آفاق التواصل مع الآخر

آفاق التواصل مع الآخر

فهمي هويدي

 

آفاق التواصل مع الآخر في التصور الإسلامي تقوم على ثلاثة أعمدة هي:

* الأول: أن الآخر إنسان له حصانته وكرامته. وعديدة هي الآيات القرآنية التي تعلي من شأن الإنسان، حتى تعتبره بحق مخلوق الله المختار. من تلك الآيات قوله تعالى : «ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الإسراء – 70). «لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم» (التين – 4). «ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» (الأعراف – 11). «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة» (البقرة – 30). «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» (الحجر – 29).

 

عبر الشيخ محمد الغزالي عن تلك الرؤية في تقديمه لكتابه حول «حقوق الإنسان» بقوله: «إن قدر الإنسان في نظر الإسلام رفيع، والمكانة المنشودة له تجعله سيداً في الأرض وفي السماء، ذلك انه يحمل بين جنبيه نفخة من روح الله وقبساً من نوره الأقدس. وهذا (النسب السماوي) هو الذي رشح الإنسان ليكون خليفة عن الله في أرضه. وهو الذي جعل الملائكة، بل صنوف المخلوقات الأخرى، تعنو له وتعترف بتفوقه».

 

ومن المهم أن نلاحظ في هذا الصدد أن الآيات التي تمجد الإنسان وتعلي مرتبته فوق كل المخلوقات، تتناول الإنسان لذاته لا لاعتقاده.. من حيث هو تكوين بشري، وقبل أن يصبح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً أو بوذياً، وقبل أن يصبح ابيض أو اسود أو اصفر..

 

وليس صحيحاً على الإطلاق أن تلك الحفاوة القرآنية من نصيب المسلمين دون غيرهم كما يتصور البعض. ذلك أن النصوص القرآنية شديدة الوضوح في هذه النقطة بالذات، فهي تارة تتحدث عن «الإنسان» وتارة تتحدث عن «بني آدم»، ومرات أخرى توجه الحديث إلى «الناس». وهذا التعميم لا تخفى دلالته على أي عقل منصف ومدرك للغة الخطاب في القرآن الكريم، التي تستخدم موازين للتعبير غاية في الدقة، تحسب بها متى يكون الخطاب للإنسان وللناس بعامة، ومتى يوجه الكلام للمؤمنين والمسلمين قبل غيرهم.

 

إن أوسع الكرامات التي يقررها الإسلام للإنسان، وأعمها وادومها، هي تلك التي ينالها الفرد منذ ولادته، بل منذ تكوينه جنيناً في بطن أمه.. كرامة لم يؤد لها ثمناً مادياً ولا معنوياً. ولكنها منحة السماء التي منحته فطرته، والتي جعلت كرامته وإنسانيته صنوين مقترنين في شريعة الإسلام، بهذا عبر الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز في مؤلفه «نظرات في الإسلام» وأضاف قائلاً: إن حقيقة تلك الكرامة تتمثل في كونها سياج من الصيانة والحصانة. هي ظل ظليل ينشره قانون الإسلام على كل فرد من البشر: ذكراً أو أنثى، ابيض أو اسود، ضعيفاً أو قوياً، فقيراً أو غنياً من أي ملة أو نحلة فرضت.. ظل ظليل ينشره قانون الإسلام على كل فرد يصون به دمه أن يسفك، وعرضه أن ينتهك، وماله أن يغتصب، ومسكنه أن يقتحم، ونسبه أن يبدل، ووطنه أن يخرج منه أو يزاحم عليه، وضميره أن يتحكم فيه قسراً، تعطل حريته خداعاً ومكراً.

 

استطرد الشيخ دراز قائلاً: «بهذه الكرامة يحمي الإسلام أعداءه كما يحمي أبناءه وأولياءه.. انه يحمي أعداءه في حياتهم، ويحميهم بعد موتهم، يحميهم في حياتهم، فيحول دون قتالهم إلا إذا بدأوا بالعدوان ويحميهم في ميدان القتال نفسه، إذ يؤمنهم من النهب والسلب والغدر والاغتيال. ثم يحميهم بعد موتهم، إذ يحرم أجسادهم على كل تشويه أو تمثيل (بنص الحديث الشريف).. إن هذه الكرامة التي كرم الله بها الإنسانية في كل فرد من أفرادها، هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين بني آدم».

 

* الثاني: إن النصوص الإسلامية لم تكتف بالتأكيد على القيمة المطلقة للإنسان، ولكنها أقامت انطلاقاً من تلك الحقيقة، كما من الجسور بين المسلمين وغيرهم يفتح الطريق واسعاً لاخوة بني الإسلام، من اجل بناء حياة تملؤها المودة والرحمة. فثمة نصوص مباشرة في هذا المعنى خاطبت كافة خلق الله، من كل جنس ولون وملة:

 

- يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، إن الله عليم خبير (الحجرات – 13).

- يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء (النساء – 1).

- ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة، إن الله سميع بصير (لقمان – 28).

- أيها الناس، إن ربكم واحد، وان أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي ولا لاحمر على ابيض ولا ابيض على احمر فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب (من خطبة الرسول في حجة الوداع).

 

وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام في صلاة آخر الليل: اللهم أني اشهد انك أنت الله لا اله إلا أنت، وان العباد كلهم اخوة – (أبو داود).

 

هذه النصوص تذكر بالأصل الواحد لبني الإنسان، وتنبه إلى ثمة حكمة إلهية في اختلاف الخلق شكلاً وموضوعاً، مؤكدة انه ليس في هذه الدنيا إنسان بطبيعته افضل من إنسان إذ الكل من نفس واحدة، أبوهم آدم وأمهم حواء.. والتفاضل فقط أمام الله سبحانه، وله معيار واحد هو: التقوى، التي هي الإيمان والعمل الصالح.

 

وثمة نصوص أخرى في السياق ذاته تخاطب أصحاب الأديان الذين يؤمنون بالله سبحانه:

 

- إن الذين آمنوا والذين هادوا، والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم (البقرة – 62).

- إن الذين آمنوا والذين هادوا، والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (المائدة – 69).

 

وعلى صعيد ثالث – في ذات الاتجاه – تخاطب المسلمين مجموعة تالية من النصوص، مذكرة ومنبهة:

 

- قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (البقرة – 136).

- شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشورى – 13).

- والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً (النساء – 151).

- آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير (البقرة – 285).

 

هنا تفتح الآيات باب التلاقي بين المسلمين وغيرهم، معلنة أن المسلمين مؤمنون بكل الأنبياء والرسل، وان جوهر الرسالات السماوية واحد في غير تعارض أو تنافر.

 

على صعيد رابع تخاطب النصوص محمداً عليه الصلاة والسلام، معززة معاني وحدة الأديان، وبشرية الرسالة، وهدف البعثة الأكبر:

 

- ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك (فصلت – 43).

- قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً (الأعراف 158).

- وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً (سبأ – 28).

- وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء 107).

 

هذه النصوص في مجموعها، تقيم في حقيقة الأمر عديداً من نقط اللقاء بين المسلمين والآخرين، وتشق جسوراً تسع كل جهد مخلص من اجل إقامة عالم يحفظ للإنسان كرامته وسعادته ورخاءه.

 

* الثالث: إن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة الله تعالى.. والمسلم يوقن أن مشيئة الله لا راد لها ولا معقب، كما انه (سبحانه وتعالى) لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة. وهذه العبارة أوردها الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه عن غير المسلمين، وحقيقة الاختلاف هذه تعطي الآخر شرعية تعزز حقه في الكرامة والصيانة. ومعنى الاختلاف الذي أراده الله عبرت عنه آيات عدة في القرآن، منها قوله تعالى:

 

«ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين». (هود – 118 – 119).

 

«ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». (يونس – 99).

 

«ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون». (النحل – 93).

 

تلتقي هذه الآيات الثلاث على المعنى الذي نحاول لفت الأنظار إليه هنا. وخلاصه أن الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نكون مختلفين، لحكمة قصدها العليم الخبير. وهو ما لا ينبغي أن يكون موضع استغرابنا أو إنكارنا. وإنما من مقتضى سلامة الإيمان والرضا بما قسم الله سبحانه وتعالى وقدر، أن نقبل هذا الوضع ونتعامل معه على انه حقيقة واقعة، ونستخلص منه كل خير ممكن.

 

وفي تفسير الآيتين الأولتين من سورة هود، ذكر الشيخ رشيد رضا صاحب «المنار»، انه «لو شاء ربك»، أيها الرسول الحريص على إيمان قومه، الآسف على إعراض أكثرهم عن إجابة دعوته واتباع هدايته، «لجعل الناس أمة واحدة»، على دين واحد، بمقتضى الغريزة والفطرة، لا رأي لهم فيه ولا اختيار. وإذن لما كانوا هم هذا النوع من الخلق المسمى بالبشر وبنوع الإنسان. بل لكانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل أو النمل. وفي حياتهم الروحية كالملائكة، مفطورين على اعتقاد الحق وطاعة الله عز وجل. فلا يقع بينهم اختلاف، ولكنه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا ملهمين، وعاملين بالاختيار، وترجيح بعض الممكنات المتعارضة على بعض، لا مجبورين ولا مضطرين. وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار.

 

لما كان التعدد في الخلق من حكم الله التي أراد بها إغناء التنوع بين البشر، وتحفيزهم على التعاون والتعايش والتكامل، وهذا ما نفهمه من الآية «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..»، فان بذل الجهد لتحقيق التواصل مع الآخر يغدو مطلباً شرعياً، سواء للتعاون في البر والخير، أو لتحقيق التعايش الآمن، أو لتبليغ الرسالة التي تقرر النصوص الشرعية إنها موجهة إلى البشر كافة. والمبدأ المقرر في القرآن يدعو لان تقوم العلائق في هذه الحالة على قاعدة البر والقسط. إذ «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ويخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم» - (الممتحنة – 8). وهو ما يعني أن مد اليد إلى الآخر ومبادلته مشاعر المودة ليس أمراً مطلقاً، ولكنه مشروط برغبة الآخر في التعايش والمسالمة، أما حين يمارس الآخر عدواناً على المسلمين أو فتنة لهم في دينهم. فان الأمر لا بد أن يختلف، حيث يتعين رد العدوان ورفع الظلم والفتنة بكل السبل.

 

في هذا الصدد فإنني الفت النظر إلى ستة أمور هي:

 

1- أننا نخطئ إذا ما اعتبرنا الآخر «الأجنبي» هو الغرب وحده، لان ذلك يخرج الشرق والجنوب من دائرة اهتمامنا، في حين أن تواصلنا مع تلك العوالم الأخرى مطلوب أيضاً، ليس لغرض التبليغ فحسب، وهو أمر مهم لا ريب، ولكن أيضاً لان ذلك يقوي من موقف المسلمين في مواجهة الضغوط الغربية. من حيث انه لا يتيح للقوى الضاغطة أن تستفرد بالدول الإسلامية وتفرض عليها مشيئتها. وقد رأينا في السجال الحاصل الآن حول المشروع النووي الإيراني أن القيادة الإيرانية استعانت بروسيا والصين في مقاومتها للضغوط الأمريكية والأوروبية عليها.

 

2- أننا ينبغي أن نكون واعين بان الآخر الغربي ليس شيئاً واحداً، ولكنه عوالم مختلفة، فأمريكا غير أوروبا، وكما إن هناك تمايزات داخل أوروبا ذاتها، حيث تختلف إنجلترا عن فرنسا وألمانيا مثلاً، فان ثمة تمايزات أخرى داخل الدولة الواحدة، ذلك أن الديمقراطيات الغربية تحفل بالقوى السياسية والمؤسسات التي قد تتباين في مواقفها إزاء القضية. ولذلك من المهم أن تكون تلك الخرائط واضحة في ذهن العقل الإسلامي، لكي لا يضع الجميع في سلة واحدة، ولكي يعرف إلى من يتوجه، ومن يخاطب.

 

3- إننا في تعاملنا مع الغرب ينبغي ألا نستسلم للصياغة التقليدية التي تعتبرهما معسكرين مختلفين، لان ثمة متغيراً مهماً حدث خلال العقود الأخيرة ادخل الإسلام ضمن المنظومة الغربية، بحيث حوله إلى الديانة الثانية في اكثر من بلد غربي (إنجلترا وفرنسا مثلاً)، وثمة مؤشرات تدل على انهم اكبر عدداً من اليهود في الولايات المتحدة. في ظل ذلك المتغير اصبح يعيش في الغرب الآن (أوروبا والولايات المتحدة) حوالي 30 مليون مسلم عند الحد الأدنى، وهؤلاء يتعذر فصلهم عن الغرب، لأنهم غربيون من الناحيتين الواقعية والقانونية، ولذلك يتعين وضعهم في الحسبان، كما يتعين التفكير في الإفادة منهم، باعتبار احتكاكهم اليومي بالمجتمعات الغربية، الأمر الذي يوفر لهم ظروفاً افضل في فهم تلك المجتمعات وكيفية التفاعل أو التعامل معها.

 

4- أننا لا نستطيع أن نتجاهل أن الثقافة الغربية ما زالت متأثرة بأصداء الحروب الصليبية، وأجوائها المشحونة بمشاعر الرفض والاتهام والتجريح للمسلمين، مجتمعات وعقيدة. وتحفل الموسوعات الغربية والكتب المدرسية بالإشارات المعبرة عن تلك المشاعر. كما أننا لا نستطيع أن نتجاهل أن الدول الغربية. خصوصاً بعد انهيار الدولة العثمانية، تحولت إلى الهجوم على العالم الإسلامي. وما زالت دوله الكبرى حتى اللحظة الراهنة تمارس ذلك الهجوم، الذي كان احتلال العراق احدث تجلياته، ناهيك عن تحيز تلك الدول المستمر إلى جانب إسرائيل في احتلالها لفلسطين، ومساندتها في أن تصبح القوة العسكرية المهيمنة في المنطقة العربية. وهو ما يفسر الاحتشاد الدولي الراهن لمنع إيران من استكمال مشروعها النووي، مع استمرار غض الطرف عن التسلح النووي في إسرائيل.

 

5- إن أحد الشروط الأساسية لإنجاح التواصل مع الآخر هو توفر الاقتناع بالندية التي تؤسس قاعدة الاحترام المتبادل. وما اعنيه بالندية هنا هو القبول بفكرة تعددية النماذج الحضارية، وحق كل حضارة في أن تبقي على مقوماتها دون التحاق أو انسحاق بحضارة أخرى. وإذا جاز لنا أن نتصارح في هذه النقطة فإننا يجب أن نعترف بان الحضارة الغربية التي تتمتع بقوة مشهودة ما برحت تقوم بدور المهيمن على الحضارات الأخرى. وفيما يخص النخب السياسية على الأقل فان ممارساتها لا تدل على اقتناعها بحق النماذج الحضارية الأخرى في الاحتفاظ بذاتها وخصوصيتها. ومن ثم حقها في البقاء والاستمرار. وإذ نقدر للحضارة الغربية إنجازاتها، إلا إننا ينبغي أن نتعامل معها بحسبانها تجربة حضارية لها احترامها وهناك الكثير الذي يمكن أخذه أو تعلمه منها، ولكنها ليست مثلاً أعلا يتعين احتذاؤه ناهيك عن الذوبان فيه.

 

6- إننا ينبغي أن نكون واعين بأننا لن نستطيع – ولا ينبغي – أن نتقدم باتجاه التواصل مع الآخر في الغرب أو حتى في الشرق، دون أن نحقق التواصل مع الآخر الشقيق في داخل الوطن ذاته. بل ازعم أن نجاح التواصل مع الآخر في الداخل، بما يترتب عليه من قوة وتماسك النسيج الوطني، من شأنه أن يقدم نموذجاً جديراً بالتقدير والاحترام، يوفر ظرفاً مواتياً لإنجاح التواصل مع الآخر الخارجي.

 

إذا أردنا أن نتواصل مع طرف فينبغي أن نفهمه جيداً، واحسب أن غياب فهم الآخر يمثل إحدى الثغرات التي نعاني منها في جانبنا العربي والإسلامي. ومراكز البحوث المتخصصة تعد آلية مهمة في فهم الآخر والتعرف عليه، وهذا ما ينقصنا، لأننا نفتقد مراكز الدراسات الأمريكية والأوروبية والآسيوية، التي تبين لنا خرائط تلك المجتمعات وموازين القوى فيها، ومواضع التأثير في القرار السياسي أو في الرأي العام. وغني عن البيان أن توفر تلك الخرائط من شأنه أن ينير الطريق أمام الجهات المعنية بالتواصل، بحيث تعرف إلى أين تتجه بخطابها وكيف وفي أي وقت.

 

انهم في الولايات المتحدة وأوروبا يتابعون بدقة مشهودة، ويترجمون يومياً، ما تنشره الصحف وتبثه قنوات التليفزيون، الأمر الذي يمكنهم من رصد مؤشرات وتوجهات الخطاب الإعلامي في العواصم العربية. وذلك أيضاً ما نفتقده، حيث لا تتوافر لنا مثل هذه الجهود، وهو ما يدعوني إلى القول بأننا لا نعرف جيداً خرائط الغرب الذي نريد أن نخاطبه. فليس صحيحاً مثلاً أن الغرب على إطلاقه عدو لنا. صحيح أن في المجتمعات الغربية متعصبين وكارهين للإسلام والمسلمين، تدعمهم وتدفعهم بقوة المؤسسات الصهيونية التي لا يجدي معها حوار. ولكن أيضاً هناك أصدقاء ينبغي أن نحرص عليهم وهناك قطاع غير قليل من المحايدين المستعدين للاقتناع، إذا ما تلقوا خطاباً رصيناً ونزيهاً يحترم عقولهم. والى هاتين الدائرتين ينبغي أن يتوجه المسلمون بمساعي التواصل.

 

أما أين هؤلاء؟ ومن هم؟ وكيف يمكن الوصول إليهم؟ وما هي أجدى الوسائل في مخاطبتهم؟ – لن تتوفر لنا الإجابة على تلك الأسئلة إلا إذا كانت «الخرائط» التي أتحدث عنها بين أيدي الجهات المعنية بعملية التواصل. وهو ما يستدعي تساؤلاً آخر حول تلك الجهات، احسب أن الإجابة عليه ليست سهلة – لماذا؟

 

لأننا إذا تحدثنا عن العالم العربي مثلاً، سنجد أن هناك مؤسسات سياسية (مثل الجامعة العربية) وأخرى دينية (الأزهر ورابطة العالم الإسلامي) – وفي الوقت ذاته سنجد مؤسسات إقليمية (مجلس التعاون الخليجي) – وهناك مؤسسات عديدة على المستوى الوطني أو القطري. على المستوى الحكومي مثلاً هناك وزارات الخارجية والأوقاف والإعلام، هذا غير الجامعات والمجالس الوطنية المهتمة بالثقافة والدراسات الاستراتيجية. وهي جهات لها علاقات بالخارج، ويمكن أن تؤدي دوراً فعالاً في التواصل معه.

 

عند الحد الأدنى، فان التنسيق بين تلك الجهات جميعها يصبح واجباً، إذا اخذ شأن التواصل على محمل الجد، لكي تكون الرسالة واحدة، وخالية من التشويش أو التناقض.

 

في التواصل مع الآخر هناك دور لا يمكن الإقلال من شأنه تقوم به الجاليات المسلمة التي تعيش في الغرب، التي إذا وعت ونشطت وقدمت نموذجاً مشرفاً، فإنها تستطيع أن تؤدي دور الجسر الإيجابي بيننا وبين الغرب. أما فيما يخص عالمنا العربي فثمة دور تقوم به المؤسسات الرسمية، وثمة جهد آخر تنهض به المؤسسات الأخرى الأهلية والدينية والثقافية.

 

فإذا كانت وسائل الإعلام خاضعة لسلطان الدولة – كما هو الحال في اغلب الأقطار العربية – فان البث الإعلامي باللغات الأجنبية يساعد على التفاهم وتصحيح الصور المغلوطة. كذلك فان مواقع شبكة الاتصالات الدولية (الإنترنت) التي تخصصها وزارات الأوقاف لشرح المعتقدات والإجابة على أسئلة الآخر، لها دورها المهم الذي لا ينبغي الإقلال من شأنه. ويفترض في هذه الحالة أن تكون الكيفية التي تقدم بها الشروح والإجابات التي ترد على أسئلة السائلين معبرة عن الفكر الوسطي ومروجة لنهج الاعتدال، الذي هو الرسالة الأساسية المراد توصيلها.

 

في كل الأحوال فان وسائل الاتصال الحديثة تظل باباً للتبليغ وتصحيح المفاهيم، متعدد المداخل، وإذا احسنا استخدام تلك الوسائل، ووفرنا لها الكوادر البشرية التي تتمتع بالكفاءات المطلوبة (إجادة اللغة – الالتزام بالفكر الوسطي)، فسيكون بوسعنا أن ننجز الكثير على صعيد التواصل المنشود.

 

على صعيد آخر، فان حوارات أهل الأديان تظل باباً آخر يتعين طرقه والإفادة منه. ونحن هنا لا نتحدث عن العقائد وخلافاتها، لكننا نتحدث عن الأمور المتفق عليها، خصوصاً في مجال تثبيت الإيمان والدفاع عن الأخلاق والفضائل.

 

وإذا ما توازى ذلك مع حوارات مثقفي الجانبين التي تتم في المؤتمرات والمنتديات المختلفة، فان دائرة التواصل يمكن أن تتسع، بحيث تتيح مجالاً ارحب للفهم والتفاهم حول القضايا التي تهم المجتمع الإنساني.

 

ولا بأس من التوسع في إنشاء جمعيات الصداقة مع أبناء الدول الأخرى، شريطة أن يتم بالتنسيق ذلك بين الدول العربية والإسلامية، لكي تشمل تلك الجمعيات اكبر عدد ممكن من دول العالم، غربه وشرقه.

 

في الوقت ذاته، فثمة أنشطة عالمية عدة يتعين ألا يغيب المسلمون عنها، ليس فقط لتحقيق مصالحهم، ولكن أيضاً لمد جسور التواصل والتفاهم. بعض تلك الأنشطة تتعلق بحقوق الإنسان ومكافحة آثار العولمة والدفاع عن البيئة ومحاربة العنصرية والفقر وإغاثة ضحايا الكوارث.. الخ.

 

أخيراً ثمة حقيقة أرجو ألا تغيب عن أذهاننا طول الوقت، هي أننا لن نستطيع أن ندافع عن الوسطية حقاً إلا إذا مارسناها في حياتنا وعلاقات مجتمعاتنا. ذلك أن النموذج الذي يقام على الأرض ويلمسه الجميع ابلغ وانفع واجدر بالثقة والتقدير من آلاف الكلمات التي نطلقها في الهواء معبرين عن تعلقنا بالاعتدال وامتداحنا للوسطية.

 

ولست اشك في أن ذلك النموذج المنشود، إذا تحقق، فانه سيفرض نفسه على الآخرين، وسيكون خير مبلغ عنا وخير مصحح للمفاهيم المغلوطة التي تروج ضدنا. وفي هذه الحالة – التي أرجو ألا يطول انتظارنا لها – فان الآخرين هم الذين سيطرقون أبوابنا داعين إلى التواصل، ولن نصبح مضطرين للإلحاح عليهم والركض وراءهم. * فهمي هويدي : كاتب مصري

** نص مداخلة ألقيت في مؤتمر (نحن والآخر) الذي نظمته اللجنة العليا لمكافحة التطرف ووزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بالتعاون مع منظمة الأسيسيكو ، من 06 إلى 08-03-2006

 

المصدر: مؤتمر (نحن والآخر) - وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية الكويتية

http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/2010-04-26-1584.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك