في مسائل الاجتهاد وحق الاختلاف: رؤية منهجية تحليلية

في مسائل الاجتهاد وحق الاختلاف: رؤية منهجية تحليلية

قطب مصطفى سانو

عضو مجمع الفقه الإسلاميِّ الدوليِّ

والأستاذ المشارك بقسم الفقه وأصول الفقه

الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة بماليزيا تقديم الدراسة[1]:

 

منذ أمدٍ غير قصيرٍ، لا تزال ساحتنا الفكريَّة الإسلاميَّة الراهنة تشهد اختلافًا حادًّا إزاء جملةٍ من القضايا التي تعرف عند أهل العلم بالأصول بمسائل الاجتهاد، وليس من شكٍّ في أنَّ ذلك الاختلاف يمثِّل في جوهره ظاهرةً صحيَّةً لا يلام عليها، لأنَّ عقول البشر ومستوياتهم الفكريَّة والعلميَّة متفاوتة، كما أنَّ ظروفهم الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة مختلفة، الأمر الذي يؤثِّر تأثيرًا غير هيِّنٍ في تكوين آرائهم وتشكل أفهامهم في مختلف مسائل الاجتهاد.

 

بيْدَ أنَّه من غير المقبول شرعًا وعقلاً أن يتحوَّل ذلك الاختلاف الفكريُّ في مسائل الاجتهاد إلى صراعٍ حقيقيٍّ مؤلمٍ معمِّقٍ بعثرة الجهود الدعويَّة المعاصرة. وما كان لهذا الاختلاف الفكريِّ لينتهي بأمتِّنا إلى هذه الحالة المحيِّرة في هذه المرحلة الاستثنائيَّة من تاريخها لو أنَّ مفكِّري الأمَّة الغيارى وعلماءها المخلصين آمنوا بأنَّه لا ينكر على المختلف فيه، بل ما كان للخطاب الإسلاميِّ ـ بشكل عامِّ ـ والخطاب الدعويِّ ـ بشكل خاصٍّ ـ ليعيش تراشقًا بين الدعاة بالألفاظ النابية وتسفيهًا لآراء بعضهم البعض في مسائل الاجتهاد لو أنَّ أولئك الدعاة الطيِّبين في أرجاء المعمورة، عملوا بمقتضى القاعدة التي تقرِّر بأنَّه لا إنكار في مسائل الاجتهاد.

 

وإسهامًا في تخفيف حالة الرهق الفكريِّ والتسفيه غير العلميِّ لآراء المخالفين في مسائل الاجتهاد، ورغبةً في ترسيخ قيم التسامح في المجال العلميِّ، والابتعاد عن عقليَّة نفي الآخر المخالف في قضايا الاجتهاد، تأتي هذه الدراسة لتقدِّم رؤيةً منهجيَّةً تحليليَّةً لمسائل الاجتهاد في الفكر الأصوليِّ مفهومًا وأنواعًا، ولتحدِّد موقعها في منظومة الإنكار والإقرار في الفكر الإسلاميِّ، أملاً في أن تعود روح التسامح كلِّ التسامح بين أهل العلم والمعرفة في مسائل الاجتهاد، وسعيًا إلى التذكير بأهميَّة توجيه الجهود الفكريَّة والعلميَّة المعاصرة نحو توحيد الصفِّ الإسلاميِّ في المسائل المجمع عليها، فضلاً عن أهميَّة تحمل الآخرين بآرائهم في المسائل المختلف فيها. ولقد عنينا في هذه الدراسة بإلقاء الضوء على مفهوم مصطلح مسائل الاجتهاد في الفكر الأصوليِّ، وأتبعنا ذلك بتقديم تحليلٍ علميٍّ مركَّزٍ لأنواع مسائل الاجتهاد ودائرة الاجتهاد المشروع في كل نوعٍ منها، واختتمنا الدراسة بتحقيق القول في أهميَّة إقرار المخالف على اجتهاده في مسائل الاجتهاد، والابتعاد عن سائر أوجه الإنكار على المخالفين في تلك المسائل. وقد اتَّبعنا في الدراسة المنهج العلميَّ التحليليَّ القائم على استنطاق جملةٍ من النصوص المأثورة عن الأصوليِّين، وانتهينا في نهاية المطاف إلى خاتمة أودعناها أهمَّ نتائج الدراسة.

 

أولاً: في مفهوم مصطلح مسائل الاجتهاد في الفكر الأصوليِّ

 

يطلق معظم علماء الأصول على مصطلح مسائل الاجتهاد، مصطلحات عديدة، من أهمِّها: مصطلح المجتهد فيه، و مصطلح محال الاجتهاد، ومصطلح مجال الاجتهاد، ويعتبر الإمام الغزاليُّ من أولئك الأصوليِّين الذين أطلقوا مصطلح المجتهد فيه على مصطلح مسائل الاجتهاد، وحدَّد المراد بالمجتهد فيه ـ في مستصفاه ـ فقال ما نصُّه:

 

"… المجتهد فيه كلُّ حكمٍ شرعيٍّ ليس فيه دليلٌ قطعـيٌ[2]، واحترزنا بالشــرعيِّ عن العقليَّات ومسائل الكلام، فإنَّ الحق فيهـا واحدٌ، والمصيب واحدٌ، والمخطـئ آثمٌ، وإنما نعنى بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطئ فيه آثماً. ووجوب الصلوات الخمس والزكوات، وما اتفقت عليـه الأمّـَة من جليَّات الشرع، فيهـا أدلة قطعيَّة، يأثم فيهـا المخالف، فليس ذلك محلَّ الاجتهاد.."[3]. وحاول الإمام الرازي ـ في محصوله ـ توضيح ما ذكره الغزالي، فقال: "…المجتهد فيه وهو كل حكم شرعيٍّ ليس فيه دليل قاطع، واحترزنا بالشـرعيِّ عن العقليَّات ومسائل الكلام ، وبقولنا ليس فيه دليـل قاطـع عن وجوب الصلـوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمَّة من جليَّات الشرع.." [4]. وكذلك عني الإمام عبد العزيز البخاري الحنفي ـ في كشفه ـ بمزيدٍ من التوضيح حول ما ذكره الغزالي، فقال ما نصُّه: "..والمجتهد فيه هو الحكم الشرعيُّ الذي لا قاطع فيه لاستحالة أن يكون المطلـوب الظنَّ به مـع وجود القـاطع، فيخـرج عنها الحكم العقـليُّ ومسـائل الكلام[5] ووجوب أركان الشرع وما اتفقت الأمَّة عليه من جليَّات الشرع، لأنَّها وإن كانت أحكامًا شرعيَّةً، لكن فيها دلائل قطعيَّة.."[6].

 

وفي نفس هذا السياق، ذهب الإمام الزركشي ـ في بحره ـ إلى إلقاء مزيدٍ من الضوء على المراد بالمجتهد فيه، فقال: "..المجتهد فيه..هو كلُّ حكـمٍ شرعـيٍّ عمليٍّ أو علمـيٍّ، يقصد به العلم، ليس فيه دليلٌ قطعيٌ فخرج بالشرعيِّ العقليُّ ، فالحقُّ فيه واحـد. والمراد بالعملـيِّ هو كلُّ ما هو كسـبٌ للمكلَّف إقدامًا وإحجامًا. وبالعلميِّ ما تضمنه علـم الأصـــول من المظنونات التي يستند العمل إليها. وقولنا: ليس فيه دليل قاطع (احترازٌ) عمَّا وجـد فيه ذلك من الأحكـام، فإنَّه إذا ظفـر فيــه بالدليل، حرم الرجوع إلى الظنِّ."[7] وأما الإمام الشوكاني فقد انتهى ـ في إرشاده ـ إلى تلخيص ما ذكره السابقون، فقال: "..المجتهد فيه هو الحكم الشرعيُّ العمليُّ[8].."[9]

 

يمكن الانتهاء إلى القول بأنَّ المجتهد فيه (=مسائل الاجتهاد) عندهم، عبارة عن مجموع القضايا التي لم يرد في شأنها أدلةٌ قطعيَّةٌ ثبوتًا ودلالةً، والقضايا التي لم تجمع الأمَّة ولا اتفقت على حكمها، ويعتبر كلُّ مجتهدٍ في هذه القضايا مصيبًا ومأجورًا غير آثمٍ. ويعني هذا أنَّ القضايا التي وردت في شأنها أدلةٌ قطعيَّةٌ ثبوتًا ودلالةً، أو أجمعت الأمَّة على أحكامها، فإنَّها لا تعتبر من المسائل المجتهد فيها، بل يحظر الاجتهاد فيها شرعًا. فإذا اجتهد مجتهد في هذه القضايا، ثم أدَّاه اجتهاده إلى مخالفة الأحكام المقررة لها، فإنَّه يكون آثمًا عند الله، ذلك لأنَّه اجتهد فيما لا يجوز له الاجتهاد فيه، ولأنَّه خالف مراد الله في تلك المسائل التي تعتبر من جليَّات الشرع التي لا تحتاج إلى اجتهاد في تحديد مراد الشارع منها. ويندرج ضمن القضايا المحظورة على الاجتهاد، الاجتهاد في وجوب الصلوات الخمس أو في وجوب الصيام والزكاة والحج وأركان الإيمان وسواها من المسائل التي تعرف بالمعلوم من الدين بالضرورة.

 

إنَّ ذهاب الإمام الغزالي ومن تبعه من الأصوليِّين إلى إخراج مسائل الكلام[10] من دائرة المجتهد فيها، محلُّ نظرٍ ونقدٍ، ذلك لأنَّه من الأمر المقطوع به أنَّه لم ترد في معظم مسائل الكلام ـ إن لم يكن كلها ـ أدلةٌ قطعيَّةٌ ثبوتًا ودلالةً، كما أنَّ الأمَّة لم تتفق في فترة من تاريخها المديد على المعاني المرادة من الأدلة الواردة في شأن بعضها، إذْ إنَّ الأدلة الواردة فيها لا تخلو من أن تكون أدلةً ظنيَّة في ثبوتها ودلالتها، أو أدلةً ظنيَّة في ثبوتها دون دلالتها، أو أدلةً ظنيَّةً في دلالتها دون ثبوتها، وبالتالي، فإنَّها تندرج ـ ولا محالة ـ ضمن المسائل المجتهد فيها شرعًا.

 

وإضافةً إلى ما سبق، فإنَّ اعتبار هؤلاء الأئمة المسائل التي اتفقت الأمَّة على أحكامها، مسائل لا يدخلها الاجتهاد، محلُّ نقدٍ، إذْ إنَّ اتفاق الأمَّة على أحكام بعض المسائل لا يعني عدم خضوع تلك المسائل لاجتهاداتٍ متجددةٍ في مستقبل الأيام، وخاصَّة إذا كان اتفاق الأمَّة مبنيًا على مراعاة مصلحةٍ أو عرفٍ أو سوى ذلك، فإذا تغيرت تلك المصلحة أو تبدَّل ذلك العرف، فإنَّ الأحكام المبنية عليها تتغير وتتبدَّل، ولا سبيل لمعرفة ذلك كلِّه إلا الاجتهاد، مما يعني أنَّه من الممكن أن يغشى الاجتهاد بعض المسائل التي اتفقت الأمَّة على أحكامها إذا تغيَّرت المصالح والأعراف والعادات التي بنيت عليها تلك الأحكام[11].

 

وأيًّا ما كان الأمر، فلئن آثار أولئك الأئمة استخدام مصطلح المجتهد فيه للتعبير عن مسائل الاجتهاد، فإنَّ الإمام الشاطبيَّ عني ـ في موافقاته ـ باستخدام مصطلح محال الاجتهاد تعبيرًا عن مسائل الاجتهاد، وحدَّد المراد بمحال الاجتهاد، فقال: ".. محـال الاجتهـاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين، وضح في كل منهما قصـد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر ، فلم تصـرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات وبيانه أن نقول : لا تخلو أفعال المكلَّف أو تروكه، إمَّا: أن يأتي فيها خطاب من الشـارع أو لا؛ فإن لم يأت فيهـا خطاب، فإمَّا أن يكون على البراءة الأصلـيَّة ، أو يكـون فرضًا غير موجودٍ. وإن أتى فيها خطاب، فإمَّا أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات، أو لا، فإن لم يظهر له قصد البتة، فهو قسم المتشابهات؛ وإن ظهر ، فتارة يكون قطعيًّا، وتارةً يكون غير قطعيٍّ، فأمـا القطعيُّ فلا مجال للنظـــــر فيه بعد وضـوح الحــــقِّ فيه في النفي أو في الإثبـات، وليس محلاًّ للاجتهـاد، وهو قســــم الواضحـــــــات؛ لأنَّه واضح الحكــم حقيقةً والخارج عنه مخطئ قطعًا. وأمَّا غير القطعيِّ، فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا، فليس من الواضحات بإطلاق، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه، كما أنَّه يعدُّ غير واضحٍ بالنسبة إلى ما هو أوضح منه ، لأنَّ مراتب الظنـون في النفي والإثبات تختلف بالأشدِّ والأضعف، حتى تنتهي إمَّا إلى العلم، وإمَّا إلى الشكِّ، إلا أنَّ هذا الاحتمال تارةً يقوى في إحدى الجهتين، وتارةً لا يقوى ، فإن لم يقو، رجع إلى قسـم المتشابهات..وإن قوي في إحدى الجهتين، فهو قسم المجتهدات، وهو الواضح الإضافيُّ بالنسبة إليه في نفسه، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين.."[12]

 

فمسائل الاجتهاد وفق هذا التصور تنتظم ما سمَّاه بالمتشابهات وهي المسائل التي لم يظهر للشارع قصدٌ واضح إزاءها، وتسمَّى هذه المتشابهات عند بعض أهل العلم بالمسائل غير المنصوص عليها أو المسائل التي لم يرد فيها دليلٌ في الشرع على الإطلاق، كما تشمل مسائل الاجتهاد عند الشاطبي، ما سمَّاه بالواضح الإضافيِّ وسمَّاه أيضًا بالمجتهدات وهي المسائل التي وردت لها أدلة غير قطعيَّة ولا صريحةٍ في دلالتها على المعاني المرادة منها، حيث إنَّها تحتمل في دلالاتها أوجهًا عديدةً ومعاني متعددةً، مما يجعل أهل الاجتهاد مطالبين بالبحث عن أقرب الوجوه وأولى المعاني بالترجيح والاختيار. ومن الوارد أن تختلف وجهات نظر أهل الاجتهاد في هذه المسائل نتيجة اختلاف وجهات نظرهم في المرجِّحات بين المعاني المحتملة. وبناءً على هذا، فإنَّ مسائل الاجتهاد عند الإمام الشاطبيِّ هي المتشابهات والواضحات الإضافيَّة (=المجتهدات)، وأما الواضحات الذاتيَّة ـ وهي المسائل التي ورد فيها أدلة قطعيَّةٌ ـ فإنَّ الاجتهاد لا يغشاها ولا ينبغي أن يقحم فيها، ذلك لأنَّ مراد الله في تلك المسائل واضحٌ وجليٌّ ولا يحتاج إلى مزيد بيان أو توضيحٍ.

 

وعلى العموم، فلئن فضَّل الإمام الشاطبي توضيح المراد بمسائل الاجتهاد من خلال استخدام مصطلح محال الاجتهاد بدلاً من مصطلح المجتهد فيه، فإنَّنا نجد القاضي أبا الحسين البصري من أوائل الأصوليِّين الذين فضَّلوا استخدام مسائل الاجتهاد بدلاً من مصطلحي المجتهد فيه ومحال الاجتهاد، وفي هذا قال ما نصُّه: "...باب الفــرق بين مسائل الاجتهاد وما ليس من مسـائل الاجتهاد. اعلــم أنَّ قاضـي القضاة، ذكر في العمد[13] أنَّ ما عليه دلالة قاطعة، فليس هو من مسائل الاجتهاد والحق في واحد منه لا يحل خلافه، سواء كانت تلك الدلالة خفيَّة أو جليَّة.."[14]. وحاول الإمام الرازي ـ في محصوله ـ توضيح مقصود القاضي أبي الحسين، فقال ـ حاكيًا عنه ـ ما نصُّه ".. وقال أبو الحسين البصري ـ رحمه الله ـ المسألة الاجتهاديَّة هي التي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعيَّة.."[15].

 

ومقتضى هذا التصور أنَّ المسألة تعرف بكونها اجتهاديَّة وغير اجتهاديَّة عن طريق مدى وقوع اختلافٍ بين المجتهدين فيها، مما يعني أنَّ المسائل التي لا يعرف فيها خلاف معتبرٌ بين المجتهدين ليست من مسائل الاجتهاد في شيء؛ والمسائل التي لا يوجد فيها خلاف معتبر بين أهل العلم لا يخلو أن يكون سبب عدم وقوع الخلاف فيها راجعًا إلى كونها ذات أدلةٍ قطعيَّةٍ ثبوتًا ودلالةً، أو لأنَّ المجتهدين أجمعوا على الحكم الشرعيِّ المراد منها من قبلُ، وبالتالي، فإنَّ هذه المسائل تغدو مسائل غير قابلةٍ للاجتهاد والمراجعة لوضوح المعاني المرادة منها أو لاتفاق الأمَّة على أحد المعاني المرادة منها.

 

وتأسيسًا على هذا، فإنَّه يمكن الخلوص إلى القول بأنَّ كلَّ مسألةٍ وقع فيها اختلافٌ معتبرٌ[16] بين أهل الاجتهاد سواءً أكانت مسألةً كلاميَّةً أم فقهيَّة أم سواهما، تعتبر مسألةً اجتهاديَّةً، ذلك لأنَّ من الأمر المعلوم أنَّ أهل الاجتهاد لا يؤثر عنهم اختلافٌ معتبرٌ في المسائل المنصوص عليها نصًّا قطعيًّا ثبوتًا ودلالةً، وإنمَّا كان اختلافهم حول الحكم الشرعيِّ المراد لله في المسائل غير المنصوص عليها مطلقًا، وفي المسائل المنصوص على حكمها نصًّا ظنيًّا ثبوتًا ودلالةً، أو نصًّا ظنيًّا ثبوتًا دون الدلالة، أو نصًّا ظنيًّا دلالةً دون الثبوت. وسيأتي معنا مزيد بيان لأنواع مسائل الاجتهاد ودرجات الاجتهاد المشروع إزاء كل نوعٍ منها.

 

وعلى كلٍّ، فلئن كان ما أوردناه من حديثٍ توضيحًا لمفهوم مصطلح مسائل الاجتهاد في المدوَّنات الأصوليَّة القديمة، فإنَّ نظرةً عجلى في كتابات المعاصرين في الفكر الاجتهادي الحديث، عنوا بالتعبير عن مسائل الاجتهاد بمجال الاجتهاد، وفي هذا يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه ـ الاجتهاد في الشريعة الإسلاميَّة ـ : "والذي يظهر لي –والله أعلم- أنَّ مجال الاجتهاد: هو كل مسألةٍ شرعيَّةٍ ليس فيها دليلٌ قطعيُّ الثبوت، قطعيُّ الدلالة، سواء كانت من المسائل الأصليَّة الاعتقاديَّة أم من المسائل الفرعيَّة العمليَّة."[17]. وأما الدكتور وهبة الزحيلي، فينتهي هو الآخر ـ في بحث له عن الاجتهاد في الشريعة ـ إلى القول بأنَّ ".. مجال الاجتهاد أمران: ما لا نصَّ فيه أصلاً، أو ما فيه دليلٌ غير قطعيٍّ. ولا يجري الاجتهاد في القطعيَّات، وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين.."[18].

 

وبالنظر فيما ذكره هذان الفقيهان المعاصران، لا يجد المرء كبير فرقٍ بينهما وبين ما سبق أن أوردناه عن الأصوليِّين المتقدمين، بل يمكن القول بأنَّ ما ذكراه لا يعدو أن يكون توضيحًا وتفصيلاً لما انتهى إليه القدامى، ولهذا، فإن يكن من جديدٍ في طرحهما، فإنَّه لا يتجاوز دائرة التفصيل والشرح والترجيح. فصفوة القول، يمكن للمرء الخلوص إلى تقرير القول بأنَّ ثمَّة شبه اتفاقٍ بين الأصوليِّين القدامى والمعاصرين على كون مسائل الاجتهاد منحصرةً في المسائل التي لم يرد فيها دليلٌ على الإطلاق (=المتشابهات في لغة الشاطبي)، والمسائل التي لم يرد فيها دليلٌ قطعيٌّ (=الواضحات الإضافيَّة والمجتهدات)، وتنتظم كلَّ المسائل التي ورد فيها دليلٌ ظنيُّ الثبوت والدلالة، والمسائل التي ورد فيها دليلٌ ظنيُّ الثبوت دون الدلالة، والمسائل التي ورد فيها دليلٌ ظنيُّ الدلالة دون الثبوت.

 

ولهذا، فإنَّه يمكننا تحديد المراد بمسائل الاجتهاد في الفكر الأصوليِّ القديم والمعاصر، بأنَّه عبارة عن القضايا القديمة والحديثة التي تصلح أن تكون محلاًّ للاجتهاد الهادف إلى بيان أحكام الشرع فيها، أو تحديد كيفيَّة تنـزيل أحكام الشرع فيها، وإنَّما كانت هذه القضايا محلاًّ للاجتهاد لعدم ورود دليلٍ في شأنها مطلقًا، أو لعدم ورود دليلٍ قطعيٍّ ثبوتًا ودلالةً إزاءها، أو لعدم ورود دليلٍ في بيان كيفيَّة تنـزيلها في الواقع.

 

وبناءً على هذا، فإنَّ الاجتهاد في هذه القضايا يروم معرفة أحكام الشرع فيها، أو تطبيق أحكام الشرع في تلك القضايا في واقع المكلَّفين. فإذا كانت الغاية من الاجتهاد في تلك القضايا، معرفة أحكام الشرع سمِّي الاجتهاد اجتهادًا نظريًّا (علميًّا) وأما إذا كانت الغاية من الاجتهاد فيها، تطبيق أحكام الشرع، فإنَّ الاجتهاد يسمَّى حينئذٍ بالاجتهاد التطبيقيِّ (التنـزيليِّ)[19].

 

وانطلاقًا من هذا، فإنَّ مسائل الاجتهاد وفق هذا التصور يمكن تقسيمها إلى مسائل للاجتهاد النظريِّ، ومسائل للاجتهاد التطبيقيِّ (التنـزيليِّ). ومسائل الاجتهاد النظريِّ، تشمل جميع القضايا التي لم ترد فيها أدلةٌ مطلقًا، كما تشمل كلَّ القضايا التي وردت في شأنها أدلةٌ ظنيَّةٌ في ثبوتها وفي دلالتها[20]، أو وردت في شأنها أدلةٌ ظنيَّةٌ في ثبوتها وقطعيَّةٌ في دلالتها، أو وردت في شأنها أدلةٌ قطعيَّة في ثبوتها وظنيَّةٌ في دلالتها.

 

وأما مسائل الاجتهاد التطبيقيِّ (التنـزيليِّ) فإنَّها تشمل جميع القضايا المنصوص عليها وغير المنصوص عليها مطلقًا. وبتعبير آخر، إنَّ جميع مسائل الاجتهاد النظريِّ تعتبر مسائل للاجتهاد التطبيقيِّ (التنـزيليِّ)، وفضلاً عن ذلك، فإنَّ مسائل الاجتهاد التطبيقيِّ، تشمل أيضًا القضايا التي وردت في شأنها أدلةٌ قطعيَّةٌ ثبوتًا ودلالةً، مما يعني أنَّ مسائل الاجتهاد التطبيقيِّ أوسع وأشمل من مسائل الاجتهاد النظريِّ، ذلك لأنَّ القضايا التي وردت في شأنها أدلةٌ قطعيَّةٌ ثبوتًا ودلالةً، يحظر فيها الاجتهاد النظريُّ، ولا يمكن له أن يتناولها بتاتًا، وإنما منع الاجتهاد النظريُّ وحظر في هذا النوع من المسائل لأنَّ فتح باب الاجتهاد النظريِّ في أدلتها القاطعة ثبوتًا ودلالةً، ـ كما يقول الدكتور النجَّار ـ "..من شأنه أن يؤدِّي إلى اعتبار أن يكون لجميع النصوص ظواهر وبواطن، وهو مذهـب كفيل، بأن يهدر دلالة اللغة التي تواضع عليها الناس أصلاً، ويتبع ذلك إهدار أغراض الوحي وهو ما آل إليه أمر الغلاة من الباطنيَّة في إهدارهم لتكاليف الشريعة.." [21].

 

وإضافةً إلى هذا، فإنَّ هذه الأدلة بعد مجيئها قطعيَّة في ثبوتها وقطعيَّة في دلالتها، لا تخلو ـ كما يقول الأستاذ عمَّارة ـ "..من أن تتعلق بثـوابت ـ دينيَّة أو دنيويَّة ـ فلا يجوز تجاوز أحكامـها أو تغييـرها أو تعطيلها أو استبدالها، وإلا خرج الأمر عن الاجتهاد في الدين إلى نسـخ الدين، وإما لأنَّها تعلقت بالسمعيَّات الغيبيَّة والأحكام والشعائر التعبديَّة التي لا يستقـل العقــل الإنسانيُّ بإدراك الحكمة منها والعلَّة الغائيَّة وراءها، فلا بدَّ فيها من الوقوف عند دلالات النصِّ، وإلا دخلنا في إطار العبث الذي لا يجوز أن يسمَّى اجتـهادًا بحالٍ من الأحوال.."[22].

 

ومهما يكن من شيءٍ، فإنَّنا نخلص إلى تقرير القول بأنَّ معظم المدوَّنات الأصوليَّة القديمة والحديثة تكاد تخلو من أيِّ حديثٍ عن مسائل الاجتهاد التطبيقيِّ نتيجة عدم تفريق أكثرهم بين قسمي الاجتهاد، ويعتبر الإمام الشاطبيُّ في نظرنا من أوائل علماء الأصول ـ إن لم يكن أولهم ـ الذي ألفت النظر إلى هذا البعد في الهمِّ الاجتهاديِّ، ذلك أنَّه عني بتقسيم الاجتهاد إلى ضربين، ضربٌ يمكن له أن ينقطع (الاجتهاد النظري= الاجتهاد العلمي) قبل قيام الساعة، وضرب آخر لا يمكن له أن ينقطع إلى قيام الساعة (الاجتهاد التطبيقيّ = التنـزيليّ)[23] وأشار أثناء بيانه المراد بهذين الضربين للاجتهاد إلى مسائل كلِّ واحدٍ وخاصَّة مسائل الاجتهاد التطبيقيِّ (التنـزيليِّ)، وهذا نصُّ ما قاله بهذا الصدد:

 

".. الاجتهاد على ضربين: أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكـليف، وذلك عند قيام السـاعة، والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول (يقصد به ما أسميناه بالاجتهاد التطبيقيِّ = الاجتهاد التنـزيليِّ): فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمُدركه الشرعيِّ، لكن يبقى النظر في تعيين محلِّه.. وأما الضـرب الثاني: وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع، فثلاثة أنواع: أحدها: المسمى بتنقيـح المناط، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكوراً مع غيره في النص، فينقَّح بالاجتهاد، حتى يميَّز ما هو معتـبرٌ مما هو ملغىً.. والثاني: المسمَّى بتخريج المناط، وهو راجع إلى أنَّ النصَّ الدالَّ على الحكم لم يتعـرض للمناط، فكأنَّه أخرج بالبحث، وهو الاجتهاد القياسي، وهو معلوم. والثالث: هو نوع من تحقيق المناط المتقـدم الذكر؛ لأنَّه (تحقيق المناط=الاجتهاد التطبيقيُّ) ضربان: أحدهما: ما يرجـع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص؛ كتعيُّن نوع المثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات.. والضرب الثاني: ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه؛ فكأنَّ تحقيق المناط على قسمين: تحقيق عام، وهو ما ذكر ، وتحقيق خاص من ذلك العام.."[24].

 

واعتمادًا على هذا، فإنَّنا ننتهي إلى تقرير القول بأنَّ مسائل الاجتهاد النظريِّ عند عامَّة أهل العلم بالأصول، هي الأربعة المسائل التي سبقت الإشارة إليها، وأما مسائل الاجتهاد التطبيقيِّ (التنـزيليِّ)، فإنَّها جميع المسائل المنصوص عليها نصًّا قطعيًّا أو ظنيًَّا وجميع المسائل غير المنصوص عليها مطلقًا.

 

على أنَّه من الجدير بالتقرير بأنَّ الحديث عن مسائل الاجتهاد في الفكر الأصوليِّ، ينصرف انصرافًا كليًّا إلى مسائل الاجتهاد النظريِّ في أغلب الأحيان، وهي المراد عند الأصوليِّين عند حديثهم عن مجال الاجتهاد ومحال الاجتهاد والمجتهد فيه ومسائل الاجتهاد، ويرجع هذا في نظرنا إلى قلَّة الأبحاث والدراسات القديمة والحديثة في الاجتهاد التطبيقيِّ (التنـزيليِّ). ثانيًا: في أنواع مسائل الاجتهاد ودرجات الاجتهاد فيها: عرض و تحليل لئن كان ما سبق تحديدًا للمراد بمصطلح مسائل الاجتهاد عند بعض الأصولييِّن الأقدمين والمعاصرين، فإنَّه يمكننا تقرير القول بأنَّ مسائل الاجتهاد في الفكر الأصوليِّ تتنوَّع ـ وفق المفهوم الذي انتهينا إليه آنفًا ـ إلى أربعة أنواع، وهي:

 

النوع الأول: مسائل عديمة الأدلة الظنيَّة والقطعيَّة، ولنصطلح عليه في هذه الدراسة بالمسائل غير المنصوص عليها مطلقًا اعتبارًا بعدم ورود نصٍّ صريحٍ وغير صريحٍ في شأنها.

 

النوع الثاني: مسائل اجتهاد ذات أدلةٍ ظنيَّة في الثبوت وظنيَّة في الدلالة، ولنصطلح على هذا النوع في هذه الدراسة بالمسائل الظنيَّة المطلقة، ونعني بالمطلقة في هذا المقام كون ظنيَّة الدليل شاملة لجانب الثبوت منه ولجانب الدلالة أيضًا.

 

النوع الثالث: مسائل اجتهاد ذات أدلةٍٍ ظنيَّة في الثبوت قطعيَّة في الدلالة، ولنصطلح عليه بالمسائل الظنيَّة القطعيَّة، وقدَّمنا وصف الظنيَّة على القطعيَّة لكون جانب الثبوت، الجانب الأول والأهمَّ الذي ينبغي أن يتمركز حوله الاجتهاد أولاً وقبل كلِّ شيءٍ، بحيث إذا لاح ضعف في هذا الجانب، فإنَّه يصادر الدليل بحمولاته ومضامينه المختلفة.

 

النوع الرابع: مسائل اجتهاد ذات أدلةٍ قطعيَّة في الثبوت وظنيَّة في الدلالة، ولنصطلح عليه في هذه الدراسة بالمسائل القطعيَّة الظنيَّة، وقد قدَّمنا وصف القطعيَّة على الظنيَّة للاعتبار السابق الذكر، فالجانب الثبوتي أهمُّ جانب وآكده عند التعامل مع النصِّ بحيث إنَّ الاجتهاد في النصِّ فهمًا أو تنـزيلاً مرهون بصحة النصِّ من حيث الثبوت، فإذا سلم النصُّ من جهة ثبوته، بقي للاجتهاد وجودٌ وحضورٌ في جانب الدلالة لتعيين الحكم المراد للشارع، وإما إذا لم يسلم، فإنَّ الاجتهاد ينفك عن هذا النصِّ، ولا يصح إدخاله فيه بتاتًا.

 

وأما درجات الاجتهاد في هذه المسائل، فهي تختلف من نوعٍ إلى آخر، فبينما تضيق دائرته في المسائل القطعيَّة الظنيَّة، نجد أنَّ درجته تتسع اتساعًا كبيرًا في المسائل غير المنصوص عليها وفي المسائل الظنيَّة المطلقة، وهاكم تفصيل القول في كل نوعٍ من الأنواع المذكورة ودرجات الاجتهاد فيها: النوع الأول: المسائل غير المنصوص عليها مطلقًا (=مسائل اجتهاد عديمة الأدلة): إنَّه من الأمر المعهود عن الشرع أن يورد أدلةً لمختلف المسائل والقضايا الحاليَّة والمستقبليَّة، وتتفاوت درجات الوضوح والخفاء بين تلك الأدلة المأثورة عن الشرع، حيث إنَّ بعضها يدل على المعنى المراد منها دلالةً واضحةً وجليَّةً، وبعضًا آخر منها، يدل على المعنى المراد منها دلالةً غير صريحةٍ ولا واضحةٍ، وفضلاً عن ذلك، فإنَّ درجات اليقين والظنِّ في تلك الأدلة الشرعيَّة متفاوتة، إذْ إنَّ المرء يستطيع أن يقطع بنسبة بعض تلك الأدلة إلى الشرع، كما أنَّه لا يستطيع أن يقطع بصحة نسبة بعضها إلى الشرع، ومن هنا تأتي مهمَّة المجتهد في الشرع، وتبتدئ هذه المهمَّة بتحقق المجتهد من صحة نسبة الدليل إلى مصدره، ويتبع ذلك باجتهاد آخر متمثَّلٍ في تحديد المعنى المراد للشارع إذا لم يكن ذلك المعنى واضحًا، ثم يركن في نهاية المطاف بعد تحققه من المعنى المراد إلى البحث عن سبل تنـزيل ذلك المعنى المراد في واقع الفرد والمجتمعات.

 

هذه هي الإجراءات الاجتهاديَّة التي ينبغي للمجتهد أن يسلكها إزاء المسائل التي عني الشارع الحكيم بإيراد أدلةٍ لبيان أحكامها الشرعيَّة المعتبرة، وتعرف هذه المسائل عند أهل العلم بالأصول بالمسائل المنصوص عليها في الشرع، وهي أنواع أربعة، كما سيأتي معنا تفصيل القول فيها بعد قليلٍ.

 

ولئن كان ذلك هو المعهود عن الشرع إزاء مختلف المسائل المرتبطة بالمكلَّفين، بيْدَ أنَّ ثمَّة نوعًا آخر من المسائل يغلب عليها طابع الجدَّة، تجاوز الشارع الكريم ـ قصدًا ـ عن إيراد أدلةٍ لبيان أحكامٍ لها، وتعرف هذه المسائل عند أهل العلم بالأصول بالمسائل غير المنصوص عليها، والمسائل عديمة الأدلة، والمسائل التي لا نصَّ فيها، وتعني هذه المسائل، مجموع القضايا التي لم يرد لها ذكر لا في ثنايا آيات القرآن الكريم ولا في السنَّة النبويَّة المتواترة وغير المتواترة، ويغلب على هذه المسائل ـ كما أسلفنا ـ كونها قضايا استجدَّت في حياة المسلمين بعد اكتمال نزول الوحي الإلهيِّ ولحاق رسول الله r بالرفيق الأعلى.

 

على أنَّه بالحريِّ بالتقرير أنَّ ثمة اتجاهًا أصوليًّا يرى عدم وجود هذا النوع من المسائل، ويعتبر الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ أوَّل من تصدَّى لهذا الأمر، وقرَّر بأنَّه لا يمكن أن تنـزل بمسلم حادثة إلا ولله فيها حكمٌ علمه من علمه وجهله من جهله، ومن جهله فهو تبعٌ لمن علمه. ودافع في رسالته الغرَّاء عن هذا الأمر بضراوةٍ شديدة[25]ٍ، بيْدَ أنَّ عامَّة الأصوليِّين من بعدُ انتهوا إلى تقرير القول بأنَّ النصوص متناهية، والوقائع غير متناهية، ولذلك، لا بدَّ من اللياذ بالقياس والمصالح المرسلة والاستحسان والعرف وغيرها من المصادر لاستنباط أحكام الشرع للوقائع التي لم تشملها نصوص الشرع كتابًا وسنَّة بتفصيل أو بيانٍ. ويخيَّل إليَّ أنَّ هذا الخلاف بين الشافعي ومن سار على نهجه من الأصوليِّين، وبين بقية أهل العلم بالأصول، لا يعدو أن يكون خلافًا لفظيًّا، وخلافًا في التسمية، ذلك لأنَّ القائلين بتناهي النصوص يرومون منه تناهي ألفاظها الصريحة الواضحة المباشرة، ولا يقصدون به تعذر إيجاد نصٍّ أيِّ نصٍّ يمكن الاستعانة به في توجيه مستجدات الحياة وقضاياها الجديدة.

 

وبناءً على هذا، فإنَّنا سنتجاوز فصل القول في هذا الخلاف الأصوليِّ العتيد ولو إلى حين، ولنتبنَ في هذه الدراسة الرأي الذي استقرَّ عند عامَّة أهل العلم بالأصول وفق ما قرَّره الحديث النبويُّ الكريم من وجود مسائل مسكوتٍ عنها، ولنعبِّر عن تلك المسائل بمصطلح المسائل غير المنصوص عليها التزامًا بما تردِّده المدوَّنات الأصوليَّة المختلفة.

 

وبطبيعة الحال، نودُّ أن نبادر إلى تقرير القول بأنَّ عدم تنصيص الشارع على أحكام مباشرة لهذه المسائل، لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أنَّها لم تكن معروفةً، بل هي معروفةٌ للشارع كل المعرفة، وإنَّما للشارع في هذا الأمر، ثلاثة غاياتٍ وأهدافٍ أساسيَّة، وهي:

 

الغاية الأولى: تأكيد مشروعيَّة الاجتهاد في الفكر الإسلاميِّ بصورة عامَّة، ذلك لأنَّه ليس ثمة وسيلة لبيان أحكام الله في هذه المسائل وتنـزيل تلك الأحكام في الواقع إلا الاجتهاد، فبالاجتهاد يتم التوصل إلى أحكام الله في هذه المسائل، كما يتمُّ تحديد السبل المثلى لتنـزيل أحكام الله فيها في الواقع. فكأنَّ الشارع يقرِّر عبر هذه المسائل مشروعيَّة الاجتهاد وضرورة القيام به في كل عصرٍ ومصرٍ، فلو لم يكن الاجتهاد مشروعًا، لتكفل الشارع الحكيم ببيان أحكامه في جميع المسائل ولما ترك مسألةً دون بيان حكمها الشرعيِّ، وفضلاً عن ذلك، فإنَّ تجاوز الشارع عن بيان كيفيَّة تنـزيل أحكامه في تلك المسائل في الواقع، دليلٌ أكيدٌ على مشروعيَّة نوعٍ آخر من الاجتهاد، وهو الاجتهاد التطبيقيُّ (=التنـزيليُّ).

 

وأما الغاية الثانية: فيتمثَّل في فسح المجال أمام أهل الاجتهاد من العالمين لأن يبحثوا أحكامٍ شرعيَّةٍ مناسبةٍ لهذه القضايا وذلك وفق متطلبات ومقتضيات ظروفهم وأحوالهم وأمكنتهم وأزمنتهم، فإن وفِّقوا إلى الوصول إلى الأحكام المرادة للشارع في واقع الأمر، كان لهم أجران، أجر إصابة أحكام الله، وأجر الاجتهاد في البحث عن أحكام الله مصداقًا لقوله r إذا اجتهد الحاكم، فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد، فأخطأ، فله أجر واحد. وفي هذا تقريرٌ وتأكيدٌ على مشروعيَّة الاجتهاد في الفكر الإسلاميِّ في سائر المسائل وخاصَّة هذه المسائل بشكلٍ خاصٍّ.

 

على أنَّه من الحريِّ بالتقرير في هذا المقام أنَّ عدم تنصيص الشارع على أحكام واضحةٍ لهذه المسائل، توكيلٌ مباشر لأهل الاجتهاد للبحث عن أحكام مناسبة لهذه المسائل وفق ظروف المكلَّفين وأحوالهم التي تشهد يومًا بعد يومٍ تغيرًا وتطورًا وتبدلاً وتحولاً، وفي هذا تيسير أيُّ تيسيرٍ على عامَّة المكلَّفين، كما أنَّ في ذلك حثًّا لأهل الاجتهاد لأن يختاروا من الأحكام التي تتناسب مع ظروف المكلَّفين وواقعهم وأحوالهم.

 

وأما الغاية الثالثة من عدم تنصيص الشرع على أحكام مناسبة لهذه المسائل، فإنَّه يتمثَّل في رغبة الشارع الأكيد في تضيِّيق دائرة المحظورات والمحرَّمات ودائرة الواجبات والفرائض في حياة المكلَّفين، حيث إنَّه ليس من ريبٍ في أنَّ في الامتثال بالواجبات والفرائص كلفةً، كما أنَّ في الامتناع عن المحظورات كلفةً، وكلتا الكلفتين تحتاج إلى إرادة قويَّة ودرجةٍ عاليةٍ من الإيمان والتقوى. وأما فعل المباحات أو تركها، فإنَّه لا كلفة في ذلك، ولهذا، لأمر ما اعتبر الشارع هذه المسائل مسائل واقعةً وداخلةً في منطقة العفو الواسعة، وهي المنطقة التي وردت الإشارة إليها في قوله r إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياءَ رحمةً بكم من غير نسيان، فلا تسألوا عنها.

 

إنَّ مقتضى هذه الغايات الثلاثة، أن يحاول أهل الاجتهاد في كل عصرٍ ومصرٍ اختيار الأحكام المبنية على التيسير، والتي تلبِّي ظروف المكلَّفين وترفع عنهم الإصر والأغلال التي كانت على من قبلهم من الأمم، فالاجتهاد في هذه المسائل ينبغي أن يتسمَّ على الدوام بالتجدد والتنوع، وأن يبنى على مراعاة المصلحة كلِّ المصلحة التي تقوم على جلب كل ما فيه منفعة ودرء كل ما فيه مفسدة.

 

وبناءً على هذه المقاصد في عدم تنصيص الشارع على أحكام معيَّنةٍ لهذه المسائل، نستعجل إلى تقرير القول بأنَّه ـ للأسف الشديد ـ كثيرًا ما تختلط مسائل هذا النوع من مسائل الاجتهاد بموضوع البدع في الشرع عند كثيرٍ من المتفقهة الطيِّبين، إذ إنَّه غالبًا ما يذهب بعض المجتهدين المخلصين إلى تغليب جانب الحظر فيها على جانب الإباحة المطلقة، متذرعين بعدم ورود أدلة شرعيَّة لها وبعدم جريان عمل السلف على اعتبارها، مما يدفعهم ـ في معظم الأحيان ـ إلى تبني حكم التحريم في معظم مسائل هذا النوع، فاعتبارها من الأمور المحدثة في الملَّة، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالةٍ، وكل ضلالةٍ في النار.

 

إنَّنا نميل إلى القول بأنَّ ذلك المنهج منهج معكوسٌ، ويتعارض مع مقاصد الشرع السالف ذكرها، ذلك لأنَّه لو كان ترجيح جانب التحريم في تلك المسائل على جانب الإباحة، لفصَّل فيها الشرع تصديقًا لقوله ]وقد فصَّل لكم ما حرَّم عليكم ( ولقوله r إنَّ الحلال بيِّن وإنَّ الحرام بيِّن وبينهما أمورٌ مشتبهات، فمن اتَّقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه.. وبطبيعة الحال، فإنَّ المقصود بالحلال في هذا النصِّ النبويِّ الكريم هو الواجب وليس الحلال بمفهوم الأصوليِّين ذلك لأنَّ الحلال لا يقابله الحرام، وإنَّما يتقابل الحرام والواجب والفرض. ولهذا، فإنَّنا نرى أنَّ الأولى عند الاجتهاد في هذه المسائل تغليب جانب الإباحة، وتغليب جلب ما فيه منفعة على درء ما فيه مفسدة، وتغليب جانب التيسير على جانب التعسير تحقيقًا للمقاصد الثلاثة المشار إليها آنفًا.

 

وعلى العموم، لئن أردنا أن نمثِّل للمسائل التي تندرج ضمن مسائل هذا النوع، فإنَّنا سنقول إنَّ مسائله تنتظم جملةً من قضايا الساعة، كالاحتفال بالمولد النبويِّ، والتأمين، وبطاقات الائتمان، والاستنسال (الاستنساخ)، وزرع الأعضاء البشرية ونقلها، وإجراء العمليات الجراحيَّة بقصد التجميل، واستئجار الرحم للحمل، وقتل الرحمة، والزواج المسيار، وكتابة وتسجيل شهادات الزواج والطلاق، وعمل المرأة خارج البيت، وسياقة المرأة للسيارات والدبابات والطائرات والقاطرات والباخرات وسواها من المواصلات الحديثة، وتولي المرأة منصب القضاء والمحاماة، وإمامتها للرجال والنساء في الصلاة، والتعليم المسمَّى بالتعليم المختلط مع الحفاظ على الآداب الإسلاميَّة في اللقاء بين الجنسين..[26] وغيرها من الموضوعات التي لم يرد فيها دليلٌ من الشارع إنْ بالتحريم أو الإباحة أو الإيجاب. درجة الاجتهاد في هذه المسائل : وأما درجة الاجتهاد ودائرته في مسائل هذا النوع من مسائل الاجتهاد، فإنَّها من أوسع درجات الاجتهاد وأعمقها، ذلك لأنَّ على المجتهد استخدام سائر الوسائل والمناهج العلميَّة المنضبطة التي تعينه على الوصول إلى أحكام الشرع المناسبة لهذه المسائل، ولا يلزم بأي حالٍ من الأحوال باتِّباع منهجيَّةٍ قديمةٍ أو حديثةٍ، كما أنَّه لا ينبغي له نسبة أي رأي يتوصل إليه في هذه المسائل إلى الفقهاء القدامى الذين لم يسمعوا بهذه المسائل ولا خطر ببالهم على الإطلاق، وفضلاً عن ذلك، فإنَّه لا يجوز لمجتهدٍ أن يلزم مجتهدًا آخر في هذه المسائل بالرأي الذي توصل إليه اعتمادًا على منهجيَّةٍ ارتضاها لنفسه في استنباط أحكام الشرع المناسبة لمسائل هذا النوع من مسائل الاجتهاد.

 

إنَّ ضبط أحكام الشرع لهذه المسائل، يمكن أن يتمَّ من خلال التأمل والتمعن في ثنايا العديد من الآيات والأحاديث الكليَّة التي تنتظم الأهداف العامَّة والخاصَّة للتشريع الإسلاميِّ، بحيث ينتهي المجتهد إلى إعطاء أحكام شرعيَّة مناسبة لهذه المسائل من خلال الاستناد إلى تلك الأدلة من الكتاب أو السنَّة بوجهٍ من التحقيق والدراسة معروفٍ عند أهل العلم بالأصول.

 

إنَّ الاجتهاد في هذه المسائل يتطلَّب ـ كما أسلفنا ـ تعمُّقًا في فقه مقاصد الشرع، والقواعد الفقهيَّة، والمبادئ العامَّة للشريعة الإسلاميَّة، كما يتطلب إشرافًا غير مشوَّهٍ بأصول الاستنباط والاستدلال المعروفة في علم الأصول وعلم الخلاف وسواهما من العلوم المعينة على الاستنباط والاستدلال. وإضافةً إلى ذلك، فإنَّ الاجتهاد في هذه المسائل يقتضي استيعابًا لمبادئ العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة التي تعين المجتهد على التعرف على أسباب ظهور هذه المسائل وعلاقاتها بالاجتماع الإنسانيِّ، فانتقاء الأحكام المناسبة التي تلائم واقع المكلَّفين، وتخاطب ظروفهم وأحوالهم، وينبغي على أهل الاجتهاد في هذه المسائل تغليب جانب التيسير على جانب التعسير، وتغليب جانب الإباحة على جانب التحريم والإيجاب، وتغليب الرأي الذي فيه جلب للمنفعة على الرأي الذي فيه درء للمفسدة التزامًا بمقاصد الشرع في تركه هذه المسائل هملاً دون تنصيصٍ على أحكامٍ معيَّنةٍ لها.

 

وفضلاً عن هذا، فإنَّ على أهل الاجتهاد في هذه المسائل أن يشرفوا إشرافًا مركَّزًا على مبادئ العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، لأنَّها خير عون لهم على ضمان حسن تنـزيل أحكام الله منها في واقع المكلَّفين وذلك انطلاقًا مما تتوافر عليه تلك العلوم والمعارف من مبادئ معينة على معرفة مآلات الوقوع الفعليِّ للأحكام الشرعيَّة التي يختاره المجتهد في هذه المسائل وتترجَّح لديه.

 

وبناءً على هذا، فإنَّنا نفزع إلى القول بأنَّ المجتهد غير المتمكن من فقه مقاصد الشرع ومن القواعد الفقهيَّة العامَّة، ومن فقه روح الشريعة وأسرارها، ومبادئ العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة المعاصرة، لا يؤتمن على الاجتهاد في هذه المسائل التي لها ارتباط وثيق بالاجتماع الإنسانيِّ وتشابك علاقاته، إذْ إنَّه ربَّما أدَّاه اجتهاده غير المقاصديِّ وغير ملتزمٍ بالكشف عن روح الشريعة وأسرارها، إلى استنباط أحكامٍ لهذه المسائل تتعارض في جملتها مع مقاصد الشرع وروحه، ولا تناسب الواقع الذي يعيش فيه الناس، مما يحدث انفصامًا مريرًا بين الواقع المعيش وبين شرع الله في هذه المسائل، نتيجة نظرة المجتهد إلى هذه المسائل نظرة تشاؤم، مبناها، اعتبار حكم كل مسألةٍ مستجدَّة، التحريم والبدعة، فما لم ينصَّ عليه الشارع في خلد المجتهد غير الملمِّ بمقاصد الشريعة، يعتبره حرامًا أو مكروهًا أو بدعةً لا يصح تعبد الله بها. وعلى العموم، لا بدَّ للمجتهد من التعمق في فقه الشرع وفي فقه الواقع، ليكون اجتهاده في هذه المسائل اجتهادًا مشروعًا لا ينكر عليه فيه.

 

على أنَّ الاجتهاد في هذه المسائل لا يتوقف عند استنباط الأحكام الشرعيَّة المناسبة، ولكنَّه يمتدُّ ـ كما قرَّرنا قبلُ ـ ليشمل الاجتهاد في تنـزيل تلك الأحكام التي تترجَّح لدى المجتهد بطرقٍ من أدوات الاجتهاد التطبيقيِّ (التنـزيليِّ) متمثلةٍ في مبادئ العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة بوصفها أهمَّ العلوم الموصلة إلى تفعيل الواقع بتعاليم الإسلام السمحة. النوع الثاني: المسائل الظنيَّة المطلقة (=مسائل اجتهاد ذات أدلةٍٍ ظنيَّة في الثبوت والدلالة): لئن كان ما سبق توضيحًا لحقيقة المسائل غير المنصوص عليها ودرجة الاجتهاد فيها، ولئن كان الشارع تجاوز ـ قصدًا ـ عن التنصيص على أحكام تلك المسائل، فإنَّ ثمَّة مسائل عني الشارع الحكيم بالتنصيص على أحكامٍ، بيْد أنَّ تنصيصه على أحكام تلك المسائل جاءنا من خلال أدلةٍ لا يستطيع المرء القطع بكونها ثابتةً يقينًا عنه لوجود وسائط كثيرةٍ، ولاحتمال وقوع الخطأ والغلط أثناء النقل عنه r وفضلاً عن ذلك، فإنَّ دلالات تلك الأدلة على أحكام الشرع المرادة في تلك المسائل، متعددة المعاني، مما يتعذر معه القطع بكون أحد تلك المعاني المعنى المراد للشارع. ولهذا، كانت هذه المسائل محلَّ اجتهادٍ وتحقيق ودراسة لا على مستوى ثبوت الأدلة الواردة إزاءها، ولكنَّ على مستوى دلالات تلك الأدلة على الأحكام المرادة.

 

وعلى العموم، تعرف هذه المسائل عند أهل العلم بالأصول بمسائل اجتهاد ذات أدلةٍ ظنيَّة في الثبوت وظنيَّة في الدلالة، وقد فضَّلنا أن نطلق عليها مصطلح المسائل الظنيَّة المطلقة، وتعني في منظور هذه الدراسة، مجموع القضايا التي وردت أحكامها الشرعيَّة المرادة لله من خلال أخبار آحاد تحتمل في دلالتها معاني متعددةً وأوجهًا مختلفةً، بحيث يحتاج المجتهد إلى بذل وسعٍ في التحقق من صحة نسبة تلك الأخبار إلى المصدر الذي أوحى بها، ثم ضبط المعنى المراد للشرع منها بناءً على قرائن وأسسٍ يعتمد عليها في تحقيق ذلك. وتتسمَّ هذه القضايا بكونها قضايا انفردت السنَّة النبويَّة غير المتواترة (= أخبار الآحاد[27]) ببيان أحكامها الشرعيَّة، حيث إنَّه لم يرد لها ذكر صريحٌ ولا مباشر في القرآن الكريم، ولا في السنة النبويَّة المتواترة. ويندرج تحت هذه المسائل جملة المسائل المختلف فيها بين أهل الاجتهاد قديمًا وحديثًا، ويمكن لنا أن نمثِّل لها بعددٍ من المسائل التي تشهد سجالاً وحالة صراع واختلافٍ غير مشروعٍ بين المسلمين في هذا العصر، ومن أهمِّها: مسألة قبض اليدين وإرسالهما في الصلاة[28]، والقنوت في الفجر[29]، والبسملة عند قراءة الفاتحة[30]، والوضوء من مسِّ الذكر أو الفرج[31]، ووجوب الكفَّارة على المرأة التي جامعها زوجها متعمدًا في نهار رمضان[32]، وإخراج مال زكاة الفطر في النقود بدلاً من القوت[33]، وإسبال الإزار بلا بطرٍ[34]، وإعفاء اللحية[35]، وولاية المرأة الولاية العامة[36]، والمصافحة بين الرجال والنساء[37]، واشتراط الولاية للمرأة في النكاح[38]، والرجم بين كونه حدًّا وكونه تعزيرًا[39]، وثبوت ولاية الإجبار للأب في تزويج بنته[40]، وعورة المرأة خارج الصلاة[41].. فهذه القضايا وغيرها كثير، تعتبر بأجمعها مسائل اجتهاديَّة ذلك لأنَّ الأدلة التي وردت في بيان الحكم المراد لله منها، تعتبر كلَّها أدلةً ظنيَّة في ثبوتها لأنَّها ـ بلا استثناء ـ أخبار آحاد، كما تعتبر أيضًا أدلةً ظنيَّة في دلالتها على أحكام الشرع منها، ذلك لأنَّها ـ برمتها ـ تحتمل أن يكون الأحكام المرادة منها إما الإيجاب أو الندب أو الكراهة أو التحريم أو الإباحة، الأمر الذي صيَّر هذه المسائل مسائل مختلفًا فيها عند أهل العلم قديمًا وحديثًا، ومردُّ اختلافهم كونها أدلةً حمَّالة أوجهًا ومعانيَ عديدة ومختلفةٍ. وبناءًٍ على هذا، يمكننا تقرير القول بأنَّ ضابط معرفة هذا النوع من مسائل الاجتهاد هو أن لا يكون للمسألة ذكر مباشر وصريح في القرآن الكريم وفي السنة المتواترة، وإنَّما يكون لها خبر من أخبار الآحاد، وفضلاً عن ذلك، يجب أن تكون تلك الأدلة الواردة إزاء هذه القضايا محتملةً معاني عديدةً يحتاج المجتهد إلى ترجيح أحدها بناءً على أسسٍ ومنطلقات وقرائن يستند إليها ذلك المجتهد في اجتهاده. درجة الاجتهاد في هذه المسائل: وأما بالنسبة لدرجة الاجتهاد في هذه القضايا، فإنَّها من أوسع درجات الاجتهاد في المسائل التي وردت فيها أدلة عن الشارع، كما أنَّها تلي درجة الاجتهاد في المسائل غير المنصوص عليها، ذلك لأنَّ الاجتهاد في هذا النوع يتناول جميع جوانب الأدلة الواردة في هذه المسائل، إذْ إنَّ الاجتهاد فيها يبتدئ بإجراء تحقيقٍ علميٍّ معتبرٍ حول مدى صحة نسبة هذه الأدلة إلى المصدر الذي أوحى بها بطرقٍ من النقد معروفةٍ عند المحدِّثين، ويعني هذا أنَّ على المجتهد في هذه الأدلة بذل ما يسعه من جهدٍ وطاقةٍ في التأكد من مدى توفر شروط الصحة المعتبرة عنده في تلك الأدلة، فإذا ما تحقق من صحة تلك الأدلة وفق المعايير المعتبرة عنده، لاذ باجتهادٍ آخر متمثَّل في تحديد أحكام الشرع منها من خلال التمعن والتأمل في المعاني والأوجه المحتملة سعيًا إلى ترجيح أحد المعاني اعتمادًا على اعتبارات وقرائن وأسسٍ ترجع إلى قواعد اللغة والسياق والمقام والمناسبة، فيخلص المجتهد إلى تبني معنىً واعتباره المعنى المراد للشارع في هذه الأدلة.

 

على أنَّه من الحريِّ بالتذكير في هذا المقام أنَّ شروط صحة أخبار الآحاد، شروطٌ اجتهاديَّةٌ لأنَّها لم يدلَّ عليها دليلٌ قاطعٌ لا من القرآن أو من السنَّة نفسها، ولأنَّها غير متفقٍ عليها بين أهل العلم بالحديث، وبالتالي، فليس من غريبٍ أن تكون بعض الأدلة الواردة في القضايا المذكورة صحيحةً عند مجتهدٍ وغير صحيحةٍ

 

المصدر: موقع د. قطب مصطفى سانو

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك