آلية الحوار: قراءة لمفهوم الحوار في ضوء سنتي التنوع والتدافع

آلية الحوار: قراءة لمفهوم الحوار في ضوء سنتي التنوع والتدافع

زوهير بن أحمنه عبدالسلام

نود في هذا الموضوع أن نقدم مقاربة حضارية للفظ دخل حقول التداول المعرفي في السنوات الأخيرة، ألا وهو "الحوار"؛ ونود أن ننبه أيضا ومنذ البداية أننا لا نريد أن نكرر مقولات ولن نتبنى أيا منها كونها صادرة وفق رؤية مغايرة للرؤية الوجودية التي نصدر عنها نحن، بل نحسب أننا نمارس القول وفق رؤية وجودية توحيدية، نحلل من خلالها ونقرأ من خلالها ونمارس من خلالها؛ لهذا سيكون الاعتراض –فيما نتوقع- ليس من داخل الرؤية الواحدة ولكن من خارجها؛ وذلك الذي كنا نتغياه.

 

كما أننا حاولنا أن نعالج الموضوع من منظور سنة التدافع ولم نركز على سنة التنوع؛ رغم أننا أوردنا في أثناء العرض لآلية الحوار الإشارة إلى الحوار في منظور سنة التنوع؛ وما جعلنا نلجأ إلى ذلك إلى كون الحوار الذي نتكلم عنه هو الحوار الذي يتداول اليوم بين النخبة المفكرة حصرا مع الغرب.

 

ولقد اخترنا لبيان ذلك مسلك الضبط المفاهيمي أتبعناه بمسلك البسط والعرض وختمنا كل ذلك بإعادة الارتباط وفق المنهج الحضاري التكاملي لذا تركنا صوغ مفهوم الحوار إلى نهاية المقاربة؛ فكانت المقاربة وفقا للخطوات الآتية:

 

أولا: الضبط المنهجي وإشكاليات التداول والممارسة.

1. ما المفهوم؟

2. ما المصطلح؟

3. ماذا نقصد بالرؤية الوجودية التوحيدية؟

4. ماذا نقصد بسنة التدافع؟

ثانيا: آلية الحوار قراءة مفهومية في ضوء سنة التدافع.

1. الدلالة اللفظية في المعاجم اللغوية.

2. المضامين المعرفية لمفهوم الحوار.

3. مفهوم الحوار في الممارسة التأويلية للقرآن.

ثالثا: ضبط مفهوم الحوار أولا: الضبط المنهجي وإشكاليات التداول والممارسة

 

1. ما المفهوم؟

 

لقد قام جملة من الأساتذة الباحثين على مستوى المعهد العالمي للفكر الإسلامي بدراسة مهمة وأساسية، قدم لها الدكتور طه جابر العلواني بمقدمة منهجية ممتازة للغاية، بدأها بالحديث عن ماهية المفهوم فقال:"هو خلاصة الأفكار والنظريات والفلسفات المعرفية، وأحيانا نتائج خبرات وتجارب العمل فيه، في النسق المعرفي الذي يعود إليه وينتمي إلى بنائه الفكري"(1).

 

وبهذا فالمفاهيم ليست مجرد ألفاظ أو أسماء يمكن أن نجد لها مرادفات أو بما يقرِّب في المعنى إليها، بل هي كما يضيف الدكتور العلواني قائلا:"هي مستودعات كبرى للمعاني والدلالات كثيرا ما تتجاوز البناء اللفظي وتتخطى الجذر اللغوي لتعكس كوامن فلسفة الأمة، ودفائن تراكمات فكرها ومعرفتها، وما استبطنته ذاكرتها المعرفية"(2).

 

وبناء عليه فإنه يصير من العسير أن يضبط المفهوم بشكل يسير من مجرد حد على طريقة وضع الحدود، ولا من خلال أنواع الدلالات الثلاثة منطقيا؛ ونعي بها دلالة: "المطابقة، والتضمن، والالتزام"(3)، فإن هذه الدلالات الثلاثة لا يمكنها إلا الإحاطة بدلالة اللفظ فحَسْب دون المفهوم بحَسَبِ ما بيناه أعلاه.

 

فإذا كان المفهوم مغايرا للأسماء من حيث الدلالة والوظيفة المعرفية، وإن عُدَّ هو ذاته اسما من حيث الإعراب، فإننا ننبه على أنه مغاير للمصطلح وإن كان التداول في كتابات جل الباحثين والدارسين المعاصرين للقضايا العلمية والفكرية يجعلون أحدهما مرادفا للآخر ولا يمايزون بينهما؛ غير أنه لا يمكن أن نجهل أن كل مفهوم هو مصطلح وليس كل مصطلح هو مفهوم.

 

ونشير هنا أيضا إلى إشكالية التداول للقضايا المعرفية؛ إذ نلحظ باستمرار خلطا كبيرا بين المفهوم والمصطلح وحتى التعريف والحد؛ وإنما نتج ذلك لأحد الأسباب الآتية:

 

أ. عدم الاعتماد على مرجعية معرفية واحدة في كل الاستعمالات والتداولات العلمية وحتى المعرفية، والثقافية.

 

ب. عدم التمييز بين الرؤية الوجودية التوحيدية والرؤية العَلْمانية الوضعية، وآلياتها المنهجية في النظر والتداول والممارسة.

 

ج. عدم استعمال المنهج الحضاري التوحيدي، وتداول مقولة حيادية المناهج وموضوعيتها، بيد أن الأمر ليس كذلك البتة.

 

نتج عن كل ما سبق اضطراب في المفاهيم الإجرائية أو المفاهيم الضابطة للتعبير عن النقاط الثلاثة السابقة والتي تشكل جملة الأنظمة المعبرة عن جملة النظم المعرفية. 2. ما المصطلح؟

 

هو أيضا يعد بمثابة الاسم، وهو ما "يصطلح جماعة من الناس تجمعهم حرفة أو مصلحة أو سواها على اطلاق لفظ بإزاء معنى أو ذات، لا ينازعون فيما اصطلحوا عليه"(4)؛ حيث لا مشاحة في الاصطلاح ولكن لا يمكن بحال أن يقال لا مشاحة في المفهوم؛ بل إن المفهوم شيء والمصطلح شيء آخر؛ فإذا كان الناس لا ينازعون فيما اصطلحوا عليه فإن الأمر مغاير بالنسبة للمفاهيم؛ ومنها على الخصوص المصطلحات التي دخلت حيز التداول المعرفي والثقافي ثم الحضاري في العقدين الأخيرين؛ ومنها مصطلح الحوار فهو مصطلح عالمي ولكن مفهوم هذا المصطلح في الرؤية الوجودية التوحيدية غيره في الرؤية العلمانية الوضعية؛ وهذا ما سوف نبينه حين وضع الموضوع في إطار الرؤية الوجودية التوحيدية. 3. ماذا نقصد بالرؤية الوجودية التوحيدية؟

 

نقصد بها ما ذكره المفكر الجزائري الطيب برغوث في تأسيساته للوعي السنني حيث يعبر عنها بـ: "الاتجاه الإيماني التوحيدي التكاملي" ويعرفه بقوله هو اتجاه "يتجاوز وعيه نطاق المادة المحسوس، إلى المعنى الروحي الكامن فيها، وإلى الانفتاح على كل أبعاد ومراحل ودلالات »الدورة الوجودية« للإنسان، فيعيش في تواصل حميم مع كل مفردات الكون ذات العلاقة التسخيرية به"(5).

 

وبهذا تكون الرؤية الوجودية التوحيدية في مقابل الرؤى الأخرى كبديل حقيقي شامل وكلي ومنسحب على كل المستويات وعلى كل المفردات المعرفية والمنهجية والعمرانية والسلوكية، شاملة لكل كلي وجزئي، ضابطة للعلاقات بين الله والإنسان حيث تكون العلاقة علاقة عبادة، وبين الله والكون وهي علاقة تسبيح، وبين الإنسان والكون وهي علاقة تسخير وتمتع واستفادة بخيرات الله، وبين الإنسان والإنسان وهي علاقة محبة وتعاون وتضامن.

 

ومن كل هذا يتضح لنا أن تحليلنا وقراءتنا لهذا اللفظ في جانبه المفهومي يكون وفقا لهذه الرؤية والتي نعتبرها في مقابل الرؤى الأخرى والتي هي بالنسبة لنا رؤى قاصرة على جميع المستويات، ولكنها ليست رؤى خاطئة بالجملة. 4. ماذا نقصد بسنة التدافع؟

 

لقد حاول أخونا الأستاذ عمر حيدوسي أن يؤطر هذا المفهوم من خلال المدخل القرآني، وذلك في أثناء أطروحته الأكاديمية الموسومة بـ:"التدافع وسننه في القرآن الكريم"؛ فخلص في خاتمة بحثه الماتع إلى أن: "التدافع سنة إلهية تضمن استمرار صلاح الأرض والدين(6) وتوجه تفاعل الناس وعلاقاتهم المتبادلة"(7).

 

فالتدافع إذن هو سنة إلهية غايتها ضمان استمرار توازن الكون والنجاة في الآخرة، وليس هو مبدأ وضعي مفرغ من غاياته الخيرية والإنسانية والغيبية، كما هو مصور في الرؤية العلمانية الوضعية حيث تستعمل مضمونا صداميا قهريا استئصاليا تطلق عليه لفظ "الصراع"؛ ومن هنا جاءت الكتابات حول "نهاية التاريخ" لفوكو ياما وَ"صدام الحضارات" لصامويل هينتينقتون، وغيرها من الكتبات الغربية التأصيلية المعرفية.

 

فالصراع لفظة تحمل شحنة رؤيوية قوامها نفي الآخر وقهره والسيطرة عليه، وهي لا تعني فقط استلحاق الآخر أي الإنسان الآخر غير الغربي بل هي صراع مستمر مع الكون كله، وحتى مع الله حتى ظهرت "فكرة موت الله!!!" عند "نيتشه" وفكرة قهر الطبيعة (الكون) عند جل فلاسفة الغرب.

 

والهدف الثاني من سنة التدافع هو: توجيه علاقات الناس وضمان تفاعلاتها الإجابية بما يحقق الصلاح والاستمرار في الدنيا والتمتع الكبير بخيراتها والفوز برضى الله في الآخرة وهو الرضوان الأكبر.. وهي علاقات مبنية على العدل الإنساني والإحسان الإنساني والتواصل الإنساني والتضامن الإنساني في دفع كل ما يضر الإنسان وجلب كل ما من شأنه أن ينفعه...

 

ففكرة تفاعل الإنسانية في الرؤية الوجودية التوحيدية مبنية على منظومة الخيرية للبشرية جمعاء، بخلاف تفاعل الإنسانية في الرؤية العلمانية الوضعية، فهي مبنية على منظومة البراغماتية والفردانية، والقهرية والقوة.

 

إذا ما استطعنا أن نضع سنة التدافع نفسها في إطارها المرجعي وهو الرؤية التوحيدية؛ علينا أن ندرك أن أنساق الرؤية الواحدة متداخلة تشكل علاقات نسقية معينة؛ فالحوار كآلية هو ضمن نسق سنة التنوع وهي سنة مستقلة بنسقها المعرفي متداخلة مع سنة التدافع، ونحن نريد أن نقدم قراءة لآلية تنتمي أصالة في الرؤية التوحيدية إلى سنة التنوع ولكن تناولنا لها يكون في ضوء سنة التدافع، والأمر بالنسبة لنا في منهجنا التحليلي التكاملي الحضاري الشامل جد واضح ومتسق من الناحية الرؤيوية ومن الناحية المعرفية بما يضمن لنا النظر والممارسة والمداولة المنهجية السليمة بعيدا عن كل خلط.

 

إننا نميز بين استعمال الحوار كآلية في نسق سنة التنوع وهي الدائرة الإسلامية الواحدة، وبين نفس الآلية في سنة التدافع؛ ذلكم أن الحوار في دائرة المسلمين تحكمه سنة التنوع لا سنة التدافع؛ وفي دائرة غير المسلمين تحكمه سنة التدافع؛ إذ يفترض أن لا يقع الخلاف أصلا في المرجعية الرؤيوية الواحدة، وإنما ننبه على هذا للخلط الذي يقع كما أسلفنا في الممارسات والمداولات بين أبناء الرؤية التوحيدية؛ مما يجعل مصطلحات التكفير والنفي غير سليمة معرفيا وبالضبط غير متناسقة مع الرؤية الإيمانية (العقدية)، وما يستتبع من ذلك من حرمة الأعراض والدماء على الخصوص؛ مما يجر أهل الملة الواحدة إلى ممارسة الصدام والصراع الذي هو من حقل رؤيوي آخر؛ وهو تناقض واضح وبين. ثانيا: آلية الحوار قراءة مفهومية في ضوء سنة التدافع

 

إن بناء المفهوم يحتاج إلى النظر في الدلالات اللفظية اللغوية كما تقدمها لنا المعاجم اللغوية، كما يحتاج إلى النظر إليها من حيث صدورها عن مرجعية واضحة مهيمنة، ويحتاج أيضا إلى منهج شامل سميناه المنهج الحضاري التكاملي التوحيدي؛ وهذا الذي بيناه ممارسة في دراستين لنا نشرتا في مجلة "متابعات" حول: مفهوم الحضارة(8)؛ ثم حول مفهوم الثقافة(9). 1. الدلالة اللفظية في المعاجم اللغوية

 

إذا ما تتبعنا مادة :"ح.و.ر" في ثلاثة معاجم مهمة تعتبر موسوعات أساسية لمدونة اللغة العربية وهي: "لسان العرب"(10) وَ"القاموس المحيط"(11) وَ"تاج العروس"(12) نستطيع أن نستجمع المادة اللغوية؛ ثم نوزعها حسب حقولها الدلالية كما يأتي:

 

أ. الحقل الأول: الرد، الجواب، مراجعة النطق، مراجعة الكلام.

ب. الحقل الثاني: السؤال، الاستنطاق.

ج. الحقل الثالث:المجاوبة، الكلام في المخاطبة.

د. الحقل الرابع: عدم رجوع الخبر.

 

وهكذا يمكننا أن نلاحظ أن هذه المادة تدور على معاني أربعة هي مضامين معرفية لمادة (ح.و.ر). 2. المضامين المعرفية لمفهوم الحوار

 

أ. تساوي المتحاورين في تداول المقولات: ومعنى هذا أن مضمون المفهوم يُستَمَدُ من السنة الأساسية وهي سنة التنوع، فهو إقرار تام بحق الآخر في عرض قضاياه ومعانيه التي يجعلها بإزاء ألفاظه بنفس القدر من الحق مع الطرف الآخر، وهو ما تفيدنا به المادة اللغوية: (الرد، الجواب، مراجعة النطق، مراجعة الكلام)؛ ولا يخفى علينا قولهم بصيغة المفاعلة: مراجعة النطق و الكلام.

ب. إعطاء الطرف الآخر أو المقابل الحق في طرح مقولاته: ومعنى هذا أن الطرف الآخر المقابل غير ملزم بتبني مقولات الطرف الأول بل هو حر في عرض مقولاته من غير قهر ولا جبر؛ وهو الذي تفيدنا به المادة اللغوية: (السؤال، الاستنطاق).

ج. حرية القول من غير إكراه: وهو العمود الفقري معرفيا لسنة التنوع والتي قلنا أن أحد آلياتها هو الحوار والمادة اللغوية الآتية: (المجاوبة، الكلام في المخاطبة) تعطي هذا المضمون للحوار من كونه وفقا لرؤيتنا الوجودية التوحيدية لا يمارس الإكراه بل يطلق العنان للآخر في القول ومنها جاءت صيغة المفاعلة في لفظتي: (المجاوبة، المخاطبة)؛ فهناك حرية في القول وانفعال في الاصغاء إلى الرأي والقول المقابل؛ ولا تكاد تجد هذا المعنى كأساس لا يتخلف في كل كليات وتفريعات الرؤية الوجودية التوحيدية، وكل تخلف هو في نظر القائل لا في الأمر نفسه من حيث هو؛ من قبل النظر فيه.

د. الإقبال على الآخر وعدم إكراهه على القول: هو مضمون يدل على الإيجابية التي تمنحها الرؤية الوجودية التوحيدية للطرف الآخر في عدم الإفصاح عن قوله؛ لذا أعطوا للحوار معنى (عدم رجوع الخبر...) وبهذا ليس من مقتضيات الحوار أن يكون الطرف الآخر ملزما بالجواب؛ فالسكوت أحيانا جواب؛ بل هو أبلغ من الجواب. 3. مفهوم الحوار في الممارسة التأويلية للقرآن

 

لما كانت الرؤية التي تحكمنا رؤية وجودية توحيدية تستمد مرجعيتها من الوحي المطلق، ننظر كيف كان تعامل العلماء المنتمين إلى هذه الرؤية مع مادة الحوار في تأويلاتهم للقرآن المطلق؟ وهو نوع من الممارسة واخترنا عن قصد أربعة منهم:

 

- الأول تميز بالقراءة التأويلية الأثرية بحسب السقف المعرفي لعصره.

- الثاني عرف بالقراءة التأويلية التجميعية الموضوعية.

- الثالث امتازت قراءته بكونها قراءة لغوية دلالية.

- الرابع قراءته قراءة سننية مفتوحة.

 

- أما الأول فهو الإمام الطبري: فلقد عرف الحوار بـ: هو المخاطبة والمكالمة (13).

- أما الثاني فهو الإمام البِقاعي حيث عرف الحوار بقوله: هي المخاطبة برفق ولين(14).

- أما الثالث فهو العلامة ابن عاشور فقال: مراجعة الكلام بين متكلمين(15).

- أما الرابع فهو العلامة محمد حسين فضل الله فالحوار عنده هو: إدارة الفكرة بين طرفين مختلفين أو أطراف متنازعة(16).

 

ونلاحظ أن كل واحد منهم قد تكلم عن مضمون الحوار وفق نسقه المعرفي ولكن في نفس الرؤية المعرفية... ثالثا: ضبط مفهوم الحوار

 

وهكذا لا يمكننا أن نسلم بصدقية الدخول مع الغرب في حوار ليس انكارا منا للحوار ولكن لأن الحوار في الرؤية التوحيدية ينتظم معرفيا ومنهجيا تحت سنة التنوع، ويعمل حضاريا وفقا لسنة التدافع وكلا السنتين تستندان إلى مرجعية واحدة تختلف أنساقها ومنظوماتها جذريا عن الرؤية العلمانية الوضعية، مما يفضي بالتفاعل بيننا وبين الغرب إلى نهايات مأساوية على مستوى أجيالنا وأمتنا؛ وقد نبه الأستاذ مالك بن نبي إلى الرابطة المسيحية التي تمثل مرجعية الرؤية الغربية حين قال: "ليس من شك في أن نظرات المثقفين إلى المدنية الغربية مؤسسة على غلط منطقي، إذ يحسبون أن التاريخ لا يتطور، ولا تتطور معه مظاهر الشيء الواحد الذي يدخل في نطاقه، حتى إنك لتنظر إلى الشيء بعد حين فتحسبه قد تبدل شيئا آخر، وما هو في الحق إلا الشيء نفسه تنكر لك في مظهره الجديد وإن شبابنا لينظرون إلى المدنية الغربية في يومها الراهن ويضربون صفحا عن أمسها الغابر، حيث نبتت أولى بذورها وتلونت في تطورها ونموها ألوانا مختلفة، وما فتئت تتلون عبر السنين حتى استوت على لونها الحاضر فحسبناها نباتا جديدا… [و...] إن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد لولا صلات اجتماعية خاصة ... وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شارلمان؟ ولسوف نصل في النهاية –إذا ما تتبعنا كل مدني من مظاهر الحضارة الغربية- إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة، وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة"(17).

 

فالحوار في الرؤية العلمانية الوضعية آلية يتوسل بها إلى إلغاء الآخر وطمسه حضاريا؛ والحوار في الرؤية التوحيدية آلية يتوسل بها إلى التفاعل الإيجابي البيني المستمر والمتواصل بحثا عن سعادة الإنسان دنيا ونجاته في الآخرة.

 

إن آلية الحوار في رؤيتنا التوحيدية مبنية على البحث عن الحقيقة وعن الحكمة مهما كان الطرف الذي يقول بها لتتبنى في النهاية وتصير من صميم تداولاتنا في نظمنا وأنظمتنا بل وفي قواعدنا وأساليبنا وأدواتنا الإجرائية. رابعا: خاتمة

 

يمكننا أن نصل في خاتمة الموضوع إلى صوغ مفهوم الحوار فنقول: الحوار هو آلية من أهم الآليات في التفاعل مع الوجود بأكمله أخذا وعطاءً من غير إكراه ولا قهر، ضمن سنتي التنوع والتدافع من أجل تحقيق التوازن الكوني، والفوز بالجنة ومرضاة الله في الآخرة.

 

وهكذا فإن هذه الآلية تعمل وتؤتي أكلها في كل مستوى تُمارس فيه، مع مراعاة شروط كل مستوى من مستويات الوجود؛ فالحوار مع الله تسليم وعبادة، والحوار مع الكون تسخير وتمتع، والحوار مع الانسان تعاون وتضامن وليس إلغاء لله أو قل للغيب مطلقا، والدخول في صراع مستميت مع الكون والطبيعة ومحاولة تدميرها وإفساد نظمها المتناسقة بما يُذهِبُ رونقها، وممارسة الإلغاء وإفناء الإنسان كإنسان مكرَّم وفق هذه الأرض وسلبه إنسانيته وحريته وحرية تمتعه بهذا الكون الفسيح الذي سخره الله له...بل وخلقه من أجله.

 

إننا نكرر فنقول إن التباين في مفهوم التباين في مفهوم الحوار بين الرؤيتين يستلزم الاختلاف في الأهداف والاختلاف في المبادئ والمنطلقات؛ فكيف يُتَصور استعمال آلية تنتمي إلى منظومتين متابينتين الأولى منظومة سننية هي التنوع والتدافع في الرؤية التوحيدية؛ والثانية منظومة صراعية إقصائية قهرية في الرؤية العلمانية الوضعية.

 

إن القول المسَدَّدْ هو الحديث عن الحوار في ضوء سنة التنوع أو سنة التدافع، في إطار الأخوة الانسانية ووفقا للفطرة الانسانية بعيدا عن أي منطق صدامي ولا اندماجي تلفيقي...بل لا يصح الأمر إلى في إطار الاستقلالية الوظيفية والتكاملية الحضارية الكونية. * الأستاذ زوهير بن أحمنه عبدالسلام: باحث متخصص في الحديث وعلومه، والمدرس للغة وعلوم اللسان، بقسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة محمد بوضياف؛ المسيلة. للتواصل: zohirbatni_332003@yahoo.frهذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته

 

الهوامش :

 

(1) مجموعة من باحثي المعهد العالمي للفكر الإسلامي،بناء المفاهيم:دراسة معرفية ونماذج تطبيقية،ط:1418هـ،1998م،منشورات المعهد العالمي للفكر الاسلامي، فيرجينا، (نقلا عن مقدمة الدراسة)،1/07.

(2) نفس المرجع، 1/07.

(3) أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ط:3، 1992م، عالم الكتب، مصر.

(4) المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بناء المفاهيم، 1/07.

(5) الطيب برغوث، مدخل إلى سنن الصيرورة الاستخلافية-قراءة في سنن التغيير الاجتماعي-، سلسلة: آفاق في الوعي السنني، ط1، 1425هـ، 2004م، دار قرطبة، الجزائر، ص: 101.

(6) لا نسلم للأستاذ حيدوسي هذا التقابل بين الدين والأرض؛ إذ أننا لا نجد وجه الارتباط بينهما ولا حتى التقابل، بل لو عبر بمصطلح : عالم الشهادة لكان أكثر تعبيرا على الرؤية الوجودية التوحيدية.

(7) عمر حيدوسي، التدافع وسننه من خلال القرآن الكريم، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في العلوم الاسلامية، إشراف: أ.د: أحمد رحماني، جامعة باتنة، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الاسلامية، 1422هـ-1423هـ، ص: 01 (من خاتمة البحث).

(8) مجلة متابعات، مجلة فصلية تصدرها الجمعية الأوراسية للثقافة والحوار، السنة الأولى، العدد:01، محرم 1425هـ-مارس 2004م، ص:11-16.

(9) مجلة متابعات، السنة الأولى، العدد: 2/3، محرم، 1426هـ/فيفري 2005م، ص: 17-28.

(10) ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، بيروت، (د.ت.ط)، 4/218.

(11) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مكتبة النور، دمشق، (د.ت.ط)، 3/16.

(12) الزبيدي،سيد مرتضى،تاج العروس من جواهر القاموس،دار صادر،بيروت،(د.ت.ط)، 3/163.

(13) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:1، 1415هـ، 1994م، 5/102.

(14) البقاعي، برهان الدين بن الحسن ابراهيم، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتب العلمية، لبنان، ط:1، 1415هـ-1995م، 4/468.

(15) ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، الدار التونسية، تونس، (د.ط)، 1984م، 5/319.

(16) فضل الله، محمد حسين، الحوار في القرآن: قواعده، أساسياته، معطياته، دار المنصورة للنشر، الجزائر، (د.ت.ط)، 1/22.

(17) مالك بن نبي،مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي،دار الفكر،دمشق،ط1،1990م،ص:80-81.

 

المصدر: موقع الشهاب للإعلام

http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/2010-04-26-1578.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك