الحق والحق الآخر

الحق والحق الآخر

محمد بن صالح الدحيم

"إن مشكلة النـزاع البشري هي مشكلة المعايير والمناظير قبل أن تكون مشكلة الحق والباطل، وما كان الناس يحسبون أنه نـزاع بين حق وباطل، هو في الواقع نـزاع بين حق وحق آخر؛ فكلُّ متنـازع في الغالب يعتقد أنه المحق وخصمه المبطل، ولو نظرت إلى الأمور من نفس الزاوية التي ينظر منها أي متنازع لوجدت شيئاً من الحق معه قليلاً أو كثيراً"(1).

 

وهذه حقيقة نغفل عنها أو نتغافل ونحن نقرأ أو نستمع للمخالف؛ بسبب ما استقر في عقلنا الباطن من امتلاكنا الحقيقة وانعدامها لدى الطرف الآخر، الأمر الذي يحول بيننا وبين الإفادة منه أو إمكانية التعايش معه، بل يحملنا على العداء و... و...

 

إن هذا اللون من التعامل لا يجعلنا نصل إلى الحقيقة؛ لأنها موزعة، وإنما المهارة في اكتشافها واقتناصها في تكامل جميل التركيب منتظم العقد، يقول الشاطبي: "إنما تُعرفُ الحقيقة إذا عُرِفَ جميع ذاتياتها"(2).

 

يذكر ابن تيمية -رحمه الله- مثالاً لذلك؛ فيقول: "...كثير من أرباب العبادة والتصوف يأمرون بملازمة الذكر، ويجعلون ذلك هو باب الوصول إلى الحق، وهذا حسن إذا ضموا إليه تدبر القرآن والسنة واتباع ذلك، وكثير من أرباب النظر والكلام يأمرون بالتفكُّر والنظر، ويجعلون ذلك هو الطريق إلى معرفة الحق، والنظر صحيح إذا كان في حقٍّ ودليل... فكل من الطريقين فيها حق لكن يحتاج إلى الحق الذي في الأخرى، ويجب تنـزيه كل منهما عما دخل فيهما من الباطل"(3).

 

ويعلل ابن تيمية لذلك بقوله:"وسبب ذلك أن الإنسان فيه ظلم وجهل، فإذا غلب عليه رأي أو خلق استعمله في الحق والباطل جميعاً"(4).

 

وابن تيمية ينظر إلى حقيقة أكبر، وهي أن العالم مزيج فهو يقول:"ودار الرحمة الخالصة هي الجنة، ودار العذاب الخالص هي النار، وأما الدنيا فدار امتزاج"(5).

 

وهنا تكمن مشكلتنا حين نطلب مصلحة محضة أو حقاً محضاً، أو نحاذر مفسدة محضة أو باطلاً محضاً، دون اعتبار الأرجحية ومراعاة الأغلبية اللذين هما طبيعة المزيج، وحقيقة مشكلتنا هذه طموح (لا يعدو أن يكون طموحاً مثالياً صادراً عن رؤية لا تستقيم مع مجاري العادات ولا مع ما يجب أن يتوفر عليه رجل العلم من فقه بالواقع المعيش"(6).

 

وإذا كان الاكتفاء له هذه الآثار فكذلك الارتماء تضيع معه الحقيقة حين لا يمتلك صاحبه القوة ممتـزجة مع الحكمة ليطرح ما لديه وهو يستمع ما لدى الآخر، وأخطر ما تكون الحال حين يكون الارتماء مع غياب الشعور وفقدان التوازن.

 

والمقصود أن المكتفي والمرتمي كل منهما يعيش ببعض الحقيقة، ونحن بحاجة إلى تربية تعيدنا إلى التوازن في تصوراتنا وأحكامنا؛ لتتحقق مقاصدنا ونأمن على أهدافنا.

 

سدد الله الخطا وبارك في الجهود. * محمد بن صالح الدحيم : القاضي بمحكمة الليث - السعودية

 

الهوامش :

1- علي الوردي حقيقة اللاشعور (ص 61).

2- الموافقات (1/69).

3- نقض المنطق (ص 35).

4- الفتاوى (2/321).

5- الفتاوى (10/62).

6- الفكر الأصولي لعبد المجيد الصغير (ص 531).

 

المصدر: موقع الإسلام اليوم

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك