آفاق التواصل مع الآخر ومبادئه

آفاق التواصل مع الآخر ومبادئه

محمد علي التسخيري

* تمهيد: نتناول فيه نقاطاً ثلاث

الأولى: يمكننا القول بأن مفهوم (نحن) و مفهوم (الآخر) يمكن أن يكونا نسبيين على ضوء المحور الذي نستند اليه. فقد يكون هذا المحور هو الذات الشخصية، او الذات المذهبية في إطار الدين الواحد، أو الذات الدينية، أو الذات المؤمنة بدين سماوي، أو الذات المؤمنة بمطلق قيمي حتى وإن لم تؤمن بدين سماوي؛ وحينئذ يختلف (الآخر) باختلاف محور (الذات)، وتختلف نوعية (العلاقة) بينهما سعة وضيقاً، وتتنوع آفاق التواصل، وبالتالي تختلف الأشكال وآليات التواصل تبعاً لذلك. وما نركز عليه في هذا البحث هو محور الذات الاسلامية فيكون (الآخر) هو ما عدا المسلمين سواء كانوا متدينين بدين سماوي أو مؤمنين بمطلقات قيمية أم لا. وبطبيعة الحال يختلف خطابنا بما فيه استدلالاتنا باختلاف المخاطب، واختلاف القيم المشتركة بيننا و بينه.

 

الثانية: لايمكننا أن نفصل المسألة الاجتماعية أي (الأسلوب والآليات الخطابية والسلوكية او فلنقل: نظام التعامل) عن المسألة الفلسفية أي (كيفية تقييم الوجود بما فيه التاريخ والانسان)،فهما مرتبطتان، بل تشكل المسألة الثانية.

 

ولذا كانت (الايديولوجيا) مرتبطة تماما بالسلوك فلا يدعي الفصل بينهما إلا المغالطون. وقديما ادعت (الرأسمالية) الفصل بين العقيدة والسلوك الاجتماعي ولكنها في الواقع كانت قد آمنت بالمادية ثم وضعت نظريتها الاجتماعية.

 

وعليه: فما لم نحدد الاسس النظرية الفلسفية المشتركة يصعب الالتزام بالمنطقية في مجال تحديد الأساليب وآليات التعامل مع الآخرين. ومن هنا فسوف نركز على الأسس النظرية التي تشكل المشترك فيه مقدمة لتحديد هذه الآليات.

 

الثالثة: قيل الكثير عن النظريات الفلسفية التي نظرت الى الوجود نظرة كلية فرأته يتلخص في (وحدة متكثرة) أو (كثرة متوحدة) ومنها نظرية (الحكمة المتعالية) للمرحوم صدر المتألهين الشيرازي وتتلخص في كون الوجود حقيقة خارجية لايوجد فيها تباين او تنوع بل هي ذات واحدة، وحدة متكثرة وكثرة متوحدة قائمة على أساس الايمان بالوجود المشكك المؤدي الى تنوع في العلل والمعاليل، والقوى والفعليات، ولكنه لايعد تنوعاً في الماهيات وإنما هو تنوع في حد الوجود وقوته وضعفه ودرجاته ومراتبه.(1) ولسنا بصدد تأييد هذه الرؤية أو ردها بقدر ما نحاول التأكيد عليه من أن كل الفلاسفة والعرفاء يدركون حقيقة جامعة وهي هذا الالتحام بين وحدة هذا الوجود المترامي وبين تنوع مظاهرة وتجلياته ولكنهم يختلفون في تفسير ذلك، وإذا ما ركزنا على الوجود الانساني اتضحت لنا هذه الحقيقة بشكل أعمق فنحن من جهة ندرك وجداناً ـ ودونما شك ـ وجود مساحة أصيلة تميز النوع الانساني عن غيره وتبعاً لذلك تميز العمل والسلوك الانساني عن السلوك الحيواني فضلاً عن الحركة النباتية أو الجمادية، كما ندرك وجود تنوع واسع في الألوان واللغات والأجناس والأذواق والثقافات وغير ذلك.

 

ومن هنا، ونتيجة لنظرة موضوعية فاحصة نجد الاسلام بمقتضى انسجامه مع الفطرة والواقع الانساني أقر أموراً تنطلق من الواقع وتنظم هذه العلاقة أروع تنظيم مما يشكل أروع نظرية إنسانية في العلاقات بين بني البشر وقد سعينا في هذا البحث لتبيين بعض الملاحظات أو الأضوية في هذا المجال، مستندين الى النصوص الاسلامية المتعلقة بهذا الموضوع. * الملاحظة الأولى:

 

التنوع لطف إلهي له غاياته الكبرى في الخلق: وقد حفلت الآيات القرآنية بما يدل على هذه الحقيقة من قبيل: قوله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فاحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابّة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون(2).

 

وقوله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب(3)

 

وقوله تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم.(4)

 

وقوله تعالى: ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا(5)

 

وقوله تعالى: يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم(6) الى غيرها من الآيات الشريفة التي تجعل التنوع سنة إلهية ونعمة على الموجودات وأهمها الانسان تسهل له حياته الى جانب ما لا يحصى من الظواهر التي تدل على التخطيط الالهي الحيكم لهذه المسيرة الانسانية المتكاملة. ولاريب في ان التنوع ـ كما تشير بعض النصوص ـ ضروري لتحقيق التعارف السليم مقدمة للتعاون البناء لتحقيق اهداف الخلقة الانسانية، كما أنه ضروري لفسح المجال لانطلاقة العقل نحو الاجتهاد والابداع والابتكار وتطوير الحياة عبر الاستفادة من قدرة التجريد العقلي والخلاص من أسر الظروف الحسبية لتصور الحالة الأفضل وبالتالي التخطيط لتحققها.

 

وهو ضروري للتنافس في الخير لتحقيق الدفع التكاملي المطلوب بما فيه التسخير المتبادل للطاقات والتعاون اللازم.

 

ثم إن هذا التنوع لابد أن يعني الاعتراف بتنوع الرؤى والمواقف والمذاهب.

 

ومن هنا لا نجد أي تأكيد على وحدة الأفكار إلا ما يتميز به المسلم عن غيره. * الملاحظة الثانية:

 

إن الانسان يطمح ـ كما قلنا ـ بفطرته الى تغيير الواقع الى الشكل الأمثل وهو يحتاج في كل مراحل التغيير الى الايمان بالقيم الثابتة وعلى النحو التالي:

 

أولاً : في مرحلة إيمان الإنسان بذاته.

 

ثانياً: في مرحلة العبور الى خارج الذات.

 

ثالثاً: في مرحلة صياغة الفكر وتكوين الصورة عن الحاضر والمستقبل انطلاقاً نحو التغيير الى الأفضل .

 

رابعاً: في مرحلة نقل الفكرة الى الآخرين واستلام افكارهم .

 

خامساً: في مرحلة السبر والتقسيم والتمحيص والتداول.

 

سادساً: في مرحلة الاستنتاج والاقتناع .

 

سابعاً: في مرحلة التخطيط للتغيير.

 

وأخيراً : في مرحلة تنفيذ التغيير وتحقيقه.

 

وخلاصة الأمر:

 

إن هناك تلازماً تاماً بين المسيرة الحضارية الإنسانية التغييرية وعملية الحوار والايمان بالقيم المشتركة والمطلقة.

 

القيم المشتركة مطلقة واقتضائية:

 

إننا وبالتحليل النفسي الوجداني الذي اعتمدناه في مسيرتنا هذه ندرك وجود منظومتين من القيم احداهما مطلقة التأثير لا تحدها حدود أو ظروف معينة، والأخرى هي قيم الحالة الطبيعية أو (قيم الأصل) مما يعني تحولها الى النقيض أو فقدانها التأثير المطلوب إذا طرأت ظروف أخرى.

 

ومن أمثلة المنظومة الاولى:

 

قيمة العدالة فهي مطلوبة مهما كانت الظروف.

 

وكذلك تقديم الشكر للمنعم المتفضل.

 

ومن أمثلة المنظومة الثانية:

 

حفظ الذات، حفظ الكرامة، التعاون، الدفاع عن المستضعفين و السلام والأمن، التغيير الى الأفضل، الرحمة، الايثار، الامانة.

 

فقد يكون الصدق في بعض الأماكن نتيجة ما يؤول إليه من تبعات ظلماً لا عدالة، وكذلك السلام أحياناً بما يؤدي إليه من جرأة على حرمات الإنسانية. فإذا كانت العدالة قيمة مطلقة، فان السلام قيمة نسبية نعمل على تحقيقها إذا عادت وجهاً من وجوه العدالة، ونرفضها ان كانت ظلماً، ولكن التساؤل الأساس هو: ماهي معايير العدالة؟ وكيف نتأكد من تحقيقها.

 

إن الأديان السماوية كلها تؤكد على معيارين:

 

الأول: معيار تعبدي نستفيد فيه من علم العالم المطلق وهو الله تعالى وهو تعليمات الدين الثابتة، والتي نتأكد من كونها صادرة من الله سبحانه، ذلك إننا نتأكد قبل ذلك من علم الله الشامل، ومن لطفه ورحمته بالإنسان المخلوق ومن عدالته وتمتعه بكل صفات الكمال، فهو لا يريد بالإنسان إلا الخير ولا يخدع الإنسان وانما يكشف له كل الواقع ويريد له كل الخير.

 

الثاني: معيار وجداني يكفي فيه التأمل في الاعماق وقناعاتها، أو فلنعبر بأنه يكفي فيه الرجوع إلى الفطرة نفسها.

 

وما يساعدنا في اكتشاف العمق الفطري هو كون هذه القناعة – أيّة قناعة كانت – من ملازمات الطبيعة الإنسانية، ولذلك نجدها متوفرةً لدى كل أبناء الإنسان في مختلف ظروفهم وحالاتهم الفردية والاجتماعية وأزمنتهم وأمكنتهم.

 

ولكي نتأكد من هذا المعنى نستطيع أن نطرح هذا السؤال على أي إنسان (هل تعتبر أن السلوك الفلاني سلوكاً إنسانياً أم سلوكاً حيوانياً) فمثلاً لنركز على (قتل اليتامى والعجزة والمستضعفين للتلهي والتشهي) مثل هذا السلوك يعد سلوكاً وحشياً من قبل اي إنسان بلا ريب والقرآن الكريم أحياناً يعيد الإنسان إًلى تأمله الوجداني وقناعته الفطرية حينما يقول: (أحلّ لكم الطيبات) (7) ويترك أمر تعيين الطيبات له ، ويقول (إنَّما حَرَّم ربّيَ الفواحشَ)(8) ويترك أمر تعيين الفواحش له أيضاً ويعتبر الخروج عن الحالة الإنسانية (فسقاً) وانحرافاً عن الطبيعة (نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) (9). * الملاحظة الثالثة:

 

ان التركيبة الوجودية الفطرية تتطلب التواصل الفكري مع الآخرين عبر صياغة الفكرة داخلياً ونقلها عبر الطريقة الرمزية واللغوية الى الآخرين والتعرف على ما يفكر به الآخرون ليتم التفاعل بين الأفكار وبالتالي تطويرها.

 

ولكن هذا التفاعل يحتاج الى قواعد يدركها الانسان بالوجدان اجمالاً وتبلورها وتوضحها ارشادات الوحي أيما توضيح، ونحن نعتقد أن الوحي ـ بالاضافة الى كشف المجالات المعرفية المجهولة لدى الانسان في سبيل تسهيل وصوله الى كماله ـ يستهدف ان يبرز له كوامنه الفطرية واستعداداته النفسية ويوضح له بجلاء ادراكاته العملية.

 

ومن هنا نجد القرآن الكريم يعرض امام الانسان نظريته الحوارية المتكاملة الشاملة لمرحلة ما قبل الحوار ولأهدافه ومواضيعه وأخلاقه وشروطه اللازمة كي يحقق هدفه المنشود دون ان يقع فريسة الجهل والتعصب والنرجسية والاعتداد بالنفس والعناد والخرافات والتقليد الاعمى والتهويش والاستخفاف وأمثال ذلك مما يتعقبه القرآن بكل دقة ويعمل على نفيه، وتنقية الحياة الفكرية منه ليتسنى للانسان أن يحاور بكل صفاء وموضوعية وبروح حضارية تواقة للكمال. * الملاحظة الرابعة:

 

مما يتردد في بعض الكتابات أن الحوار يستلزم الاعتراف بالآخر، أو يعني التردد في الموقف وعدم الوثوق منه، أو يعني وضعه الى مستوى الفكر الآخر، وربما قيل إن موقف من يطلب الحوار هو موقف الضعيف الذي يطلب أن يعترف به الآخرون.

 

ولكننا نعتقد أن كون الحوار سبيلاً منطقياً انسانياً ينفي عنه كل هذه الأمور؛

 

فهو لايستلزم الاعتراف بالآخر ولايتطلب أن يعترف الآخر به وإنما يبحث عن مسيرة ومساحة مشتركة، أو عن ما إذا كان الآخر ينظر الى نقاط مبهمة لا يتفهمها ويحتاج الأمر الى توضيح ما. نعم، من شرط الحوار احترام الآخر وعدم الإساءة اليه أو إثارته ليخرج عن حالته الطبيعية وهذا منهج قرآني أصيل.

