حرية الفكر

حرية الفكر

محمد بن حامد الأحمري

قال الحسن البصري: "اعلم أن التفكير يدعو إلى الخير والعمل به"، ومنذ مائة عام: "حذر شاعر ألماني -هاينه- الفرنسيين ألا يقللوا من قدرة الأفكار، ففكرة يقولها أستاذ في غرفة درسه قد تدمر حضارة". لعل من المناسب – بداية- تعريف الفكر على النحو التالي: "الفكر عمل العقل لإدراك ما يحيط به".. وله منازل : فالأولى: مرحلة عامة يشترك فيها أغلب الناس، بناء على الثقافة العامة أو البراعة في مهنة أو عمل، بشكل يجعل هذه الخبرة ممكنة الوروث والتأثير. ثم مرحلته الثانية الأعلى منها: وهي التقدم في معرفة الروابط بين المؤثرات من حوله، ليعرفها، ثم يفهم طريقة عملها. ومرحلته الأعلى: التأثير فيها.

 

والحقيقة أنه يصعب رؤية الخط الفارق بين المفكر والفيلسوف، إلا من اتضح لديه أن المفكر صاحب دور حيوي مباشر في الحركة اليومية للأفكار والسياسة والدين والأدب والخلق، وقد يكون المفكر على مستوى الفليسوف معرفة، ولكنه يتميز بالعمل، إذ كثير من الفلاسفة علماء فلسفة، بأفكار معتادة مكرورة، أجادوا معرفتها ولم يستطيعوا تحريكها في الحياة، وهناك من الفلاسفة من يَجدُ أكثر من المفكرين في العمل في الإقناع برأيه، أو عمله. أما المفكر فهو مساهم حيوي مؤثر في الحياة اليومية للناس، وإن لم يكن له نصيب مما سماه الناس فلسفة، ولكن له مشروعه العملي في الوجود. والله أعلم.

 

الاحتفاء بالفكر:

 

إن زمن القوة الإيمانية والقوة المادية هو زمن نُصرة الفكر وفتح الحرية له، وخير الأزمان التي مر بها الفكر هو عصور الإسلام الأولى، إذ انطلق التفكير في النص، والتفكير في التطبيق، والتفكير في توليد الأعمال والمفاهيم، واجتلاب الصالح منها بطريقة لم يسبق للأمة العربية أن عرفتها من قبل. ولا أثيرت الأفكار والمبادرات كما أثيرت في زمن الرسالة.. مما حدى بأحدهم أن يكتب كتابًا عن دولة الإسلام الأولى بأنها دولة الفكرة.. ففكرة الخندق، وفكرة الخاتم، ولباس الحلة للوفود، بل وقبوله صلى الله عليه وسلم لقول أحدهم والحديث في البخاري: "اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، وقبوله صلى الله عليه وسلم لها وتأييده.. ثم قبول التدوين والدواوين وغيرها. وهكذا كانت دولة محمد بن عبد الوهاب.. وهكذا الدول المؤثرة في العصور الحديثة نتاج فكر وممارسة لهذا الفكر.

 

حرية الفكر:

 

والأمة التي ترعى الفكر وحريته تسود، والذين يحقرونه ويطاردونه يذلون ويخسرون، إن حرية الفكر تعني الإذن بالوعي، وتعني فتح آفاق المعرفة، تعني التخلص من تأسيس فرق الباطنية، والفرق المفزعة المنحرفة المدمرة، التي تنمو في الظلام، وتجتاح المجتمع في أي لحظة بلا رقيب، وبلا حساب من أحد، تجد المجتمعات المغلقة مصيرها في أكف مجهولة، وتحت إرادة فرق غريبة، ومفاهيم شاذة، والسبب هم الذين يرون سيادة معرفتهم وفهمهم ويغلقون على الناس الدروب فتنفجر في وجوههم ذات يوم بلا حساب ولا تقدير. حرية التفكير تعني أن نفتح الباب لخير ما عندنا، فنقبله ونتدارسه ونطوره، ونجعله أكثر دقة وجمالاً وتعبيرًا عن الحق والوحي والخير والعدل، أما كبت الناس فتعني السماح بنشر الفساد، تعني تدمير العقل، تعني قتل روح الدين والتدين، تعني قفل أبواب المعرفة والاجتهاد، تعني سيطرة ثقافة الشرطة، وتمكنهم من توجيه الفكر والثقافة، وحشر عقول الأمة وقلوبها وتطلعاتها في يد عسكر باطش، وجاسوس خائف، يفرج عن جهله وخوفه من شرطيه الآخر بقتل تطلعات الأرواح، وقتل ثمار العقول، وتقييد حرية الفهم.

 

إن حرية الفكر ليست حرية تآمر، وليست حرية فتنة ولا خلاف، إنها خيرٌ عميمٌ، ومصلحة للأمة تتجاوز الأفراد فلا يتفهمها ذوو المصالح الضيقة العاجلة، ولا يستطيع إدراك أهميتها من لا يفكر عقله إلا برغباته.. ولا من يجعل من حرية الفكر هروبًا من كل التزام، إنها حرية الفكر التي سادت في عهد الرسالة وفي عهود السلف المبكرة، والتي أنتجت المذاهب الإسلامية التي ننعم بخيرها، وحرمنا من منهجيتها الرائعة التي بنت الأمة وأيقظت الهمة وأوقدت العقول وهزت الهمم وأصلحت الأمم. لقد كانت مهمازًا كبيرًا للعقل البشري في الغرب خاصة، نفعهم كثيرًا، ولكننا بلا شك قد استفدنا من نتائجه التي جاءتنا بعد تعديلات وصياغة وتطوير، جاءت متأخرة جدًا نتائج عقولنا قديمًا، ربما عادت لنا أسلحة قاتلة، وعادت لنا أعجمية، ملطخة بالوثنية والثقافة الغربية، نعم مليئة بكثير لا نريده، ولكننا أفدنا منها، وإن رشدنا أعدناها لتستوطن عندنا مرة أخرى.

 

وحرية التفكير لا تعني شيئًا ما لم يصاحبها حرية التعبير، فالتعبير هو الآلة التي توصل الفكرة، بَرةٌ كانت أو فاجرةٌ للناس، ولا يقتل الفكرة إلا الصمت عنها، أو خذلانها من الوصول للناس، وكم من حق ورشد قتله الصامتون، وكم من مظلمة قهرت الناس بسبب سكوت العارفين، والكبت والصمت عن التعبير عن الحق يلازم لحظات الانحطاط في إنسانية الإنسان، وتردي مشاعره، وموت ضميره. وهناك لا يستطيع أحد أن ينادي فقط بحرية الفكر، لأن الفكر ينمو في الهواء الطلق، والجهل يكبر ويسود وينتصر في أجواء الانغلاق والعفونة. فتتلازم الدعامتان: حرية التعبير، ونضوج الفكر تلازمًا مصيريًا، لأن الفكر الذي قد يسود، أو يجبر عليه الناس، قد لا يكون صحيحًا، ولا معقولاً، وجهلاً مركبًا، ولكنه يستمد قوته من تحريم غيره. وما حدث في الدول الشيوعية جدير بفهم الناس له، وتقدير حقيقة خطر الانغلاق الفكري. ومعظم المجتمعات البشرية تمارس شرورًا من هذا القبيل، غير أن الطغيان المذل يقتل أهم جوانب عزة الإنسان، ويحطم قواه الذهنية، ويجعل من يتنفج بالتِحكم ضحية لتحكمه، ومغلوبًا تحت سيطرة من أعطى نسبة أعلى من حرية التفكير والتعبير.

 

وتلك من أهم مقومات المجتمع الإسلامي في لحظات بنائه الأولى، ثم في مراحل قوته الكبيرة، ومن قرأ العصر الأموي والعصر العباسي الأول الذي يقف عند نهاية القرن الثاني الهجري، يجد حقيقة مهما كرهناها ولكنها واقعة، وهي وجود حريات واسعة في المجتمع الإسلامي أثرت الحياة العقلية آنذاك وفيما بعد، وقد أفادت مهما انتقد المتأخرون الكثير من تلك المدارس.

 

الوحي والفكر والتراث:

 

هناك نصوص في ديننا قطعية المصدر، جاءت عن الله تعالى.. وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنها ظني الصدور عن رسول الله، وهناك قطعيات في الدلالة من النصين السابقين، أما ما عدا ذلك من الظنيات فهي ميدان للعقل والفكر البشري، في فهمها وتطبيقها بشرط رعاية أصول التعامل مع هذه النصوص، فقد رأينا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يعملون عقولهم محاولين للفهم، ومطبقين لما فهموه من النص.. وقد يختلفون في فهمهم له ما دام النص يسمح بهذا التعدد.. وما دامت مقاصد النص واضحة للمجتهد.

 

