حرية الرأي والتفكير بين المراهقة والانتهازية والتكفير
حرية الرأي والتفكير بين المراهقة والانتهازية والتكفير
ليلى أحمد الأحدب
تروي إحدى حكايات الأطفال قصة حذّاء قروي صنع حذاء أحمر ذا ساقين، وكان جميلا جدا إلى الحد الذي جعل زوجة الحذّاء تنصحه بتقديمه هدية لملك البلاد، فقصد المدينة حيث يقيم الملك، وهناك اعترضه كلٌّ من الحارس على سور المدينة وحارس القصر وحاجب الملك الخاص بالترتيب، ولم يسمح له أي واحد منهم بالمرور إلا بعد أن سأله عن هدفه من زيارة الملك وطلب منه رشوة ثلث المكافأة التي سينالها، فرضي صانع الأحذية؛ ولما دخل على الملك قبل الهدية منه وسأله عن المكافأة التي يريدها، فطلب تسعا وتسعين جلدة، وتعجب الملك بالطبع لكنه أمر كبير وزرائه أن يعاقبه بجلده تسعا وتسعين جلدة خارج المدينة، وخرج الحذّاء برفقة كبير الوزراء، وهو يومئ لكل من الحراس الثلاثة كي يلحق به ليمنحه ما وعده، وتبعهم أناس كثيرون وقبل أن يخضع صانع الأحذية للعقوبة/المكافأة سأل كلا من الرجال الثلاثة إذا كان ما يزال مصرا على إبرام العهد الذي اتفق عليه معه فأجابوا جميعا بالموافقة، فلم يردهم الحذّاء خائبين، وطلب من كبير الوزراء أن يجلد كلا منهم ثلاثا وثلاثين جلدة، وعلت هتافات الجماهير بحياة صانع الأحذية الذكي الحر، ولما وصلت الضجة للملك هنأ صانع الأحذية على ما فعل وكافأه بما يستحق.
تداعت هذه القصة في ذاكرتي وأنا أقرأ تلك الحكاية التي جرت فصولها في بلد عربي وكان بطلها شابا لا يتجاوز العشرين من العمر، وقد نجح في الثانوية بتفوق كبير أهلّه أن يدخل الجامعة الأمريكية بمعدله وليس بنقوده، كما أنه شاعر وفنان ورياضي ونابغة في الكمبيوتر، ويحفظ القرآن الكريم ومتدين ويتعامل مع الجميع باحترام بالغ؛ لكن كل ذلك لم يمنعه من أن يصبح غنيمة سهلة في أيدي بعض الانتهازيين الذين اتهموه بأنه اعترض موكب أحد المسئولين وحاول التهجم عليه، وأودوا به في زنزانة تضم حثالة المجرمين، وأرادوا أن يكملوا فعلتهم الشنيعة كي يمضي بقية حياته في مستشفى للأمراض النفسية، لولا لطف الله به وتدخل المسئول نفسه ليفرج عنه، منكرا قصة اعتراض موكبه ومحاولة التهجم عليه، ومطالبا بمحاسبة هؤلاء الذين يستغلون مناصبهم ليجعلوا المواطن الصالح عدوا لوطنه كارها لكل ما يربطه بهذا الوطن.
فصول القصة مؤلمة والسبب فيها أن الشاب أعلن بجسارة أنه حر ولا يحق لأحد أن يستعبده أو يستعلي عليه كائنا من كان، والرابط بينها وبين قصة الحذّاء أن المسئولين في بلادنا العربية كثيرا ما لا تكون تصرفاتهم بقتامة المشهد الذي يرسمه بعض الأعوان في البطانة، وهذا خيط رفيع يجب على كل مخلص متابعته بدقة للتمكن من تجسير الهوة بين الحاكم والمحكوم وتضييق الفجوة بين المواطن والمسئول، ولا حل لهذه المعضلة إلا بالسماح بحرية التعبير عن الرأي على أوسع نطاق، لكشف السماسرة الذين يتغنون ظاهريا بحب الوطن بينما هم في الحقيقة مستعدون لبيعه بأرخص الأثمان من أجل الوصول إلى مصالحهم الشخصية، وهم بذلك يشوهون صورة المسئول ويسيئون إلى سمعة الوطن ويدوسون كرامة المواطن ويسحقون حريته.
ولو عدنا لتعاليم القرآن والسنة لوجدنا أن الإسلام لا يرى قيمة للحياة الإنسانية بدون الحرية، وما يهمنا هنا تحديدا هو حرية التعبير عن الرأي، حتى لو كانت في نقد الحاكم ما دام الأمر لا يخرج عن حدود الأدب الإسلامي والمصلحة العامة، فالقول اللين المهذب ضروري في نقد أي شخص، فكيف إذا كان النقد موجها للحاكم؟ ولقد علّم الله سبحانه موسى وهارون الأسلوب الأنسب لوعظ فرعون ونصحه ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى )، وما تقوم به المعارضة لأي نظام عربي حاكم من لجوئها إلى دول غربية ثم البدء بكيل التهم والانتقادات وبث الفتنة في صفوف الجماهير فهو ليس من المصلحة العامة في شيء، وإنما هو نوع من المراهقة السياسية لا أكثر ولا أقل؛ فالمراهق يظن أنه قد أصبح رجلا فيبدأ برفع صوته في البيت والشارع، ولكن صوته يكون نشازا مما يدل على أنه مازال مراهقا ولم يبلغ سن الرشد بعد. وتجدر الإشارة إلى الدراسات النفسية والاجتماعية التي بينت أن أزمات المراهقة تكون على أشدها عندما يكون النظام الأبوي صارما أحادي الرأي، أما الأسر التي تربي أطفالها على الحوار وإبداء الرأي وتقبل النقد فإن مرحلة المراهقة تمر بهدوء وبدون صخب، وبذلك تقل المشاكل الأسرية إلى درجة كبيرة؛ وما ينطبق على الأسرة ينطبق على الدولة، وعليه فإن الدول التي تسمح بحرية الرأي ويكون فيها للمعارضة صوت قوي مسموع هي دول ذات حكومات مستقرة وسياسات متوازنة؛ ويقدم فرنسيس بيكون، وهو أول فلاسفة التنوير في أوربا إضافة إلى أنه سياسي ناجح، بعض النصائح لتجنب الثورات فيقول:(إن أفضل وسيلة لتجنب الثورات والفتن هو استئصال أسباب هذه الثورات، إذ لا ندري متى تقدح الشرارة وتشعل النار في الوقود. كما لا ينفع قمع الحريات كحرية الكلام بقسوة شديدة للقضاء على الاضطراب لأن الاستهانة بها وإغفالها كثيرا ما يكون أفضل في ضبطها والسيطرة عليها، ومحاولة إيقافها تستغرق العمر كله).
وعندما نتحدث عن تجربة الغرب في حرية التعبير عن الرأي فلا يعني هذا أنها اختراع حداثي، لأن الحقيقة عكس ذلك تماما إذ لا يوجد في النظام الإسلامي للحكم أي كهنوتية أو سلطات اكليروسية، ويمكن لأصغر فرد في الدولة أن يعبر عن رأيه بحرية ودون خوف، وهذا واضح تاريخيا من خلال العديد من الأمثلة، ومنها اعتراض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من المسلمين على الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية، واعتراض القبطي على والي مصر عندما لم يأخذ له حقه من ابنه الذي ضربه بالسوط، ولجوءه إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي اغتنم ذلك الموقف ليعلن مبدأ أساسيا تقوم عليه الدولة الإسلامية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)، وعلى هذا فليس من الحكمة إقفال باب الحوار وحرية الرأي لأن ذلك يفتح السبيل أمام بعض المفتونين بالغرب ليعلنوا أن حقوق الإنسان ومن ضمنها حرية التعبير والتفكير هي مكرمة غربية وليس لها سابقة في تراثنا الإسلامي.
ومع تعالي دعوات الإصلاح في غالب البلاد العربية والإسلامية نجد أن هذه الدعوات تصطدم بمصالح بعض الفئات المستفيدة من الوضع القائم، وتتنكر هذه الفئات بالزي المناسب لسياسة البلد، فإذا كان البلد علمانيا وجدنا هذه الفئات تتبجح بعبارات مثل هيبة الدولة أو مس كرامتها أو نقض الوحدة الوطنية أو تعكير الصلات الدولية، وكلها عبارات مطاطة يمكن أن تندرج تحتها المئات من المحظورات، مما يجعل التعبير عن الرأي قولا أو كتابة كالسير في حقل ألغام؛ وأما إذا كان البلد يطبق الشريعة الإسلامية فإننا نجد هذه الفئات ترتدي عباءة الدين، ولكنها أحيانا تطرح العقل جانبا، ومن العجب العجاب أن يتفوه رجل دين في دولة إسلامية فينطق بمثل هذا الرأي: (كما أن الله تعالى يقول بأن تكذيب النبي هو تكذيب الله، فإن تكذيب أحد أعضاء مجلسنا الدستوري هو تكذيب لله ورسوله). وعلى ذلك فإن أحد أهم أسباب المشكلة هي المساواة بين ثوابت الدين وبين ثوابت بعض الأشخاص، وأسوأ من ذلك مماهاة الثوابت مع الأشخاص أنفسهم فيُفهم نقد كلامهم كأنه إلحاد بالدين؛ ومن هنا يمكن إدراك سبب جرأة البعض على الله فيجعلون أنفسهم أولياء على الناس من دون الله، ويمنعون رحمته التي وسعت كل شيء أن تتتزل على العصاة، رغم كل آيات المغفرة التي تعطر ثنايا القرآن الكريم؛ والأنكى من ذلك هو سلاح التكفير الذي يشهره هؤلاء "الوكلاء عن الله" فيدخلون الجنة من يوافقهم ويمنعونها من يخالفهم؛ وسلاح التكفير إرهاب فكري لا يقل خطورة عن الإرهاب الحقيقي، لذلك يجب اجتثاث جذوره تربويا وثقافيا وسياسيا، ولا يكون هذا إلا بإِشاعة ثقافة تقبل الآخر المخالف؛ ويصبح هذا التقبل حقيقيا فقط عندما يتعلم المرء كيف يتقبل ذاته أولا، ثم يضع نفسه مكان الشخص المخالف متمثلا قول مونتياني: (ليس هناك فكرة مهما بلغ الطيش أو الإسراف فيها إلا وتظهر لي ابنة شرعية لعقل الإنسان وقدرته على التصور).
كثيرا ما تكون الأفكار البائسة نتيجة لتصور خاطئ، وليس الحل بتكفير من يحملها بل بتبيان ضحالتها لصاحبها وللناس، وقد يستحق صاحبها الشفقة إذا كان ضحية لتشدد فكري سابق يجعله ينتقل من التشدد إلى التفلّت، فتنتظم أفكاره تحت مسمى الآراء وليس ضمن مصطلح الحقائق بأي شكل من الأشكال، وهذه الآراء ليست سوى ردود أفعال، فكل فعل له رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، وكثرة الضغط تولد الانفجار، فاعتبروا يا أولي الأبصار!
المصدر: جريدة الوطن السعودية