 

وهو أيضاً لا يعني التردد في الموقف بقدر ما يعني الثقة به وقد دعي الرسول(ص) ليقول للمشركين "وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين" (10) وهو أعظم الناس إيمانا. إن الواثق لديه أقدر على الدخول في الحوار لأنه مطمئن من جوهرته الثمينة فلا يخاف عليها من نقد ناقد. * الملاحظة الخامسة:

 

مما يرتبط بعملية الحوار أن الهدف العام يجب أن يكون دراسة الجوانب التي يشترك فيها المتحاوران، وإن كان ذلك الاشتراك في الخطوط الجوهرية دون التفاصيل، ثم دراسة إمكان التوسع في هذه المساحة عبر سبر أبعاد المسائل والتوصل فيها الى محاور مشتركة، ثم يأتي بعد ذلك التخطيط لتحويل المساحة المشتركة الى واقع مجسد وهنا يبرز أمران:

 

أولهما: إن هذا المقصد عام متسع يمكن تطبيقه على كل المتحاورين مهما كانت مواقفهما النظرية والعملية. وها نحن اليوم نعيش دعوة للحوار بين العالم الاسلامي والغرب. ورغم اتساع الهوة بينهما، وقيام الغرب بكل ما من شأنه القضاء على الهوية الاسلامية، وتوجيهة الاهانة للمقدسات الاسلامية السامية على كل ذلك بدوافع صليبية متطرفة أو صهيونية حاقدة، فان المجال لازال مفتوحاً كما نرى لحوار بين العقلاء من الطرفين يحاول حل القضايا العالقة وتبين المساحة المشتركة وهذا لايمنع من العمل الرادع ضد العناصر المتطرفة وإيقافها عند حدها بمختلف الأساليب المناسبة.

 

وثانيهما: إن المساحة المشتركة كلما اتسعت اتسعت معها المسؤوليات المشتركة، وتبع ذلك تعاون أكبر في المسار الحضاري المشترك حتى لو تطلب الأمر تجميد بعض الخلافات لصالح ذلك. وكمثال على ذلك نطرح هنا مسألة الحوار بين الاديان الابراهيمية والتعاون لصد موجة الإلحاد والعلمانية ورفع مستوى المعنويات وتقوية حركة التوازن الحضاري، لأن الأديان تشكل روح الحضارات حتى ولو حاولت بعض الحضارات التنصل من روحها الدينية وادعاء العلمانية. * الملاحظة السادسة:

 

ونحن نعتقد أن المسؤولية الحضارية مسؤولية مهمة يوليها الاسلام أشد الاهتمام. حيث يربي في المسلم رؤية إنسانية واسعة تجعله يفكر في الآخرين، فإما هم إخوة في الدين أو نظراء في الخلق ـ كما يعبر الامام علي في نهج البلاغة ـ وينصر كل مستضعف مهما كان اتجاهه، ويدعم كل حركة عادلة مهما كان لونها، وهو يعتقد ان لكل كبد حرى لأجراً كما يعبر الرسول الأكرم(ص)، بل هو يعشق الطبيعة ويحبها، ولا يؤذي حتى الحيوانات الأليفة إنها إذن خلقية حضارية. وهي كما قلنا تتسع باتساع المساحة المشتركة، فمسؤولية المسلم تجاه المسيرة الانسانية ورفدها ومحو الظلم منها كبيرة، وتجاه المتدينين أكبر، وتجاه المسلمين أكبر و أكبر، وهكذا حتى يصل الأمر الى المحلة المشتركة والعائلة المشتركة. * الملاحظة السابعة:

 

ان مسألة الدفاع عن حقوق الانسان تندرج في الملاحظة السالفة بقوة.

 

ذلك أننا نعتقد أن الله أودع في الفطرة الانسانية ما تدرك به هذه الحقوق، وما به يتم ضمانها للنوع الانساني وحتى الحقوق المكتسبة من قبيل ما يستحقه المتقون والمحسنون والصالحون والآباء والأقارب من احترام وشكر وضعت في الفطرة منا شىء لانتزاعها وتدركها النفس الانسانية بـ (العقل العملي) كما يسميه الفلاسفة، أو بالوجدان وهو خصيصة فطرية تتواجد مع الانسان وتلومه إن انحرف عن الصبغة الطبيعية الانسانية.

 

ومن هنا نقول: إن الاسلام ينطلق في نظريته عن حقوق الانسان من منشأ واقعي فطري وينسجم في كل تشريعاته مع هذا المنشأ. في حين تعجز النظريات المادية ـ وهي لا تؤمن بالفطرة ـ عن إقامة مثل هذا البناء على أسس متينة، بل اننا نعتقد أن الحديث عن العدالة والأخلاق والذوق الفني، بل وعن المعرفة الانسانية لا معنى له إذا أنكرنا الفطرة. * الملاحظة الثامنة:

 

إن العالمية هي اتجاه طبيعي يخرج به الانسان عن دائرته الضيقة الى المساحة الانسانية الواسعة ومن كثرته الى وحدته، ومن همومه المحدودة الى المسؤولية الكبرى، وبالتالي فهي حركة مباركة. ونحن نشهد اليوم كيف ترابطت المصالح واشتبكت الأمور في مجال البيئة وإلاعلام والحقوق والعلوم والطاقة وغير ذلك، إلا أن المذموم والخطير في الأمر أن هناك حركة شيطانية تحاول الهيمنة ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً لسرقة هذا النتاج الحضاري وتحقيق أهدافها وسحق الآخرين وهو ما نسميه اليوم بالعولمة المجنونة والحمقاء والامركة وما الى ذلك مما يتطلب أن تتحرك البشرية كلها ضد هذا الاستغلال الحضاري المقيت. * الملاحظة التاسعة:

 

لا ريب في كون الأمان مطلباً انسانياً فطرياً يستمد جذوره من أهم غريزة وجدت في فطرة الإنسان، وهي غريزة (حب الذات). وهذه الغريزة تعمل مع باقي الغرائز بشكل متناسق لتحقيق سير إنساني متوازن نحو الأهداف التكاملية العليا للانسان .. فلا يكفي وجود الدوافع الغريزية لتأمين المسير المتوازن وإنما يجب تأمين جو طبيعي للذات الفردية وللذات النوعية كي تدفعها تلك الدوافع نحو أغراضها المنشودة.

 

وتأكيداً من الفطرة نفسها على توفير الجوّ الآمن، نجد العناية الإلهية قد غرست فيها بديهيات الحكمة، والميول نحو العدل، والنفور من الظلم والاعتداء، بل ومنحتها القدرة على تعيين الكثير من مصاديق العدل والظلم، مما يمهد لها السبيل للاتصال بالخالق العظيم وتقديم معاني الولاء له، وحينئذ تنفتح لها آفاق الوحي، وتكتشف بذلك الأطروحة السماوية الرحيمة التي تعطيها المخطط الكامل للمسيرة، وتضمن لها كل ما يوصلها إلى أهدافها.

 

فالأمن إذن حاجة انسانية دائمة لا تغيّرها الظروف، وليس ظاهرة عرضية حتى يقال، بأنها معلولة لوضع اجتماعي معين إذا ما تبدل تبدلت هذه الظاهرة معه. ومن هنا أيضاً يكون من الطبيعي أن نتصور الحاجة إلى نظام شامل يتكفل حماية الأمن الفردي والاجتماعي على مدى مسيرة الإنسان الطويلة.

 

ولا يمكننا أن نتصور حدوداً لمسألة حماية السلام والأمن إلا في إطار مسألة التكامل الإنساني ذاتها، بعد أن ندرك أن الفطرة - كما قلنا - هي معيار الحقوق الإنسانية كلها بشكل إجمالي. وأنها هي التي فرضت حماية الأمن الإنساني لتحقيق الهدف الكبير. وحينئذ لن يقبل الأمن تحديداً إلا إذا خرج عن وظيفته الحياتية، وعاد عنصراً ضد الأمن نفسه، فلا معنى إذن لضمانه.

 

وإلا فكيف نتصور الفطرة التي أعلنت الحاجة إلى الأمن وهي تسمح للفرد بالقضاء على أمن نفسه هو، أو أمن الآخرين، وبالتالي على أمن المسيرة الإنسانية كلها دون أن تحدده بما يردعه عن فعلته، حتى ولو كان ذلك بتهديد أمنه؟

 

* محمد علي التسخيري : الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية

** نص مداخلة ألقيت في مؤتمر (نحن والآخر) الذي نظمته اللجنة العليا لمكافحة التطرف ووزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بالتعاون مع منظمة الأسيسيكو ، من 06 إلى 08-03-2006

 

الهوامش :

 

1- الملا صدرا والحكمة المتعالية ـ فارسي ـ ص 56.

2- البقرة / 164.

3- آل عمران / 190 .

4- الروم/ 22.

5- الزخرف 32.

6- الحجرات / 13.

7- المائدة/ 5 .

8- الأعراف/ 33.

9- الحشر/ 19 .

10- سبأ / 24.

 

المصدر: مؤتمر (نحن والآخر) - وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية الكويتية

http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/2010-04-26-1583.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك