعندما شعر الغرب بخطورة المد الاسلامي في القرن الراهن توجس خيفة، وصار يخطط بجد لتحجيمه والقضاء عليه، من موقع القوة والتعالي والشعور بالفوقية والتسلط . ثم توالي التنظير لمستقبل العلاقة مع الآخر المختلف .

 

وفي هذا الصدد صدرت في عام 1989م نظرية «نهاية التاريخ» في اعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، حينما اعلن فوكوياما : «ان الديموقراطية الليبرالية .. تشكل فعلاً منتهى التطور الايديولوجي للانسانية، والشكل النهائي لاي حكم نهائي». وسوف «لايبقى في نهاية التاريخ اي منافس حقيقي للديموقراطية الليبرالية».

 

وهذا الخطاب صريح في الغاء جميع الحضارات الاخرى، ولم تبق، في نظر فوكوياما سوى الحضارة الغربية بعد ان انتصرت مبادئها الليبرالية، ولم يعترف بشيء لاحد، حتى للاسلام الذي صرح فوكوياما بانه «يشكل نظاماً آيديولوجياً متماسكاً، شأن الليبرالية والشيوعية، وله نظامه الاخلاقي الخاص وعقيدته الخاصة في العدالة الاجتماعية». فكيف يمكن للغرب ان يخوض حواراً حضارياً مع طرف لم يعترف به بعد؟!

 

وتلا فوكوياما منظّر الفكر السياسي الامريكي صاموئيل هانتنغتون، الذي اعلن في نظريته «صدام الحضارات» : «ان المصدر الاساس للنزاعات في هذا العالم الجديد لن يكون مصدراً آيديولوجياً او اقتصادياً في المحل الاول، والمصدر المسيطر للنزاع سيكون مصدراً ثقافياً، وان النزاعات الاساسية في السياسات العالمية ستحدث بين امم ومجموعات لها حضارات مختلفة، وسيسيطر الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، ذلك ان الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك، وسيكون النزاع بين الحضارات هو المرحلة الاخيرة في تطور النزاع في العالم الحديث».

 

وقد استخدم هانتنغتون خطاباً تحريضياً عبأ فيه الغرب فكرياً ضد الحضارات الاخرى، فصور العلاقة بينهما علاقة تصادم وفق حتمية هو يفترضها، ليضع الغرب، وبالاخص امريكا، امام مسؤولية مستقبلية خطيرة، بعد ان افترض الحضارات الاخرى، ولاسيما الحضارة الاسلامية العدو الذي سيرث الاتحاد السوفياتي، وبهذا الافتراض يسوغ الغرب سياسة العداء ضد الشعوب والامم والحكومات، ويكرس الهيمنة الطامحة الى استغلال ثروات البلدان والسيطرة على مفاصل القوة فيها.

 

ثم اخذ الغرب يطرح العولمة كمشروع جديد لفرض انساق الثقافة الغربية على العالم اجمع، مستفيداً من وسائل الاتصال الحديث والثورة المعلوماتية المتصاعدة.

 

والغرب حينما يفعل ذلك يتوخى الغاء الانساق الثقافية الاخرى، او تحييدها، لتتغلغل انساقه الثقافية في اوساط يترقب استتباعها والحاقها بالفلك الغربي. وحينما تهمش الثقافة وتستأصل عناصرها الفاعلة ستفقد الهوية مكوناتها الاساسية، وبالتالي ستضحي باصالتها، وتهتز لدى الانسان جميع القيم والموازين، ومن ثم يستمرىء التبعية للغرب ويزهو في علاقته معه، وهو ما يقصده الغزو الثقافي الغربي للبلدان الشرقية بشكل عام، والبلدان الاسلامية بشكل خاص .

 

وتأسيساً على ماتقدم تبقى اشكالية الاعتراف بالآخر المختلف عنصر الاخفاق في الحوار الحضاري المرتقب . فنحن مطالبون في خطوة سابقة على الحوار، تؤهلنا للحوار مع الغرب، الذي بدأ هاجساً يلاحقنا ويفرض علينا باستمرار نموذجه الحضاري المرعب، ولا نتأهل للحوار ما لم يعترف بنا الغرب مسبقاً، وهنا بالذات نحن مطالبون بامتلاك اللغة التي يفهمها الغرب ويتفاهم بها، وهي لغة القوة والتطور التقني والتعددية والديموقراطية في الحكم والحرية في ابداء الرأي والصراحة في التعبير عن قناعاته. ولا اظن الغرب يلجأ الى المساحات الانسانية في كلا الحضارتين ليصنع منها محطات انطلاق في قضاء الحوار الحضاري. * الانغلاق على الذات

 

وهي اشكالية تعم كلا الحضارتين، فالتعالي والفوقية اللذان ابتليت بهما الحضارة الغربية لاتسمح لهما بالانفتاح على الثقافات المناوئة، ويبقى الغرب يرفد الشعوب بالثقافة والمعرفة والعلم، ويبقى الآخر يتلقى ما تجود به الحضارة الغازية، وهذه نظرة مجحفة لا تساعد على نجاح الحوار الحضاري، بل يجب ان يبدي الغرب مرونة كافية، ينفتح من خلالها على كنوز الحضارات الاخرى وان لا ينسى ما فيه مع العلوم والمعارف الاسلامية التي اقتات عليها زمناً طويلاً، وارسى في ظلها اسس حضارته الحديثة .

 

وعلينا نحن ايضاً ان لا ننغلق على الذات الى حد رفض كل مالدى الغرب من ثقافة، فان الآخر المختلف من شأنه ان يطور الثقافة من خلال اشكالياته واستفهاماته التي يثيرها باستمرار.

 

فرغم اهمية المشاريع المقترحة للحوار وضرورتها لكن يجب ان نتوافر على مقدماته اولاً لكي نحقق نتائج افضل لمستقبل الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، والا سنخسر الحوار وربما نذعن لتحديات الحضارة الغربية .

 

المصدر: موقع الجامعة الإسلامية

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك