الطائفية.. وأمراض عربية أخرى

الطائفية.. وأمراض عربية أخرى

خالص جلبي

الطائفية مرض مثل الخراج الخفي. موجود في أكثر من قطر عربي. والكل يعلم به. وأفضل علاج له الاعتراف به. وأفضل معالجة للعقد النفسية تسليط الضوء عليها ونقلها من عفن ظلمات (اللا وعي) الى طهارة ضوء (الوعي). كما أن أفضل علاج للخرَّاج فتحه للخارج. والا فتح نفسه للداخل فأصيب المريض بتسمم دموي فمات به.

 

والعالم العربي مصاب بمرض الطائفية وآخر من شكله أزواج. من (القبلية) و(احتقار المرأة) و(الايمان بالغدر) و(تأليه الزعيم) و(عبادة القوة). يضاف الى ذلك مرض الأمراض بتسلط ديناصورات أمنية تذكر بملائكة العذاب.

 

وغالب أقطار العروبة وقعت في قبضة عائلات اقطاعية مسلحة. في مربعات لسجن الضمير. وأول شيء برعت فيه السلطة الفلسطينية أنها فرَّخت تنينات أمنية تقذف باللهب. وجدير بالذكر أن أجهزة الرعب في أقطار أخرى اشتقت اسمها من فلسطين فما عجزت عنه بقية الأجهزة حله فرع فلسطين بكل اقتدار.

 

مع هذا، هناك دول عربية ليس فيها مرض الطائفية بل يدين البلد كله بالاسلام وبمذهب واحد ولكنه مبتلى بأشد من الطائفية من جنود فرعون وهامان. مما يدل على ان الجثة تتناوب عليها أشكال شتى من الحشرات. وجثة العالم العربي اليوم تنهش فيها الديدان والذبان، من كل صنف زوجان.

 

اننا نعيش عصر الجنون العربي بدون مصحات عقلية وأسوار وأطباء؟ والطائفية مرض مثلث، كل زاوية فيه تعلن الغاء الانسان. فهي أولاً انشداد لطائفة، ولا حرية للانسان في اختيار الرحم الذي انقذف منه الى الحياة.

 

والطائفية تعني استقطاب واستخدام من هو من نفس الفصيلة، مثل تعاون الحشرات على التهام الفتات والذئاب في مطاردة الفريسة. فهنا يغيب الوعي وتعمل الغريزة. والطائفية تعني العمل لصالح مجموعة والقتل باسمها بما يجر عداوة كل الطوائف. وهي بكلمة ثانية تصدع المجتمع وبرمجة الحرب الأهلية ولو بعد حين. واذا سالت الدماء في العراق أنهارا فهو أمر طبيعي. واذا قتل الناس بعضهم بعضا بأشد من يوغسلافيا فهو تحصيل حاصل. وهذا الكلام يفسر ولا يبرر. والقوانين الاجتماعية لها نظمها الخاص. سنة الله في خلقه.

 

والطائفة في الأصل جمود في الزمن وقتل للفردية واعدام للاستقلالية، فتسلب كل ذي لب لبه. وتعتبر مصر مركزا خصبا لتفريخ الطوائف والأحزاب، فمنها خرج الاخوان المسلمون، والحاكم بأمر الله الفاطمي، والاسماعيلية، والحشاشون. ولكن المدهش فيها أنها رحم للطائفية بدون طائفية. فهي تصدر الأمراض ولا تصاب بها، مثل مرض الناعور القاتل الذي تحمله الاناث ولا يصبن به. والسبب جغرافي بحت. فالنيل لا يسمح بتشكل الطائفية والطائفة. وليس أمام الناس على ضفتي النيل الا الاختلاط والتجانس، أو الموت في الصحراء. ورغم ان الفاطميين انشأوا الأزهر، لا يوجد اليوم فاطمي واحد في الأزهر. في حين ان العراق بلد الشقاق والتناحر والعنف. فيه ألف ملة ونحلة ولغة. من كرد وعرب وشيعة وسنة وتركمان وآشوريين وكلدان وسريان ويزيديين.

 

والعراق منذ القديم لا يعرف كيف يحكم نفسه ويعجز عن حكمه من يأتيه من الخارج. الا ثلاثة: نبوخذ نصر، والحجاج، وصدام، ومن سار على دربهم من حزب فرعون. وما أمر فرعون برشيد.

 

وحسب عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) فان العراق مصاب بثلاث مصائب كل واحدة كافية ان تكون مرضا غير قابل للعلاج: من ازدواج الشخصية. وصراع البداوة والحضارة والتناشز الاجتماعي. وحسب (البزاز) فان أعظم كارثة حلت بالعراق هي تريف المدينة مع الانقلابات الثورية على يد أولاد الأقليات والريف فدمر المجتمع المدني تدميرا.

 

وأمريكا اليوم على محك تجربة تاريخية فان نجحت في خلق (ديموقراطية كاذبة) في بلاد الرافدين سرت عدوى النموذج الى بقية الأقطار الوثنية في العالم العربي التي تؤله الزعماء والسادة. ويبقى خيار (الديموقراطية الكاذب) أفضل من (الألوهية السياسية الحقيقية). أو وهو الأرجح أن تهزم أمريكا ويغرق العراق في الدم بأشد من الصومال ورواندا ويرتفع علم الراديكالية الاسلامية.

 

وفي الوقت الذي تهزم فيه أمريكا عند بابل وأوروك ستتم مطاردتها وستدمر اسرائيل، ربما في نصف قرن، تدميرا كما يتوقع (أوري أفنيري) الصحفي الاسرائيلي.

 

ولكن لن يكون هذا نصرا للعرب ولا دخولا في الحداثة، بل دخول العرب العصور (المظلمة) كما عاشت أوربا العصور الوسطى المظلمة. وهي قد تمتد قرنا أو أكثر يقتل العرب فيه بعضهم بعضا. وتذبح كل (طائفة) الأخرى حتى يخرج الاسلام المستنير من رحم الاسلام الأصولي. كما حصل مع تطور البروتستانتية من رحم الكاثوليكية بعملية قيصرية في حروب الثلاثين سنة بين عامي 1618 و1648 عندما تقاتل على الأرض الألمانية كل الأوربيين، وقتل من الألمان سبعة ملايين من أصل عشرين مليونا، واحتاجت ألمانيا الى ثمانين سنة للترميم. وأباحت الكنيسة للمرة الأولى والأخيرة تعدد الزوجات لتعويض الهولوكوست.

 

وحسب عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) في كتابه (روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية) فان أوربا احتاجت أيضاً أجيالا حتى تم تدمير الكنيسة والاقطاع. وولد الرأسمال والعمل والبرلمان والصحافة والتعددية ونقل السلطة السلمي.

 

ان الطائفية شر مستطير على الطائفة قبل غيرها. ومن يلعب في النار لا يجعل النار لعبة. وهي خطر على كل مستقبل الطائفة لأن يوم الفصل كان ميقاتا فيحكم بقطع رأسها على مقصلة التاريخ. ولنا في قصة مذابح التوتسي والهوتو، أو يوغسلافيا، عبرة لمن يعتبر. ويحتفل كلينتون مع أهل البوسنة برفع نصب لأهل سربرينتسا. ولا يمكن حرق المراحل، ولكن كشف قانون الشيء يمنحنا السيطرة عليه وتسريع عمليات الشفاء كما نفعل مع المريض. وكما يقول مالك بن نبي ان التعامل مع القانون لا يعني الغاؤه بل التعامل معه بما يمنحنا السيطرة عليه، كما أمكن للحديد أن يطير عل شكل طائرات فهنا لم يتم الغاء القانون بل تم التعامل معه حسب وجوده الأزلي بتداخل القوانين على بعضها البعض.

 

وأوربا اليوم ودعت مرحلة الدولة القومية باتجاه الدولة العالمية وسوف يصبحون عام 2004، 25 دولة تضم 450 مليون نسمة في أعظم تجمع عرفه التاريخ، من دون سيف جنكيزخان، ولا مدفع نابليون، أو مدرعات هتلر، بل تحت كلمة التوحيد فلا يتخذ البشر بعضهم بعضا أربابا من دون الله. وعندما أسمع المدافع عن حقوق الانسان في وجه الأنظمة الشمولية ابتسم لأنه يشبه القديس الذي يتحدث الى اللصوص. سلاحه قلم رصاص في وجه الرصاص. والأحلام الوردية في كنف أمة تشخر نافعة بشرط أن لا تختلط بالكوابيس؟

 

ان كل ما نكتبه لا قيمة له، والشعوب تتعلم بالمعاناة. وحتى نصل الى شاطئ الوعي ليس أمامنا الا البكاء وصرير الأسنان على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع.

 

المصدر: صحيفة الشرق الاوسط

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك