مركز الحوار الوطني والحاجة لتجديد الذات الوطنية

مركز الحوار الوطني والحاجة لتجديد الذات الوطنية

ميرزا الخويلدي

ربما جاء إنشاء مركز الحوار الوطني (السعودي*)، الذي ولد بإرادة ملكية، متأخراً بعض الوقت، ولكنه بكل المقاييس جاء متقاطعاً مع إرادة الغالبية العظمى من السعوديين الذين أضناهم البحث عن الذات الوطنية، في وقت عملت عناصر مختلفة على تكريس الفئويات والعصبيات في الجسم الوطني.

 

وكان أهم إنجاز لهذا المركز أنه جاء كحاضن أساسي للتباين والاختلاف والتنوع داخل الإطار الوطني، هذا التعدد الذي يثري الحياة ويطلق كوامن الإبداع، ويستجيب لطبيعة الكون ومنطق الفطرة الإنسانية.

 

لقد جاء مركز الحوار الوطني في الوقت الذي كانت البلاد تواجه تحديات لا تخص طرفاً دون آخر ولا تستهدف جزءً دون غيره، بل توجهت هذه التحديات إلى البناء الوطني، ووحدت السعوديين في مواجهتهم لمخاطر تستهدف بلادهم.

 

وجاء المركز كتطور طبيعي للحاجة لخلق مناخات اجتماعية قادرة على تحقيق التعايش وقابلة لقيادة وتعزيز التفاهم والانفتاح الداخلي، وهي أيضاً لديها القابلية لأن تتعاطى بكل نضج مع القضايا العامة والحساسة، والمركز أيضاً تعبير واضح لثقة القيادة بقاعدتها وبنخبها الفكرية وهي تعيد للجمهور ومثقفيه واحدة من أهم القضايا التي كانت حتى وقت قريب من القضايا المغلقة والمحصورة بصاحب القرار. وبالتالي فإن المركز يحاول أن يشرك مختلف التوجهات في المساهمة في القضايا الكلية والرئيسية وشديدة الأهمية كالوحدة الوطنية. معبراً عن رغبة صاحب القرار في اعتماد وسائل شعبية لشد الوحدات وتعزيز الانسجام الوطني، ورغبته في خلق إطار مشترك للثقافة الوطنية.

 

لقد وعى المشرع لفكرة هذا المركز أن الخلل في التعامل الداخلي ليس دائماً وجود إرادة عدوانية، أو انعدام النيات الحسنة، ولكن الخلل كثيراً ما يعود لاختلاف منطق التعامل بين مكونات المجتمع، هذا المنطق الذي كان مفتوحاً أمام أي نظرية أو فكر يعتنقه صاحبه، ليصدر للسياق الوطني جميع الانعكاسات الأيديولوجية الخاصة، فإذا كان هذا الفكر ينتمي لثقافة القطيعة فإن منطق القطيعة والعداء يصبح متفشياً بقوة الدفع التي يوفرها الأتباع وتضمنها الأفكار.. حدث ذلك أيضاً في ظل غياب أي جهد جمعي أو أي جهة تأخذ على عاتقها صهر الانقسامات والاختلافات في سياق المصلحة الوطنية، ونزع عوامل التفتيت والقطيعة من الثقافة العامة.

 

ولذلك فقد جاء مركز الحوار الوطني ليسد ثغرة هامة في هذا السياق، حيث يؤسس لمنطق جديد لعلاقة السعوديين ببعضهم، هذا المنطق يقوم على الحوار والتواصل، وتحقيق المفاصلة الشعورية والثقافية بين منطق الجفاء والقطيعة والكراهية ومنطق التواصل والتعاون.

 

وعلى الصعيد الوطني، فهناك صلة عميقة بين مفهوم الحوار وبين الوحدة الوطنية، فالوحدة لا تعني الدمج القسري، أو فرض أساليب إلغاء الآخر، أو التحيز لثقافة واحدة، بل تعني تحقيق الوحدة المتكافئة بين مكونات الوطن الواحد، وأول مبادئ هذا التكافؤ هو الاعتراف المتبادل وتحقيق الاحترام بين مختلف أجزاء الوطن، والحوار هو أهم بوابة لتصليب وتمتين الوحدة الوطنية، ذلك أنه يوسع منطقة المشترك، ويحدد مفاصل الاختلاف، والحوار يخلق البيئة الصالحة للتفاهم وتنقية الأجواء ورفع الالتباس وإزالة مشاعر الحدة والكراهية والجفاء، ويوجد قدراُ كبيراً من التواصل والفهم المشترك.. وصولاً للقبول بالآخر ضمن السياق الوطني، وتغليب المصلحة الوطنية على الانتماءات والاتجاهات الخاصة.. وفي ظل انعدام الحوار كوسيلة، وانعدام الهوية الوطنية كغاية أولى، فإن النزعات العصبية تطفو على السطح وتؤسس لمنطق التباين والجفاء والقطيعة مما يضر الوطن برمته.

 

وفي كلمة التأسيس توقع ولي العهد السعودي أن يحقق إنشاء هذا المركز وتواصل الحوار تحت رعايته (إنجازا تاريخيا يسهم في إيجاد قناة للتعبير المسؤول سيكون لها أثر فعال في محاربة التعصب والغلو والتطرف ويوجد مناخا نقيا تنطلق منه المواقف الحكيمة والآراء المستنيرة التي ترفض الإرهاب والفكر الإرهابي).

 

وبنظرة ثاقبة يتطلع صاحب القرار إلى عنصرين يشكلان أساساً للإجماع الوطني، ويحققان القاسم المشترك لجميع مكونات المجتمع وهما برأي ولي العهد في كلمة التأسيس لهذا المركز: الإسلام، باعتباره دين البلاد ومصدر تشريعها و(تمسكنا بوحدة هذا الوطن وإيماننا بالمساواة بين أبنائه) ويحدد ولي العهد السقف الذي يظلل واحة الحوار الوطني بأن (أي حوار مثمر لا بد أن ينطلق من هاتين الركيزتين ويعمل على تقوية التمسك بهما فلا حياة لنا إلا بالإسلام ولا عزة لنا إلا بوحدة الوطن).

 

بهذه المبادئ الأساسية للتعايش الوطني يدخل السعوديون حقبة مليئة بالتحدي تضرب بعمق وبعنف العديد من المسلمات التي ألفوها، وتختبر بقسوة جميع القناعات التي ألفوها، وتعصف بعض هذه التحديات بمبادئ وطنية هامة، ولذلك يتعزز يوماً بعد أهمية دعم وتوثيق هذا المركز كحاضن أساسي للثقافة الوطنية، وكعامل على تعزيز الحوار وخلق ظروف التعاون والتعايش بين مختلف اجزاء البلاد.

 

ولعل المهم أن المشروع الثقافي والفكري الذي أنتج مركز الحوار جاء صريحاً ومباشراً وهو يؤسس ببسالة لمبدأ التعدد الداخلي قابلاً بها وسادلاً جناحه الوطني فوقها، دون إلغاء أو إنكار، فلا مناص من الاعتراف بحقيقة أننا مجتمع متعدد الثقافات والأفكار وحتى المذاهب، وأن لدينا الشجاعة للاعتراف بهذا التعدد والتعامل معه تحت السقف الرفيع الذي حدده ولي العهد في كلمة التأسيس وهو الدين والوطن..

 

ويبقى أمام مركز الحوار الوطني ضمن مشاغله الأساسية العمل الجاد والسريع على تجديد الذات الوطنية وذلك عبر بلورة مشروع وطني يأخذ بعين الاعتبار مصلحة البلاد وتعزيز قوتها وتماسكها من جهة، والتحديات والمتغيرات الدولية من جهة أخرى. وذلك من أجل الوصول الى ميثاق وحدة وطنية جديد قوامه الانفتاح والتواصل والاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع السعودي. والإيمان العميق بأن هذا الوطن يشكل وطناً نهائياً لجميع أبنائه.

 

ولعل الوصول لهذا الميثاق الوطني الجديد لا يتم غالباً إلا بتجديد الذات الوطنية، لتستوعب كل المكونات وتجيب على كل التحديات، وهي مهمة يشترك في تحقيقها الفعاليات الفكرية والثقافية في البلاد جنباً إلى جنب مع مؤسسات الثقافة والتعليم والإعلام، ويأتي مركز الحوار على رأس الجهات القادرة على تحقيق هذا المبدأ والوصول لهذه الغاية.

 

(نقلا عن جريدة الشرق الأوسط.)

 

* من إضافة موقع الوحدة الإسلامية.

** ميرزا الخويلدي : كاتب وصحافي من السعودية

 

المصدر: موقع قطيفيات

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك