خلاف نرضاه .. خلاف نأباه

خلاف نرضاه .. خلاف نأباه

محمد تقي القمي

 

هناك فرق بين خلاف وخلاف.

هناك خلاف تمليه طبيعة التفكير، وتقتضيه سنن الاجتماع، ونحن نقبله ونرضاه، وهناك خلاف يصطنع اصطناعا، ونحن نرفضه ونأباه.

 

إننا نقبل الخلاف الفكري ما دام في دائرة معقولة. ونرحب بالخلاف المذهبي لأنه وليد آراء اجتهادية مرجعها الكتاب والسنة أو ما أعطاه الكتاب أو السنة قوة الحجية. ونرحب بما عند الشيعة وأهل السنة، لأنهما تؤمنان بما يجب على المسلم أن يؤمن به، وإن اختلفتا في مسائل فقهية، وتميزتا في مسألة الولاية والخلافة. ونرحب كذلك بالمعارف الكلامية، لأنها ميدان من ميادين التفكير، للمسلم أن يجول فيه.

 

نحن نرحب بهذه الخلافات كلها، بل نعتز كمسلمين بالكثير منها، لأنها إن دلت على شئ فإنما تدل على الحرية الفكرية، ولأنها إن أحسن النظر إليها، تسعد الأمة وتكفل رقيها وتبقى على سلامتها.

 

إن هذه الخلافات في جوهرها تنبئ عن معنى الوفاق، فهي ترتبط بأصل واحد هو الكتاب والسنة.

 

وليس معنى هذا أن في الكتاب خلافا، فالمسلمون بحمد الله متفقون في كتابهم مجمعون على ما بين الدفتين، وهذا فخر ليس فوقه فخر تنفرد به هذه الأمة دون غيرها من سائر الشعوب.

 

وكذلك ليس معناه أن في السنة خلافا، بمعنى أن البعض يقبل ما صدر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والبعض لا يقبله، معاذ الله، فالمسلمون يتفقون في وجوب الأخذ بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه قد يختلفون في الفهم أو التفسير أو في أن هذا صدر عن الرسول الأعظم أو لم يصدر. أما من لا يأخذ بما أمر به الرسول فليس بمسلم:

 

فالآراء الاجتهادية إذن، يجمعها الكتاب والسنة، وليس بعد هذا من وفاق.

 

على ان الاجتهاد نفسه مقيد بشروط، منها أنه لا يقوم إلا على الكتاب والسنة والأصول المستوحاة منهما أو من أحدهما، وأنه لا يباح إلا لمن استوفى شروط العدالة، وأنه لا يكون إلا فيما يجوز الاجتهاد فيه. فإذا حاولنا ان نحمله وزر بعض الأخطاء التاريخية، أخطأنا فهم معناه. وإذا أجزناه في غير محله، جانبنا الصواب؛ فحيث يكون ظالم ومظلوم مثلا، لا يجوز أن يبرر الظلم بإعطائه اسم الاجتهاد، والا كان للظالم أجر على ظلمه، كما للمجتهد أجر على اجتهاده، وفي هذا مغالطة وانحراف.

 

وليس يجوز الجدال في قيمة الاجتهاد مهما يكن من تعدد الآراء بين المجتهدين، فهذا مما يشرف التشريع الاسلامي ويجعله صالحا لعلاج ما يجد وما يحدث في كل زمان ومكان.

 

أما كيف تنشأ الخلافات بين مذهب ومذهب، سني وسني أو سني وشيعي، فإن ذلك يرجع تارة إلى تفسير آية أو فهم معنى منها أو فهم رواية على معنى يفهم الغير منها معنى سواء، أو أن هناك ما ثبت صدوره عن الرسول الكريم عند فريق ولم يثبت عند فريق آخر. ولا يختلف الجميع على ان ما جاء به الكتاب وما جاء به النبي، فاصل لا راد له.

 

وأما الخلافات حول أوائل المقالات، أو المعارف الكلامية، أو ما يسمى بعلم الكلام، فإنها حول معارف إسلامية تبلور كثيراً من الحقائق وتصقل العقول والأفهام، وتحدث باحتكاكها وميضاً يكشف سبل البحث وطرائق الاستدلال.

 

تلك هي خلافات المسلمين، وهي في باطنها تشير إلى الوحدة لا إلى الفرقة، وتنبئ عن الاجتماع لا عن التشتت. وما دام الحق هو المبتغي فالوصول إليه ليس بعسير إذا نظر كل فريق نظرة هادئة إلى ما عند سواه، فإن اقتنع بوجهة نظره فيها ونعمت، وإلا عذره فيما ثبت عنده واحترام رأيه فيه، ومثل هذا المسلك الطبيعي يحقق للأمة الخير، ويقابل بكل تقدير، وأكبر دليل على ذلك، ما قوبل به كتاب فقه الامامية الذي طبع في مصر أخيراً، فقد قوبل بتحريب حار، رغم أنه كتاب مذهب لم يكن معروفا عند الكثيرين، ورغم أن فيه خلافات في بعض مسائل فقهية اقتضتها طبيعة الفقه وطبيعة الاستنباط. والترحيب بهذا الكتاب يدل على أن المسلمين بطبيعتهم يحسنون التقدير.

 

أما الخلاف الذي لا نرحب به ولا نقبله، بل نرفضه ونقاومه، فهو الخلاف الذي تمليه الكراهية والبغضاء، وتغذيه الشبه والأوهام، ويوجد البلبلة في صفوف الأمة، ويؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين.

 

ذلك خلاف لا يتفق والخلق الاسلامي، ولا يستند إلى المعارف الإسلامية؛ حمل لواءه مؤلفون كتبوا قبل التثبت تارة، وبداعي الغرض والهوى تارات، فسودوا صحيفة الشيعة في نظر أهل السنة، وسودوا صحيفة أهل السنة في نظر المتشيعين بعضهم خلط بين أهل السنة والنواصب، وأكثرهم خلطوا بين الشيعة والغلاة، وبينها وبين الفرق البائدة، والصقوا بها آراء لا تمت إليها بصلة، بل الشيعة منها براء.

 

وكم من كتب وضعت لتأجيج الخصومة بين طوائف المسلمين، وكم من أقلام أسفت في التجريح خدمة لحكام طغاة أقاموا عروشهم على أساس الخصومة بين المسلمين. وكان لهذه التآليف أسوأ الأثر في تصدع وحدة الأمة، فقد غرست البغضاء في القلوب، والظنة في العقول، وأبعدت طائفة كبيرة عن إخوانهم في الدين.

 

ثم جاء التقريب، فلم يدع على توحيد المذاهب، ولم يقصد إلى إلغاء الخلاف، وإنما نبه الوعي، وأوضح بأدق بيان وأوفاه أن الهجوم والتشنيع وجرح العواطف لا تخدم أي مذهب، وأن الإسفاف في السب والشتم لا يفيد أي طائفة، بل على العكس يجلب الضر لكل فريق.

 

وتأثر بدعوتنا كثير من حملة الأقلام فجنحوا إلى سلوك سبيل المنطق والبرهان، وأسرع هذا الأثر أكثر مما كنا ننتظر، إلا أن بعض الأقلام لا تزال تسف، ولكنها ـ والحمد لله ـ ليست بذات وزن، وعما قليل ينتهي أمرها إلى زوال.

 

وإذا كان المتزمتون هنا، والجامدون هناك حاولوا عرقلتنا، وبذلوا جهدهم ليعوقوا سيرنا، فقد نجحنا في إسكات أكثرهم، وكان إسلامهم أكبر عون لنا عليهم، لأن العواطف الدينية تصد المسلم عن خدمة أغراض أعداء الإسلام.

 

وليت الأمر يقف عند المتزمتين والجامدين من المسلمين، بل إن هناك من أقحموا أنفسهم في الدراسات الإسلامية وهم ليسوا بمسلمين، اولئك هم المستشرقون، لقد ألف بعضهم في التاريخ الاسلامي وعلم الكلام، وكتب بعضهم في الطائفية في لإسلام، وأضفوا على بحوثهم ـ تحت اسم الاستشراق ـ مظهراً علمياً يجعل المسلم يكادلا يشك فيها يكتبون.

 

ونحن وإن كنا نعترف بأنهم خدموا بعض العلوم الشرقية، إلا أننا نتهمهم في ناحية البحوث الاسلامية، فليس فيهم من لم يبث السموم في بحوثه، وليس فيهم من لم يكن وراء ما يكتب أغراض تسيء إلى المسلمين تارة، والى سمعة الإسلام تارة، وتؤجج الخصومة بين أبناء هذا الدين.

 

إنهم يحملون الإسلام وزر كل التصرفات السيئة التي ارتكبها الظالمون. ويخلقون أبطالا خياليين كعبد الله بن سبأ وأمثاله، ويصورونهم على أنهم أصحاب كل حول وطول في تاريخ الإسلام. ويناصرون بكل قوتهم أي عمل يفرق كلمة المسلمين، وأكبر دليل على ذلك موقفهم من النحل الجديدة التي ظهرت منذ قرن، والتي تدعي الإسلام، كالبابية والبهائية وأضرابهما، فهم يطبلون لها ويزمرون، وهم يعتبرونها من الفرق الإسلامية رغم أن المسلمين أنفسهم لا يعترفون بإسلامها قط، بل يبلغ الأمر ببعضهم أن يخصص جزءاً من بحوثه في أدب البابيي، ثم هم بعد ذلك ينسبون لأنفسهم الأفكار الإصلاحية في الإسلام.

 

إن الأمر قد يكون مفهوماً بالنسبة للمتزمتين أو المتعصبين من الإسلام، أما بالنسبة لهؤلاء وهم غير مسلمين، فليس مفهوماً على الاطلاق ما دخل هؤلاء بالطائفية وهم ليسوا بشيعة ولا بسنة، وما اهتمامهم بالفرق الإسلامية وهم ليسوا بمسلمين؟.

 

إنهم دخلوا المعركة بكل قوتهم، وكأنهم قوام على أبناء هذا الدين، دخلوا بدعابتهم الجبارة للدس وبث السموم باسم البحوث. وحرصوا جد الحرص على إظهار المسلمين دائما بمظهر المتفرقين المتطاحنين. يتصيدون الحوادث من هنا وهناك ليبرزوا النقط الخلافية ويرجعوها إلى منابع قديمة تسبق الإسلام، غير مبالين بمعنى التوحيد عند المسلمين، ولا بإيمان أهل القبلة بالقرآن الكريم، وبالملائكة والنبيين، وبالعبث والحساب، ولا آبهين لوحدة الصلاة والزكاة والصوم والحج، وغير ذلك من أصول الإسلام الحنيف.

 

وإذا دعوا لإلقاء محاضرات في الجامعات، جعلوا همهم توكيد معنى الفرقة بين المسلمين، وإذا ألقوا بحوثاً في مؤتمر علمي انصبت بحوثهم على إظهار الطائفتين الكبيرتين في الإسلام بمظهر أصحاب دينين مختلفين لا دين واحد، وإذا عثروا على كتاب قديم في التجريح والسباب، لا يهدأ بالهم إلا أن يعيدوا طبعه، وإذا وجدوا نسخة خطية فيها التشنيع والتشهير حرصوا على طبعها ونشرها في العالمين.

 

وياليتهم يكتفون بهاذ، بل أنهم بدءوا يؤلفون كتباً، يسرف فيها بضعهم في التشيع إلى حد الغلو، ويسرف فيها البعض الآخر في التسنن إلى أقصى الحدود حتى لكأنه من الخوارج، ذلك لكي يكسب كل منهما عطف فريق من المسلمين فتتاح لهما فرصة الدس والايقاع وتسميم الإفكار في أوسع الحدود.

 

وأخطر من ذلك كله أن نفراً من المؤلفين المسلمين يعتمدون في بحوثهم على أقوال المستشرقين كأصول مسلمة نظراً لحسن ظنهم بهؤلاء، وفي هذا من السذاجة والبساطة ما يضحك نفس المستشرقين:

 

إن دعاة الاستشراق الذين يتظاهرون بالتعصب للشيعة تارة، وللسنة أخرى، هم في الغالب من أشد الناس تعصباً لدياناتهم، وهم في الحقيقة أحرص الناس على تحطيم المسلمين كمجتمع، والقضاء على الإسلام كفكرة، ومحو العقيدة الإسلامية من الوجود.

 

أذكر أننا حين كنا نحاول إقناع أصحاب دار نشر ليصرفوا النظر عن طبع كتاب قديم، فيه من الخرافات ما يضحك غيرنا علينا، وفيه من السخافات ما يثير سخرية شبابنا نحن بعد أن تفتحت عقولهم بالثقافة، وفيه من تجريح العواطف ما كانت تمليه سياسة الحكام في عهد المؤلف. إذا مستشرق يهاجمنا في مجلة فرنسية، ويجزم أن هذا النوع من الكتب ضروري لفهم عقلية المسلمين قبل قرون، ومعنى هذا أن الكتاب سند وأي سند، يخدم أغراضهم، ويساعد على تحقيق مآربهم.

 

فماذا علينا نحن المسلمين؟.

 

أليس علينا أن نعني بدراساتنا عناية تغنينا عن هؤلاء المصححين للألفاظ، الذين لا هم لهم إلا نبش الماضي، وبعث ما يثير الأحقاد بين المسلمين، كي تتفرق كلمتهم، وتتفتت وحدتهم؟.

 

أليس علينا أن ندفن إلى الأبد كل ما يظهرنا بمظهر المنحرفين المتفرقين؟.

 

أليس من واجبنا أن نثبت أن أهل البيت أدرى بما فيه، وأن نتعب أنفسنا ونظهر حقائق خلافاتنا التي نعتز بها كأصحاب فكرة حرة سليمة؟.

 

أليس من واجبنا أن نخرج كنوزنا، ونبرز ما في التراث الاسلامي من روعة وجلال.

 

إننا بين أحد أمرين: إما أن ندخل الميدان بكل قوتنا فننجو من أحابيل دعاة الفرقة، وإما أن نتخاذل ونتواكل فيجهز علينا أعداء الإسلام. * محمد تقي القمي : السكرتير العام لجماعة التقريب

 

المصدر: مجلة رسالة الإسلام العدد 37

الأكثر مشاركة في الفيس بوك