التعددية.. في التصور الإسلامي

التعددية.. في التصور الإسلامي

أسامة فيصل

في كل حضارة من الحضارات الإنسانية هناك تعددية في المذاهب وفي مدارس الفكر وفلسفاتها وتيارات السياسة وتنظيماتها، وقد تكون في بعض الحضارات تعددية في القوميات واللغات والأوطان.. تتمايز وحدات التعددية في الخصوصيات المتعددة، مع اجتماعها كلها في رابط الحضارة الواحدة، كما الأمر في حضارتنا الإسلامية، وإذا كانت الرؤية الإسلامية قد قصرت "الوحدة" التي لا تركّب فيها ولا تعدد لها على الذات الإلهية وحدها، دون كل المخلوقات والمحدثات والموجودات في كل ميادين الخلق المادية والحيوانية والإنسانية والفكرية، تلك التي قامت جميعها على التعدد والتزاوج والتركب والارتفاق… فإن هدى الرؤية الإسلامية تكون بهذا الموقف الثابت ـ ثبات الاعتقاد الديني ـ بل جوهر هذا الاعتقاد ـ قد جعلت من التعددية، في كل الظواهر المخلوقة، "سنة" من سنن الله سبحانه وتعالى في الخلق و"آية" من الآيات التي لا تبديل لها ولا تحويل… إنها القانون الإلهي والسنة الإلهية ـ الأزلية الأبدية ـ في ميادين الكون المادي والاجتماع الإنساني، وشؤون العمران وميادينه… وبها تتميز وتختص "الوحدانية" في ذات "الحق". كما تتميز وتختص "التعددية" بكل ظواهر "الخلق".

 

هناك مفهوم يتميز به التصور الإسلامي للكون والحياة ربما يمثل خاصية من خصائص هذا الدين ينفرد بها عن غيره في الأديان والحضارات الإنسانية الأخرى، وهو مفهوم الوسط أو الوسطية، ذلك أن القرآن الكريم يؤكد أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة وسطا (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) "البقرة: 143". من هنا ينبني التصور الإسلامي على هذا المفهوم في نظرته إلى الأشياء. أو وسطية العدل (التوازن)، الذي لا يقوم إلا بجمع عناصر الحق والصواب من طرفي غلو الإفراط والتفريط وتمييزها عنهما..

 

إذا كان هذا هو معنى الوسطية الإسلامية فإن التعددية الموزونة بميزاتها لابد وأن تكون تميزاً لفرقاء يجمعهم جامع الإسلام وتنوعاً لمذاهب وتيارات تظللها مرجعية التصور الإسلامي الجامع، وخصوصيات متعددة في إطار ثوابت الوحدة الإسلامية الأمر الذي يجعل هذه التعددية نمواً وتنمية للخصوصيات مع احتفاظ كل فرقائها وأطراف الخصوصيات وأفراد التنوع بالروح الإسلامية، والمزاج الإسلامي وتواصل الفروع مع أصل الشجرة الطيبة لكلمة الإسلام، التي هي بلاغ الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان هذا الرسول إلى العالمين…

 

ففي سائر ميادين العمران البشري والفكر الإنساني نجد أن التعدد والازدواج سنة من سنن الله في هذا الكون وآية من آياته، لا تبديل لها ولا تحويل..

 

ففي القوميات والأجناس تعددية يتحدث عنها القرآن الكريم باعتبارها "آية" من آيات الله في الاجتماع الإنساني. يقول تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين) "الروم: 21" وقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) "الحجرات: 13". وفي الحضارات الإنسانية هناك تعددية يراها القرآن الكريم الأصل الدائم والقاعدة الأبدية، والسنة الإلهية التي هي الحافز للتنافس في الخيرات والاستباق في الطيبات، والسبب في التدافع الذي يقوم ويرشد مسارات الأمم والحضارات على دروب التقدم والارتقاء… فهي المصدر والباعث على حيوية الإبداع الذي لا سبيل إليه إذا غاب هذا التمايز وطمست الخصوصية بين الحضارات: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) "هود: 119"، وقوله تعالى: (ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)"المائدة: 48"، فالتعددية هي الحافز على امتحانات وابتلاءات المنافسة والاستباق في ميادين الإبداع بين الفرقاء المتمايزين في الشرائع والمناهج والحضارات… وفي إطار تعددية "الشرائع" تحت جامع الدين الواحد. جاء في القرآن الكريم الحديث عن نجاة أصحاب الشرائع المتعددة عبر تاريخ النبوات، إذا هم جمعتهم جميعاً أصول الإيمان بالألوهية الواحدة. واليوم الآخر والعمل الصالح.. (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) "المائدة: 69". وقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) "البقرة: 62".

 

وفي إطار الدولة الإسلامية الأولى كانت هناك تعددية في إطار وحدة الأمة، فالقبائل غدت لبنات متعددة، فقد تحدثت "صحيفة المدينة" التي تعتبر الدستور الأول للدولة الوليدة. عن الأحلاف وحقوقهم وواجباتهم في إطار "وحدة الأمة"، كما تعرضت الصحيفة التي أبرزت مفهوم التعددية من التصور الإسلامي لنظام الحكم والسياسة إلى التعددية الدينية بين المسلمين في ذلك العهد واليهود الذين كانوا رعايا في هذه الدولة الجديدة. جاء في الصحيفة "المؤمنون المسلمون من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس"، "وأن يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم". ففي إطار الأمة الواحدة، والدولة الواحدة ذات المرجعية الواحدة تعددت الانتماءات القبلية والدينية. ونظم الدستور (الصحيفة) فرقاء هذا الانتماء… ففي "حل التناقضات" التي قد تحدث بين فرقاء التعددية حدد الإسلام طرقاً تميزت بها شريعته، وجاءت طبيعتها وآلياتها ومقاصدها لتكرس قيام هذه "التعددية" عند المستوى الوسطي، الذي لا يذهب بها إلى "إلغاء الآخر" و"نفيه"… ولا إلى "التشرذم" و"القطيعة" التي لا رابط ولا جامع يوحّد بين فرقائها… فلقد رفض الإسلام مذهب "الصراع" سبيلاً لحل التناقضات بين فرقاء التعددية، لأن الصراع غايته نفي الآخر وإفنائه ومن ثم فهو يلغي التعددية وينفيها. وبدلاً من أن يكون الصراع سبيلاً لحل التناقضات بين فرقاء التعددية. زكّى الإسلام "سبيل التدافع" الذي هو "حراك" لا "إهلاك" و"تعديل" في المواقف والمواقع لا "نفي وإلغاء" للآخر فيخاطب الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيقول: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) "فصلت: 34" فمفهوم التدافع الذي يقترحه القرآن الكريم لا يلغي هذا المختلف أو الآخر، بل يسعى إلى تحويله من الموقع الخطأ إلى الموقع الصواب.

 

فيتم التحرك بواسطة سنة "التدافع". مع بقاء تعددية الفرقاء المتمايزين" ثم باعتبارها الحافز الذي يدفع الحياة والعمران إلى الأمام دائماً وأبداً.. هذا يعني اقتران التقدم بالتعددية، إذ بدونها لا تدافع لأنه مستحيل بدون وجود الفرقاء المتدافعين أبداً ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) "البقرة: 251". وعندما أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالقتال جاء الحديث عن "التدافع" لتكون غايات القتال تعديل مواقف المشركين من مواقع الشرك إلى الإيمان، فهي "حراك" لا "نفي وإهلاك".. ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور. أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور) "الحج: 40"… إذن فالتعددية داخل أي حضارة من الحضارات الإنسانية لا تتأتى إلا مع وجود المرجعية الواحدة… فلو انتفت المرجعية الواحدة ـ الموحدة للحضارة ـ انتفى معنى "التعدد" في هذه الحضارة أيضاً وهذا جوهر التصور الإسلامي لمفهوم التعددية.

 

المصدر: موقع طريق القدس

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك