دعوة مفتوحة لسلام شامل واستئصال مصطلحات النزاع الشامل
دعوة مفتوحة لسلام شامل واستئصال مصطلحات النزاع الشامل
اقرأ الكثير من المقالات والكتب التي تذكر تاريخنا القديم والحديث والوسيط عن كيفية تعايش أسلافنا بسلام ومحبة ويذكرونا بتلك السنون التي عاشوا فيها والمحبة تغمرهم والتلاؤم ، ولكنهم نسوا ان يزرعوا تلك المفاهيم فينا ، ولم يهيئوا الأرض الخصبة لزراعتها ، يطلبون منا ان نعيش بسلام ويذكرونا بتنوعنا ، ولكنهم نسوا كيف يجعلوا من التنوع وحدة ، يجعلون من الاختلاف قوة ، ويضعون الاليات للتعايش السلمي . الادوات الصالحة التي تعمل ، بدون شعارات ، بدون دعوات خاوية بالية اكل عليها الدهر وشرب.
هي دعوة مفتوحة للثورة على العقل والماضي ، للثورة على القيود التي حبسنا فيها منذ سنين ولم نعرف كيف نتحرر منها ، إنها المصطلحات والمفردات التي زرعت فينا بذور التفرقة ، آن الأوان للتخلص منها ، آن الأوان لوضع آليات حقيقية هادفة لاستئصال تلك المفاهيم الجوفاء التي عمقت الشق دون ان ترتقه ، وسعت الجرح عميقا دون ان تردعه ، هنا نتكلم عن المصطلحات ودورها في تنمية المجتمع وتوعيته نحو السلام.
المصطلحات :
المصطلحات نشأت قديما، ونشأت لحاجة الناس إليها، وأصبح بذلك يتولد المصطلح شيئا فشيئا ويزيد المصطلحات إلى أن صارت في عقلنا الحاضر لعبة من اللعب وأثر أو عامل مهم في التأثير في اتجاهات الناس وفي تفسيراتهم.
ولهذا يمكنني أن أجمل أن سبب اختياري لهذا الموضوع أن موضوع المصطلحات والبحث في ذلك مهم:
لأن المصطلحات تمثل مفاتيح متعددة من أنواع المعرفة، المعرفة في أي نوع من أنواع العلوم و مفاتيح تلك المعارف والعلوم إنما هي المصطلحات.
والأمر الثاني أن المصطلحات لها تأثير سلبا وإيجابا في المعرفة ، وفي سلوك الناس من حيث هو، وفي سياسات الدول وتأثير تلك السياسات على الناس وفي السلوك وفي التعبد وفي تنمية المجتمعات والمدنية وإقامة الحضارة.
ثالثا المصطلح وسيلة لنقل الأفكار بألفاظ محدودة وترتيب المعاني الظاهرة والباطنة في ألالفاظ، ربما خُدمت بعد ذلك وولدت من اللفظ الذي لا يحتمل مع النص ولدت منها معاني متجددة في المستقبل لأجل احتمال اللفظ أو من أجل احتماله بتعلم أو بوضع أهله على عدة اتجاهات ومعارف.
أيضا المصطلح من حيث هو يوجه العقل إلى معنى يرسخ فيه، فهو في الحقيقة تعريف للذات، فإنه يتصور الشيء إذا أطلق المصطلح، فإذا أطلق المصطلح الجديد وجعل هذا المصطلح على شيء ما فهو كاسم فلان لأنه يتبادر إلى الذهن المراد به كذا، وهل هذا المصطلح يدل على ما جعل لإزائه أو لا يدل وهل هو صحيح أم ليس بصحيح؟ هذا خارج عن البحث في من أنشأ هذا المصطلح؛ لأنه مصطلح يجعل العقل لا يفكر في الكلمة إذا وردت إلا بالتفسير.
لهذا أحسن بعض الباحثين أو بعض الحكماء أو بعض الفلاسفة إذ قال يشعر بأهمية الألفاظ والمصطلحات وتأثير تلك الألفاظ والمصطلحات في الناس يقول: من الألفاظ ما يشعر بوجود أفكار عدة لا تتناولها تلك الألفاظ. ويقول أيضا: إذا شاع اللفظ تشعّبت معانيه بحسب معقول مستعمليه. يعني أنه ربما فسّر هذا اللفظ والمصطلح فلان من الناس غير التفسير الآخر؛ لأنه محتمل، ولماذا يفسّر لأنه أُثّر عليه بأن يفسر هذا اللفظ بهذا التفسير لتأثيرات أخرى.
وهنا يبدأ دور المجتمع الذي يتداول المصطلحات التي تزيد الشق عمقا ، فبدل ان نستخدم مصطلحات إقليمية او تمحورية ، نستخدم مصطلح الجميع و نكثر من استخدام (نحن) بدل انتم ، او انت او انا ، لنشعر الاخر اننا معه نفهمه نتعامل معه .وسوء الفهم يولد مشكلات عميقة .
مشكلة سوء الفهم أو التفاهم واحدة من القضايا المهمة التي تعيشها حالتنا الدينية والتي نجد تجلياتها بصورة واضحة في عدة أمور:
1. ما نعيشه من جفاء لبعضنا البعض على الصعيد الفكري سواء كان هذا الجفاء مقصوداً أم لم يكن.
2. حالة اللاثقة في التعامل مع الأخر ومواقفه.
3. حالة التراشق الإعلامي المبطن في بعض الأحيان وتوزيع التهم.
4. محاولة إقصاء الآخر، أو فكره عن الساحة، وتصنيفه في قائمة الممنوعات غير المرغوب في اقتناءها.
هذه الصور وغيرها إنما هي مشخصات الظاهرة المرضية التي نحن بصدد بحثها وهي واحدة من الظواهر التي تعيشها ساحتنا العراقية على صعيد الفكر والواقع، لها أسباب ولها أيضاً طرق علاجية.
إن الحقيقة هي الثابت الذي ينبغي أن يتمحور حوله الجميع، وما عداها لا ثبات له ومن هنا لا يمكن التخلي عن الثابت لأجل المتغير المتحرك فضلاً عن جعله محوراً ندور حوله ونرتكز عليه في اتخاذ المواقف والقرارات ـ قريبة أو بعيدة المفعول ـ خصوصاً حين تكون آليتها وتوجهها هو التعامل مع الأخر.
ومن نافلة القول أن القرآن ركز كثيراً على الثابت وضرورة التعامل الفعّال معه فإنّه الباقي وغيره يقول عنه القرآن ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً… ) .
فالماء في هذه الآية هو الثابت الذي نتحرك نحوه ونتمسك به، والسراب هو ما نعتقده نحن في كثير من الأحيان أنه الحقيقة ونتحرك على أساسه والحال انه لا وجود له إلا في الذهن.
وللتأكيد على نفس الحقيقة يذكر القرآن مثالاً أخر في قوله تعالى ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء… ) .
ولتعميق هذه الحقيقة في نفوس البشر يقرر القرآن هذا الأمر ـ التمحور حول الحقيقة ـ بصورة محسوسة يدركها الإنسان ويتفاعل معها أثناء حركته اليومية.
( ..كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) .
وهذا يعني أنه لا يوجد ثبات إلا للحقيقة ـ التي هي محور الكون ـ ومهما حاولت النظريات أن تصوّر عكس ذلك وتشبه الباطل بالحق في بعض الأوقات فإن ذلك لن يبدل شيئاً ولا وجود له إلا في أذهانهم فقط.
وهل يمكن أن نستمد الحق من الباطل أو نثبت الوجود بالعدم ونعتمد عليه في الوصول إلى الحقائق كأساس علمي رصين.
ومن هنا يمكن أن نصف معارضة الناس للأنبياء(ع) حيث أن الأنبياء(ع) جميعاً تحدثوا عن الله تعالى كمفهوم مجرد بينما حاول الناس فهم هذه الحقيقة على أساس حسي مادي لأن عقولهم لم تكن تمتلك القدر الكافي من النضج والفهم بحيث يدركون معنى هذا المفهوم كما يقول القرآن (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة).
ولذا من الضروري فهم هذا الأمر وجعله مرتكزاً نتعامل معه في حياتنا الفكرية والسلوكية ولا يمكن التعامل مع الأخر من دون تقرير هذه الحقيقة بصورة واضحة وجليّة ثم التفاعل معها بنحو من الإيجابية لتصبح سلوكاً حركياً يصبغ حواراتنا وفهمنا للأخر.
وعلى ضوء ما ذكرناه في هذه المقدمة لو نظرنا في مختلف اختلافاتنا وأزماتنا ـ المصطنعة ـ نجد أنها بسبب عدم رجوعنا إلى ما يقرره العقل والمنطق فالكثير منها إنما ظهرت نتيجة لمقدمات ليس لها منشأ في الأصل إلا الذهنية غير الإيجابية في التعامل مع الآخر وتراثه الفكري والحركي غير الممنوع قراءته، وعدم تناوله بشيء من التأمل والتأني ومن دون الدخول إليه بمستبقات فكرية وموقفية تستتبعها أحكام قد لا يكون لها كثير من المصداقية والواقعية.
وهذه الأحكام والمستبقات منشأها التعاطي الثقافي والفكري غير المعقلن مما يؤدي إلى استصدار نتائج مبنية على سلسلة مقدمات لا تمت إلى الواقع بصلة وعند الرجوع إلى العقل نجد انه يجزم بعدم صحة الاستصدار إلا بعد تناول تراث الآخر بنوع من الوعي والفهم الدقيق.
ومفصل هذه الظاهرة يكمن في عدم تواصلنا مع هذه الحقيقة، ولذا تطفو على السطح بين الفينة والأخرى مجموعة من المشاكل مسببة الكثير من التباعد. ونتهم بسببها بعدم النضج الحركي، وعدم التأهيل السلوكي لأن نصبح عنصراً فاعلاً يقدم ما هو الأفضل لخدمة الحقيقة.
ومن هنا ينبغي أن نقرر بأن اكثر خلافاتنا ليست في واقعها خلافات حقيقية كبرى ولا يمكن حلها مما يجعلها معضلاً. بل هي على العكس تماماً، خلافات في جوهرها نتيجة لعدم فهم الأخر احياناً، أو عدم السعي لفهمه في أحيان أخرى ونكون بذلك ناسين أو متناسين حقيقة مهمة وهي أن وجودنا بأكمله ينبغي أن يسخر لغرض خدمة الحقيقة والتعايش مع الأخر والتعاطي معه بنحو من الإيجابية والوصول معه إلى تحقيق الجوانب المشتركة.
ومعلوم سلفاً انه لا يمكن التعايش مع الأخر إلا بالتعارف، وهذا لا يمكن تحقيقه أيضاً إلا بالتفاهم.
فكيف يمكن أن نتفاهم؟
هل بقسر الأخر؟
أم بأقصاءه وفكره؟
أو بمصادرة حقه في التعايش والتنافس الإيجابي؟
فهذه كُلّها يرفضها العقل ليقرر مكانها لغة أخرى وهي لغة التحاور التي هي قانون إلهي قام عليه الكون ففي البدء كان التحاور كما يذكر القرآن ويضرب لنا نماذج حوارية بين الله تعالى والملائكة في خلق خليفة على الأرض وكان بمقدوره ـ تعالى ـ عدم ذلك ولكنه النظام الأفضل فقد حاور الله تعالى ملائكته وفيهم المدبرات أمراً كما في قوله تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك..) .
وأيضاً حاور إبليس عن سبب رفضه الخضوع لآدم… ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه.. ) وإذا كان ربنا العظيم سبحانه وتعالى يدخل مع عباده الضعفاء الذين لا قيمة لهم ولا وجود لهم إلا بفضله ورحمته في حوارات يجيب على اشكالاتهم وتساؤلاتهم فهل يحق لأحد بعد ذلك أن يترفع عن النقاش أو يعتبر رأيه فوق التساؤلات والاشكالات. وكذلك الأنبياء جميعاً(ع) ما كانوا في تبليغهم يقسرون أو يقصون أحدا بمنطق القوة أبدا، إنما كان طريقهم هو التحاور واثبات الحقيقة بقوة الحجة وسورة الشعراء كاملة تصلح نموذجا لحوارات الأنبياء مع أقوامهم.
ومن هنا لا يحق لأحد فرداً أو جماعة ـ ومهما كان شأنه أو مركزه أو قوته اجتناب سبيل الحوار والتمسك بأساليب أخرى تؤدي إلى قطع سبيل التعايش.
الظاهرة واسبابها :
هذه الظاهرة ونعني بها سوء الفهم للآخر تحتاج إلى مزيد عناية وبحث ولا ندعي هنا تحقيقها وتقصيها بكاملها إنما هي محاولة متواضعة لمعرفة بعض أسبابها فهي نتيجة لها مقدمات، وقد ساهمت إلى حد كبير في خلق الخلافات حتى باتت مقروءة للمتتبع للأدبيات الحركية والفكرية في الوسط الإسلامي.
فما هي أهم تلك الأسباب؟
وما هي الطرق العلاجية لها؟
أما أهم تلك الأسباب فهي:
1ـ عدم لقاء الأخر:
فأن الكثير من المسلمات إذا غُيبت تغيب نتائجها كما يقرر علماء المنطق، ومن هنا يكون التقاء الأخر داعم أساسي للقضاء على الكثير من الطفيليات التي قد تعلق بالجسد الإسلامي وتعيق فهم بعضنا البعض فتكون منشأ للتراشق الإعلامي.
فالكثير من الاختلافات الواقعة بيننا إنما تعود في حقيقتها إلى غياب هذه المسلمة المفروضة عقلاً وشرعاً. ولا سبيل للقضاء عليها إلا بلقاء الأخر في حوار منطقي تسوده أجواء الموضوعية وحمل الأخر على احسن ما يمكن كما يقول أمير المؤمنين… (احمل فعل أخيك على أحسنه) (واحمل أخاك على سبعين محملاً من الخير).
وهنا لابد أن يعرف المتحاورون أن الدخول في حوار عميق لابد أن يسبقه التعرف على أمور عدة:
1ـ إن الاختلاف بين البشر موغل في القدم فهو ملازم للإنسان منذ وجوده على هذه الأرض.
فلا توجد أمة أو شعب أو ملة لا تعيش الاختلاف في الفكر أو المعتقد وقد خلقنا الله تعالى مختلفين في الألسن والألوان والصفات النفسية والجسدية ويندر أن يجد الإنسان شخصين متفقين من حيث المستوى الفكري والعقلي والتعاملي فإذا جعلنا هذا الاختلاف مقدمة فالنتيجة الطبيعية له هي اختلاف الأذواق والأحكام على ما يجري في الواقع.
وقد يعيش الواحد منا الاختلاف حتى مع ذاته، ويحتاج إلى الحوار معها أيضاً. فليس الاختلاف غريباً على الإنسان أو الإنسان المسلم المعاصر فقد عاش الـــمسلمون الأوائل الاختلاف في الرأي، إنما الغريب في الاختلافات المعاصرة هو حب التفرد أو قسر الآخرين على الاقتناع بأنا الغير وهو أمر غير ممكن واقعاً.
(من العبث كل العبث أن يراد صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء وجعلهم نسخاً مكررة، ومحو كل اختلاف بينهم، فهذا غير ممكن، لأنه مخالف لفطرة الله التي فطر الناس عليها ـ ويقصد الاختلاف طبعاً ـ وغير نافع لو أمكن لأنه لا نفع في مخالفة الفطرة بل من خالف الفطرة عاقبته عقاباً معجلاً).
2ـ إن التعايش مع هذه الاختلافات يحتاج إلى فهم مسبق لكيفية التعايش في ظل الاختلاف، وهذا يستلزم وجود النفسية الإيجابية والموضوعية المنفتحة ولابد أن يكون لديها القدرة على تسخير هذا الاختلاف كعامل يدفعنا للبحث عن الحقيقة فلا يوجد أحد فوق البحث عن الحقيقة، أو يدعي أن الحقيقة في صفه وبجانبه ـ إلا المعصوم ـ والبحث عن الحقيقة لابد أن يكون شعاراً يحمله الإنسان فضلاً عن المتسم بصفة أو صبغة معينة (والحكمة ضالة المؤمن…).
2ـ عدم وضوح الأخر:
ومن أهم الأمور التي تعقّد مسيرة الحوار وينشأ بسببها سوء الفهم للمواقف أو الآراء وجود نوع من الغموض والضبابية يلفّان موقف الأخر.
ومنشأ هذأ الغموض تذرع هذا الطرف أو ذاك بما قد يكون له نوع من المصداقية احياناً بسبب ما تعيشه الساحة من ظروف تحتم ذلك في بعض الأحيان وقد يكون الولوج فيها يشكل نوعاً من اقتحام الأخر أو ممنوعاته، ولكن هذا الأمر لا يمكن أخذه بالجملة.
ونستطيع القول أن الغموض في الموقف له جانبان:
(أ) غموض لابد منه، وهو الذي يكون نقطة قوة لمزيد من الحذر والضبط الحركي نحو مزيد من التعقيد والتخبط في موقف الآخر ولا نستطيع ممارسة هذا النوع مع الآخر القريب الملتقي في مشترك واحد.
(ب) غموض غير مرغوب الالتزام به تجاه المشترك في الثابت الواحد ولا يجوز التذرع بأي سبب وجعله حجة لعدم الوضوح وبيان الموقف بصورة ملموسة لا تترك للآخر مجالاً لعدم الفهم ـ أو الفهم المغلوط ـ لموقف الآخر تجاه ما يجري من أحداث ووقائع.
3ـ عدم قراءة الآخر:
وهنا نوعان من عدم القراءة:
1ـ أما عدم قراءة الأخر، وهذا نوع من التقصّد في عدم الفهم.
2ـ أو قراءته بصورة مغلوطة.
وفي حقيقتهما يعودان إلى عدم القراءة، لأنه ثمة تعمد لعدم بغية الفهم أو استقاء هذا الفهم المغلوط من مصادر مشوشة أو غير قادرة على نقل الأخر إلينا.
وهذه من أهم الأخطار التي تحدق بنا.
فقد نجد احياناً ـ وهذا ليس من قبيل المبالغة في القول أو مجاوزة الواقع ـ من يوصد الباب بسبب أو من دونه أمام تناول الفكر أو الموقف لا لشيء سوى لأنه يختلف معنا في الرؤية والأسلوب مع أن القرآن اقر تنوع الأسلوب في العمل (قل كل يعمل على شاكلته..) .
بل القرآن أقر التعدد في الرأي، وذهب إلى ذكر، رأي الآخر مع فساده وعدم تناغمه مع مسيرة القرآن.
ثم أنه ليس من الضروري أن نقرأ الفكر أو الموقف من أجل الإيمان به ـ مع أن الحق ينبغي أن يتبع ـ ولكن لأجل الموضوعية وانصاف الفكر أو تقيّمه على أساس رصين. هذا من جانب.
ومن جانب آخر قد يقرأ الآخر بشكل مغلوط بسبب التراكمات ومصادر الاستقاء فقد تكون تلك المصادر فاقدة للدقة والاستقراء التام، أو تكون تعتمد تشويه وتزوير الحقائق كمنهج قدحاً منها للحقيقة ووصولها، وبذلك تجرد نفسها من أهم صفة يجب أن تتمتع بها المصادر الناقلة وهي الأمانة والإنصاف في التعاطي مع المعلومات ونقلها إلى الآخرين، وليس من المعقول حجب المعارف والحقائق لأنها تختلف معنا في الرأي، وهذا يعني تحويل الاختلاف والتنوع الفكري عن هدفه ـ وهو إثراء الساحة بمختلف الأفكار ثم تترك الحكم للمتتبع القادر على استصدار الحكم متجرداً عن الذات والذاتيات ـ وجعله اختلافاً لأجل الاختلاف وليس ذلك من الموضوعية والإنصاف في شيء.
وللخروج من هذه الأزمة التي قد تؤثر على مسيرة الحالة الدينية، وتعيق من تقدمها لابد من:
1 ـ النفسية الإيجابية:
من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان والمؤمن بالخصوص هي أن يتحلى بكل ما من شأنه أن يسمح في تقدم الحالة، لأنه يعكس الصورة للجهة التي ينتمي إليها ومن أهم تلك الصفات الروح الإيجابية في التعامل مع الآخر وإن كان مخالفاً وفي تراث أئمتنا(ع) الكثير مما يمكن أن يقتنص ويتأسى به الإنسان كما يقرر ذلك القرآن ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وفي مقام آخر يقول القرآن في وصف النبي(ص) ( وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) مع علم النبي(ص) الجازم بصحة طريقه، ولكنه احترام الأخر أو لنقل بصورة أعم من ذلك هي الروح الإيجابية تجاه الأخر التي كان يحملها(ص) .
وهذا لا يكون إلا بعد التعرف على الهدف الذي وجد التنوع لأصله، وأنه قائم في كل شيء حتى الكون قائم على التنوع، بل النوع الواحد يعيش التنوع الافرادي وهذا التنوع هدفه أن يسير كل موجود نحو غايته ليحققها، كذلك الاختلاف في الرأي غايته الإثراء والوصول إلى الحقيقة.
والتعامل الإيجابي مع الآخر يحتاج إلى العقلنة والنضج الفكري والوعي السلوكي لأنه مخلوق وله دور يسعى نحو تحقيقه.
فإذا قبلنا هذه الأمور فمن الطبيعي أن تخلق حالة من التنافس الشريف بين الأطراف العاملة ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) .
وهذا هو الذي ينشده القرآن، مضافاً إلى سيرة الرسول وأهل بيته(ع) توقفنا على ضرورة أن نحمل هذه الروحية والنفسية الإيجابية وحتى وإن أوغل الآخر في السلب واستيقظت غرائزه الطينية التي تدفعه نحو مزيد من الهبوط في وحل الخطأ.
2 ـ معرفة المشترك:
هذا التركيز على هذه الظاهرة والحديث عنها وهذا التنوع الخلقي في الكون يقابله وجود مشترك يجمع أفراد كل نوع ويشدهم إلى بعضهم وما يقرره القرآن بحق الإنسان مما لم يعط لغيره من المخلوقات ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) حيث يقرر أن الله تعالى فضل البشر على غيرهم معرضاً ابرز سمات هذا التفضيل أن وهب إليه هذا النور الإلهي ـ العقل ـ وجعله مقياساً للثواب والعقاب، وبه استطاع الإنسان أن يقتحم هذا الفضاء الرحب ويوصل معارفه إلى ابعد من القمر.
والعقل جامع مشترك بين بني البشر.
وحدة الهدف والغاية والمصير.
وغير هذه من الأمور المشتركة التي توحّد مصيرنا وغايتنا كافية في صهرنا في بوتقة الاجتماع والعمل المشترك.
ولو نقب الإنسان لوجد أن عوامل الاجتماع هي اكثر بكثير من عوامل الافتراق فلابد من الالتفات إليها والتعاون على أساسها الاتفاق.
فالإنسان أما أخ في الدين أو نظير في الخلق.
هذه الظاهرة الموسومة بسوء الفهم للأخر لها أسباب ومسببات فإذا ما تعرف الإنسان على خطر هذه الظاهرة وقرأ خطر الفرقة وما تسببه من حروب عبثية نخلقها هنا وهناك باسم الدين احياناً والمصلحة أخرى والدفاع عن النفس ثالثة… الخ.
هذه الظاهرة تنتهي من حوض الوجود إذا ما ركزنا على نشر الجوانب الاتفاقية بيننا ونحن نتفق على أمور هي اكثر من أن يحصيها الإنسان بقلمه فنحن نتفق على اكثر الأصول وكل الفروع وتجمعنا شهادتان وأربعة إقرارات، أو تجمعنا ثلاث شهادات وخمسة إقرارات فأين هذا من ذاك؟ وأين الاتفاق الكلي من الاختلاف الجزئي؟
وأين الاتفاق على الأهداف من الاختلاف في الوسائل؟