وكما تعرضت نصوص في فترات عديدة الفرق المنحرفة محاولة العبث بها، وتأويلها حسب هواها، مما سبب خوفًا من العلماء والمجتهدين عبر العصور أن تبتذل النصوص، واللغة والعقل، ثم تؤول بما يخدم آراء المجموعات المنحرفة، ويصرف النص عن مراده؛ فشددت على إلزام المتأخرين بما قيل في النصوص من قبل - وإن كان القول السابق اجتهادًا واضحًا - ومنعت المتأخر من حق الاجتهاد، لا لأن ليس له حق ولكن بدافع الخوف، ثم جاء دافع التقليد، والرغبة في الحفاظ على أقوال السابقين.. وتكاثر الاهتمام بحفظ النصوص وإن كان الحفظ على حساب الفهم، وجرت المبالغة في تقديس المحفوظ ووضع الحفظ معيارًا، وهذه من مبالغات أهل النصوص، مما أوصل العقل المسلم إلى درجة من الركود خطيرة، عادت بانهيار الحركة العلمية والفكرية عند المسلمين، وفتحت قلوبهم وأعينهم وبلدانهم لمن عنده حيوية فكرية وعلمية، فسنة الله في الإنسان التطلع للجديد، والبحث عن المفيد، ولما قيدت المعرفة بقيود العجز والخوف والجمود، وبالغ أصحابها في طريقة التعرف عليها بأن حولوها نصوصًا معقدة، أو مثاليات ومبالغات في الحفظ والاستذكار، خرج الناس من الحق ورتعوا في غياهب الباطل - الوافد من أمم أخرى - الذي يستطيعون أو يخيل لهم أنهم يستطيعون فهمه والتعامل معه.

 

وكم من عمل قام لهدف نبيل أدى لعكس مراده، وكم من فكرة صحيحة ولدت عكس هدفها، فالحرص على التقيد خوف التفلت وَلَّد جمودًا، ولم يطق الناس هذا الجمود فحاولوا تكسيره حتى باستخدام خصومه، بوعي أو بدونه، فالجمود ضد الفطرة وضد الدين.. ومن هنا نعلم أن الجمود نوع من الإضرار بالدين والصد عنه، وأثره لا يقل كثيرًا عن أثر الهجران له، يدرك ذلك من سبر أثره في أمة الإسلام، وهو أوضح عند أمم أخرى. إنها خطوط صعبة ودقيقة بين الطرفين، غير أن العلم والوعي والتجرد تعين بإذن الله على السلوك الصحيح بين أوهام هذا التضاد.

 

فمتى ما تبين لنا الفارق بين النص وفهم النص، استطعنا احترام النص وفهم النص، وما دمنا نكثف المساحة حول النص، ونملأها بأقوال الناس وأفهامهم، ثم نلقي عليها قداسة النص القطعي فإن هذا الأسلوب الحمائي لا يخدم الشرع، ولا يطور الفهم، ولا يجدد الحياة العلمية والعملية، بل الدور المهم الأعظم لرائد الإصلاح أن يجلي النص من ملابسات أقوال الناس وأفهامهم، حتى يواجهوا خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم دون تلبيس ولا تعقيد.. ثم يعمل الناس فهمهم في النص في كل زمان إذا توفرت لهم أدوات اللغة كما فهم السلف، دون قطيعة مع السلف ولا تقديس لفهم يزيد عن مراد الشارع.. وهذا مما نقصد به الفكر.

 

أما التراث فهو كثير من أقوال السلف، وممارساتهم، واجتهاداتهم، نستصحبها ولا توقفنا عند حدها ما دام النص لغة وغاية يتجاوز الزمان، ويتجاوز التجارب الإسلامية. والبديل عن ذلك أن نجعل التراث شرعًا، ونقدس غير المقدس وبهذه الطريقة نفتح المجال الأكبر للتفلت من الشرع لكثرة التراث فيه، ونجعله عائقًا عن الفهم ليس فقط بسبب ضخامته ولكن أيضًا لتنافر منهجياته وتعددها. إن التراث مهم للمفتي وللقاضي، ولكن ليس للمفتي والقاضي أن يلتزمه.

 

وفي زماننا زاد الخوف من الفكر الغربي، ومن مشكلات العصر الكبيرة، فكان أحد ملاجئ الهروب الفخر بالتراث، وهذه سنة للمغلوب الذي يبحث عن ذاته أمام الاستلاب الحضاري، سلب النفس والقيمة، ثم المبالغة في دور وقيمة التراث، وبالتالي إكساب التراث لباس الشرع والقداسة، وهو موقف دفاعي وليس موقفًا إحيائيًا، فالإحياء يقتضي التخفف من الأثقال، والشفافية والفاعلية، والمرهق بهذه الثقافات والقيود ومجاميع التراث، وتقديس الموروث يجد نفسه كليلاً عن النهوض بالعبء فيخطئ من يقوم، ويتهمهم بالتهاون والتساهل، بل وبالخروج عن طريقة السلف الصالح. وهو محق في بعض اتهامه أنهم خرجوا أو سيخرجون عن بعض ميراث السلف، ولكن هذا بعض مقتضيات تجديد الحياة، ولكنه بالمقابل لا يملك حلاً سوى تمجيد التقليد.

 

ولا يعترف كثير من المسلمين الطيبين أنهم بمهاجمتهم للفكر الغربي والدعوة لمنهج السلف يقعون أحيانًا فيما هربوا منه، لأنهم في تعلقهم بكل شيء سلف إنما هو تعلق تاريخي، وتقليد للناس، لا احتكامًا للدين، لأنهم يغرقون في أفكار السلف، وهم بشر، عندهم حق وباطل، ويصيبون ويخطئون، فيسمي بعضًا قولهم وأفكارهم سلفية يقدسها، رغم ما يمكن أن يكون فيها من غيرها، ويسمي من عداه منحرفًا، وإن كان يجره للقرآن.. إنها عملية أعقد مما يحب قوم تبسيطها، بالتحذير عن المصطلحات واللغة المعاصرة، والثقافة المعاصرة، وهذه سلبية وهروب من الحقيقة والواقع المتعب حيث الهدوء بقراءة ما سبق قوله مرات في كل زمن. ويحاول محسن عبد الحميد أن يفصل بين الوحي والفكر الإسلامي ويشرح هذه الملابسات التي حدثت عن قصد أو غيره فيقول: "إن منهج التغيير الإسلامي لابد أن يضع خطًا فاصلاً واضحًا بين ما هو وحي إلهي وبين ما هو جهد بشري، أو فكر بشري، أو تصور بشري لمسائل الوحي الإلهي وتفسيره وشرحه في إطار قواعده وأصوله، وفي ضوء المراحل التاريخية المتتابعة. إن تسمية الوحي وما حوله من فكر بالفكر الإسلامي أو الفكرة الإسلامية لدى كثير من الإسلاميين أنفسهم خطأ كبير، شجع أرباب المذاهب المادية والعلمانية على الجرأة في تسميتهما معًا بالتراث.. فهؤلاء عندما يريدون أن يراجعوا التراث، يراجعونه من حيث هو كل في نظرهم لا يتجزأ. والنتيجة الطبيعية عند هؤلاء أن الوحي الإلهي يخضع للمرحلة الزمنية، فهو من التراث الذي يتعلق بالماضي.. والحال أن الوحي من حيث هو علم الله الكامل لا يمثل ذلك الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، بل هو يمثل الحقيقة الأزلية التي لا ترتبط بالزمن ولا تخضع له.. فهو ليس تاريخا للبشرية، أو حركة حضارية تختص بمرحلة من مراحل تطور تاريخ أمة من الأمم".

 

عصر الفكر الإسلامي:

 

ليس صحيحًا أن نقول بأن العصر الإسلامي الأول عصرًا لجانب واحد من جوانب التفكير والعمل، فلا نقول بأن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم هو زمن للنص بلا فكر، ولا زمن للفكر بلا نص، بل هو العصر الذي تكامل فيه العقل مع النص، فهو زمن النص وزمن الفكر، لا عداء ولا خصومة، ولا مدرسة للرأي تختصم مع مدرسة الحديث، ولا فريقان يروج كل منهما لأتباعه أو لفريقه ويسخر من الآخرين، وما نراه في زماننا من صراع مصدره الجهل والهوى، بين المتخاصمين، فمتى كان الدين خصمًا للعقل، ومتى تصور المسلم الانفصام بين الأمرين إلا بدوافع المشكلات الكلامية المتأخرة، وهي نتاج لمشكلات لا حل لها، ولا نتوقع أنها قادرة على ذلك، فلم تجلب للماضين خيرًا فأنى لها أن تجلبه لنا! ولا تزيدنا إلا حيرة، ولا نستفيد منها إلا انزواء في زوايا الكلام المذموم، وغربة عن التأثير والمنفعة من الوحي ومن الحياة الجارية.

 

فأزهى عصور الفكر الإسلامي هي العصور الأولى للإسلام، الذي تجلت فيها الاجتهادات والمدارس والأعمال والفرق، عصور محاولة فهم النص ومحاولة تطبيقه، عصور تجاوب الأمة مع كتابها دون حواجز من التاريخ، ولا عوائق من الفلسفات الأخرى، ولا عوائق جمود من داخل المجتمع.

 

ثم تتنوع العصور وتعلو القدرات وتسقط ويوجد في كل زمن رجاله القادرون على الصياغة والتجديد، ويسمى كل عصر بأبرز جوانب النبوغ فيه، أو جوانب الانهيار.

 

ولا يمكننا أن نقول أن تاريخ ثقافتنا الإسلامية ومدارسها التي تعددت واختلفت منذ نهاية العصر الراشدي إلى الآن ليست مدارس فكرية، ولا أن نقول أن مدرسة محددة ليست فكرية، والأخرى فكرية، ليس لأن الموقف هذا فيه كثير من الاعتباط، وتكلف زعم العصمة لمن يرى فكرته علمًا فقط، ولكن لأن ما عدا النص فهو فكر، بدءًا من طريقة التعامل مع النص، وأسلوب استيعابه، وطريقة تقديمه، وجميع مدارس الفقه وأصول الفقه، وأسس النظر في النصوص إنما هي إعمال للعقل بأدواته، في التعامل مع النص.. ومن هذه الأساليب ما انضبط مع الزمن وقامت قواعده، وتيسرت تطبيقاته فأصبح أشبه بالعلم، ومنها ما هو قابل للأخذ والرد، ولم تسلم بعد تطبيقاته من نظر، وهو ما بقي في أذهان الناس فكرًا، وكلما اتسعت دائرة المفكر فيه من هذه العلوم والقواعد كلما عاد نشاط الفكر ونضج العلم، وتخلص من أوهام حسبها ذات يوم علومًا قطعية منتهية.

 

العقيدة والفكر:

 

ما هي المسائل العقدية وما هي المسائل الفكرية والفرق بينهما؟ وما الذي يجعل مسألة الإمامة، والمسح على الخفين، والمتعة، وخلق القرآن، والعلاقة بين النقل والعقل، ومسألة القبور، من الحاكمية أو خارجها؟ وهل لمرور الزمن أثر في إدخال بعضها للاعتقاد وتأجيل البعض؟

 

وقبل التفصيل في هذا من المهم أن نعلم بدور النص كهاد ومسيطر على وضع الأحكام النهائية، وهذا النص يحكم به شخص على شيء أو فكرة خارجه، وحكمه مهما يكن متأثر بحال من يصدر الحكم وحال المحكوم فيه.. تحقيق المناط وتنقيح المناط.. فهناك عملية بشرية طويلة من بدء الأمر إلى منتهاه منفصلة عن النص ومتأثرة بالشخص الذي يؤمن أو لا يؤمن على حكم الله.

 

ثم الوهم الذي يقع في عقول الناس بأن المعلومة مجردة هي أول شيء وآخره، هذا وهم لا يقره الشرع ولا يشفع له الواقع، فقد يعلم المسألة غير المؤمن، وقد يحفظ النص من هو ضعيف الفطنة، قاصر الفهم، ضعيف الاستنباط، وهذه العلل تعتور من يقول أو يقول عنه الناس أن عنده علم.. ولهذا كانت هناك حاجة ملحة لمعرفة قدرات العالم فيما سوى استحضار النص.

 

إن بحث العقائد وتطورها وتطور مناقشاتها والخلاف حولها في عصر الإسلام الأول ما هو إلا دلالة على جسارة العقل المسلم، وشجاعته، ورغبته الجامحة في ارتياد المجهول، ومصاولة المخالفين، وما جاء مفكر طموح منصف مصيب إلا كان مقابله منحرف في الاعتقاد، أو مخالف في السلوك؛ فالعقائد قصة العقول النابهة، والمتوثبة المهتدية والضالة على السواء.

 

مسائل الاعتقاد بين الثبات والتغير:

 

نعلم أن مصطلح كلمة عقيدة مصطلح لاحق متأخر، جمعت تحته مسائل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته.. وقد تظهر في بعض الأزمنة مسائل تهم الناس وتمس معرفتهم بربهم وكتابهم ونبيهم، فتحتاج هذه المسائل إلى وضع الإجابات اللازمة، ويسابق علماء الأمة إلى شرح هذه الجوانب، وبيان الحق فيها، وبحسب علاقتها بالشرع وعلاقتها بالحياة الفكرية والسلوكية للأمة تأخذ مكانها، ومن هذه المسائل مسألة خلق القرآن، وقبل ذلك مسائل التشيع والخوارج، وقبلها الإمامة.

 

ثم فيما بعد رأينا الباقلاني يضيف مسائل الإمامة لبحث في العقيدة ويبين عذره في ذلك، وظهرت في عصر ابن تيمية مسائل نقد الشيعة، ومسائل العقل والنقل وغيرها، وقد واجه هذه المسائل بطريقة علمية فكرية، وأخذت هذه المسائل طريقها لكتب السلف تعرف وتنتقد وتؤيد.. وهل نخرجها من مسائل الاعتقاد لتأخر زمانها؟ ونعتبر ما عداها لتقدم زمانها.. أم أنها تكتسب الشرعية عندما تلاقي القبول وتكون صحيحة وتتأسس للأجيال السابقة.. ومن هذه القضايا قضية الفكر مثلاً، فهناك مسائل كالشمول والموقف من عقائد وممارسات كالديموقراطية سوف تكسب فيما بعد مكانًا عقديًا مهمًا، كما نالت مسائل بعض العلماء كابن باز وغيره مكانة، ومسألة الولاء والبراء مكانة، سوف يكون مهمًا ويستخدم ويؤثر ما دام الناس يعانون الخضوع لغيرهم من المذاهب الأخرى.

 

ومسألة الإمامة لولا الخلاف مع الشيعة والخوارج لكان للموضوع شكل آخر.. إن علمًا من أشرف ما توصل له الفقهاء المتأخرون بدأه الجويني، ثم الغزالي، ووضحه وقعده وشرحه الشاطبي، أصبح من النظريات الجامعة في أصول الفقه وفهم مقاصد الشرع.. وقال هؤلاء بما لم يقله أحد قبلهم، أي بلا سابقة خاصة في هذا. وهكذا مسائل عديدة منها الإجماع وفهم الشافعي فيه، وغيره.. مما انتقد في زمانه، ثم قُبل عند المتأخرين.

 

الفقه والفكر:

 

الفكر يشمل الاجتهاد الفقهي في المسائل الفقهية والعقدية وغيرها، لأنه على تعريفنا السابق منسجم معه، ويرى هذا كُتاب معاصرون. (5) وقد كان الضعف الفكري عند المسلمين من أهم الأسباب التي أوهنت الأمة، وجعلت ذريتها نهبًا للفرق والمذاهب المنحرفة من داخلها أو من خارجها، وسبب ذلك أن انتصار السنة على المعتزلة والفلاسفة، أشاع الثقة وجو الانتصار، فلم يعودوا يأبهون بهذه الانحرافات، ثم الجو السياسي الذي كان بعيدًا عن المعرفة زمن خلفاء العباسيين في العصر الثالث ثم ما تلاه، من تعاقب أمم أعجمية بدوية على الحكم كالترك، أضعف الثقافة الفكرية والمذهبية ولم يعد بالإمكان إلا دراسة ما تمت دراسته، وشرحه واختصاره، بينما تنموا المدارس المنحرفة وتعبث بالعقول والأفهام، واتجه الاهتمام للفقه، وتُرك أو ضعف كثيرًا الاهتمام بالملل والعقائد بعد ابن حزم، حتى جاء ابن تيمية ولاحظ هذا الخلل الكبير، من إقبال الناس على الفقه وترك الميدان الفكري والسلوكي للفرق المنحرفة، وأحس بكفاءته في مواجهة هذه الانحرافات، فانبرى لها، واسمعه يقول لتلميذه الحافظ البزار بعد أن سأله عن ذلك: "الفروع أمرها قريب ومن قلد فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه، وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية، والملاحدة القائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية، والكلابية، والسلمية، وغيرهم من أهل البدع، قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال، وبان لي أن كثيرًا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، الظاهرة العلية على كل دين، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قل أن سمعت أو رأيت معرضًا عن الكتاب والسنة مقبلاً على مقالاتهم إلا وقد تزندق، أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده.

 

فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه على كل من يقدر على دفع شبههم، وأباطيلهم، وقطع حجتهم، وأضاليلهم، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائلهم، ذبًا عن الملة الحنفية والسنة الصحيحة الجلية". (6)

 

وما كان لابن تيمية أن ينصر عقائد الملة وهو ضعيف المعرفة بالثقافة الأخرى المختلفة والمنحرفة، بل تمكنه من عقائد الكفر وملل الضلال ورده عليها، هو الذي أعطاه هذا الوزن في دين الإسلام، وإلا فكم من نابغة قصر فكره وعقله ومعارفه في علوم قليلة، ومذاهب قريبة، فلم يقدر له أن يعي العالم المحيط، ولم يقدر له أيضًا أن ينصر عقيدته كما يليق بقدرته، بل القدرة متوقفة أصلاً على المعرفة.

 

ومعرفة الدين نفسه مختلفة عند من له إلمام معرفي واسع ومن لم يكن له هذا الإلمام المعرفي، فمعرفة الدين وثيقة الصلة بغيرها، وعقل الإنسان ليس جمادًا، بل هو أخذ ورد مستمرين وتجاوب مع ما حوله، فهذه المعارف التي قد تبدو لقصير النظر بعيدة عن الدين ليست كذلك، فالمعارف الدينية ليست أمرًا ونهيًا فقط، بل هي أدلة للمعرفة تتطلب السعي لغيرها وفهم ما عداها وما يحيط بها في سبيل تطبيق ووعي بها أكبر، ثم لكل فهم واسع أثر أكبر على معرفة الإسلام.. ومن انفتق ذهنه واتسعت معرفته لن يستطيع إعادته لحجم أقل ولمقدرة أضيق وإن تمنى ذلك، فلنجعل من المعرفة الواسعة عمقًا ورافدًا وسلاحًا يجعل معارفنا في الدين أكثر مضاءًا.. وتلمسنا للطريق أهدى بهدي كتاب الله وسنة رسوله ثم بتجارب القرون ورصيد المعارف المتطورة.

 

وهذا موقف يوافقنا فيه كبار عقلاء الشيعة، فيرى مرتضى المطهري: "أن أحد أسباب ضعف المسلمين هو ضعف الاهتمام بالعلوم العقلية" (7) لذا فقد ألزم نفسه الاهتمام بهذه الجوانب.. ويرى أن من يدافع عن الإسلام عليه أن يتسلح بالثقافة الإسلامية، والإطلاع على الثقافة الأجنبية، وتعزيز وإكمال منهجية الاجتهاد، ولا يعني هنا الاجتهاد الفقهي. (8)

 

وقد جد في زماننا من الفرق والمذاهب والآراء ما يقف الجمع عاجزًا عن استيعابه فضلاً عن مواجهته. وفي كل يوم تصب في آذان المسلمين بدعة، وتواجههم تحديات غير سابقة، وكل هذا يستوجب نفيرًا متدربًا منفتحًا جادًا صادق النية راسخ المعرفة بدينه يتجه لشيء من هذه المدارس لا يقول كلمة خطأ، ولكن ليفهم ويقر النفع ويرد عن ثقة.

 

كثرة أخطاء المفكرين:

 

لماذا يخطئ المفكرون أكثر من غيرهم؟

 

إنها حقيقة أن للمفكرين أخطاء تتجاوز أخطاء غيرهم، ولكن لو عرفنا سبب ذلك لكنا أكثر احترامًا لهم وتمجيدًا لعملهم، فمن أسباب ذلك إن كنا قبلنا، أن المفكر هو الذي يعايش زمانه ويراقبه وينقده ويصلحه.

 

- أولا: لأن الموضوعات التي يعالجها المفكر تكون غالبًا مما لم يدرج عليه النقاش في عصور سابقة، ولم يتدارسوه في كتب ومساجد وجامعات ويصلوا فيه إلى جواب حاسم، بل هو يواجه حوادث ومؤثرات معاصرة له، ينظر في حسنها وأقربها لدينه فيأخذ به، ويراقب سيئها فيبدي عيوبه ويحذر منه، وقد لا يجد له سلفًا في المسألة المطروحة لأنه لم يسبق أن عرضت من قبل.

 

- ثانيًا: أنه في لحظة المواجهة يكون في زمن صناعة الموقف الإسلامي من النازلة، وزمن صناعة الموقف الفكري غير زمن استقرار الرد، فنحن في زماننا لا نعاني من مشكلة صياغة رد على المعتزلة، إذ نقف على قمة جبل من المادة المتوفرة والتي لا تحتاج إلا فتح كتاب وقدرة على استذكار الأدلة، ولكننا لو عدنا لزمن صناعة الموقف من حوار المعتزلة ودرسنا مرحلة المحنة لوجدناها محنة للعلماء أنفسهم، ولعلمهم، ولعقولهم، ولقدراتهم، ولمهارات الحوار وصناعة الموقف، ثم محنة لهم أنفسهم فيما بينهم وما اختلفوا عليه، فتوتر العلاقات والهجر بين رجال من خيرة الأمة آنذاك، ليس مما يمكن المرور السطحي عليه، ثم أثر هذا الخلاف بين علماء السنة الذين لم يكونوا معتزلة على تفصيلات الموقف، واللوم الذي وجهه بعض علماء الأمة للإمام الجليل أحمد وموقفه ممن خالفه ليس مما يسهل على المنصف تجاهله، ولا يفهمن أحد من سياقي هذا تخطئة أحمد، ولكني أذكر بصعوبة بناء موقف فكري في نازلة ما أسهل أن تعجب بسياق كتاب الحيدة على جمال صياغته وقوة حجته وجمالها، ولكن هل فكرت في بناء وزمن بناء تلك الحجج؟ علينا أن نفكر في المرحلة الفكرية قبل أن يصبح الأمر عقيدة مسلم بها بين أهل السنة.. واكتمل بناء الفكرة والتدليل عليها وترتيب أصولها حتى سهلت على المتأخرين الذين يقولون إنها حجج علمية واضحة سهلة السياق والإقناع!

 

وهكذا صياغة ابن تيمية لموقفه من المغول وكتبهم ونظام حكمهم، وموقفه من شيخه الذي درج في شبابه على تمجيده باعترافه هو ابن عربي ثم بنائه لنقض أسس شيخه وهدمها.. وهكذا موقفه من بناء شبكة أفكاره تجاه ما سبق وما لحق من نوازل الفكر في زمنه.. ومجده إنما جاء من معالجته ومقدرته الفكرية إن قلنا أنها شيء غير فقهه الشرعي.. إن بإمكان القارئ أن يبحث في كتاب المغني عن ترجيح ودراسة لأقوال الفقهاء، ولكن ابن تيمية العظيم في تاريخ الإسلام هو المفكر. ومحمد بن عبد الوهاب بنى مدرسته الفكرية لمواجهة الانحراف المعاصر له، وليس الأثر والخلود له فقيهًا، ولكن داعية، مجدد، مفكر، مصلح، ومساهماته الفقهية لا تكاد تذكر.

 

وصياغات مفكرين معاصرين ومصلحين مؤثرين مهما كانت الملاحظات عليهم كانت مهمة في صياغة الجواب الإسلامي على الانحراف من داخل المجتمع الإسلامي وخارجه.. فهذا المودودي عالج مسائل العقل والنقل ومسائل المعاصرة وتأليه الخبرة البشرية، وكان له دوره العظيم في مواجهة القومية وأفكار المستعمرين التي كانوا يمررونها على المسلمين ومنها القاديانية، والموقف من الجهاد ومكان الحكومة في الدين. وأعطى سيد قطب دورًا كبيرًا لتطوير الحجاج مع الخطوط العلمانية المنحرفة وكان لكتبه من الدور العاطفي وإعادة الثقة بالدين ما جابز به ابن الجوزي في زمنه.

 

والدور الذي قام به مالك بن نبي، وهو دور يبحث عن طريق لتحريك مفاهيمه، فرغم قرابة ثلاثين عامًا من وفاته إلا أن آراءه في مسائل القابلية للاستعمار، وشروط النهضة لم تزل مادة فكرية محفزة على الوعي والتفكير، وبناء موقف حضاري إسلامي، وهل له أخطاء؟ ليس هذا طريق حديثنا، ولكن لو لم يعمل لم يخطئ.. فمراقبته ومعرفته الكبيرة بالمجتمع الغربي وفكره ومعرفته بكثير من أصول الإسلام، وحميته لدينه وأمته، وحرقته الصادقة، جعله هذا كله ينجز أعمالاً فكرية هادية تستحق الاهتمام والدراسة.. نعم هناك كثيرون جدًا لا يخطئون؛ لأنهم لا يغامرون بمواجهة فكر، ولا يغامرون بتعلم قضية مهمة، ويكتفون بحفظ ما هو محفوظ ومعروف للجميع ويطلقون نيران النقد على من تعلم دينه وواجه أنواع الغزو التي لا يدركونها.

 

- ثالثا: صعوبة واتساع القضايا الفكرية التي يواجهها المفكر المسلم المعاصر، فإذا كان التمكن في علوم الشريعة يحتاج فيه دارسه إلى كل هذا الجهد رغم استقرار مؤسساته، فكيف بعواصف الفكر العالمي التي تجتاح الأمة، بجذورها الفلسفية الضاربة في أعماق عديدة وتستنصر بالعلوم المعاصرة والأدب والتاريخ والطب.. لكم كنت أستغرب أن أجد أن نظرية داروين ذات أبعاد سياسية، واقتصادية مرتبطة بنظرية مالتوس في مسائل السكان، ومرتبطة بقضايا الانتداب والعنصرية، وأن مسائل فرويد ذات أعماق تاريخية واجتماعية ضاربة في ُينا، وأن الشيوعية أفادت أوربا اجتماعيًا، تلك الدول التي لم يحكمها الشيوعيون.

 

إن كمية المعلومات والفلسفات والممارسات والتاريخ والاجتماع تقف عائقًا دون استكمال رؤية فكرية متكاملة ومفيدة، والحاجة الكبيرة لتمكن المفكر من دينه وأصوله يمثل تحديًا كبيرًًا لبناء هذه القدرة على الفهم والتوعية، ولهذا علينا قبول التقصير لاستحالة الكمال، واتساع الأمر عن قدرة المفكر والعالم والأفكار أن نجمعها في شخص.

 

أولوية الفكر:

 

في المجتمع الذي يقل فيه العلماء الشرعيون ويوجد مفكرون مؤثرون، من المهم جلب التوازن للبيئة وسد الفراغ، فما يقوم الأمر على جانب دون الآخر.. وإن ساد فن الفقه ولم ينتشر الفكر كان الخطر كبيرًا من أن تغيب كثير من مبادئ الدين وأسسه ومعالمه ومواقفه العقدية والسلوكية، وقد يلتزم الناس طقوسًا وقواعد بلا روح تدين، وإن انتشر الفكر دون العلم كانت الصراعات المذهبية والفلسفية كبيرة، وكان احتمال تمزق المرجعية الفقهية والسلوكية مشكلة، وترنحت القوانين والشرائع في شتى الآفاق. وقد يصرف العمل والمشاغل الإسلاميين عن تقدير المواقف والمتطلبات الفكرية للمرحلة، وهذا أسوأ ما يجرون له فسيجدون العمل يذهب هباء لأنهم لا يعرفون مرادهم، ولا يقدرون خصومتهم وولاءهم، ولا يرتبون مواقفهم الفكرية ولا يعرفون أي المواقف أولى بالإتباع وأيها أولى بالابتعاد، إنه لا يشغل عن الفكر شاغل في مراحل الصياغة والتغيرات والمتابعة. وإنك لتجد للإسلاميين عشرات المساجد يتقاتلون عليها والمؤسسات الخيرية ومشاريع المال والاستثمار وخدمات الدعوة، ثم لا تجد لهم مؤسسة فكرية تقوم بصياغة أفكارهم ونشرها وتصويبها وإجراء الحوار والتعديل والتصويب فيها.

 

المصدر: مجلة العصر

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك