رِفقاً بالقَوارِير

رِفقاً بالقَوارِير .!
مَاذا يَقُولُ الرجَالُ عَنِ النسَاءِ .؟

بقلم
الدكتور عبد المجيد البيانوني

وَلَو أنّ النِّسَاءَ كَمَن عَرَفنا لَفُضِّلَت النِّسَاءُ على الرِّجَالِ
فَما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عَيبٌ وَلا التذكِيرُ فَخرٌ لِلهِلالِ
إلى السيّدات الفضليات بناتي .. وإلى المؤمنات الصالحات ، القانتات ، الحافظات للغيب بما حفظ الله ..
إلى كلّ زوجين حرما نعمة " التوافق النفسيّ " فآثر كلّ واحد منهما أن يضحّي برغبته النفسيّة الخاصّة ، وعاشا صابر ين تحت مظلّة الحياة الزوجيّة ، ليسعد أبناؤهم في ظلّهما ..

الحمدُ لله ذي الطول والآلاء ، والصلاةُ والسلامُ على خاتَمِ الرسل وأشرف الأنبياء ، سَيّدنا مُحَمّد ، مُعلّم العُقلاء ، ومُرشِد الأتقياء ، وعلى آله الأصفياء ، وأصحابه الأولياء الأوفياء ، وبعد ؛
فمنذ بواكير شبابي كنت أرى العجب في حياة كثير من الرجال ، في سَواء شخصيّاتهم وتألّقها ، ونجاحها في ميدان عملها ، وسُوء علاقتهم بنسائهم ، وسُوء علاقة نسائهم بهم .. والأعجب أن أجد ردود فعل الرجال على هذا الواقع مختلفة إلى أقصى درجات التباين .. وتختزن في عقلي الباطن تلك الصور ، وأحار على ضعف تجربتي ، وقلّة خبرتي في تعليل هذا الأمر : كيف يحدث .؟! وكيف يرضى الرجال ذلك على رجولتهم .؟!
وتعلّمت مع الأيّام كثيراً ممّا كنت أجهله .. ورأيت الدنيا من الزاوية الإنسانيّة عالمين مختلفين اختلافاً كبيراً : عالم الرجل ، وعالم المرأة .. ورأيت عالم المرأة يفرض نفسه على الرجل أكثر ممّا يفرض عالم الرجل نفسه على المرأة ..
واطّلعت على ما جاء في السنّة الشريفة من حديث " أمّ زَرْع " ففتح لي آفاقاً من التفكير : أن أقدّم تجارِبَ الرجال وخبراتهم عن النساء ، ممّا يُعدّ أشبه برؤى فلسفيّة ، ممزوجة بمشاعر أدبيّة .. أن أقدّم ذلك ممّا اختزن لديّ ، ممّا سمعت أو علمت ، على قلّة اطّلاعي ، إذ لست ممّن أولع بكثرة الاختلاط بالناس ، ومتابعة أخبارهم وشئونهم .
إنّها أخبار واقعيّة ، بعضُها وعتها ذاكرتي وأنا طفل ، منذ ما يقارب خمسين سنة ، وأعرف أشخاصها ، وقدراً غير يسير من تفصيلاتها .. وأخرى سمعت بها ، ممّن أثق به ، واطّلعت على مجمل خبرها في مناسبات مختلفة ، وقد عبّرت عن أصحابها بأسماء وكنى مختلفة ..
ثمّ كتبت في هدأة من النفس بعض ما فاض به القلم من تلك الأخبار .. وازدحمت عليّ بعض الأعباء والمشاغل ، فعزفت عن إكمال ما بدأت ، وراودني الظنّ أنّ هذا العمل نوع من العبث ، لا ينبغي لمثلي أن يشغل نفسه والقارئ بمثله .. ثمّ عدت إليه مرّة أخرى بعد طول غيبة ، لأنظر إليه بعين الناقد البعيد ، المتسقّط للهفوات والزلاّت ، فوجدت فيه من الملاحظات النفسيّة ، والفوائد الاجتماعيّة ما يجعله جديراً بالنشر : ففي الرجال حاجة ماسّة لمثله .. وفي النساء كذلك حاجة ماسّة لمثله .. إذ إنّ حاجة النساء أن يعرفن نظر الرجال لهنّ ، وما يطلبون فيهنّ ، لا تقل عن حاجة الرجال إلى معرفة نظر النساء لهم ، وما يطلبون فيهم ..
وقد رأيت في السنّة الشريفة ما يؤيّد الكتابة في ذلك ، ويشجّع عليها فقد روي الإمام أحمد عَنْ ذِرْوَةَ بْنِ نَضْلَةَ عَنْ أَبِيهِ نَضْلَةَ بْنِ طَرِيفٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ : الأَعْشَى وَاسْمُهُ عَبْدُ الله بْنُ الأَعْوَرِ ، كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا مُعَاذَةُ ، خَرَجَ فِي رَجَبٍ يَمِيرُ أَهْلَهُ مِنْ هَجَرَ ، فَهَرَبَتْ امْرَأَتُهُ بَعْدَهُ نَاشِزاً عَلَيْهِ ، فَعَاذَتْ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ : مُطَرِّفُ بْنُ بُهْصُلِ بْنِ كَعْبِ بْنِ قَمَيْشَعِ بْنِ دُلَفَ بْنِ أَهْضَمَ بْنِ عَبْدِ الله ، فَجَعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ فَلَمَّا قَدِمَ وَلَمْ يَجِدْهَا فِي بَيْتِهِ وَأُخْبِرَ أَنَّهَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهَا عَاذَتْ بِمُطَرِّفِ بْنِ بُهْصُلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ : يَا ابْنَ عَمِّ أَعِنْدَكَ امْرَأَتِي مُعَاذَةُ ؟ فَادْفَعْهَا إِلَيَّ ، قَالَ : لَيْسَتْ عِنْدِي ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَدْفَعْهَا إِلَيْكَ ، قَالَ : وَكَانَ مُطَرِّفٌ أَعَزَّ مِنْهُ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ  فَعَاذَ بِهِ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ :
يَا سَيِّدَ النَّاسِ وَدَيَّانَ العَرَبْ إِلَيْكَ أَشْكُو ذِرْبَةً مِنْ الذِّرَبْ
كَالذِّئْبَةِ الغَبْسَاءِ فِي ظِلِّ السَّرَبْ
خَرَجْتُ أَبْغِيهَا الطَّعَامَ فِي رَجَبْ فَخَلَّفَتْنِي بِنِزَاعٍ وَهَرَبْ
أَخْلَفَتْ العَهْدَ وَلَطَّتْ بِالذَّنَبْ ( ) .
وَقَذَفَتْنِي بَيْنَ عِيصٍ مُؤْتَشَبْ وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ
فَجَعَلَ النَّبِيُّ  يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ : وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ
فَشَكَا إِلَيْهِ امْرَأَتَهُ ، وَمَا صَنَعَتْ بِهِ ، وَأَنَّهَا عِنْدَ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ : مُطَرِّفُ بْنُ بُهْصُلٍ ، فَكَتَبَ لَهُ النَّبِيُّ  إِلَى مُطَرِّفٍ : ( انْظُرْ امْرَأَةَ هَذَا مُعَاذَةَ فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ ، فَأَتَاهُ كِتَابُ النَّبِيِّ  فَقُرِئَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهَا : يَا مُعَاذَةُ هَذَا كِتَابُ النَّبِيِّ  فِيكِ ، فَأَنَا دَافِعُكِ إِلَيْهِ ، قَالَتْ : خُذْ لِي عَلَيْهِ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ  لَا يُعَاقِبُنِي فِيمَا صَنَعْتُ ، فَأَخَذَ لَهَا ذَاكَ عَلَيْهِ ، وَدَفَعَهَا مُطَرِّفٌ إِلَيْهِ ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
لَعَمْرُكَ مَا حُبِّي مُعَاذَةَ بِالَّذِي يُغَيِّرُهُ الوَاشِي وَلَا قِدَمُ العَهْدِ
وَلَا سُوءُ مَا جَاءَتْ بِهِ إِذْ أَزَالَهَا غُوَاةُ الرِّجَالِ إِذْ يُنَاجُونَهَا بَعْدِي ( ) .
كما لا يغيب عنّا قَولُ النَّبِيِّ  المَشهور : ( رِفقاً بالقَوارير ) ( ) ، فهذه الكلمة النبويّة ذهبت مثلاً .. إنّها جملة نبويّة جامعة .. تكاد تكون معجزة البلاغة ، وتاج البيان .. تترقرق في جنباتها شفافيّة الأخلاق الإسلاميّة ، وسموّ الأدب النفسِيّ ، الذي يشرق به الهدي النبويّ ـ على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التحيّة ـ على كلّ جنبات الحياة ، فيحيلها جناناً فيحاء ، ورياضاً غنّاء ، وسحائب معطاء .. فالرفق روح الأخلاق الإسلاميّة وسداها ، ولُحمتها وجناها .. والتعبير بالقوارير ينمّ عن منتهى الذوق واللطف ، والإغراء بالتكريم والإحسان ، والرحمة والعطف .. فالقوارير رقيقة شفّافة ، صافية حسّاسة ، صُلبةٌ ضعيفة ، وفوقَ ذلك هي جميلة أخّاذة .. وكلّ ذلك توحي به كلمة واحدة .. ومن ثمّ فقد حقّ لي أن أسمّي هذا العمل بهذا التعبير النبويّ الجميل : ( رِفقاً بالقَوارير ) .
قَوارِيرُ مِن فِضّةٍ أو ذَهَب وأخرَى لِعَقل الرِّجَال خَلَب
تَناهَى إليهِنَّ هَمُّ العُقُول وَغَيظُ النفُوسِ وَنَيلُ الأرَب
وَهُنَّ ضِعَافٌ مُستَضعَفات وَتِلكَ العَجيبةُ أمُّ العَجَب .!
وإذا كان الإنسان من طبعه التظلّم التشكّي ، فإنّ هذا العصر أصبح ينوء بهذه الطبيعة بصورة لم يُعهَد مِثلُها على مدار حياة الإنسان وتاريخه ، بسبب موضوعيّ ، أو غير موضوعيّ .. وَأكثر ما تضجّ بالشكوى النساء من الرجال .. ولا ننكر أنّ لذلك حظّاً من الحقيقة .. ولكنّ الحقيقة كثيراً ما تضيع ، إذ تلتبس بالأباطيل ، وتحيط بها الأهواء والرعونات ، وتختفي وراءها المآرب والدسائس ، والدوافع المريبة ، فيلفّها الباطل بنيرانه ودخَنه .. وتدخل في باب قليل الحقّ الذي يراد به كثير من الباطل ..
وقد جاء في السنّة الشريفة ما يدلّ على الاختلاف بين الرجل والمرأة ، وأنّ أهمّ مظاهر ذلك هو تفريط المرأة بحقوق الزوج وتقصيرها ، ففي الحديث عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ الله  أَنَّهُ قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ ، وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ) فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ : وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ الله أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ .؟! قَالَ : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ الله وَمَا نُقْصَانُ العَقْلِ وَالدِّينِ .؟ قَالَ : أَمَّا نُقْصَانُ العَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ ، فَهَذَا نُقْصَانُ العَقْلِ ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي ، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ ) ( ) .
وفي رواية البخاريّ : ( مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ ) .
ولكنّ ذلك يدعو الرجل إلى التحلّي بالحكمة في أرقى صورها ، ليستطيع قيادة مركب الحياة بمهارة ونجاح ، وإسعاد نفسه وأسرته ، وإبهاج حياته ..
ولا يخفى على القارئ اللبيب أنّ من أغراض هذا الكتاب وأهدافه أن يُضفيَ على العلاقة الزوجيّة مسحةً من الذوق الأدبيّ العالي ، تعطّر الأجواء بين الزوجين ، وتشحنُ القلوب بمشاعر مرهفة حميمة ، تعين كلا الطرفين على استئناف العلاقة الحميمة المتألّقة ، بعدما ضجّت حياة كثير من الأزواج بالشكوى من البُرود النفسيّ ، والجفاف العَاطِفيّ ، وآلت إلى التصحّر ، الذي ليس وراءه إلاّ القطيعة والفراق ..
وأسأل اللهَ تعالى أن يتقبّل هذا العمل ، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وينفع به عباده ، إنّه أكرم مسئول ، وهو المرجّى للقبول . والحمد لله أوّلاً وآخراً ..
جدّة في 10/10/1429 هـ وكتبه



بيان واعتذار

أحبّ أن أقدّم بين يدي هذا الحديث أنّني لم أرد فيما أوردت أن انتقص قدر المرأة ، أو أقلّل من شأنها .. وأنّى لي ذلك .؟! ويجتمع عندي فيها قدر الأمّ وحبّها ، وكرامة الأخت وشرفها ، وعزّة البنت ومكانتها ، وحظوة الزوجة الوفيّة ، التي لم أعرف لها ومنها إلاّ النبل والفضل.؟!
وكاتب هذه الأسطر يرى أن ما يوصفُ به النساء من نقصٍ وضعف ، يتحمّل أكثره الرجال .. فنحن في الحقيقة إذ ننتقد فإنّما ننتقدُ أنفسَنا وتربيتنا ، وأسلوب تعاملنا مع المرأة ، وتهميشنا لها في كثير من الأحوال ..
ولئن أبت بعض النساءِ أن تتقبّل هذا الحديث ، ورأته مزرياً بالمرأة ، ولا نفعَ فيه ، فلها ذلك ، فعصرنا عصر المرأة ، وإن شئت فقل : عصر تمرّد المرأة ، أو دفعها إلى ذلك .. وأنا آذن لها أن تحرق هذا الكتاب بعد أن تقرأه ، ولا تدفعه إلى أيّة واحدة من بنات جنسها .. ولكنّ ذلك ليس حلاًّ لشيء من مشكلاتها ..
وحسبي حجّة أنّ الواقع يقذف بكثير من هذه الأخبار وأمثالها ، وما هو أسوأ منها .. ومن أغمض عينيه عنه فليعش في غير هذا الكوكب ..
وحسبي من هذا العمل ما أهدف إليه من مقاصد فكريّة وتربويّة ، لا تخفى على القارئ اللبيب .. وحسبي من هذا العمل أيضاً أنّ نساءً فاضلات قرأنهُ ، وأعجبن به ، وأشرن على كاتبه بأهمّيّة نشره لتعُمّ فائدته ..
والله من وراء القصد أوّلاً وآخراً ، ومنه التوفيق ، وعليه التكلان ..



من الله نستمدّ العون والسداد ، وهيّا بنا إلى
غَمَراتِ الحَديثِ عَن أخبارِ القَوارِير.!

حدَّثَني أبو رحاب قال : لقيني أبو زنادٍ ، وكان رجل وُدّ ونصح فقال لي : هل لك في أمرٍ لك فيه أنس الدنيا وخير الآخرة .؟ ـ قلتُ : وَهل من عاقلٍ يكره ذلك أو يباعده ، فما هو .؟ ـ قالَ : فأتِنا العشيّةَ في دارِ أبي بكرةَ تَعرفِ الخبرَ .. فحاولتُ أن أعرف شيئاً فلم يجبني .. فتحمّستُ لتلك العشيّة .. وكأنّها ليلة عُرْسٍ أو ما يماثلها ..
وفي المساء كانتْ دار أبي بكرةَ تُزهَى بأنوارها ورجالها ، منهم مَن عرفت ، وأكثرُهم ممّن لم أعرف ، ولم أجد في وجوه مَن عرفت ما يجمَع بينهم ، كان الحاضرون من فئات من الناس شتّى ..
وعندَما امتلأ بنَا المجلس افتتح الحديث أَبُو بكرة ، وكان رجلَ ثقافةٍ وثراء ، وجاهٍ وحُسنِ سمعَةٍ ، فقال : نحنُ اليوم في اللقاء الأوّل لمؤتَمرِ الرجالِ ، وحقّ للرجال أن يكون لهم مؤتمر .. وأوّل أعمال مؤتَمرنا كما تمّ الاتّفاق مع هيْئة المُسْتشارين العليا أن نُصدر بياناً لا كالبيانات ، يعرض فيه كلّ مشترك في مؤتَمرنا تجرِبتَه مع النسَاء ، بحلوها ومرّها ، لا يخفي من أمرها شيئاً ، ولا يحبس في صدره سرّاً ، ويقول ما له وما عليه ، على أنّا لا نرضى أن يكون في كلامنا الرفَثُ والفُحش ، والبذاءة والمجون ، فذلك أمر يحسنه السوقة ، ومن يتشبّه بهم .. ولسنا مع أهل الأدب الهابط في شيء .. وفي المجاز والكنايات ، والتلميح دون التصريح مجال رحب .. فمن أراد أن يتحدّث بهذا الشرط فليتحدّث ، ومن أبى فلا نبيح له الكلام في مجلسنا .. وإنّما غرضنا أن ينتفع ببياننا الرجال والنساء ، على حدّ سواء ، ليكون نبراساً لمن يقبل على الزواج من شباب كلا الجنسين ، يجد فيه رشده وهداه ..
وقد رصد معالي رئيس المؤتَمر جائزة ثمينة ، لمن يفوز بيانه على كلّ بيان ..
* فليتفضّل أبو بَدر إلى المنصّة .! فتقدّم أبو بَدر ، وكان أقرب إلى الطول ، وسيم الهيئة ، في الخمسينات من العمر ، يبدو عليه الوقار والكمال ، فسلّم على الحاضرين ثمّ قال :
أيّها السادة ! أأصف لكم زوجتي كما هي في نفسي ، وكما يعرف الناس عنّي ، أم أصفها كمَا هي في خلائقها ، ولا أظلمها .؟ بين يديّ إحدى ورقتين .. فأيّ الورقتين تشاءون حدّثتكم بها .؟! فانبعثت أصوات من هنا وهناك :
ـ حدّثنا بكلتا الورقتين .!
ـ ولكنّ مدير الجلسة لا يرضى .! أريد أن أسمع رأيه ..
ـ حدّث الناسَ بما كتبت أوّلاً .. ونترك الرأي لك فيما تختار ..
ـ زوجتي قطعة من نفسي ، إن مدحتها فقد مدحت نفسي ، وإن ذممتها فقد ذممت نفسي .. ونفسي نفس شاعر مرهفة ، ترى ما لا يرى كثير من الناس ، وتتذوّق ما لا يَتذوّق كثير من الناس .. أرى في زوجتي الإنسانيّة الكريمة ، التي حباها الله من الفضائل ما جعلها سيّدة الوجود ، وسخّر لها ما في السموات والأرض .. وأنا منذ فتحت عيني على الحياة أجدُني مَشدُوداً نحو المرأة .. لا كما يفهم كثير من الناس .. في صورة أمّي .. وفي صورة جدّتي .. وفي صورة عمّتي التي ربّتني مثل أمّي .. وفي صورة أختي الكبرى التي كانت تحميني من عدوان من يعتدي عليّ .. وفي صورة جارتنا تلك العجوز الصالحة ، التي كانت تدعو لي من قلبها ، كلّما قدّمت لها كأس ماء .. ويبدو أنّها كانت مصابة بجفافٍ شديد ، أو أنّها لا تتذكّر نفسها بالماء إلاّ عندما تأتي لزيارتنا .. نعم كنت مَشدُوداً نحو النساء .. بأحاديثهنّ .. وصياحهنّ .. واختلافهنّ .. وهزلهنّ وجِدّهنّ .. وطبيعتهنّ التي تستطيع الجمع بين الشيء ونقيضه في مجلِسٍ واحد .. وقد يعجب بعض السامعين .. وقد لا يصدّقني فريق آخر .. إذا قلت : إنّ جمال المرأة ، وشكلها ، وما يطلبه الرجال فيها لم يكن يعنيني بشَكل أو بآخر .. فهل أنا شاذّ في الرجال .؟ ربّما .. ولكنّ هذه هي الحقيقة في نفسي دون أيّة مبالغة .! وعندما كبرت كنت أستحيي من نفسي أن أصرّح بهذا الميل إلى النساءِ أخشى أن يساء فهمي .. ولكنّني وجدت عزائي فيما علمت من حديث النبيّ  : ( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا : النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ ) ( ) .
وذكرت ما يقولون : إنّ الزوج الصالح أب بعد الأب ، وأخ بعدَ الأخ ، فلم لا أصرّح برغبتي الحلال .؟!
قال أبو بَدر : قلت لوالدتي : أريد فتاةً لا كالفَتيات .. ذات روحٍ نقيّة ، وفطرةٍ سويّةٍ ، تترقرقُ مياهُ الفطرةِ على وجهِها ، وتنسابُ على جوارحها ، فلا تعْرفُ شيئاً منْ منكرات العصر ، ولا تلتفت إليه ولا تألفُه ، الصدقُ عندها سجيّة ، والبرّ فيها زينة بهيّة ، وطاعة الزوج طاعة لله وقربة ، وَالخدمةُ عندها مُتعةُ المُحِبّة ، بَهجةُ الناظر ، وأُنسُ السامر ، فقالتْ والدتي : أنّى لك يا بنيّ ! بمثل هذه الفتاةِ .؟! أو تطلب الحور العين ، أم تحسب أنّك في زمن الصحابة أو التابعينَ .؟! حسبك مِن فتاة أن تكون مؤدّية للفرائض ، مجتنبة للكبائر ، بعيدة عن الشبهات والريب ، مِن مَنبَتٍ طيّب ، وأسرة كريمة ..
فقلتُ لها : إنّ الفضلَ بيد الله يؤتيه كيف يشاء ، فلا عليك أن تبحثي لي عمّا انعقدت عليه نيّتي ، فإن لم تجدي فذلك عذري أن أعيشَ حياة العزوبة إلى أن ألقى وجه ربّي ..
ولم يمض على هذا الحوار سوى شهرين ، وكان سرّاً من أسرارِ البيوت ، لم يُطلَع عليه أحد ، إذ ضمّني لقاء عابر بأخٍ كريم ، طال عهدي به ، فسأل عن أحوالي ، وعرف عزيمتي على الزواج ، فقال لي : ما رأيك ببنت فلان .؟! لقد ذكرك بخيرٍ منذ أيّام ، وتمنّى أن يحظى بمثلك لإحدى بناته .! فعَجبتُ لقوله ، فأنا أعلم أنّ له شروطاً شديدة ، ولا يعجبه العجب كما يقولون .. فقال لي صاحبي : لا تظلمِ الرجل ، وأنت لم تسمَع مِنه ، ولم تحاوره ، فما أكثر ما يسيء الناس إلى الخيار ، بقصدٍ أو غير قصد .. فطويتُ الحديث ، وأسررتُ الأمر في نفسي .. وبعدَ أيّام كنتُ وجهاً لوجهٍ أمام قدري .. أمام والد فتاة الأحلام .. فتاة خطبها الأغنياء وأبناء الكبراءِ فردّهم والدهَا كما يُردّ السوقةُ عن موائدهم وأبوابهم ، ولا يُبالَى بهم ..
فكان التعارف من قريب والتآلف ، فكأنّنا متعارفون من زمن بعيد ، وتيسّرت الأمور ، وحلّ الهناء والحبور ، فكانت الخطوبة جدّ ميسورة ، والحفلات بُعَيدَها بهيجة مبرورة ..
وقد سئل أعرابيّ عن أحسن النساء ؟ فقال: أحسن النساء أطولهنّ إذا قامت ، وأعظمهنّ إذا قعدت ، وأصدقهنّ إذا قالت ، إذا غضبت حلمت ، وإذا ضحكت تبسّمت ، وإذا صنعت شيئاً جوّدته ، تلزمُ بيتها ، ولا تعصي زوجها ، عزيزة في قومها ، ذليلة في نفسها ، ودود ولود ، وكلّ أمرها محمود .
وزدتُ عليه فيما قال : طويلة غيداء ( ) ، بَضّة بيضاء ( ) ، عتيقة أدماء ( ) ، لا يُمَلُّ حديثُها ، ولا يَسأمُ منها جليسُها ، رفيعة الخلق ، عذبة المنطق ، خفيفة الدم ، لمّاحة مِطواعة ، لا تفشي لبعل سرّاً ، ولا تمنع له رغبةً حلالاً ، ولا تظهر لأحدٍ جهلاً ، ما أشبهها بالوردة الفوّاحة ! بل ما أشبه الوردة الفوّاحة بها .!
وكانت لي تلك الفتاة كما وصفت ، بل زادت على ذلك سريرةً صالحة ، تحرص على إخفائها عنّي ، وعن الناس ابتغاء وجه ربّها ..
فاستبشرت لحياتي عزّاً وذكراً ، ولأولادي ونسلي رفعة وخيراً ، وكنت بحمد الله بمنجاة ممّا قال بعض الشعراء :
وأوّلُ خبثِ الماء خبثُ ترابِه وأوّلُ خبثِ القوم خبثُ المناكح
وما أجدر هذا البيت أن يكون بها :
وأوّلُ طِيبِ الماء طِيبُ ترابه وأوّلُ طِيبِ القَومِ طِيبُ المناكح
وكانت الحرّة المدبّرة ، التي تُشعّ في البيت السعادة على ساكنيه ، ومن يحلّ فيه ، وهي سرّ حفظه وحصانته ، كما قال الشاعر :
إذا لم يكن في منزل المرء حرّة مدبّرة ضاعت مروءة داره
وكانت بحقّ كما قال الآخر :
ليس فيها ما يقال له : كملت لو أنّ ذا كملا
كلّ جزء من ملاحتها كائن من حسنها مثلا
لو تمنّت في متاعتها لم ترد من نفسها بدلا
أو كما قال أعرابيّ : " كاد الغزال يكونها ، لولا ما تمّ منها ، ونقص منه " .
وأحسب أنّها خلقت كما أهوى ، كما قيل في مثيلتها :
إنّ التي زعمَت فؤادَك ملّها خُلِقَت هواك كما خُلِقتَ هوىً لها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها بلباقة فأدقّها وأجلّها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الفؤاد إلى الضمير فسلّها
وزوجتي بحمد الله ما زعمَتْ وما تَزعُم .. وما جدت لها وساوس سلوة ، ولن أجد .. ولا تزال عيشتنا بحمد الله تعالى هنيّة ، وعلاقتنا سويّة ، ومحبّتنا أوثق من أن يرومها الحاسد بنقض ، أو يرميها الشيطان بكيد ، أو عوادي الدهر ـ وما أكثرها ! ـ بصدّ ..
أعدّها أعظم نعم الله عليّ في الحياة ، وتعدّني أعظم نعم الله عليها ، فلا نزال نذكر المعروف ، ونشكر الإحسان ، وننسى التقصير ، ولا نعرف الكفران .. ولعلّكم تعجبون إذا قلت : إنّني أتمنّى أن أرى منها تقصيراً لأتناساه .. وأظنّها تنظر إليّ كذلك .. فالحمد لله على ما أولانا من نعمه ..
وما أشبه حالنا بقول الشاعر :
طابَ الهوى مُذ كنتِ ما أهوى وحلا بقلبي الهجر والنجوى
وحلا اعتذار فؤادي كلّمَا عتبت فكأنـــّه للقلب ما يــهـوى
وما أروع أيّها السادة ! وصف الشيخ عليّ الطنطاويّ رحمه الله لزوجته ، وكأنّه يصف زوجتي ، إذ يقول: " ... لا أكتمها أمراً ، ولا تكتمني ، ولا أكذب عليها ، ولا تكذب عليّ .. وتعوّدَ أولادنا الصدق والصراحة ، واستنكار الكذب ، والاشمئزاز منه ، ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر ممّا أجد عندها ، فهي من النساء الشرقيّات اللاتي يعشن للبيت لا لأنفسهنّ .. للرجل والأولاد .. هي أوّل أهل الدار قياماً ، وآخرهم نوماً ..
إن كنت أكتب أو كنت نائماً أسكتت الأولاد ، وسكّنت الدار ، وأبعدت عنّي كلّ منغّص أو مزعج .. تحبّ ما أحبّ ، وتكره ما أكره ..
أحبّ أهلها ، لأنّي لم أجد منهم ما يجد الأزواج من الأحماء من التدخّل في شئونهم ، وفرض الرأي عليهم ، ولقد كنّا نرضى ونسخط ، كما يرضى كلّ زوجين ويسخطان ، فما تدخّل أحد منهم يوماً في رضانا ولا سخطنا ..
وتحبّ أهلي ، ولا تفتأ تنقل كلّ خير عنهم ، إن قصّرتُ في برّ أحد منهم دفعتني ، وإن نسيتُ ذكّرتني .. وليس معنى هذا أنّنا لا نختلف ولا نتخاصم ، فما يخلو بيت من أمثال هذا ، ولو خلا بيت منه لخلا أفضل البيوت على الإطلاق بيت محمّد بن عبد الله  ، ولكن سرعان ما نصطلح ، ونعود إلى الوئام والسلام ، وهي ككلّ امرأة عربيّة مسلمة لا تعرف في دنياها إلاّ زوجَها وبيتَها ، والتي يزهد فيها بعض الشباب ، فيذهبون إلى أوربا أو أمريكا ليجيئوا بالعلم ، فلا يجيئون إلاّ بورقة في اليد ، وامرأة تحت الإبط .! امرأة يقطعون بها آلاف الأميال ، ثمّ لا يكون لها من الجمال ولا من الشرف ، ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقيّة .! ولكنّه فساد الأذواق ، وفقد العقول ، واستشعار الصغار ، وتقليد الضعيف للقويّ ، يحسب أحدهم أنّه إن تزوّج من أمريكا أو أيّ امرأة عاملة في شبّاك السينما ، أو في مكتب الفندق ، فقد صاهر طرمان ، وملك ناطحات السحاب ، وصارت له القنبلة الذرّيّة ، ونقش اسمه على تمثال الحريّة .. إنّ نساءنا خير نساء الأرض ، أوفاهنّ لزوج ، وأحناهنّ على ولد ، وأشرفهنّ نفساً ، وأطهرهنّ ذيلاً ، وأكثرهنّ طاعةً وامتثالاً وقبولاً ، لكلّ نصح نافع ، وتوجيه سديد .. " ( ) .
وبعد ؛ فما أحسن أيّها السادة وأجمل ، وأكرم وأرفع ! أن يتحقّق كلا الزوجين بصفة المحبّ والمحبوب ، أليسوا شريكين متكافئين في رعاية هذه المؤسّسة الإنسانيّة الكريمة ، التي تباركها عناية الله وتحوطها ، وتحفظها وتصونها .؟ وقد عبّر عن ذلك الشاعر ، وصوّره أدقّ تصوير إذ يقول :
قال لي المحبوبُ يا حِبّي الذي أشرقَت في القلـب منك النظرات
أأنا المحبوبُ ، أم أنتَ الذي مَلكَ القلبَ وأجرَى العَبرات .؟!
كلّنا للحُـبّ يُصلِي نـَـارَه وبنار الحُبّ يَصلى للممات
حُبّنا في الله يُحيي قَلبَنا ويُزكّي النفـسَ منّا والصــفَات
" وإنّ المرأة في نظري " كما قال الأوّلون : " الناس على دين ملوكهم " ، فالنساء على دين رجالهنّ ، وما يُمدَح النساءُ بشيء إلاّ ويمدح الرجال بمثله أو أكثر ، وما يذمّ النساء بشيء إلاّ ويذمّ الرجال بمثله أو أكثر ، فأكثروا على النساء أو أقلّوا .. فإنّما هنَّ مرآة لكم .. والسلام " .
وإنّ المرأة الكريمة مصدر الكلمة الطيّبة ومعلّمتها ، وعنوان الحكمة للرجل وملهمتها ، ونبع الرقّة واللطافة ومَوردها ، فهل يمكن لمن كانت بهذه الصورة أن تلقى غير الاحترام والتقدير ، والحبّ والتبجيل .؟!

خبر أبي نواس
* قال المدير : طوبى لكما بهذه العلاقة الصادقة ، والعيش الطيّب ، وليدم معروف كلّ منكما على صاحبه . وليتفضّل إلى المنصّة أبو نواس !
فقام أبو نواس من بين الحاضرين ، وكان رجلاً متأنّقاً في ملبسه ومظهره ، تبدو عليه هيئة النعمة والرفاهية ، فتقدّم إلى المنصّة وسلّم وقال : زوجتي وما زوجتي .؟! ما أقول منها .؟ وما أدع .؟ هي بعض ذنوبي ، التي أعرفها ولا أحصيهَا ! وأعلمها ، ولا أحبّ أن أبوحَ بها ، ولكنّكم عزَمتُم علينا عزمةً مُحرِجة أن نقولَ ونُفصح ، وقلتم : إنّ الغرض من هذا القول أن نقدّم تجارِبنا وخبرتنا بالنساء للشباب ، وأن ينتفع كلا الفريقين ممّا نقول .. فكان القول أولى بنا من السكوت .. فأنا لا أقولُ عنها كذباً ولا زوراً ، ولا أتقوّل بهتاناً ولا نفوراً .. إنّها لا تعرف إلاّ مَا تريد ، لا ما أريد ، لا تعرفُ عملاً من أعمال البيت ، كما تعرف النساء سيّدات البيوت ، ولا تفكّر أن تعرفَه .. ولكنّها تعرف رغباتها وأهواءها جيّداً ، ولا تفكّر إلاّ في هواها .. سمعتُ منها الهُجْر ، وصبرتُ معَها سنوات على المرّ ، تتقن فنّ النكد ، ولا تعرف حقّ زوج ولا ولد ، مُتبرّجة مُتفرنجة ، لا تعرف إلاّ اللهو والزينة ، وليتَ زينتها كانت لزوجها ، لكان لها في ذلك قصد وعذر ، ولكنّها زينة التفاخر بين النساء في المجالس ، والتكاثر بالدنيا ومتاعها ..
إنّها خَرّاجة وَلاّجة ، تكره عيالي ، وتبدّد أموالي ، وتُقرّب أهلها ، وتَشنأ أهلي ، وما رأى أهلُها منّي إلاّ كلَّ معروفٍ وبذل ، وإكرام وبرّ ، وما رأى أهلي منها إلاّ كلَّ أذىً ونُكر ، أقدّم لها الرشوة لتبرّهم ، وأتذلّل لها في كلّ زيارة لهم ، لا لتحسن إليهم ، بل لتكفّ شرّها عنهم .. لا تَرعى حقَّ زوجٍ في شيء من محابّه .. سَليطة بَذيئة ( ) ، حَمقاء رعناء ( ) ، إنّها زوجة سفيهة تكاد تقتل نفسها وأسرتها ، وقديماً قالوا : " المرأة العاقلة تبني بيتها ، والسفيهة تَهدمه " ..
لا أجدها متوافقة معي في أيّ شيء ، وكلّما رأيتها ذكرت قول الشاعر :
سارت مشرّقة وسرت مغرّباً شتّان بين مشرّق ومغرّب .!
وكأنّ الشاعر الآخر يعنينا بقوله :
من لي بتربية النساء فإنّها في الشرق علّة ذلك الإخفاقِ
الأمّ مدرسة إذا أعددتّها أعددتّ شعباً طيّب الأعراقِ
ولكن .! مع كلّ ما ذكرت ، وهو حقّ لا تزيّد فيه .. فهي جميلةٌ لا تُفرَك ، وأمّ عيال لا تترك ..
وما أحسنَ قولَ مَن قال : " مَن أحسَنَ الاختيار أمِن غوائِلَ الآثار ! " .
لقد كنتُ على سبيل انحراف وعوج ، وتعرّفَت عليّ وأنا على ذلك ، فعندما هداني الله تعالى أصرَّت على ما اعتادَت ، وأبَت أن تغيّرَ ما ألِفَت ..
وأنا معها اليوم على إبرام عقد وعهد ؛ فإمّا أن توافقَ عليه ، فتمضي بنا سفينةُ الحياة آمنةً هانئة ، فنسعد ، ويسعد معنا أبناؤنا ، وإمّا أن تأبى فلا أرى لي سبيلاً معها إلاّ الفراق ، فسبحان من أحلّه ، وجعله آخر الدواء .!
وإنّ عقد النكاح في ظلّ غيبة القيم الجوهريّة ، أو سيطرة أنواع المجاهيل عن كلا الطرفين أو أحدهما سيكون مصيره الطلاق ، أو قيام أسرة مفكّكة ، محكومة بالعذاب طول العمر ..
لقد قلت لها وما ظلمتها : استقيمي معي على ما أدعوك إليه من وقوف عند حلال الدين وحرامه ، وحدوده وآدابه ، وأداء حقّ الزوج وحسن رعايته ، ولك منّي أن أقاسمك أموالي كلّها برّاً بك ، وبهؤلاء الأولاد ، كيلا يتشتّت شملهم ، ويتفرّقَ جمعهم ، فهل عرضت عليها غلطاً ، أو طلبت منها شططاً .؟
وقلت : إنّها بعض ذنوبي ، فاسمعوا إلى قصّة اقتراني بها :
قَالَت لي والدتي : ألا أخطبُ لك يا بنيّ ! فتقرّ بك عيني قبل وفاتي ، وأفرح بك ، كما فرحت بإخوتك وأخواتك .؟!
ـ فقلت لها : لا رغبةَ لي في الزواج في الوَقت الحاضر ..
ـ فقَالَت لي : لا تُسِئني بهذا الكلام يا بنيّ ! وهل أنت مريض لتقول هذا الكلام .؟ لقد سمعت مرّات كثيرة من شيخنا أبي المكارم : " ما يمنعُ الرجلَ من النكاح إلاّ عجزٌ أو فجور " .. ولا أظنّك مريضاً ، وأنت أعزّ في نفسي وأكرم من أن تكون فاجراً أو مُريباً ..
ـ فاستحييت ممّا سمعت ، وقلت غاضباً : بصراحة .. أريد أن أختار شريكة حياتي بنفسي .. أنا لا أؤمن بطريقتكم التقليديّة في الخطوبة .. إنّكم تخطبون لأنفسكم ، ولا تعيشون هذا العصر .!
ـ نحن لا نفرض عليك مَن لا تريدها .. قُل لنا طلباتك ، ونحن نبحث لك عنها ..
وسكتّ قليلاً .. ثمّ قلت لها : أريد أن أعرفها بطريقتي الخاصّة قبلَ أن يعرفها أحد .. ومضت شهور قليلة رأت عَينايَ خلالها ما لا أحصي من الفتيات ، وهنّ في أحسن صورة ، وأبهج منظر .. ولم أر في واحدة منهنّ مَن خطفت قلبي ، أو سلبت لبّي .. إلاّ واحدةً منهنّ ، رأيتها مُقْبلةً منْ بعيد ، فكأنّها الغزال يراود الصيّاد ويراوده ، أو السراب يتراقص للظمآن على الأرض ، فيزيدُه عطشاً على عطش ، وأقبلَت كأنّها تريدُني بحركاتها وألحاظها ، غادة غيداء ( ) ، هيفاء ( ) ، لفّاء ( ) ، عنْقاء مُعنِقة ( ) ، قَسيمة وَسيمة ( ) ، ترتئد في مشيتها ( ) ، وكَأنّها تنتظر من يلتفت إليها ، أو يبدي لها إعجابَه بها ، فنظرت إليها ، ونظرت إليّ ، ونظرت إليها ، ونظرت إليّ .. فكأنّ نظرتي قَالَت كلَّ شيء .. وكأنّ نظرتَها قالَت شيئاً من شيء ، ممّا يريده الشابّ ويتمنّاه .. وكأنّ جمالَ كلِّ أنثى قد صبّ في صورتها .. أو هكذا خُيّل لي .! كانت متبرّجة ، ولكنّ تبرّجَها لم يبلغ بها حدَّ التبذّل ، الذي تتقحّمُه العيون ، ولو كانت تشرَهُ إليه ، وتأباه القلوبُ ، ولو كَانت تفتتِنُ به .. وتبعَتها عيناي بعد أن تبِعها قلبي ، فتظاهرَت أنّها تمشي في طريقها ، ولم تبالِ بما فعلتْ بي ، فغضبت في نفسي وحنقت ، وعزَمتُ أن أتبعها إلى أن ينتهيَ بها المسير .. فعَرفت مَنزلها ، وفي اليَوم التالي أرسلْتُ أمّي تخطبها ، وقلت لها : أعرفها ، قبل أن تعرفيها ، فاخطبيها ، ولا تَصفيها .. وعندَما جاءت إليّ أمّي قالتْ لي ، والدمعة في عينيها : " أريد لك أن تقترنَ بخير من هذهِ الفتاةِ ، وخير من أسرتها وبيئَتِها .. أخشى عليك يا بنيّ متاعب العيش معها .! " ، ولكنّ سكرة الهوى كانت قد ملأت كِياني ، وسدّت عليّ منافذ فكري .. فقلت لها : أريدها .. ولو كانت شيطاناً مارداً ، أو وحشاً كاسِراً .. وندّت منّي كلمات لا تليق بمقام أمّي .. فاكْتفَت أن تنظر إليّ نظرةَ عتاب وتوبيخ ، كانت أبلغ من الكلام وأهمّ .. ولستُ أنسَى لذعَها حتّى اليوم ..
واقترنت بها ، وأنا كالجمل النادّ عن صاحبه ، وهي كالدابّة التائهة المرسَلة .. لا نَعرفُ معروفاً ، ولا نُنكرُ منكراً .. يجمح بكلّ منا هواه حيث شاء الهوى ، لا يصدّه عن جموحه دين ولا عادات .. ولا يكسر أنانيّته إلاّ ما يعرض له من الرغبة الجامحة بصاحبه .. ووقفنا على حافّة الفراق مرّات ومرّات .. وشاءت إرادة اللهِ أن يصحو ضميري بعدَ سكرة الهوى والشباب ، فتبتُ إلى اللهِ توبة نَصوحاً على أثر فقد أعزّ أصحابي عليّ .. وأردت منها أن تمشي معي في طريق الصحوة والتوبة ، ولكنّها تمرّدَت عليّ ، ولم تستجِب لي ، وكانت حجّتها عليّ : أنّي رضيت بها وأنا على غير هذه السيرة ، وهذا الحال ، فلها أن تبقى على ما هي عليه ، وليس لي أن أتغيّر إلى ما أريد اليوم ..
وكان حالي معها كما قال الأخطل في وصف النساء ، اللاتي لا يكون في قربهنّ إلاّ الشرّ والأذى :
المُهدياتُ لمن هَوينَ مَسبّةً والمُحسناتُ لمن قلينَ مقالا
يرعينَ عهدَك ما رأينَكَ شاهداً وإذا مَذلتَ يكُنّ عنك مِذالا
وإذا وعدنَك نائلاً أخلفنَه ووجدَت دون عِداتِهنّ مطالا
وإذا دعونَك عمَّهنّ فإنّه نَسبٌ يَزيدُك عندهنّ خبالا
وأنا لا أزال معها في أخذ وردّ ، وشدّ وجذب ، ولم أر منها أدنى استجابة ، ولا يعلم مصير علاقتنا إلاّ الله ..
" إنّ المرأة في نظري هي أعظم فتنة وابتلاء في هذه الحياة ، من سلم منها سلم من كلّ فتنة .. ويكفي أنّها كانت سبب أوّل حادثة قتل وسفك للدم في حياة الإنسان .. وما أعظم النعمة بها على من كانت عليه نعمة ! " .
وإنّ أدقّ مقياس للسعادة الزوجيّة وفي أدنى صورها : أن تكون الزوجة عوناً لزوجها على الشدائد ، ولا تكون عوناً للشدائد عليه .. ولا تتمّ السعادة الزوجيّة إلاّ إذا فهم الرجل زوجته وفهمته ، وتحمّلها وتحمّلته ، وصبر عليها ، وصبرت عليه ، فإن لم تفهمه فعليه أن يفهمها ، وإن لم تتحمّله فعليه أن يتحمّلها ، حرصاً على سعادته وسعادة أبنائه ..
إنّ الإنسان عندما يرى امرأة مسحوقة تحت مظاهر الزينة لا يملك إلاّ أن يتساءل : " ترى هل تلقى العفّة والشرف والفضيلة ، التي هي زينتها الحقيقيّة كلّ هذا الاهتمام لديها .؟! وهل يلقى زوجها وأسرتها مثل هذا الاهتمام ، أو نصفه .؟! " .



خبر أبي سيّار
* ـ قال المدير : وهل أغريتها يا سيّدي بالذهب والمال.؟ ألم تعلم أنّ النساء يخلبهنّ بريق الذهب .؟ أخذ الله بيدك إلى الرشد والسداد ، ومن رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته .. وليتفضّل إلى المنصّة أبو سيّار !
فقام رجل في العقد الثالث من العمر ، وكأنّه قد تجاوز العقد السادس ، ووقف أمام الناس ، والكآبة تملأ كيانه ، وعلى وجهه هيئة الحزن العميق ، والإرهاق المدمن ، فقال بصوت متهدّج :
حديثي عن زوجتي ذو شجون ، يعرفه كثيرون ، ولعلّ بعض من يعرفه ممّا قرأ أو سمع ، لا يعرف شخص ضحيّته .. وها أنذا أقدّم نفسي إليه ، فأروي له قصّتي .. وخطِيْئَتي .. وليكفّ كلّ سامع عن ملامتي ، ويسألَ اللهَ العفوَ والعافية .. فأنا في ابتلاءٍ أشبه بابتلاء يعقوب بولديه .. ولا يسعني كلّما شبّت بي الذكرى ، ولجّ بيَ الأسَى إلاّ أن أقول : (.. ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ.. ﯝ) يوسف .. لقد فرضت عليّ أيّها السادة ظروف الدراسة أن أتغرّب عن بلادي سنين طويلة ، فرأيت أن لابدّ لي من الزواج ، لأحفظ ديني ، وأغضّ بصري ، والتفّ حولي شباب منحرف ماكر ، يغريني بحياة مثل حياته ، وأن أخفّف من سَورة رغبتي الجنسيّة ، بالاختلاط بهؤلاء الفتيات ، اللاتي لا حُرمةَ لهنّ ولا ذمّة ، فهنّ أشبه بالسبايا ، على ما زعموا ، مَن نالتها الأيدي منهنّ فهي حَلال لا جنحة في العلاقة بها ولا حرج .. فأبيت بحمد الله تعالى أشدّ الإباء عن الشرّ والفساد ، واستعصمت بالله تعالى ، وما أكرمني به من عفّة ودين ، ونشأة طيّبة ، وعزّة نفس عن مقارفة الحرام .. وأصررت على أهلي في طلب الزواج ، وبحثنا عن الأسرة التي أعتزّ بمصاهرتها ، فأبت كلّ أسرة أعرفها وتعرفني ، وتعرف أهلي أن ترسل ابنتها معي إلى ديار الكفر والغربة كما قالوا .! فسعيتُ إلى من تغرّب من قبل مثلي ، فوقع اختياري بعد طول بحث على فتاةٍ غضّةٍ بَضّةٍ ، من أسرة معروفة ، قد أشرِبَت كثيراً من خلائق أولئك القوم ، ممّا تلقّته في مدارسهم ، وما رأته وسمعتْه منْ أترابها ، وما تلقّتْه من وسائل الإعلام هناك التي تنعق صباح مساء ، بما لا تعي ولا تعقل .. حتّى أصبحَ عندها المعروفُ عندنا مُنكراً ، والمُنكرُ معروفاً ، أهلها على شيء من الدين والمحافظة ، يُعدّون في تلك الديار ، مِن بقيّة المهاجرين أو الأنصَار ، ولكنّها كانتْ مُعْجبة بنظام القوم وثقافتهم ، وما يمنح الإنسانَ في ديارهم من حقوق لا ينازعه عليها منازع .. وقيل لي يوم ذاك : إنّك تستطيع أن تعيد بناء هذه الفتاة من جديد ، على ما تريد منها ، وعلى مثل ما عليه أبواها .. وحملت الفتاة جنسيّة القوم ، فكانت شرّاً عليها ووبالاً ، إذ استبدلَت خلائقَ القوم بخلائقنا ، وازدادَت بهم فتنة وإعجاباً .. وعبثاً حاولت أن أزرع في نفسها الاعتزاز بدينها ، الذي لا تعرف منه أكثر من سلوكات ظاهرة ، تؤدّيها بما يشبه العادةَ أو المجاراة لأهلها .. فلم أرجع من ذلك بطائل .! ورزقت منها بغلامين كأنّهما ملكان مصوّران ، فازددتُ حبّاً لها ، وتعلّقاً بها ، ومنحْتُها كلّ إخلاصٍ وتضحية ، وكشفتُ لها عن أسرار حياتي ، ورصيد أموالي ، بل وثقتُ بها إلى درجة الإذن لها أن تسحَبَ من حسابي ما تشاء لما ترى من مصلحة بيتنا وأسرتنا ، ولما يحقّقُ رغباتها .. ولكنّني مع ذلك لم أجد منها المودّة التي أتطلّع إليها ، والاعتراف بالجميل الذي قدّمته لها .. بل كنت أسمع منها بين الحين والآخر ما يؤذي مشاعري ، ويجرَح كرامَتي .. فأعاتبها ، وأذكّرها بحسن معاملتي معها ، ولكنّني لا أسمع منها اعتذاراً أو تأسّفاً ، وإنّما تقول لي : إنّما تفعل واجبك .. فأتناسى كلّ شيء ، وأعلّل النفس بالصبر ، فلعلّ الأيّام تُسعفني بإصلاح ما عجزتُ عن إصلاحه .. والزمن كما يقولون جزء من العلاج .. ودخلت البيت ذات يوم بعد رحلة عمل كنت فيها بمصلحة الشركة التي أعمل فيها ، فرأيت البيت تخيّم عليه سحابة من الحزن والكآبة .. وكأنّ كلّ شيء فيه ينمّ لي عن ريبة .. وناديت بأعلى صوتي طفليّ الصغيرين بما كنت أناديهما به من كلمات المداعبة ، ومقاطع الأغنيات التي ابتدعتها روح الأبوّة .. وكأنّني كنتُ أتجاهل الريبة التي تنبعثُ من أعماق كياني .. فلم أسمع لندائي أيّ صدَى .. وطفت أرجاء البيت غرفة غرفة .. ودخلت المطبخ والحمّام .. فلم أجد أثراً لزوجة أو ولد .. وضَجّتِ الريبةُ بنفسي ، وثار الخوف بداخلي .. فدخلت حجرة النوم ، فوجدت ورقة صغيرةً مُلقَاة على سريري ، وعليها الكلمات التالية : ( " عزيزي أبا سيّار ! لقد سئمت الحياة الرتيبة التي نحياها .. وقرّرت أن أعيش مع أولادي بصورة أخرى .. الحرّيّةُ خيرُ ما يعيشه الإنسان .. " الإنسانة التي عرفتك ! أم سيّار ) فطار صوابي .. وهرعت إلى الهاتف لأتّصل بأهلها ، ففوجئتُ بالهاتف مفصول الحرارة .. وخرجتُ من البيت فاتّصلتُ بأهلها ، فلم يكنْ عندَهم أيّ خبر .! واتّصلتُ بالمصرف فوجدتها قد كنست حسابي بمكنسة الثقة التي وضعتها في غير محلّها .. فسحبت منه ما أملك ، وما جمعته خلال عشر سنوات ، وكان تسعين ألف دولار .. بعدما حرمتني أعزّ مَا أملكُ .. طفليَّ اللذين أفدِيهما بكنوز الأرض وذهبها .. وأعجب من كلّ ما ذكرت .. أنّ قانون البلدِ الذي تَعيش فيه يخوّلها أن تفعلَ ما فعلت ، وأكثرَ ممّا فعلتْ .؟! فإلى الله المشتكى أوّلاً وأخيراً .. آه واحسرتاه .! لقد كانت فيها بقيّة من خير كنت أرجو استدامتها وتنميتها ، ولكنّها بعدما فعلت فعلتها ، قد تمحّضت للشرّ ، وصارت من حزب الشيطان وجنوده .. وأنّى لي أن أرى أطفالي وألتقيهم .؟! وأهلها أنفسهم لا يعرفون شيئاً عنها .؟!
ولقد كنت أشتمّ منها بين الحين والآخر رائحة الاستعداد للخيانة ، بما تتكلّم مع بعض الرجال الأجانب من كلمات عاطفيّة ، ينبغي أن لا تكون مع أحنبيّ ، وعندما كنت أعترض عليها ، وأذكّرها بأدب المرأة في القول ، ترفض كلامي ، وتقول لي : أنت توسوس ، ولا تعرف أصول " الأتكيت " الاجتماعيّ .! وربّما عدت على نفسي باللوم ، أنّي أثير من الشكّ ما لا ينبغي .. ولكن ما فائدة الكلام الآن .؟ فما فات مات ..
وتعالى صوت من أعماق القاعة : " أيّها الرجل ! لا تَلومنّ إلاّ نفسَك ! يداك أوكتا وفوك نفخ ! " وقال آخر : " لو أحسنت الاختيار لرأيت حسن العاقبة والمآل .. والثوبُ المرقّعُ يسترُ ولا يجمّل .. " .
وبعد ؛ " فإنّ المرأة في نظري ، وبغضّ النظر عن تجربتي المرّة : خيرها عينة من خير الرجل وتربيته ، وشرّها عينة من شرّ الرجل وتقصيره .. فلا يلام في الحقيقة على ما يكون منها ، وما هي عليه .. إلاّ الرجل .. وهي في عصرنا أسوأ ضحيّة ، وأنكد بليّة ، أفرزتها هذه الحضارة العفنة " .
إنّ المرأة غير العفيفة كالعملة الزائفة ، والمرأة الخالية من الوقار لعبة وموضوع استهزاء ، وفي الجوّ الخانق لأمثالهنّ لا يمكن الحديث عن أسرة سعيدة ، وجيل سويّ من الأبناء والبنات .. وإذا كانت المرأة المستسلمة لأهوائها توصف بقلّة العقل ، فبم توصف المرأة التي ترضى لنفسها أن تكون مادّة إعلان ، أو سلعة جنسيّة تافهة ، تباع وتشترى .؟! إنّها ضحيّة رخيصة لمجتمع تافه .. وربّما استجرّ الرجل ليكون ضحيّة بها ..
ومهما حاول الرجل أن يختار ، ويشدّد في الطلب ، ويحسن الاختيار ، فإنّ حظّه في الزواج من وطأة التيّار ، وصنع الأقدار .. وربّما كانت الزوجة مرآة للنفس ، أو بعض أوزارها ، أو نوعاً من التمحيص والابتلاء ، والله يقضي في عباده ما شاء ..



خبر أبي عزّام
* ـ قال المدير : أخذ الله بيدك ، وأعانك على هذه البلوى ، وردّ إليك طفليك على أحسن حال .. وليتفضّل إلى المنصّة أبو عزّام !
فقام أبو عزّام ، وكان رجلاً نحيفاً فارع الطول ، خفّة جسمه توحي أنّه رياضيّ عريق ، ذو خفّة دم ظاهرة ، فنظر في وجوه الحاضرين ، وقال لهم : أيّها القوم المجالس بالأسرار ! هل فيكم أحد من أحمائي .؟ فأنا أكره أن أتحدّث بحديثي في حضرة أحدهم .!
فتعالى صوت من أقصى القاعة : تكلّم أيّها الجبان ولا تجمجم .! أإلى هذا الحدّ تخافون من نسائكم .؟!
فضحك أبو عزّام ، وقال : يا قوم كنتُ غرّاً جاهلاً ، لا أحسن التفكير والاختيار ، ولم أجد حولي من كان أحسن منّي حالاً .. فأنا من بيئة بعيدة عن التعليم ، فلا عجب أن تخطب لي والدتي من مثل هذه البيئة .. لقد أخذتها من أهلها غافلة جاهلة ، مُتعلّمة أشبه بأمّيّة ، لم يُفدها التعليمُ الناقصُ إلاّ الغرور ، لا تعرف في إدارة بيتها يمناها من يسراها ، ولا تعي من حقّ زوجها ما دحاها ؟ وما طحاها ؟ ولكنّها على فطرة الإسلام ، وطِيبَةِ الأطفال ، حتّى قال لي بعض أهلي بعدما عرفوها عن كثب : ما ورّطَك بهذه الغبيّة الجاهلة ، أما رأيت في النساء خيراً منهَا .؟! طلّقها ونبحث لك عن خير منها " ، ولم يشر عليّ رجل واحد بطلاقها ، فقلتُ في نفسي : ما أسرع ما يشير النساء بطلاق النساء .! وقلت لهنّ : أتردنَ أن تكنّ مكانَها ، ويحرَّضَ رجالُكنّ على طلاقكنّ .؟! ما هذا والله منكنّ بالنَّصَف ، كان أولى بكنّ ، وأبرّ بي: أن تعلّمنها وتَنصَحنَها ، وتدرّبنَها على القيام بحقّ بيتها وزوجها ..
وكان من حالها أن أخذتها ورهاء حمقاء ( ) ، ذات دلّ في غير موضعه ، ماضغة للسانها ( ) ، آخذة في غير شأنها ، تأكل كالبهيمة الراتعة ، وتنتشر الشمس ، ولمّا يُسمع لها صوت ولا حسّ ، ولم يكنس لها بيت ، ولم توقد لها نار ، طعامها بائت ، وإناؤها وضِر ، وفراشها أشعث أغبر ، لا ذوق عندها في العناية بنفسها ، أو ترتيب بيتها ولا خبر .. وجميع أحوالها لا تبشّر بنفعٍ أو خير .. فاجتهدت في تربيتها وتعليمها ، وسدّ ما عندها من نقصٍ وقصور ، وتابعتها في كبير الأمور وصغيرها ، وصبرت عليها ليل نهار .. وفرّغت من وقتي كلّ يوم ساعتين لهذا الغرض .. لأنّني أرى أن نقص النساء من نقص الرجال ، وفضلهنّ من فضلهم ، وكمالهنّ من كمالهم .. فلم تمض على ذلك خمس سنوات ، حتّى تبدّلَت المرأةُ غيرَ المرأة التي عرفتها أوّل الأمر ، وعرفها الناس .. وبزّت بعلمها وخلائقها وفضلها كلّ مَن حرّضْنَني على طلاقها من قبل .. وما رأيت شيئاً كالمدح والثناء ، يحرّض المرأة على التغيير والعطاء ، ويحثّها على الاستجابة بلا مراء .. فأصبحت معها بأهنأ عيشة ، وأهدأ بال ..
وإنّ المرأة الجاهلة لها من أنوثتها العاطفة الرعناء ، وليس لها من إنسانيّتها العقل والحكمة ، والتضحية والعطاء .. ولكنّها بالتربية والتعليم تصبح خلقاً آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين ..
والمرأة التي فتحت قلبها لنور الإيمان ، وأضاءت عقلها بنور العلم والفهم ، وحصّنت نفسها بالتربية الاجتماعيّة المثلى تمنح كلّ يوم لزوجها وأولادها بهجة جديدة ، وجمالاّ أخّاذاً ، أمّا المرأة السفيهة التي لا تعرف إلاّ أنانيّتها وحظوظ نفسها ، فهي شؤم على نفسها ، وبلاء على زوجها وأولادها ، وخراب لبيتها ، ونقمة على مجتمعها ..
وأمّا المرأة التي لم توسّع ملكاتها الروحيّة ، وطاقاتها النفسيّة والعقليّة مع نموّ جسدها فهي أشبه بالزهرة التي يزيّن بها الرأس عند الصباح ، ثمّ يكون حظّها سلّة المهملات عند المساء ..
والزوج الكريم يستر عيوب زوجته حتّى عن أوليائها ، والزوج اللئيم لا يرى في زوجته إلاّ عيوبها ومساوئها ، فينشرها ويضخّمها ..
وخلاصة رأيي في المرأة : " أنّها في نظري بهجةُ الدنيا مهما قيل في ذمّها ، وجمالُ الحياة مهما قدّمَت لبُؤسِها ، وأنسُ الرجل مهما تَسبّبَت في شقائه ، خيرُها مهما قلّ يُمكِنُ أن يَسترَ كلّ شرّ لمن عقل .. هي الطفولة المتمرّدة ، والأمَةُ المُسَوَّدة .. إنّها سكينة الرجل وزينته ، وريحانته وسعادته ، وبهجة الطفل وجنّته ، وقِوام المجتمع الفاضل وحضارته " .
وفيما كان الناس منصتين لحديث أبي عزّام ، إذ دخل رجل في منتصف العقد الرابع من العمر ، وسيم قسيم ، يلبس أحسن الثياب وأجملها ، وكأنّه مستعدّ لليلة عرسه ، فالتفت الناس إليه جميعاً ، وتهامس بعضهم بما قطع حزام الصمت وسكينته ، واهتزّ بعضهم طرباً لرؤيته .. فلم أتمالك نفسي أن سألت صاحبي : من هذا القادم .؟ فأجابني مستغرباً ألا تعرف خبره .؟! إنّه أبو دردرة .! فقلت في نفسي : ومَن عسى أن يكون أبو دردرة .؟!
وما أن انتهى أبو عزّام من حديثه ، إذ تعالت الأصوات من هنا وهناك : نريد أن يتحدّث أبو دردرة .. نريد أبا دردرة ! فقطعَ لغطَ الناسِ أبو بكرة بقوله : أرجو الهدوء ، للحديث أيّها الناس نظام !
نرجوك أيّها الرئيس ! عند أبي دردرة حديث ذو شجون وفنون ، وعلم قلّما تجود به السنون ، دعنا نقتنص عبره ، ونأخذ خبره ، ونلتقط درره ، ونعرف عجره وبجره ، إنّه أشبهُ بحديث خرافة ، أو هذا به أشبه ، تبدأ أفانينه ولا تنتهي ، وتسعد مغامراته ذا القلب الشجيّ .. فهل لنا أن نسمعه ونحن مقبلون على الفهم نشطون .؟!
* ـ قال المدير : معذرة منكم ! فحديث أبي دردرة لا يأتيكم إلاّ في وقته .. وليتقدّم إلى المنصّة أبو زهير ..



خبر أبي زهير
فتقدّم أبو زهير إلى المنصّة ، كان قصير القامة ، عظيم الهامة ، أسمر اللون ، ممتلئ الجسم ، فألقى السلام على الحاضرين ثمّ قال :
أيّها الكرام ! عندما عزمت على الزواج كانت تراودني الأحلام الورديّة كسائر الشباب ، ولم لا أكونُ كذلك .؟ وأنا بحمد الله تعالى على دين وخلق ، وجاه بين الناس ومكانة ، ومَن أراد منّي المال والدنيا فلا تنقصني ، فتقدّمت إلى أسرة أحسبها تناسبني فقيل لي : إنّه لا عيب فيها إلاّ أنّ المرأةَ متسلّطة على البيت وما حوى ، والزوج وما وعى ، فالكلمة كلمتها ، والرأي في كلّ شأن رأيها .. ولكنّ ابنتَها على درجة من الجمال تُغري بها الخطّاب ، ولكنّهم عندما يتعرّفون على أمّها ، وتتكشّف لهم الخبايا .. يذهبون ولا يعودون ..
فقلت لهم : بئس والله ما يفعلون .! وما شأنهم بأمّها إن كانت البنت على ما وصفتم .. فقيل لي : لا يذهبنّ رأيك عن الصواب أيّها الغرّ ! فالبنت لابدّ أن تنزع إلى أمّها في شيء من خلائقها أو أشياء ، وهب أنّها خرجت عن هذه القاعدة ، التي لم يعرف لها من الشذوذ إلاّ ما يثبت صدقها .. فهل تقدر على كفّ تسلّط أمّها ، وهي التي أحكمت سيطرتها على الزوج والبيت بمن فيه وما فيه .. فقلت لهم وغرور الشباب ، وقلّة التجرِبة قد أخذا منّي مأخذهما : ما عليكم من أمر أمّها ! أنا قادر بإذن الله على تدبير شأنها رغباً .. وإذا اضطررت رهباً .. وتقدّمتُ إلى خطوبة البنت .. ونظرتُ إليها فكانت بحقّ بارعة الجمال ، تتلألأ فطرة الأنوثة من عينيها كما تتلألأ أشعّة الشمس في رياض الخمائل .. وتزيّنُ البراءةُ والصفاء وجهها كما تزيّنُ أوراقَ الورد قطراتُ الطلّ .. وكانت في نظري ـ وعليه المعوّل في هذا الأمر ـ كما قال الشاعر :
مُنعّمةٌ يحارُ الطرفُ فيها كأنّ حديثَها سُكرُ الشرابِ
مِن المتصدّيات لغير سوء تَسيلُ إذا مشَت سيلَ الحبابِ
أو كما قال الآخر :
وكأنّ تحتَ لسانِها هاروتَ يَنفُثُ فيه سِحرا
وكأنّ رَجعَ حديثِها قِطَعُ الرياضِ كُسينَ زهرا
أو كما قال الآخر ، وهو يرى في العُرُب من بنات حوّاء ما لا يراه أهل الطيش والنزوات ، الذين لا يرون في المرأة إلاّ صرخة الجسد ، وحمأة الطين :
وهنّ يَنبُذنَ مِن قول يُصبنَ به مَواقعَ الماء مِن ذي الغُلّة الصادي
وعقدت عليها ، وأغرقت الأسرة كبيرها وصغيرها بالهدايا الثمينة ، لا كعادة الخطّاب أن لا يقدّموا الهدايا إلاّ إلى مخطوبتهم أو أمّها .. وأحمد الله أنّ الجود في أسرتنا خلقٌ سارٍ ، ورثناه كابراً عن كابر ، لا نبغي به بدلاً ، ولا نرضى عنه متحوّلاً .. وتردّدت إلى بيت عمّي كلّ أسبوع ، أحمل أنواع الهدايا كلّ مرّة .. ثمّ طلبت الاستعجال في الزفاف والدخول بها ، فما كان من حماتي تلك الداهية الدهياء ، والمصيبة العمياء ، وهي وليّة أمر الكبير والصغير ، وبيدها الحلّ والعقد والتدبير ، إلاّ المماطلة بتعلاّت مختلفة .. وكان لا يتردّد أحد منهم أمامي ولا يستحيي عن ردّ الأمر إليها في كلّ شأن .. ثمّ أردتّ بعد طول الصبر ، ويوم الخاطب بشهر ، أن أضع حدّاً لهذا الأمر ، فلا تتعدّى حفلة العقد والزواج شهراً أو شهرين على الأكثر ، وعندما عزمتُ رأيي ، وجزمتُ أمري قالت لي بكلّ صراحة : هل نحنُ مجانين .؟ كيف نزوّجك بهذه السرعة ، وفيك بحمد الله ! خصال لا نرضاها إلاّ لبنات إبليس .؟! أتظنّ أنّ ابنتنا رخيصة علينا إلى هذا الحدّ .؟!
فقلت لها : إلى هنا وكفى أيّتها السيّدة الكريمة ، الوليّة لأمر ابنتها الحكيمة .! ولم أتكلّم معها بكلمة واحدة .. وخرجت ولم أعد ، وقلبي تغلي مراجل غيظه ، وتلهب شمس قيظه .. غير أنّي غير آسف على ما بذلت وقدّمت ، ولكنّني آسف لحال هذه الأسرة أن يتلاعب بها السفه بهذه الصورة .. ولعلّ في خبايا البيوت والمجتمع ما هو أعجب وأغرب ..
وأنا إلى هذا اليوم أكاد لا أصدق هذا الكلام ، وأحسّ هول الصدمة ، وبؤس القَدمة .. والحمد لله على كلّ حال .. ولا زلت أبحث عن فتاة صالحة ، ذات منبت طيّب ، يتحقّق فيها ما رُوي عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى أنّه قالَ : " مَا رفع أحد نفسه ـ بعد الإيمان بالله ـ بمثل منكح صدق ، ولا وضع أحد نفسه ـ بعْد الكفر بالله ـ بمثل منكح سوء " .
ولهف قلبي على أمثال هذه الفتاة المسكينة الضائعة .! ماذا ينتظرها من مستقبل قلق غامض ، لا يصنعه لها إلاّ أقرب الناس إليها .؟!
" إنّ المرأة في نظري مخلوق خير ما يقال في وصفه أنّه إنسان عجز عن بعض صفات الرجل ، فلا يزال ينازعه فيها ، وتفرّد بصفات من صفات الإنسانيّة فلا يُقدر عليه ، لأنّه لا يقدر عليها ، وبعضُ النساء عَوانٍ عند أهلِهنّ أكثر مِن أن يكُنّ عوانيَ عند أزواجهنّ .! فمَن مِن الناسِ يُدركُ مُصيبتهنّ ، ويَسعى في إنقاذِهنّ .؟! " .
وليست المرأة أنقص عقلاً من الرجل ، ولكنّها تغلب عاطفتها على عقلها ، وهذا سرّ أنوثتها ، وسرّ سعادة زوجها وأولادها بها .. ويغلب عقل الرجل على عاطفته ، وهذا سرّ قوامته ، ومسئوليّة قيادته ، فإذا غلبَ عليها العقلُ ، وغلبَت على الرجل العاطفةُ فسدَ نظامُ الأسرة ، واختلّ كيان المجتمع .. وقل : على الإنسانيّة السلام ..
خبر أبي هتّان
* قال المدير : لقد أسمعت ما يستغرب ، وفي الدنيا ما هو أغرب وأعجب ، ونسأل الله تعالى أن يهيّئ لك الزوجة الصالحة ، وأن تكون أمّها أصلح منها ، لتنسيك هذه الأزمة العارضة .. وليتقدّم إلى المنصّة أبو هتّان ..
فتقدّم أبو هتّان إلى المنصّة .. كان أبو هتّان مهندساً مدنيّاً ، وموظّفاً كبيراً في شركة مقاولات ، مُتقنٌ لعمله ، محترمٌ عند رءسائه ، مُقدّمٌ بين أقرانه ، وكان مربوعَ القامة ، حَسَنَ الهيئة ، هادئَ الطبع ، لطيفَ المعشر ، قليلَ الكلام ، يغلِبُ عليه الحياءُ والأدب .. يسعى في خدمة الناس ، وقضاء حوائجهم ، ولا يحبّ أن يظهر عمله للناس ..
أيّها السادة ! ماذا أقول عن زوجتي ولا أشكو .؟! تلك التي كانت يتيمة ضائعة ، فأصبحت وليّةَ أمرٍ مُضيِّعة .. وأنا منذ تزوّجتها في بلاء منها مبين ، أغدقت عليها من الخير ألواناً ، وأصفيتها الودّ تكريماً وتحناناً ، وأنسيتها ما كانت فيه من البؤس والضنك ، بما أوليتها من التكريم والمجد .. أسكنتها قصراً منيفاً ، تأمر فيه وتنهى ، وتخدم وتحفد ، وتزار وتقصد .. ولكنّها غيورة حمقاء .. قد أحالت نعم الله عليها ظلمات تتقلّب بها ، لا ترحم نفسها ، ولا تقيم اعتباراً لحقّ زوجها ، لا تقدّر النعمة ، ولا تعترف بمنّة .. فما أسرع اتّهامها لي بغير سبب ، وما أبعدها عن صفاء النفس وخلق الأدب .! ذاتُ سُمّ مُنقِع ، وإبراق واختلاق ، تهبّ مع الرياح ، وتطير مع كلّ ذي جناح ، عنيدة معاكسة ، إن قلت : نعم ، قالت : لا ، وإن قلت : لا ، قالت : ما أبعدك عن خلائق أهل الكرم ، مُولّدة للمخازي ، محتقرة لما في الأيدي ، تضرب لي الأمثال ، وتقصّر بي دون الرجال ، وتنقلني من حال إلى حال ، حتّى قَليتُ بيتي ( ) ، ومَللتُ ولدي ، وغثثت ( ) عيشي ، وهانت عليّ نفسي ، ورحمني جيراني ، وأنكرني كثير من إخواني ، وأصبح بيتي مَكتب ادّعاء وتحقيق ، أجرّ إليه جرّاً ، فألقى هواناً وضُرّاً ، ولا أجد الملاذ إلاّ صبراً ..
كلّما عدت إلى البيت ، فأنا على موعد مع التحقيق والتدقيق : مَن رأيتَ مِن النساء ، ومَن قابلت .؟ وأين كُنت .؟ ولم تأخّرت .؟ وبم تحدّثتَ مع زملائك عنّي .؟ وهل تحدّثتُم عن النساء .؟ أو حدّثك أحدٌ عن زوجتِه .؟ وربّما كنتُ في حال من الإرهاق أكرهُ معها الكلام ولا أشتهيه ، فالويلُ لي كلّ الويل من طول التحقيق إن سكتّ ، ومُقذِع الكلام والشتائم إن تلعثمت ، لأنّني متّهمٌ بالكذب وإخفاء الحقائق ، وعندها عليّ من الظنون وثائق .. ولا عيب فيّ عندها إلاّ أنّني امرؤ مسالم بطبعه ، يكره الجدال والخصام ، وتُؤمَن بوائقُه ، ولا تُذَمّ خلائقُه ..
ووسوس لها الشيطان منذ أمدٍ أنّي قد أضرّها بأخرى ، أو أنوي ذلك ، وتمكّن ذلك في نفسها حتّى أصبح يقيناً ، فأخذت عليّ عهداً مؤكّداً ، وموثقاً مؤبّداً ، أنّي لا أفعل ذلك ولا أقاربه ، فأعطيتها العهد على ذلك ، لا حبّاً بها ، وإنّما التماساً لراحة النفس ، وهدوء البال .! وتقديراً لمشاعر أطفالي الخمسة ، وهم يرون منها النكد والشرور صباح مساء بدون داعٍ أو مبرّر .! وليتها اطمأنّت نفسها ، أو سكنت وساوسها ، أو نلت راحة النفس ، وهدوء البال ، أو قاربت شيئاً من ذلك .!
ولم تزل بها غيرتها الرعناء ، ووساوسها البلهاء ، تشقيها ، ويشقى بها من حولها حتّى فاجأتني ذات يوم تطلب الطلاق ، لأنّها تشعر أنّني لابدّ أن أتزوّج في يوم من الأيّام .! وعبثاً حاولتُ أن أثبتَ لها أنّ ما يخطر لها وساوس شيطانيّة ، ولكنّها كانت تَزيدُ إصراراً على طلبها ، كلّما رأت رغبتي بها .. فأخذتني الأنفة وعزّة النفس ، وأنا أستكين لها في كلّ مَوقف ، فأوقعت عليها كلمة الطلاق مرّة واحدة ، وكأنّها وثيقة الشقاء .. أحكم بها على نفسي ، وعليها ، وعلى أولادي بالإعدام ..
فلم تلبث معتزلة عنّي سوى بعض الأيّام .. حتّى جاءت حزينة متأسّفة ، باكية نادمة ، كاسفة الحال والبال ، ترجو أن أراجعها ، ولن تسيء الظنّ بي بعد اليوم .. ومكثنا على ذلك أشهراً تقارب السنة .. ثمّ " عادت حليمة إلى عادتها القديمة .. " فأشار عليّ بعض من يلوذ بي أنّها مصابة بمرض نفسيّ ، ولابدّ من عرضها على طبيب مختصّ .. فأبت أشدّ الإباء ، واستشاطت غضباً ، وظنّت أنّي أتّهمها بالجنون .. وصار العرض على الطبيب النفسيّ عصا ألوّح لها بها كلمّا راودتها فكرة طلب الطلاق ، ولا أستطيع استعمالها .. ولكنّها غلبتني على أمري مرّة أخرى ، فلم تزل تلحّ عليّ في طلب الطلاق حتّى استجبت لها ، وأنا أظنّ أنّها لن تندم هذه المرّة كما تقول .. ولكنّها سرعان ما ندمت ، وعادت تبكي ، وتلحّ أن أراجعها رحمة بأولادها .. فراجعتها ، وحذّرتها أنّ بعد هذه المرّة لابدّ من الفراق ، ولا تحلّ لي إلاّ بعد زوج آخر بغير تحايل أو تواطؤ .. ولكنّها تأبى إلاّ أن تعبر عن حمقها وسفهها ، فعادت بعد مدّة تطلب الطلاق ، وتلحّ في طلبها ، وأنا لا أستجيب لها ، رحمة بأولادي وأولادها .. إلاّ إذا رفعت أمرها إلى القضاء تطلب الطلاق .. وأنا في بلاء معها مبين ، ولست أدري ما الله قاضٍ بيني وبينها .. وأخشى إن طلّقتها أن تدركني ندامة الفرزدق حين طلق النوّار ، فندم ندامة شديدة ، حيث لا ينفع الندم ، وقال أبياته المشهورة :
نَدِمْتُ نَدَامةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا مَضَتْ مِنِّي مُطَلَّقةً نَوَارُ
وَكانَتْ جَنَّةً فَخَرجْتُ مِنْهَا كآدَمَ حِينَ أخْرَجهُ الضِّرَارُ
وَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَيْنَيْه عَمْداً فأصْبَحَ مَا يُضِئُ به النَّهَارُ
وَلَوْ ضَنَّتْ يَدَايَ بهَا ونَفْسِي لَكَان عَلىَّ لِلقَدَرِ الخِيَارُ ( )
فَأصبَحتُ الغَداةَ ألُومُ نَفسِي بأمرٍ ليسَ لي فِيهِ اختِيارُ
ومَا فَاَرْقتُها شِبَعاً ، ولكِنْ رأيْتُ الدَّهرَ يَأْخُذُ ما يُعارُ
فَعَيني مَا تَجفّ لها دُمُوعٌ وَقَلبي مَا يَقِرُّ لَه قَرارُ ( )
أو أكون كالكُسَعِيِّ الذي ذهبت قصّته مثلاً في الدَّهرِ خالداً .. ( ) .
وقد قيل لي من بعض الناصحين : إن أردت أن تستقيم زوجتك ، وتسعد بالحياة الزوجيّة من جديد ، ففكّر بالزوجة الثانية .. وأقدم ولا تحجم ..
وكيف أفكّر بذلك .؟! وأنا يا قوم ! مع زوجة واحدة قد كثر وسواسي ، وأخمدت أنفاسي ، وأعلن نحسي ، وأشهر إفلاسي .. ورحم الله امرءاً عرف حدّه فوقف عنده ..
وشقّ صمتَ الحاضرين صوتُ أحدهم : نِعمَ هذا الرأيُ أيّها الرجل ! فإنّ في النساء مَن لا يُداوَى كيدُها ، ولا يعودُ إليها رُشدُها ، إلاّ بضرّة تقفُها عند حدّها ، والتجربةُ أكبر برهان ..
لا تكثروا اللوم أيّها القوم .. ولا تغروني بما يزيد بؤسي وشقائي .. فما راءٍ كمن سمعا .. ولن أستجير من الرمضاء بنار جهنّم .. ولن أهرب من العطش إلى بحر الموت أو القلزم ..
وخلاصة القول عندي : " إذا كان الإنسانُ معجزةَ الخلق ، فإنّ المرأةَ مُعجزةَ الرجل ، وخيرٌ للمرأة وللرجل وللإنسانيّة كلّها أن تكتملَ بهما صورةُ الإنسانيّة في فضائلِها ومحاسنِها ، فيرى كمالَه في نقصها ، وفضلَها في حاجتِه إليها ، كما ترى في قوّته حاجتَها ، وفي شدّته ما يعوّضُ نقصَها " .
وكلّ طلاق مزاجيّ ـ سواء أكان من الرجل ، أو بطلب المرأة ـ ندم للمطلّق ، وظلم للمطلّقة ، ومصدر قلق وشقاء لأفراد الأسرة ، كنزيف جرح لا يندمل ..
والطلاق في نظر الدين أبغض الحلال إلى الله ، ولكن مع بغض الإسلام لوقوعه ، فإنّ منعه وتحريمه غير طبيعيّ ، وغير فطريّ ، لأنّ تجاهل ضرورات الطلاق يدلّ على عدم معرفة طبيعة الإنسان وفطرته ، لأنّ توقّع امتزاج كلّ زوجين مع بعضهما توهّم ساذج ، بأنّ الجميع على فطرة واحدة ، وطبع واحد ، ومزاج واحد ، ومشاعر واحدة ، وهذه سذاجة في التصوّر مضحكة ، عدا عن أن الواقع يرفضها ، ولا يعرف لها وجوداً ..
والرجل والمرأة قدر الفطرة الإنسانيّة لبعضهما ، وحقّها عليهما ، لا محيص عن ذلك ، ولا مفرّ .. فإذا تحلّل أحدهما من الآخر فقد خرج عن فطرته ، وتحلّل من إنسانيّته .. ولا تكمل رجولة الرجل إلاّ بثلاث : الترفّع عن الصغائر ، والعفو عن المقصّر ، ورحمة الضعيف والمسكين .. وكلّ ذلك من حقوق القوامة وموجبات تكاليفها .. فأين المرأة العاقلة التي تعين الرجل على ذلك .؟!



خبر أبي عارف
* ـ قال المدير : أيّها الرجل ! إن كان الأمر كما قلت ، فإنّنا ننصحك ألاّ تستجيب لها .. فاصبر صبراً جميلاً .. ونسألُ الله أن يأخذَ بيدك ، ويُعينَك على حُسنِ التدبيرِ لأمرِك ، والآن ليتفضّل إلى المنصّة أبو عارف ..
فتقدّم أبو عارف إلى المنصّة ! وقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته !
أيّها الكرام .! إنّ قصّة زواجي باختصار هي قصّة سوء الاختيار .. لقد نشأت في بيئة أمّيّة ، وقدّر الله لي أن أتعلّم وأتخرّج في الجامعة .. ورأيت سوء التفاهم ينشأ بين والديّ لأتفه الأسباب ، فقدّرت أنّ ذلك لضعف تعليم أمّي ، فقلت لأمّي : لن أتزوّج إلاّ متعلّمة مثقّفة ، تفهم عنّي ، وأفهم عنها ، ويكون العلم خير ما يجمع بيننا ، أريدها أديبة اللسان ، حسنة البيان ، تنثر الصواب ، وتسلب بحديثها الألباب ، وتجاوزتُ سائر الشروط والاعتبارات .. وبحثت وتحرّيت ، حتّى وقفت على ما أريد .. فتاة متعلّمة مثقّفة ، من أسرة محترمة ، وتزيد على ما أريد أنّها موظّفة ... فقلت في نفسي : لقد أدركتَ الحسنى وزيادة .. فإن لم تنفعك بوظيفَتِها فلن تَضرَّك .! ولعلّ راتبَها يكونُ سبيلاً للعيش الرغد ، فلا تحتاجان إلى أحد ، وعوناً لك ولها على نوائب الدهر ، ونوازل الضرّ ..
ومضى على زواجنا ثلاث سنوات ، وأنا أنتظر أن تحمل بفارغ الصبر ، وهي تعلم منّي ذلك ، ثمّ فوجئت أنّها تمنع نفسها من الحمل بغير إذني ولا علمي .. وكانت قضيّة خلاف شديد ، كادت تعصف بعشّ الزوجيّة ، لولا تدخّل والدها ، الذي حملها على الخضوع لرغبتي بلا قيد ولا شرط .. ورزقت بنيّة بعد طول انتظار ، فسمّيتها : حسناء .. وكانت فرحتي بها لا تعدلها فرحة .. ولكنّ زوجتي كانت متكرّهة لها كراهة ظاهرة .. تدعو عليها بالويل والهلاك ، بسبب وغير سبب .. شأن الأمّهات الجاهلات .. وأحضرتُ لها خادمة أمينة ، فيما أحسب وأظنّ ، لتقوم بشأن البنت في غياب أمّها .. ودخلت إليّ الوساوس لكثرة ما كنت أسمع من أخبار الخادمات مع الأطفال ، فكنت أقتطع ساعة من عملي كلّ يوم لأفاجئ الخادمة في البيت ، وأرى ما تصنع .. فلم أر منها إلاّ كلّ خير ..
ولكنّ ابنتي كانت أشبه باليتيمة ، بل أسوأ من اليتيمة .! إذ كانت زوجتي لا تتعرّف عليها في وجودها بشيء .. فلا تحملها ، ولا تضمّها إلى صدرها ، ولا تقدّم لها شيئاً من حنان الأمّهات وحُبّهنّ .. وعبّرت لها عن ذلك مرّات ومرّات ، فكان جوابها البليغ أن تدعو عليها بالموت ، لأنّها أصبحت غصّةً في حياتها .. وضقت ذرعاً بهذا الحال ، وزاد عليّ البلاء أنّ الطفلة أصبحت كثيرة البكاء بغير سبب ظاهر ، وأمّها لا تبالي بها أدنى مبالاة .. وكنت أرى هذا المشهد فأغتاظ أشدّ الغيظ ، فأتصنّع الصبر ، ولا أتجمّل به .. وعرضتُ ابنتي على طبيب مختصّ ، فقال لي أمام أمّها كلمةً كانت كالصاعقة على قلبي ، لقد قال لي : " إنّ آخرَ البحوث أثبتَت أنّ بعض الأطفال لا علاج لكثرة بكائهم وصراخهم إلاّ المزيد من حنان الأمّهات وحبّهنّ .. " ، وسمعت زوجتي الكلام فظنّت أنّني متواطئ مع الطبيب ، فلم تقبل شيئاً من كلامه .. وكانت ثالثة الأثافي أن دخلتُ البيتَ ضُحى بعض الأيّام فإذ بحسناء تصرخ من الألم ، والخادمة المسكينة ، لا تعرف ما تعمل .. لقد تعثّرت المسكينة ، وبيدها قدر من الماء الساخن ، فسفح الماء الساخن على حسناء ، وهي تحبو ، وكان لطفُ الله بها أن لم يكُن شديدَ السخونة .. وطاش عقلي ، وفقدتُ صوابي ، وأخذتُ أهذي بالسباب للوظيفة ، ومشتقّاتها ، وعندما شعرتُ أنّ الخطرَ بعيد ، حمدتُ الله على ما قدّر ، وأقسمتُ بالله العظيم ألاّ يجمعَني بزوجتي بيتٌ واحد ما لم تترك الوظيفة ..
فماذا فعلَت زوجتي عندما علمَت بموقفي.؟ لقد تركتْ هذه المتعلّمةُ الحصيفةُ ، بكلّ أريحيّة وإصرار زوجَها وابنتَها ، ورضيت بالطلاق ، وآثرت وظيفتها .. وتخلّت عن حقّها في حضانة ابنتها ركضاً وراء لعاعة من الدنيا تافهة .. ولم يستطع أحد من أوليائها أنْ يُثنيَها عن هذا الموقف .. بل قالوا بكلّ بساطة : " القرارُ قرارُها ، وليسَ لنا أنْ نتدخّلَ في شيء من أمرِها .! وقلت لها ولهم : انظروا إلى الفرق بين موقفي وموقفها ، ثمّ احكموا بما شئتم : والله لو مرضَت هي أو ابنتُها ، وكلّفني علاجُها أموالي كلَّها ، لبذلتُها طيّبةً بذلك نفسي .! فكيف تطيبُ نفسُها أن تؤثرَ الدنيا التافهةَ على زوجها وابنتها .؟ ولكنّها قرّرت ما شاءت ، وافترقنا ..
أيّها السادة ! لقد أصبحَت المدارسُ تخرّجُ أنصافَ متعلّمين ومتعلّمات ، وإن شئتم فقولوا : أنصاف جهلة متعالمين ، لأنّه تعليم بعيد عن التربية والتهذيب ، وإنّ أخطر داءٍ في هؤلاء وأوّله : أنّ أحدهم لا يعرف ما يهدف ، فيقدّم ما حقّه التأخير ، ويؤخّر ما حقّه التقديم ، ولا يحسن الاختيار لنفسه ، والتقدير لعواقبه ، ونصف المتعلّم المتعالم أخطر على العلم وعلى الأمّة من الأمّيّ الجاهل ، ولكن ما العمل .؟! إذا كنّا نجهل ، ونظنّ أنفسنا معلّمين مربّين ، ونحتاج لإدراك هذه الحقيقة إلى أن ندفع الثمن باهظاً ، وأقلّه هلاك جيلين من أجيال الأمّة ، وضياع جيلين آخرين وراء توافه الأمور .. قبل أن نصحو إلى أمرنا ، ونعود إلى رشدنا ..
إنّ درهم علم يحتاج إلى قنطار من التربية والعقل ، وأنّى لمن أخذ العلم سلّماً لمغانم الدنيا أن يكون قد نال حظّاً من التربية والتهذيب .. ومع ذلك فقد عاودني الجهل مرّة أخرى ، فخطبت موظّفة ، ولكنّني اشترطت عليها بنصّ العقد بيننا : أنّ أمر وظيفتها بيدي ، وأنّني متى ما شئت أن تترك وظيفتها تركتها ، ولو كان ذلك قبل يوم واحد من إحالتها إلى المعاش .. وأنّني امرؤ أحبّ كثرة الأطفال ، لا أستحيي من ذلك ، ولا أواري .. فقبلت ورضيت .. وكانت عاقلة حصيفة ، طيّعة مهذّبة قد عوّضني الله بها خيراً عن تلك الدابرة الذاهبة .. ولا تزال الحياة تمضي بيننا سعيدةً هانئة ، قد رزقت منها بأربعة أطفال ، وأقامت ابنتي من الأولى مقام البنتِ في نفسها ، وما تكرّهت بواحد منهم لوظيفتها .. وما عبّرت يوماً عن تبرّمها بحقّ زوجها أو بيتها .. وأسأل الله تعالى أن يحسن لنا عواقب الأمور ..
" إنّ المرأة في نظري أيّها السادة ! خلق عجيب ، عقله أمشاج من الأمزجة والعواطف تغنّى بها الشعراء ، وحار بوصفها العلماء ، وعجز عن سياستها الحكماء ، وأسرت بسحرها الألبّاء ، إنّها محنة الأخلاق والعقول ، وقرينة فتنة الأموال ، ومحنة الحياة بلا جدال ، ولكنّ التربية والتهذيب تجعل منها خلقاً آخر ، تغني الحياة وتجمّلها ، وتكمّلها ولا تنتقصها " .
والمرأة التي تُربَّى تربية قويمة على العفّة وحفظ الشرف ، تعرفُ كيف تربّي أولاداً ، يصونون شرف الأمّة ، ويدافعون عن قيمها ، والمرأة التي لا تعرف من العلم والثقافة إلاّ المظاهر والقشور ، لا تعرف إلاّ الجري وراء الموضات والتفاهات ، واتّباع الأهواء والشهوات ، ولا يرجى منها إلاّ أن يكون الأولاد على شاكلتها .. فأنّى للأمّة أن تتقدّم وترقى .؟!
والأمّة التي تجعل من البيت مدرسة ، ومن المدرسة مسجداً ، ومن المجتمع أسرة واحدة ، أو كالجسد الواحد أمّة متينة الأركان ، محكمة البنيان ، لا تستطيع قوّة في الأرض أن تقتحم حصونها ، أو تنتهك بنيانها .. ومسئوليّة المرأة في ذلك لا يستهان بها بحال من الأحوال ..
وقد كان أجدادنا يقولون مقولة حقّ صادقة : " إنّ الإبرة في يد المرأة تشبه الرمح في يد المجاهد " . وينبغي أن نفهم دلالة هذه الكلمة على أهمّيّة التفات المرأة إلى بيتها ، واهتمامها بمملكتها أكثر من كلّ شيء في حياتها .
والأمّة التي ينمو فيها البيت والمدرسة والمسجد ، ويزدهر عطاؤها ، وتعظم ثمراتها ، بتعاون رجالها ونسائها ، وجميع أفرادها ، تغيب الجريمة عن مجتمعها ، وتضمر فيها السجون ، ويقلّ روّادها ..



خبر أبي عفراء
* ـ قال مدير الجلسة : ليسَت الُمتعلّماتُ سَواءً .. ونرجو أن يكون شذوذ من شذّ لا يسيء إلى السواد الأعظم وجملة النساء ، وليتقدّم إلى المنصّة أبو عفراء ، فتقدّم أبو عفراء إلى المنصّة ..
أيّها السادة الكرام ! إن أردتم لهذا اللقاء أن يكون ثرثرة مجالس ، كما تثرثر النساء في مجالسهنّ عن الرجال ، فبئس المجلس ، ومعذرة عن الحديث بأيّة كلمة ، وإن قصدتم ما يؤجر به المرء فمرحباً بالقصد الطيّب ..
ـ مدير الجلسة : لقد بيّنّا قصدنا أوّل الجلسة ، وعلى كلّ امرئ أن يصحّح قصده ..
أيّها السادة ! أريد أن أجمل ولا أفصّل ، وأوجز ولا أطنب ، وأكتفي بالرمز والإشارة ، عن التصريح بواضح العبارة ، واللبيب تكفيه الإشارة .. ولا عليّ إن لم أرضِ عُبيداً وأبا زيد ، أو لم أحقّق بعض الرغبات والأذواق ، فلي من عفّة اللسان ، وغيرة الجنان ما يبرّر ما أقول .. إلى مآرب أخرى لا تخفى على ذوي العقول ، وحسبي من العُود عَرفُه ، ومن كريم النسب وصفُه ، ومن البلاءِ قَصفُه وعَجفُه ..
زوجتي امرأة من بنات حوّاء ، لا تنقص عن صفات أمّها ولا تزيد ، كما أنّني رجل من أبناء آدم .. إن نظرتُ إليها بعينِ الرضا رأيتُها ملكاً قد أهبط من السماء فكانَ قدرَ عبدٍ مِن عباد الله ، ونعمةً لا يقدر عليها عبد بشكر .. وإن نظرتُ إليها بعين السخط رأيتُها مارداً من مردة الشيطان أرسل بلاء وعذاباً على أحدِ عباد الله ، ومن واجبه أن يتجمّلَ بالصبر .. وحقُّها وهو العدل أن أنظر إليها كما أحبّ أن تنظر إليّ .. وهي في الحقيقة هي .. لم تزد على ما هي عليه ولم تنقص .. ولكنّها صورة نفسي ، وميزان عملي ، تتبدّى للناس في مرآة حديثي ، فيخطئ إن ظنّ ظانّ أنّها غير ما أتصوّره في نفسي .. فما مبلغ وثوقكم يا قوم بعدَ هذا بما يمكن أن أقول من الوصف والحديث عنها ، وما مبلغ وثوقكم بحديث غيري .؟
وإن أدلّ دليل على ما أقول ما أشهده في نفسي عندما أقع في معصية وجفوة .. فأجد التغيّر في موقف زوجتي منّي والنكد في تعاملها معي .. وقد رأيت ذلك مطّرداً مدّة ليست بقليلة ، ومع ذلك فقد كنت أشكّك به وأماري ، حتّى قرأت كلمة لبعض السلف ، فكانت لي الحُكمَ العدلَ ، والقول الفصل : " إنّي لأعصي الله فأجد ذلك في خلق زوجتي ودابّتي " .. وأظنّ أنّ في الحاضرين من له تجربة مثل تجربتي ، وإن توارى عن ذلك بعض الناس أو واروه .. فليس لأحد أن ينكر قولي ، وإلاّ كان مكابراً بغير جدوى .. ولكنّ زوجتي مع كلّ ذلك وغيره :
لها ديوانُ في قلبي لها عَتبي لها حُبّي
فعَتبي جَلّ عن نُكرٍ وحُبّي قَلّ عن حِبّي
إذا غاضبتُها تعفُو وإن آذيتُ تَلطُفُ بي
كتمتُ الشعرَ لَكنّي بَثثتُ الوَجدَ في قَلبي
فهل كفيتكم بما قلت من وصف زوجتي .؟ إن كنت كفيتكم فحسبي ما قلت .. فقال له رجل من أدنى القاعة : لقد تكلّمت أيّها الرجل فما كفيت وما شفيت ، وأوجزت وما أغنيت ، فلو فصّلت ما أجملت لنفعت وأسعفت ..
يا قوم ! إنّ ذمّاً لزوجتي لا يعدو أن يكون إساءة لأولادي ، وذمّاً لنَفسي ، وكشفاً أمام الملأ عن العورات والنقائص ، والله يحبّ الستر وما كنت لأهتك ستراً حباني الله إيّاه ، وأرجو أن يكون سبب ستر الله عليّ يوم القيامة ، وسبيل مغفرته ، فأستميحكم عذْراً إن لمّحتُ وما صرّحت ، وأبديتُ وأخفيت ، وأنا لا أكتمكم ، ولا أخفيكم أنّني أحسِبُ ألفَ حساب لغضب زوجتي ، كما أنّها تحسِب ألفَ حساب لغضبي ، إنّني أحسِب ألف حساب لغضبها ، لأنّها امرأة مؤمنة قانتة ، عابدة صالحة ، وقد أخبرنا النبيّ  أنّه رُبّ ضعيفٍ مُستضعَف ، لو أقسم على الله لأبرّه .. وأيّ ضعيف أضعف من المرأة .؟ إنّها قاصرة الطرف حصان ، عزيزة النفس عفيفة ، وهي تحسب ألف حساب لغضبي ، لأنّها تعظّم حقَّ زوجها وتَرعاه ، وتحرص على رضاه ، كما أنّها تبرّ أبويّ كما تبرّ أبويها ، وترعى حقّهم وتلتمس رضاهم ، ولسان حالها يقول في كلّ حال :
ربّي سألتك لاسمهنّه أن تفرش الدنيا لهنّه
بالوَرْد إن سمحت يـ ـداك وبالبنفسج بعد هنّه
لتطلَّ شمسُك في الصـ ـباح وكلّ أمّ مطمئنّه
أيّها السادة ! ليست الحياة الزوجيّة ميدان صراع ولا حرب .. وإنمّا هي روضة الودّ والحبّ .. وما أكثر الذين يقولون : إنّ البيت مملكة المرأة ، وهي ملكته السيّدة الآمرة الناهية .! ولكنّهم في الواقع ينازعون الملك مملكته ، فلا يَفُونَ بحقّ هذا القول ، ولا يلتزمون بمقتضاه .. أمّا أنا فقد أعطيت هذا القول حقّه ، والتزمت بمقتَضاه .. فكبير أمورِ البيت وصغيرها بيد زوجتي ولا فخر ، ولا حرج .. لا أستحييْ من ذلكَ ولا أواري .. لا أعصي لها فيها أمراً ، ولا أخالف رأياً ، ولا أتدخّل في شأن .. وهي إن شاورتني فقد أحسنت وطيّبت قلبي ، وإن لم تشاورني فذلك حقّها ، وأنا بذلك مريح لها ومرتاح .. ولا أخفيكم أيّها السادة ! أنّ نفسي الأمّارة تغريني بعض الأحيان ، وتسوّل لي أن أشقّ عصا الطاعة ، وأحاول التمرّد والعصيان ، فتكون العقوبة الرادعة تعبيس الوجه والهجر بعض الأيّام ، وأيّ محبّ يختار الهجر على الوصل ، وأيّ عاقل يسعى إلى العقوبة بقدمه .؟! فأعود سريعاً إلى رشدي ، وأعرف قدر نفسي ، وأعتذر من تجاوز حدّي ، ولسان حالي يقول :
هبيني يا مُعذّبتي أسَأتُ وبالتقصيرِ قَبلَكِ قد بَدأتُ
فأينَ الفضلُ منكِ فدَتكِ نفسي عليّ إذا أسأتِ كما أسأتُ
فتعود المياه إلى مجاريها ، والحياة إلى صفوها وعذب أمانيها ..
إن زوجتي عاقلة حكيمة ، حازمة لبيبة ، جعل الله في فطرتها أن تكون مديرة زعيمة ، محبوبة مبرورة .. فهل لأحد أن ينازع ربّه فيما فطر .؟!
" والمرأة في نظري كيدها عظيم ، وخطرها جسيم ، غالبة مغلوبة ، في أكثر أحوالها مِسكينة مُغفّلة ، تغلبها العاطفة .. يلعب بها الرجال ، ويخدعونها أنّها تلعب بهم ، ويسخّرونها لشهواتهم وأهوائهم ، ويوحون إليها أنّها تسخّرهم ، فتندفع إلى شهواتهم بملء رغبتها وإرادتها ، ويغرونها في كلّ موقف ألاّ تفعل إلاّ ما يحلو لهم ، لتكون أُلهيةً لهم رخيصة .. " .



خبر أبي أيمن
* ـ قال المدير : هنيئاً لك أيّها الرجل هذه الحياة الهائنة .. وإنّ كثيراً من الرجال ليتمنّونها ، ولا يقدرون على مثلها .. ونسأل الله أن يديم بينكما البرّ والمعروف ، والودّ والوئام .. وليتقدّم إلى المنصّة أبو أيمن ..
فتقدّم إلى المنصّة شابّ فارع الطول ، نحيف البدن ، أبيض أشقر ، تكسو وجهه لحية خفيفة الشعر بخلقتها ، يبدو على هيئته أنّه إنسان عمليّ مكافح ، فألقى التحيّة على الحاضرين ، ثمّ قال :
أيّها السادة ! لا أظنّ أنّ حياتي الأسريّة تنطوي على مفاجآت غريبة ، تخرج عن طبيعة مجتمعاتنا ، بإيجابيّاتها وسلبيّاتها ، وحسناتها وسيّئاتها ، ومباهجها ومآسيها ، وإن كنت أحسبها شاذّة مستنكرة ..
لقد نشأت في بيئة تجاريّة ، يرتضع أبناؤها حبّ التجارة مع لبن أمّهاتهم ، قليلة الاحتفاء بالعلم والتعليم ، إلاّ أنّ أهلنا ورجالنا قد توارثوا كابراً عن كابر حبّ العلماء والمشايخ وملازمة مجالسهم ، وزيارة المشايخ لهم في البيوت بمناسبة وغير مناسبة .. وغالباً ما تكون زيارة الشيخ مناسبة بحدّ ذاتها ، تحيل جوّ الأسرة إلى ما يشبه العيد في بهجته وأنسه ، لأنّنا نأخذ فرصة من الاستجمام عن الجهد الدائب ، والعمل الناصب ، الذي يطبع حياتنا في ليلها ونهارها ، حتّى كأنّنا لا نعرف الراحة ولا تعرفنا ..
وخلافاً لشخصيّة أكثر إخوتي فقد نما في نفسي الطموحة منذ الصغر حبّ الاستقلال عن عمل والدي التجاريّ ، وأن أدخل أبواباً أخرى من التجارة ، تكون أسرع ربحاً ، وأكثر نفعاً وجدوى .. وكنت أصطدم دائماً بإصرار والدي على الاستمرار فيما هو فيه ، ويعبّر لي عن الاستخفاف بأفكاري وآرائي .. ولكنّني مع العزم والإصرار ، وصلت إلى ما أريد بعد جهد جهيد .. فكان لي نشاطي التجاريّ الخاصّ مع انخراطي في العمل في شركة والدي بما يرضيه ..
وعندما دخلت سنّ الرجولة ، عرضت عليّ والدتي أن تخطب لي فقلت لها : أريد أن تبحثي لي عن الذهب في المناجم المهجورة .. عن فتاة من أسرة مستورة ، فقيرة متعفّفة ، تكبر النعمة في عينيها ، وتعرف قدرها وتعظّمها ، فإذا ما نظرَت وراءَها ذكرَت نعمةَ الله عليها ، وإذا قارنَت بيني وبين أبيها لم تجد وجهاً لمقارنةٍ ، ولا سبيلاً لمفاضلة ..
وأنا أعتقد أنّ الله  ما حرم الفقراء نعمة المال ، إلاّ وعوّضهم ما هو خير منه من فضائل الأخلاق والخلال .. وقلّ أن تجتمع على الفقير مصيبة الفقر مع رذائل النفس .. ولا أدري فربّما كان ظنّي واهماً ..
وقلت لوالدتي : أريدها جميلة بعينيّ لا بأعينكم ؛ لا طويلة كالقنطرة ، ولا قصيرة مستنكرة ، ولا بيضاء شقراء ، ولا سمراء نكراء ، ولا نحيفة مهزولة ، ولا سمينة مرذولة ، ذات نظرة ساحرة ، وخفّة دم ظاهرة ، يجتمع بعضها على بعضٍ ، ولا يعرف نظرها إلاّ الأرض ، حييّة أديبة ، خلوقة متواضعة ، خافضة الجناح ، مترفّعة حتّى عن الكلام المباح ..
فقالت لي والدتي : إنّك لتطلب المستحيل ، وتبحث عن صفات الحور العين بين بنات الأزياء والتمثيل .. وهيهات لنا أن نحقّق طلباتك هيهات .! فاقتصد يا بنيّ في رغباتك ، وخفّف من غلوائك ، فلن تصل غاية الأمر إلاّ إلى ما قدّر لك ..! فالزواج سهم مصيب ، وقسمة ونصيب ..
وساقت الأقدار والدتي إلى أحسن ممّا أتوقّع وأريد ، وكان زواجي أسرع من غمضة النائم ، أو حلم الحالم .. وابتسم لي القدر المُسعِد عن فتاة أحلامي ، وأنس أيّامي ، فتاة حسناء عروب ، تملأ السمع والبصر ، وتملك العقل والقلب ، برقّة قولها ، وصدق عواطفها ، وحسن استجابتها وأدبها ، لم أر منها إلاّ ما يسرّ ، وكأنّها لم تنبت في بيئة تخلّف وفقر .. وهبتني من حبّها وإخلاصها ، ولطفها وأدبها فوق ما وهبتُها ، ومضت حياتي معها سعيدة هائنة ، كأنّها أحلام الشعراء ، أو تكرمة الأتقياء .. كانت كلّ يوم تزيد علاقتنا توثيقاً ، وودّنا تألّقاً ، ورزقت منها المولود الأوّل ، ثمّ الثاني فقويت وشائجنا أكثر ، وتوثّقت علائقنا بصورة أكبر ، وما كان يخطر على قلبي وقلبها يوماً أن تتلاشى أحلامنا ، أو تتحطّم آمالنا ، إذ كلّ حياتنا وعلاقتنا كانت تسير من حسن إلى ما هو أحسن ، لا يشوب صفوها كدر ، ولا يعكّر سماءها غيم ولا قتر .. حتّى شاع بين أقرب الناس إلينا أنّ حياتنا تجدّد سيرة العشّاق ، وتبعث الحياة فيما طوي من أخبارهم في الأوراق .. ولم أكن أرى في الدنيا أحداً أسعد حالاً ، وأهنأ عيشاً منّا .. وكانت حياتنا أشبه بقول الشاعر :
أنا مَن أهوى ، ومَن أهوى أنا نحنُ روحان حللنا بدنا
فإذا أبصَـرتـَه أبصـرتـَنـِي وإذا أبصَـرتـَنـِي أبصرتَنا
وكان من شدّة حبّي لها ، وحرصي على إسعادها أن أغدقت الخير على أهلها بغير حساب ، ممّا وسّع الله عليّ ، لا منّاً منّي ولا أذى ، بل لله المنّة والفضل ، ومن أجل عين ألف عين تكرم .. وكانت علاقتي بهم جميعاً على أحسن ما يرام ..
وما كان للشيطان أن يقرّ له قرار ، أو يهدأ له بال ، وهو يرى أخوين متحابّين ، أو زوجين متصافيين .. لقد حدث في ساعة من نهار ما أحرق هناءة ثلاث سنوات من صفاء العيش ، وجميل المودّة .. كان أهلها في دعوة لنا على طعام ، كما هي عادتنا معهم بين الحين والآخر ، وكان الودّ بادياً ، والأنس علينا مخيّماً ، إذ قال والد زوجتي لوالدي : لقد صبرت ابنتنا كثيراً على هذه الحياة يا أبا فلان .! ونريد أن تخرج إلى بيت جديد .. فاستغرب والدي كلامه ، وقال له : وماذا ترى ابنتك في هذا السكن .؟ والتفت إليها ، فما كان من زوجتي إلاّ أن أثنت خيراً على سكناها ، وأبدت كلّ سعادة وامتنان من عيشها .. ودعت ربّها أن يديم نعمه علينا وعليها .. وكأنّ والدها زاده هذا القول حدّة وضراوة ، فصعّد من لهجته ، ورفع من نبرة صوته .. لقد كان إبليس الكبير حاضراً بكلّ رجله وقوّته ، وخيله وخيلائه ، ومعه أشدّ طغيانه ، وأشرس أعوانه .. والإنسان المسكين غافل مستكين ، لا يعلم ما يتربّص به .. فردّ والدي التحيّة السيّئة بأسوأ منها ، وارتفعت الأصوات ، وظهرت لهجة التحدّي من كلّ واحد للآخر .. وأنا لا تكاد أذناي تصدّق ما ترى عيناي .. فحاولت التدخّل بين الطرفين بلطف ، وكأنّني حَكَم ، ولكنّ والدي زجرني بكلمة ، جعلتني أقف مع الحقّ ، وعند حدّي ، مدافعاً عن والدي ، وعن كرامة نفسي .. وانتهى المجلس وانفضّ على أسوأ ما يتصوّر عاقل ..
وظننت أنّ الأمر قد انتهى إلى هذا الحدّ ، وأنّني أستطيع تدارك الأمر بحكمتي ومالي ، أو أنّ الزمن كفيل بإصلاح ما أفسدته هذه الجلسة المشؤومة .. ولكنّ الشيطان قد سبقني ، ونسج رواية خبيثة ، نحن في أوّلها ، ولم تكد تبدأ فصولها .. ففي اليوم التالي حضر عمّي والد زوجتي إلى بيتي في غيبتي ، وقد تأبّط شرّاً ، فأخذ زوجتي وأولادي بقوّة ، وحمل معه ما لها من ذهب ومجوهرات .. وعدت من عملي لأجد البيت مقفراً من زوجتي وأولادي ، ونذر الشرّ تتربّص بي .. وحامت في نفسي الشكوك ، فاتّصلت على بيت عمّي فقيل لي : إنّ زوجتك قرّرت أن لا تعود إلاّ إلى بيت جديد ..
فقلت لهم : أريد أن أتكلّم مع زوجتي فرفضوا أن تكلّمني .. فقلت لهم : يا أهل الخير نحن أهل ، فلا تتركوا الشيطان يدخل بيننا .. فكان جوابهم أسوأ ممّا توقّعت .. فهل من حقّ عمّي أن يأخذ ابنته من بيت زوجها بهذه الصورة ، وبغير سبب شرعيّ .؟ وهل من البرّ أن تطيعه ابنته في ذلك ، بحجّة الخوف من عقوقه وغضبه .؟ وهل هذا جزاء إحساني وإكرامي .؟!
وترى الكريم إذا تصرّم وصله يخفي القبيح ويظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تقضّى وصله يخفي الجميل ويظهر البهتانا
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
وعندما علم والدي بالخبر كبر عليه الأمر أيّما كبر ، وأقسم بالله العظيم لتعودنّ إلى هذا البيت أو الطلاق .. وكأنّه وليّ لقاصر ، لا يملك من أمر نفسه شيئاً .. وأنا أعلم أنّ والدي إذا قرّر أمراً فلا رادّ له ولا معقّب إلاّ أن يشاء الله .. وتحطّمت أحلامي في لحظة واحدة ووقعت أنا وزوجتي وأولادي بين نيران عذاب ، لم نحسب لها أدنى حساب ..
ومضت عليّ أيّام وأنا على هذا الحال .. حاولت خلالها أن أتّصل على زوجتي بغير جدوى .. كان كلّ يوم كأنّه شهر ، بل كلّ ساعة .. ولا أحد يحسّ بمأساتي ، أو يقدّر مشاعري .. وأنا الذي لم يفارق أطفاله في سفر أو حضر ، أحرم منهم ، ولا أعرف عنهم أيّ خبر .! ولم يعد شيء يشدّني إلى البيت .. وإلى العمل .. بل ولا إلى الطعام والشراب .. كنت أدخل البيت ، وأغلق عليّ بابي ، وأستسلم لأحزاني .. لا أفكّر إلاّ بهذه المشكلة ، وليس أمامي إلاّ النفق المظلم ..
وبعد شهر من هذه المحنة عرضت عليّ والدتي أن أطلّقها وتخطب لي غيرها ، إذ يبدو أنّ أهل زوجتي يركبون رأسهم عناداً ، ولا يريدون التنازل عن مطالبهم .. فأبيت عليها هذا العرض أشدّ الإباء ، وقلت لها : والله لا أطلّقها إلاّ أن تطلّقني الدنيا .. فإذا كنت حريصة على إسعادي وراحة بالي ، فاضغطي على والدي ليتنازل عن تشدّده ، ويرضى أن أحلّ مشكلتي معهم بنفسي .. ولكن هيهات هيهات .! من ذا الذي يستطيع الضغط على والدي ، أو تغيير رأيه .؟!
ولم أترك أحداً من معارف والدي وأصدقائه ، الذين تربطه بهم أوثق العلاقات إلاّ وعرفته بمشكلتي ، ورجوته التوسّط لدى والدي أو عمّي ، لحلّ هذه المشكلة ، وعودة زوجتي إلى بيتها .. ولكن دون جدوى ..
حتّى غلب عليّ اليأس والإحباط ، وأقنعت نفسي بأنّ هذا قدر محتّم ، لابدّ أن يمضي بنا إلى أجل ، وليس لي إلاّ التسليم والأمل .. وفي داخلي تغلي مراجل الألم ولواعج الهوى ، ويكتوي قلبي بنيران الشوق والجوى ..
وأرسلت بطريقتي الخاصّة من غير أهلي من يتحسّس لي خبر زوجتي وأولادي ، وأحوالهم من بعدي ، فجاءني من الخبر اليقين ما يزيدني غمّاً على غمّ .. إنّ زوجتي تعيش في أزمة مع أهلها ما بعدها من أزمة ، متوتّرة الأعصاب أكثر وقتها ، منعزلة عنهم في أكثر شأنها ، لا تتكلّم معهم لغير ضرورة ، تضرب أولادها لأتفه سبب ، وقد كانوا من قبل لا يعرفون منها إلاّ اللين والحبّ ، والضحك واللعب .. وكانت تحيل بيتهم في كلّ زيارة إلى مغنى للأنس والسرور .. حتماً إنّها مثلي مرغمة على كلّ ما جرى ، لا تملك من أمر نفسها شيئاً .. فأيّ رحمة وحبّ من أهلها بها .؟!
ووالله ولو وقع في قلبي ، أو خطر على بالي أنّها راضية بهذا الحال غير مرغمة لما تلكّأت يوماً عن الخطوبة والزواج ، لأجزيها بشرّ عملها ، وعمل أهلها .. ولكنّها مغلوبة على أمرها معذورة ، ولا يد لها فيما جرى ..
وعجباً لوالدي كيف يثق بي ، ويفوّضني في كثير من أموره التجاريّة ومصالحه ، ويطلق يدي فيها ، ثمّ يتدخّل في شئوني الخاصّة بهذه الصورة .؟!
وطال عليّ ليل الفراق واشتدّ الكرب ، وامتدّ نفق الظلام ، وجلّ الخطب ، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق .. وأنا محروم من زوجتي وأولادي .. وقد كنت أظنّ الخلاف بين والدي ووالدها ساعة شيطانٍ يعقبها أسف ، أو كسحابة صيف لا تمطر ولا تقف .. فها هي الأيّام تمضي والشهور ، وانقضت سنة بعدها سنة .. ودخلت محنتي سنتها الثالثة .. وعناد الأطراف المتصارعة على حساب هذه الأسرة المنكوبة لا يزال في أشدّ عنفوانه .. ماذا جنيت يا إلهي لأبتلى بعقل هذا الوالد ، الذي لا يستشعر شيئاً من مشاعر ابنه وعواطفه .؟! أين دور أمّي التي تنتزع منه دائماً ما تريد من رغباتها .؟! لم لا تقف بجواري في هذه المحنة الطاحنة .؟! أهي أيضاً لا تبالي بمشاعري نحو زوجتي .؟! وإذا كانت لا تحبّ زوجتي من قلبها ، كما كانت تظهر ، فأين محبّتها العارمة لأولادي .؟! الذين لم تكن تطيق عنهم صبراً .؟! يا ربّ ! يا ربّ ! لقد طال ليل المحنة .! أسألك فرجاً قريباً .! أسألك فرجاً قريباً .! وشعرت أنّي ذليل صاغر ، مقهور مظلوم ، لا أملك لنفسي شيئاً .. وبكيت لأوّل مرّة في حياتي كلّها ، بحرقة لم أذق مثلها ، ولم أعرفها من قبل ..
لك الحمد مهما استطال البلـ ـلاء ومهما اســــتبدّ الألم
لك الحمد إنّ الرزايا عطاء وإنّ المصيبات بعض الكرم
فلم يمض على هذه الدعوات ثلاثة أيّام إلاّ وأحد أحبّ المشايخ إلى قلبي يتّصل عليّ ، ويطلب اللقاء بي ، فوقع في قلبي كلّ ظنّ إلاّ أن يتحدّث في هذا الأمر .. فعندما التقيته بادأني بالقول : إلى متى أنت على هذا الحال .؟ أما تريد أن أحلّ لك مشكلتك .؟! فقلت له : لقد جرّب قبلك كثير من الناس ، فلا تتعب نفسك يا سيّدي بغير فائدة ، أنا أمام عقول جامدة ، وقلوب متحجّرة .. فقال لي : إذا كنت صادق الرغبة بحلّ مشكلتك ، فأنا على استعداد لردّ زوجتك إليك في ليلة واحدة .. فعاهدني على أن تتّبع الخطّة التي أرسمها لك ، فقلت : أعاهدك ، ولكن كيف تتصرّف مع والدي .؟ وهو مصرّ غاية الإصرار على رأيه ، وكذلك عمّي .؟! فقال : لا عليك ، ولكن فوّضني أن أتعهّد باسمك بما أشاء ، فقلت : لك ما تريد ، فقال : لا يصلح الأمر هكذا ، وأخرج من جيبه ورقة بيضاء ، وقال لي : اكتب هذا الكلام ، ووقّع عليه .. فتردّدت قليلاً .. فقال : ما لك .؟! أليس لك بي من ثقة .؟! أم أنّك غير صادق في رغبتك ، وتريد أن تطول محنتك أكثر من ذلك .؟! فقلت : لا ، فقال : اكتب إذن ، ووقّع .. فكتبت ما يريد ، ووقّعت ..
فأخذ الورقة ، وطواها ، ووضعها في جيبه .. وقام بمثل هذا الدور مع والدي ، ولكنّه لم يطلب منه أن يوقّع على ورقة .. وكانت العقدة كلّ العقدة عند عمّي ، فقد أبى أن يفوّضه بشيء أوّل الأمر ، ولكنّ هذا الشيخ أوتي حكمة وحنكة ، ودهاء ولباقة ، مع أسلوب وعظيّ مؤثّر ، قلّ نظيره عند كثير من المشايخ ، فاستطاع بذلك أن يستخرج من عمّي ما يريد ، بعد ثلاث ساعات من الحوار الهادئ والحديث المؤثّر ، الذي امتزج فيه التلطّف بالقول ، مع الوعظ المرغّب بالصلح ، مع الإشعار بالمسئوليّة ، وترقيق القلب على حال ابنته ، وتصوير مشاعرها ، ولو لم تتكلّم ، وهي محرومة من بيتها وزوجها قرابة ثلاث سنوات .. وكذلك مشاعر الأطفال الذين حرموا هذه المدّة من رؤية والدهم ، وهم في بلد واحد .. فأيّ ذنب لهم أن يمزّق شمل أسرتهم بهذه الصورة .؟!
وعندما لانَ عقلُ عمّي بين يدي الشيخ ، واستسلم قلبه ، قال له الشيخ : بقي لي طلب واحد ، لا أخرج من بيتك هذه الليلة إلاّ وقد حصلت عليه ، وأكرمتني به.! قال : وما هو .؟ قال : أن تقوم الآن إلى ابنتك ، وتقول لها : جهّزي نفسك وأطفالك ، وسيأتي زوجك ليأخذك إلى بيتك ..
ففغر الرجل فاه ، وحملقت في وجه الشيخ عيناه ، وقال له : كيف .؟! هذا مستحيل ، فقال له الشيخ : الكرام وأصحاب المروءات لا يعرفون المستحيل .. والرجال المؤمنون لا يرتضون أن يغلبهم الشيطان لحظة واحدة .. فقم بارك الله فيك ، وافعل ما أقول لك ..
فقال له عمّي : اترك لي هذا الأمر ثلاثة أيّام ، نفكّر فيه ، فقال له الشيخ بلهجة صارمة : لا والله ، ولا ثلاث ساعات ، أتريد أن أتركه لينفرد بك الشيطان ويغلبك .؟! فعندما رأى عمّي جدّيّة الشيخ وصرامة قوله قام يجرّ خطاه محرجاً متثاقلاً .. ودخل على نسائه فطال دخوله ، ثم عاد إلى الشيخ فقال له الشيخ : هل جهّزت ابنتك نفسها وأطفالها .؟! فقال له عمّي : كأنّك مستعجل أكثر من زوجها .؟! فقال له الشيخ : العجلة في الخير يا سيّدي محبوبة عند الله محمودة ، وعجلت إليك ربّ لترضى ..
واتّصل بي الشيخ أمام عمّي ، وقال لي : نحن ننتظرك في بيت عمّك الكريم ، فاحضر إلينا لتأخذ زوجتك .. فقلت له ، وأنا لا أكاد أصدّق ما أسمع : هل تمزح أيّها الشيخ .؟ فقال لي : أقول جدّاً بغير هزل : اُحضُر إلينا ، ولا تتأخّر .. فما هي إلاّ ساعة وأنا أطرق الباب على بيت عمّي ، فاستقبلني ابني أيمن ، وابنتي يمنى .. ووراءهم أمّهم كأنّها عروس خجلى .. فلا تسألوا أيّها السادة عن حرارة اللقاء .. لقد اعتنقت طفليّ بكلتا يدي .. وأخذت أبكي كالطفل الصغير .. فبكى الطفلان في دهشة .. وبكت أمّهما لبكائي .. لقد تغيّروا ، حتّى لم أعد أعرفهم ، ولم يعرفوني .. ولم أنس والله ما قلت في نفسي تلك اللحظة العاطفيّة الحالمة ، لقد قلت : " قاتل الله الكبر والعناد .! قاتل الله الكبر والعناد .! " .
ودخلت إلى عمّي والشيخ فسلّمت عليهما ، وشكرت الشيخ على جهوده معي ، فقال لي : بل اشكر عمّك ، هذا الرجل الفاضل ، الذي تعاون معنا على البرّ ، واستجاب لدعوة الخير .. فشكرته ودعوت له ، وكأنّني في حلم جميل ، لا في يقظة ..
ولعلّكم تسألون أيّها السادة : ما الحلّ السحريّ الذي استطاع به الشيخ أن ينهي هذه المشكلة .؟ إنّه بكلّ بساطة أقنع والدي أن يسحب نفسه منها ، بما يحفظ كرامته ومكانته ، بأن تعود زوجتي إلى بيتها أوّلاً ، وأقنع عمّي أن تعود ابنته إلى بيتها وزوجها على أن تبحث هي وزوجها بعد مدّة عن بيت آخر ، وبمباركة من عمّها ، وفرض عليّ ، وأنا قادر على ذلك أن أشتري بيتاً جديداً ، خلال ستّة أشهر بعد عودتها .. يكون أوسع علينا ، وأليق بحالنا ، وسعة رزقنا .. وهذا ما كان بحمد الله ..
إنّ أهمّ نقطة أيّها السادة في بناء شخصيّة المرأة ، ومعالجة مشكلاتها ، أو تقليلها ما أمكن ، هي تعليم المرأة وتهذيبها ، وفق منهج الإسلام وهديه ، فإذا تحقّق لها ذلك فلا خوف عليها أن لا تحسن الاختيار لنفسها ، أو لا تميّز ما ينفعها ممّا يضرّها ..
ولكن كيف يستقيم في نظر كثير من الرجال أن تكون مثقّفة متعلّمة ، وتُعامَلُ من زوجها أو أبيها أو أخيها كأنّها طفل قاصر .؟! لا رأي لها ولا اختيار .. وإنّ المصيبة المستعصية في مجتمعاتنا أنّنا نحبّ البنت والأخت حبّاً جاهلاً ، ونغار عليهما غيرة رعناء عمياء .. نحبّها حبّاً لا يمنحها الاحترام والتقدير ، ونغار عليها غيرة تثير الشكّ ، وتفقد الثقة ..
نتركها على هواها فيما يخالف شرع الله تعالى ويضرّها ، ونمنعها ما أحلّ الله ، وأباحه لها .. بحجّة العرف والعادات ، والتقاليد السخيفة البالية ..
ثمّ بعد ذلك نطلب منها زوجة وأمّاً : أن تحسن رعاية زوجها ، وتبدع في تربية أولادها ، وتسهم في نهضة مجتمعها ..
وإنّ مصيبةَ المرأةِ الكبرى أيّها السادة هي في أهوائها ، وأهواء أوليائها ، فإذا كُفي الرجلُ بحكمته شرَّ أهوائها ، فأنّى له أن يُكفى شرَّ أوليائها .؟!
وما أكثرَ أولياء المرأة الذين يسوّل لهم الشيطان ويزعمون أنّهم ينتصرون لابنتهم ، ويدافعون عن حقوقها ، وهم من حيث لا يشعرون ، يشترون لها شقاءها وتعاستها ، ويهدمون بأيديهم بيتها .. والمسكينة تكبت مشاعرها ، وتمضغ آلامها وأحزانها ، وتنظر إليهم ، ولا تحرّك ساكناً ، وهي الخاسر الأوّل والأخير ، وعليها تدور دائرة الشرور ..
الحبّ أيّها السادة نفحة قدسيّة ، ومنحة علويّة ، لا يشترى بثمن ، ولا ينال إلاّ بحَزَن ، وهو في حقيقته الدنيا : لا يقلّ عن إيثار محابّ المحبوب على محابّه ، والتضحية بهواه في سبيل محبوبه ، وهو ما عبّر عنه الشاعر بقوله :
أريدُ وصَالَه وَيريدُ هَجري فأترُكُ مَا أريدُ لما يُريدُ
* ـ قال المدير : احمد الله أيّها الرجل أن ردّ إليك زوجتك وأولادك بعد هذه المحنة الطويلة ، فكم خرّب العناد وتوافه الأمور من بيوت ، وشرّد من أطفال ، وأفسد من علاقات .. وليتقدّم إلى المنصّة أبو بردة ..



خبر أبي بردة
فتقدّم إلى المنصّة رجل فارع الطول ، ملثّم لا تبدو إلاّ عيناه ، وعلى عينيه نظّارة شمسيّة داكنة ، ويلبس عباءة شتويّة فضفاضة ، وكأنّه يريد أن يموّه نفسه على الحاضرين ..
أيّها السادة الكرام ! بم أحدّثكم عن زوجتي .؟! إنّها زوجة وفيّة حفيّة ، حسيبة تقيّة ، نقيّة أبيّة ، كريمة ودود ، بنت الكرام الصيد ، الأئمّة الأجاويد .. لم أتزيّد في وصفها ، ولم أبالغ ، بل إنّ ما قلت يقصر عن حقيقة ما أرى منها وأعلم ..
عندما خطبتها من أوليائها ، وهم إخوتها وعمّها ، لأنّ والدها متوفّى ، قالوا لي : اشترط علينا ، وبيّن لنا ما تريد في المرأة التي تخطبها .؟
فقلت لهم : لا أريد في المرأة التي تكون زوجتي وأمّ أولادي إلاّ أن تكون مطيعة لربّها ، ودوداً لزوجها ، ربّة منزلها ، ومربّية لولدها ، لا تؤثر على ذلك أيّ شيء .. وأريدها صادقة ، لا تعرف الكذب في صغير ولا كبير ولا يعرفها .. وهذا الشرط عندي أهمّ الشروط وأقدسها .. فقد رأيت كذب النساء على الرجال أسّ الشقاء ، ورأس البلاء ، ومورث الجفاء ..
فنظر بعضهم في وجوه بعض ، وابتسموا ، وقال لي كبيرهم : سبحان الله ! كأنّ أختنا ما خلقت إلاّ لمثلك .. إنّ خير ما نكبر فيها من الصفات أنّها صادقة ، لا تعرف الكذب منذ صغرها ولا يعرفها ، وكم قلنا فيما بيننا : هنيئاً لمن سيكون زوجها .. ويقدّر هذه الصفة فيها ..
وقال لي أولياؤها أمام القاضي قبل العقد عليها ، وهم موسرون مقتدرون : لنا عليك شرط نريد أن يوثّق ، هو أشبه بشرطك علينا ، فقال القاضي : وما هو .؟ قالوا : " ابنتُنا لا تُطلّقُ ولا تعلّق ( ) ، ولا تُضرّ ، ولا تُضرب ، ولا يُجمع بينها وبين أيّ امرأة من النساء .. وإذا أردت أن تفارق ، فلا يكون ذلك إلاّ بحكم الحكمين ، ومخالعةٍ تدفع فيها ثلاثة أضعاف ما اتّفقنا عليه من المهر ، وإذا دامت العشرة بينكما بالمعروف على ما نحبّ من المودّة والرحمة ، فلك علينا أن نفيك مثل ما اتّفق عليه من المهر ، ومثل ما أنفقت ، وخمسة أمثاله ، وكلّ شكوى من أحد الطرفين إلى الحكمين ينتقص من حقّه عشرة في المئة " .
فرضيت بهذه الشروط ، واعتبرتها معقولة ، لأنّني لا أحمل في نفسي إلاّ نيّة الخير والبرّ ، فلن يضيرني منها ما قد يسيء غيري ..
وقالت لي يوم دخولي عليها ما لا أنساه لها : ليس لي منك مطلب في الحياة معك إلاّ ألاّ تمنعني من فعل البرّ ، وما أريد من الخير .. إنّ لي أسوة بأخت عمرَ بْن عبد العزيز رحمه الله ، التي كانت تسمّى : " أمّ البنين " إذ تقول: " مَا تحلّى المتحلّون بشيء أحسن عليهم منْ عظم مهابة الله في صدورهم ، وإنّ لكلّ قومٍ نهمة ( ) في شيء ، وجعلت نهمتي في البذْلِ والعطاء ، والله لَلصلةُ والمواساة أحبّ إليّ من الطعام الطيّب على الجوع ، ومن الشراب البارد على الظمأ ، وما حسدتُ أحداً قطّ على شيء إلاّ أن يكون ذا معروف ، فإنّي كنتُ أحبّ أن أشركه في ذلك ، وهل يُنال البرّ إلاّ باصْطناعِه .؟! " ( ) . فهل أجد فيك العون على ذلك .؟
فقلت لها : حبّاً وكرامة ، لك منّي ذلك وأكثر من ذلك ..
ومضت الحياة بيننا على أحسن ما يكون .. ولكنّ صفة واحدة في هذه الزوجة الصالحة ، لم تسعف ما فيها من هذه الصفات الطيّبة ، قد نغّصت عليّ حياتي معها ، كما نغّصت عليها حياتها ، وجعلتني في حيرة من أمري ، فما أدري ما أصنع .؟! لقد مضى على زواجنا سبع عشرة سنة ، ولم نرزق بولد .. إنّها عقيم لا تحمل ولا تلد .. قد بذلت لها من المال والطبّ ما لا يدخل تحت حصرٍ ولا وصف ، فلم أرجع من ذلك بطائل .. وأنا امرؤ أحبّ الأطفال حبّاً لا يوصف .. وأراهم أعلى متعةٍ في الحياة الدنيا .. ويبلغ حبّي لهم أنّك لو تركتني ساعَات معهم لنسيت الدنيا وأهلها .. بل ونسيت عملي ومصالحي .. ولا أفشي سرّاً إذا قلتُ : إنّ دافعي الأوّل إلى الزواج كان الوصول إلى الولدِ .. وهي تعلم منّي هذه الرغبة الملحّة .. ولا حلّ عندها ولا ترى لي إلاّ أن أصبر على هذا القدر .. فربّما رزقت بالولد بعدَ حين .. وربّما قالت لي : أرأيت لو كنت أنتَ العقيم أما تحبّ أنْ أصبرَ على العيش معك ، ولا أطلب فراقك .؟ ( فلا يؤمنُ أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ) .. وربّما كان جوابها إطراقة ذلّة ، ودمعة مرسلة .. هي أبلغ من مئة جواب .. وعندَما صارحتها برَغبتي التي لا تخفى عليها ، ما كان منها إلاّ أن ذكّرتني بما بيننا من شرطٍ .. " وإنّك لتعلم أنّ الشرطَ أملك .. فإن أبيت فليس ما بيننا إلاّ الفراق .. " .
ثمّ بدا لي أنّ خير حلّ لا يؤذيها أن أتزوّجَ سرّاً عنها ، وأن أكتمَ الأمر إلى أبعد حدّ .. وبحثتُ وتحرّيت .. وابتعدتُ عن كلّ مَن يقرب منها بنسب أو سبب .. وأخيراً وجدتُ بغيتي ، وعقدت على أرملة معها طفلان ، فقلتُ : زيادة في الخير والبرّ .. وكأنّها جسّت على قلبي ، واشتمّت ريح الضرّة تدخل على العلاقة بيننا من بعيد .. فتغيّرت معاملتها معِي أوّل الأمر .. ثمّ صارحتني بلغة ثائرة هادرة .. فأنكرتُ وأصررتُ ، وكذّبتُ الظنّ ونفيت .. ولكن دون جدوى .. إنّه ليس بظنّ عندها .. إنّه فراسة المؤمن .. وحدس من لم يكذب من قبل .. ولن يكذب .. وأسقط في يدي .. ولكن ليس أمامي إلاّ النفي والإصرار على ما أقول ..
وبعد أيّام فوجئت بها تزفّ إليّ البشرى أنّها حامل .. ففرحت فرحة فاترة ، لعلّها لم تخف على وجهي .. وتذكّرت أنّ موعد عرسي بالأخرى سيكون بعد أسبوع .. فماذا أفعل .؟ هل أتخلّى عن الأخرى بعدما ابتسمت أمامها الأحلام الورديّة مرّة أخرى .؟! أم أتابع الأمر ، فليس ما يبرّر لي نقض العزم ، والتحلّل من العقد .؟! وعشت أيّاماً من القلق والحيرة ، لم يطب لي فيها النوم بالليل والنهار ، وأنا أضرب أخماساً بأسداس .. مع ما أتظاهر من الفرحة الغامرة أمام زوجتي ، بحملها الذي طال انتظاره ، وبشّرت أنواره .. وقبل الدخول بالأخرى بيومين أبلغتها تأخير ذلك إلى وقت لاحق ، لظروف خارجة عن الإرادة .. وأبلغتها أنّي لم أتخلّ عنها ، ولكنّ تصرّفاتي حامت حولها الشكوك والريب ، وخير لنا أن نصبر حتّى تهدأ العيون ، لا أن نزيد للنار الحطب .. وكان وقع الخبر عليها كالصاعقة .. فكيف لو أنّي أعلنت فسخ العقد ، وحطّمت الآمال والأحلام .؟! وأنا يا قوم إلى اليوم في حيرة من أمري : عين تملكها الأولى ، ومنها تتملّى .. وأخرى ترنو بإشفاق على الأخرى ، التي تنتظر بفارغ الصبر خطوة السعادة التي اقتربت منها ، لتقطع عنها ليل المآسي والأحزان ، ثمّ تباعدت عنها فجأة .. ولا تدري إلام يئول أمرها .؟! وأسلّم أمري إلى الله أوّلاً وآخراً .. وأسأله سبحانه أن يختارَ لي ولصاحبتي ما فيه خير الدنيا والآخرة ..
وقطع صمت الحاضرين صوت شابّ من بعيد : عجباً لك أيّها الرجل ! كيف تتردّد في أمر ظاهر خيره ، متعدٍّ نفعه وبرّه ، بعد أن ذلّل الله لك الصعاب ، وهيّأ لك الأسباب ، ووصل بك الأنساب ، وبدّد بك وحشة الحزن ، وجعلك سبب الودّ والأمن .. ففيم التردّد إلاّ أن يحملك على ذلك الخوف والجبن ، وهما أسوأ ما اتّصف به الرجل .. أقدم على ما عزمت وكفّر عن يمينك .. فالرجل لا يعرف النكوص عن الخير ..
* قال المدير : لا يغرّنّك أيّها الرجل الشباب المندفع بغرّته عن الرأي السليم ، والموقف الحكيم ، وانظر ببصيرة إلى العواقب ، فالأمور بالخواتيم .. أمّا أنا فأسأل الله تعالى أن يختار لك ما فيه الخير ، ويُحسنَ العُقبى لجميع الأطراف .. وأكثر يا أخي من استخارة ربّك ، فما خاب من استخار ..
" إنّ المرأةَ في نظري محنةُ الرجل في سلطانه ، وسرّ تطويعه وكسر طغيانه ، وصورة مُجسّمة من فضله وإحسانه ، أو زوره وبهتانه .. وربّما سمت بفضلها ودينها على كثير من الرجال ، ولم يأبه لها كثير ممّن حولها .. وربّما كانت محنة رجلها البريء ، لأنّها زورُ رجلٍ ظالم ووزرُه " .



خبر أبي خليل
* ـ قال مدير الجلسة : وليتقدّم الآن إلى المنصّة أبو خليل ، فتقدّم أبو خليل إلى المنصّة .. كان رجلاً فارع الطول ، أسمر اللون ، نحيف الجسم ، تبدو على سحنته النشأة في بيئة الريف ، وحضن الطبيعة ..
أيّها السادة ! تحيّة مباركة طيّبة ، وبعد ؛ فإنّني أعتذر عن الكلام أيّها القوم ! وأعتذر عن إبداء سبب اعتذاري ، إلاّ في آخر المجلس إن شئتم ، فإذا كان الكلام من فضّة أو ذهب ، فإنّ السكوت في بعض الأحيان من بلاتينٍ ، أو ما هو خير منه ، بل خير من الدنيا وما فيها ..
ـ قال مدير الجلسة : لابدّ لك من الكلام أيّها السيّد ! لأنّنا على وعدٍ منك أن تتكلّم ، ونظام جلستنا يختلّ إذا اعتذر أحد ..
لقد أصبحتُ في حلّ من الكلام في هذا اللقاء ، لأنّ ما تمّ الاتّفاق عليه معكم لم تلتزموا الوفاء به .. فاعذروني أعذركم ، واسمحوا أسمح عنكم ..
ثمّ أنا إذا تكلّمتُ أضحكتُ ، وإذا صرّحتُ أبكيتُ ، وإذا وصفتُ آذيتُ ، وإذا صدقتُ جرحتُ ، وإذا كذبتُ حُوسِبتُ ، وإذا أطنبتُ وأسهبتُ أحرجتُ ، وإذا سكتُّ أبقيت نفسي في رَغَدِ العيش وبُحبوحَتِه ، فهل يرى لي أحدٌ منكم أن أتكلّمَ .؟!
ـ مديرُ الجلسة : دعنا من هذه الفلسفة وتكلّم .. وإلاّ فسوف تحرم من لقاءاتنا القادمة ..
فتابع أبو خليل وقال : حسبي عن الكلام كلّه دلالات هذا الحديث النبويّ العظيم وإشاراته ، وما يظهر من إرشاداته : ( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ، أَوْ قَالَ غَيْرَهُ ) ( ) .
ـ وهل تهدّدني أيّها الرئيس .؟! لو غيرك قال ما قلت ..!
ـ معاذ الله ! أنا لا أهدّد أحداً ، ولكنّني حريص على إنجاح هذا اللقاء ، وأحبّ أن يكون الإنسان عند وعده والتزامه ..
ستعرف الحقيقة إن شاء الله ..
أعلمتم لماذا اعتذرت أيّها المساكين .؟! لقد بلغ رئاسة مجلس الوزراء ، ووزارة الداخليّة لديّ خبر اجتماعكم من ألفه إلى يائه ، وأنّي مشارك فيه ، وجاءني إخطار شديد اللهجة ألاّ أشارك بكلمة في هذا " المجلس المشئوم " على حدّ تعبير الإخطار نفسه .. وأنّ الويل لي والثبور ، وعظائم الأمور ، والعقاب الرادع ، والموقف الفاجع ، إن فكّرت بالخروج عن الطاعة ، ولم أبال بهذا الإنذار الجادّ .!
وأحسست أنّ قلبي ينتزع من بين أضلعي .. وعزّ عليّ أن أخلّ بوعدي .. ولكنّني رأيت الإخلال كان من غيري .. فقرّرت الاعتذار عن الكلام ، وكان قراري صائباً فيما أحسب وأظنّ .. وحسبي أيّها السادة أن أرسل بينكم هذا القول ، لعلّ فيه خيراً ونفعاً لملتمس الرأي والخبرة ..
" إنّ المرأة الصالحة ، التي تملأ سمع زوجها وبصره ، وتملك قلبه ولبّه ؛ بلطفها وأدبها ، وبرّها ووفائها ، وطاعتها وإحسانها ، لا تُضَرُّ ، وَلا ينبغي لها أن تُضَرَّ .. ولكنّ الرجل عندما يقع عليه الضرر والعنت بسبَب منها ، أو بِما لا يد لها فيه فإنّ من حقّه أن يزيل عن نفسه الضرر ، بما شرع الله وأحلّ .. وما ينالها من الضرر في ذلك لا قصد له فيه ، ولا يؤاخذ به .. ولعلّ الرجال والنساء إذا عقلوا هذه الحقيقة ، وأحسنوا التعامل بها خفّت وطأة التعدّد على النفوس ، وسكنت ثائرة الأهواء الجامحة .. وليس وراء ذلك إلاّ الخروجُ عن شرع الله ، وهو يعنِي الاحتكام إلى الأهواء ، والاحتكام إلى الأهواء يعنِي تضاربَها ، واصطدامها ببعضِهَا ، ولا يستحقّ شيء من الأهواء أن يتعاطف معه أحد ، أو يتحمّس له ، لأنّ عاقبته إلى بوار لا محالة .. " .
وحسبي أن أقول أيضاً : إنّ المرأة في نظري نفس أحدنا ، أو جزء من كيانه ونفسه .. خيرُها من خيره ، وشرُّها لا يخرُجُ عن شرّه ، وربّما كانَ ردّةَ فعلٍ عن شرّه ، فعَلامَ اللومُ والتثريب ، واصطناعُ ظالم ومظلوم ، ولائِم وملوم .؟!
وعلامَ عُذرُها بما لا يُعذَرُ به ، أو عذرُه بما لا تُعذَرُ به .؟!
وعلامَ العيشُ في ظُلماتِ الأوهام ، وشِقوةِ التسخّط والآلام .؟! ولكنّه الظلم الذي هو من طبع الإنسان ..



خبر أبي المعالي
* قال المدير : وليتقدّم إلى المنصّة أبو المعالي ، فتقدّم إلى المنصّة بخُطى وئيدة ، رجل مربوع القامة ، أبيض البشرة ، نحيف الجسم ، عليه سمت أهل العلم ، فقال للناس بعد السلام :
أيّها السادة الكرام ! كلّكم خطب وتزوّج ، كما هي سنّة الله في الرجال .. ولكنّني خُطِبت ، ولم أخطَب ، وطُلِبت ولم أطلُب ، ولا أقول ذلك ترفّعاً على أحد ، ولكن تحدّثاً بنعمة الله عليّ ..
وقصّة ذلك أنّني منذ نشأت في طلب العلم ، وقبل أن أدرك البلوغ سمعتُ من بعض مشايخي الثقاة أنّ طالب العلمِ بحقّ يُخطَبُ ولا يخطبُ ، ومَن خُطِب تعزّز .. وكان ذلك الشيخ رحمه الله يقسم على قوله ، ويجزم به ..
ووقع كلامه في قلبِي موقع اليقين ، فسلّمت أمرَ زواجي إلى الله تعالى ، مالك الملك ، مقلّب القلوب .. وبخاصّة أنّني كنتُ لا أملك من الدنيا إلاّ ما يسدّ رمقي ، ولا يقوم بكفاف عيشي .. فكيف لي أن أفكّر بالزواج ، وما وراءه من مآسي الفرح والابتهاج .؟!
ومضت الأيّام ، وقبل أن تنتهي مرحلة طلب العلم ، وقبل أن يتزوّج أحد مِن أترابي فيمَا أعلم خُطبتُ مرّتين : مرّة من قبل أحد الأغنياء الوجهاء المعروفين ! ومرّة من تاجر ثريّ ، من بعض البلاد المجاورة ، لا أعرفه ولا يعرفني ، ضمّني وإيّاه طريق السفر ، فلم يزد أن تعرّف عليّ بضع ساعة والله ، حتّى قال لي هكذا بكلّ جُرأة وصراحة ، وبدون مقدّمات : لقد أحببتك يا أخي ، وعندي بُنيّةٌ في سنّ الزواج ، وأحبّ أن أقدّمها لك هديّة ! ولا أكلّفك شيئاً من أمر الدنيا ، وفوجئت بقوله أشدّ المفاجأة ، ودار بيني وبينه حوار حول ذلك ، ثمّ شكرته ، واعتذرت له .
وعندما فكّرت في الزواج قلت : لن تصلح لي إلاّ بنت عالم ، نبتت في بيئة العلم وجوّه ، فهي تحبّ حياة العلماء وتألفها ، وتعرف قيمة العلم وأهمّيّته ، لأنّها تحبّ أباها ، وتحترمه ..
وخطبت ابنة أحد المشايخ الأفاضل ، ولم أدقّق في السؤال عنها والتحرّي ، لعلمي أنّ ما أطلبه فيها من الدين والتربية ، والأدب وحسن النشأة ، يعدّ تحصيل حاصل ، وبدهيّة من البدهيّات .. وكان الزواج ميسّراً ، فاستبشرت خيراً .. ولم تمضِ على زواجنا مدّة يسيرة حتّى رأيت العجب .! وكأنّني في حلم ببعض أسواق العرب .! لقد اكتشفت أنّ هذه الفتاة التي نبتت في بيئة العلم والعلماء ، فيما أحسب وأظنّ ، هي أبعد ما تكون عن حبّ العلم وما يتّصل به من شئون .. وكان حقّاً ما قال الأوّلون : " أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه " ..
لقد جاملتني في الأشهر الأولى من الزواج ، وهي تراني أعكف على كتبي في أوقات شغلها وفراغي .. ولكنّها كانت تراغم نفسها على ما ترى ، وعندما سقط حجاب المجاملة ، وكانت الألفة ، وزالت الكلفة ، عبّرت لي عن كراهتها للكتاب ، ولكلّ ما جاء في مادّة كتب ويكتب .. كما تكره الشيطان أو أشدّ .! وقالت لي : أما كفاني ما كنت أرى عليه والدي ليل نهار ، وصباح مساء .؟! أهكذا كتب عليّ أن أعيش .؟! وعالجت الأمر برفق ، وأنا أظنّ أنّ الأمر عارض ، والأيّام كفيلة بتعديل مزاجها ، ولكنّ الأيّام كشفت عن خلاف ذلك .. لقد تمادت في غيّها ، وأصبحت كلّما رأتني أمسك كتاباً ، أو ورقة وقلماً ، تنتابها حالة هيستيريا من الغضب الشديد ، والهياج والصياح ، وصبرت عليها أوّل الأمر ، وأخذت أذكر لها فضل العلم والعلماء ، وأنّ زوجة طالب العلم شريكة له في الأجر إن صبرت عليه ، وكانت عوناً له على الخير .. ولكنّني كنت كمن ينفخ في قربة مقطوعة كما يقولون ، فكانت أذنها صمّاء عن كلّ ما أقول .. واكتَشفتُ أنّها لم تنلْ من والدها أيّ حظّ من التربية والتهذيب ، والأدب والاحترام .. اللهمّ إلاّ التفاخر بأبيها إن تفاخرت الأخريات بآبائهنّ .. واكتشفت أيضاً ولكن بعد فواتِ الأمر أنّها على صورة أمّها حذو النعل بالنعل ، فهي متقمّصة لشخصيّتها من حيث تدري أو لا تدري ، فأمّها على هذه الحال مع أبيها .. واستعنت عليها بالله ، ثمّ بأبيها .. فلم أجد من أبيها ما يقدّم أو يؤخّر .. واستشرى البلاء بها واستفحل .. وركبت رأسها عناداً إمّا أن أترك كتبي للمنظر والزينة ، وإمّا أن نفترق .. فهي لا تطيق الحياة معي بهذه الصورة .. وكنت كلّما خلوت بنفسي ، لم أصدق ما ترى عيناي منها ، أو تسمع أذناي .. وبخاصّة عندما أضع بجوار هذه الصورة صورة والدها في نفسي وبين الناس .. ذلك العالم الفاضل الكريم ، صاحب الرأي الثمين ، والخلق الرزين ..
وانتهى الأمر بيننا إلى الطلاق .. وهو والله أكره ما يكون إليّ ، ولم يكن بيننا من مشكلة إلاّ هذه المشكلة فحسب ..
ومكثت بغير زوجة سنتين ، كان كلّ يوم فيها أشبه بدهر طويل .. وتعلّمت من هذه التجرِبة المُرّة ما جعلني جباناً متردّداً في الإقدام على الزواج في نظر كثير من أهلي ومن حولي .. فلا يلدغ المؤمن من جُحرٍ واحد مرّتين ..
وأخيراً ساقني القدر إلى ما ينتظرني من خير .. فتعَرّفتُ على رجل غنيّ سريّ ، لبيب أديب ، في أمسية أدبيّة نادرة ، قد أنس بنا المجلس ، وطاب لنا الحديث والسمر .. وهيّأ الله لي مَن يعرّفه بي .. وكان من سؤاله العفويّ : كم لك من الأولاد .؟ فقلت له مبتسماً : وهل لي من زوجة ليكون لي الولد .؟ فأسف من إحراجي بسؤاله .. فقلت له بكلّ عفويّة : لا حرج عليك ، وإن استطعت أن تدلّ أخاك على الفتاة الصالحة ، التي تحبّ العلم ، وتقدّر أهله ، أكن لك من الشاكرين .. فتلك مشكلتي الأولى والأخيرة مع زوجتي الأولى .. فقال لي مجاملاً فيما أظنّ : سأبذلُ جهدي إن شاء الله ..
ومرّت أيّام وشهور أنستني الحديث كلّه .. وفوجئت به يتّصل بي ذات مساء ، فاستغربت اتّصاله أوّل الأمر ، ولكنّني سرعان ما وقع في قلبي ذلك الحديث المنسيّ .. فأظهر رغبته بزيارتي فرحّبت به ، ولم يطل بنا الحديث حتّى عرض عليّ رغبته بتزويجي ابنته .. فشكرته على حسن ظنّه .. وحدّثني عن ابنته بما رغّبني بالتعرّف عليها اليوم قبل الغد ..
وقلتُ في نفسي : ما دمتَ مخطوباً بهذه الصورة فاشترط ، واحذر أن تقع وقعتك الأولى ، فتكون من الأغبياء الجاهلين ، وإن تكن البدايات هذه المرّة مختلفة فيما يبدو .. فقلت للرجل : أريد ألاّ نمضي الزواج بعد العقد حتّى نأخذ مدّةً ، يتعرّف فيها كلّ منّا على صاحبه .. فقد لا يرى أحدنا بغيته في الطرف الآخر .. فقال الرجل : " طلب حقّ ، يدلّ على رجاحة عقل .. "
ودخلت بيت الرجل ، فرأيت ما لا أتوقّع .! رجل مال وأعمال ، لديه مكتبة كبيرة عامرة ، فيها من كلّ أبواب العلم وفنونه .. وليست مكتبته مجموعة للتفاخر أو الزينة .. وإنّما الرجل يقضي كلّ يوم ساعتين فيها على الأقلّ .. وربّما نسي مواعيد طعامه ونومه ، وهو يتنقّل بين رياض الكتب والعلوم .. وقد ضرب في كلّ فنّ من فنون العلم بسهم ..
وخطبت الفتاة ، وتعرّفت عليها ، فرأيت فيها سمتاً حسناً ، وأدباً عالياً جمّاً ، ولا أكتمكم أنّي رأيت فيها جمالاً ساحراً ، يعدّ مفخرة للآباء ، وطالما تغنّى بمثله الشعراء .. وشعرت من قرارة نفسي كأنّ الله تعالى يريد تعويضي خيراً عمّا تركت لوجهه الكريم ، وربّما حدّثتني نفسي وأنا في مجالستها : أفي يقظة أنا أم في حلم .؟! لما رأيت منها ممّا بهرني ، واختطف قلبي .. أم أنّ ما رأيت منها إن هو إلاّ رغبة الرجل في المرأة تزيّن له ، حتّى يرى ما لا يرى الناس ، ويأنس بما لا يأنس به الناس .. وعبّرت عن شيء من مشاعري لبعض أهلي ، فما كان منهم إلاّ أن ضحكوا من قولي ، وأبدوا استغرابهم لما أقول ، ولم يروه إلاّ نوعاً من الأدمة التي يجمع الله بها بين القلوب .. وكثيراً ما كنت أتذكّر في مجالستها قول الشاعر :
لها خُلُقٌ سهلٌ ، وحسنٌ ومنصب وخَلقٌ سويّ ما يعاب ومنطقُ
فأقول : إن لم يكن هذا القول من حظّ هذه الفتاة فحظّ من يكون .؟
وأتذكّر قول الآخر في وصف مثيلتها في حسن التربية والأدب :
من البيض عاشت بين أمّ عزيزة وبين أبٍ بَرّ أطاع وأكرما
منّعمة لو يصبح الذرّ سارياً على جلدها نضّت مَدارجُه دما
وليست من اللاتي يكون حديثها أمام بيوتِ الحيّ إنّ وإنّما
ولله درّ الأدب كم هذّب من نفوس ، وكم رفع من رءوس .؟! وكم سما بأقوام فكانوا أنجماً زهراً .! وكانوا أضوأ درّاً ، وأضوع عطراً .!
وكأنّ الشاعر الآخر كان يعنيها بقوله :
يكاد حباب الماء يخدش جلدها إذا اغتسلت بالماء من رقّة الجلدِ
ولو لبست ثوباً من الورد خالصاً لخدّش منها جلدها ورق الوردِ
يثقّلهـا لبـس الحرير للينهـا وتشكو إلى جاراتها ثقل العقدِ
وأرحمُ خدّيهـا إذا ما لحظتهــا حذاراً للحظي أن يؤثّر في الخدّ
وكأنّه لا يعني سواها فيما تتقلّب من حياة العزّ ، ونعمة العيش ، دون ترف أو بطر ، وكم ضاع بهما من شرف الأصل ورفيع الرتب .!
وكنت وهي أشبه بقول الشاعر :
فلم تك تصلح إلاّ له ولم يك يصلح إلاّ لها
كانت الفتاة مشربة بحبّ أبيها ، ومنهجه في الحياة ومثاليّته ، مدحُ أبيها والثناء عليه جلّ حديثها ، وعلى طرف لسانها ، وقديماً قال العرب : " كلّ فتاة بأبيها معجبة " .. وقلّ في بنات اليوم من يكنّ كذلك ..
وعندما بادلتها أطراف الحديث في العلم ، وجدتُهَا قد أخذت من كلّ علمٍ بطرف ، وتحفظ من طرائف العلم والأدب ما يجعل حديثها زينة المجالس ، وبهجة المؤانس ..
وتمّ زواجنا بعد سنة من العقد عليها .. وقد تأجّج شوق كلّ منا لصاحبه ، وكأنّ القائل قد قال ما قال عنّا وفينا :
ولمّا تلاقينا جرت من عيوننا دموع كففنا ماءها بالأصابع
ونلنا سِقَاطاً من حديث كأنّه جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع ( )
وكأنّ الآخر كان يعنينا فيما يقول :
وأفضيت منها إلى جنّة تدلّت عليّ بأثمارهـا
تحيّر من حسنها فهمها وتاه وحقّ له أن يتيها
رأت نفسها ورأت غيرها فلم تر فيها لشيء شبيها
ورزقني الله منها بالبنين والبنات ، فأحسنَت تربيتَهم على مثل سمتها وسمت أبيها ، أكرمها الله وبارك فيها ..
وها قد مضى على زواجنا ما يزيد عن خمس عشرة سنة .. وكأنّا بحمد الله تعالى عروسان مستجدّان : تأتلق في عيني كلّ يوم بما أرى من لطفها وذوقها ، وأدبها وسموّ أخلاقها ، وبرّها وحسن تعاملها .. وكأنّها تجد فيّ أكثر ممّا أجد فيها ، وإن هو إلاّ أدبها وفضائلها ..
" إنّ المرأةَ في نظري ضعيفٌ مغلوب ، وغالب محبوب ، إن زانها الأدب كانت خير مطلوب ، وأولى بالرجل إن وجد فيها خيراً ، من الأدب وحسن الطاعة ألاّ يشقّ عصا طاعتها ، وألاّ يعلن عصيانها ، إذ لابدّ له شاء أو أبى من العودة إلى سلطانها ، فليكن حكيماً محسناً يُكفَ كيدَها ، ويَنَل خيرَ ما عندها " .



خبر أبي حيّان
* ـ قال مدير الجلسة : لتهنك أيّها الرجل تلك الحياة الكريمة ، وليت لكلّ الرجال ما نلت من السعادة والسكينة ، وليتقدّم الآن إلى المنصّة أبو حيّان .
فتقدّم إلى المنصّة رجل مكتهل ، أسمر البشرة ممتلئ ، أقرب إلى القصر منه إلى الطول البيّن ، يُزيّن وجهَه لحية خفيفة ، تُسقط عنه اللوم والعتب ، قد دبّ فيها الشيب من كلّ جنب ، وتبدو عليه ملامح النباهة ودقّة الملاحظة ، وقوّة النشاط والحيويّة .. فألقى التحيّة على الحاضرين ، وجال ببصره بسرعة في وجوههم ، وكأنّه يبحث عمّن يعرفه .. ثمّ قال :
أيّها السادة ! إنّ تجربتي في الزواج مثيرة ، وبالتأمّل والاهتمام جديرة ، لم أقرأ عنها في كتاب ، ولم أتعلّمها من أحد من الأصحاب ، ولكنّها فتحٌ من الملك الوهّاب ، والله يرزق من يشاء بغير حساب ..
وإنّ خبر زواجي ليس كمثل ما سمعتم من الأخبار ، إنّه أشبه بحديث السمّار ، فيه من التجديد وطرائف العبر ما لم يخطر على بال بشر ..
لقد نشأت في بيئة تغلب عليها الأمّيّة ، وتحكمها روح العشائريّة ، وسوآت العصبيّة الجاهليّة ، لا وزن فيها للمرأة ولا اعتبار ، ولا حقّ لها ولا ذمار ( ) ، تُضرب لأتفه الأسباب ، ويساء إليها بغير حساب ، وتُذلُّ وتُهان ، وتكال لها الشتائم بكلّ لسان ، وتريد أن تنتصر لنفسها فيخذلها البيان ، فتلجأ إلى أقوى أسلحتها الكيد ، فلا تبوء منه إلاّ بأسوأ صدّ وردّ .. فأنّى لي بمثل هذا الحال أن أتزوّج زواجاً ، أسعد فيه بأسرة كريمة ، ولا يئول بي إلى معركة مشئومة ، ومآثم عظيمة ..
لقد عشت في أعطاف النعم ، وتقلّبت في رياض الثراءِ ومسارح الكرم ، ورزقت منذ الصغر نفساً عصماء ، وهمّة قعساء ، وروحاً طموحاً ، ورغبة جموحاً ، لا أرضى بأمر أن أكونَ فيه من عامّة الناس ، بل أحبّ التقدّم والصدارة في كلّ شأن ، كما أحبّ التجديد ، وأكره القيود ، فهي تقتل الهمّة ، وتحجب السعود .. وربّما دفعت رفاهية العيش غيري إلى أن يكون دنيّ الهمّة ، فاتر العزيمة ، ولكنّ الله تعالى أكرمني بنفس أبيّة ، وروح طموح ، لا ترضى عن العزّ بدلاً ، ولا دون العلياء منزلاً ..
وكان من أكثر الناس تأثيراً في بناء شخصيّتي ، وتحديد اتّجاهي في الحياة وحفزِ همّتي : معلّم رسم ، درّسني في الصف الرابع الابتدائيّ ، لم يكن على درجة كبيرة من العلم والثقافة الدينيّة ، ولكنّه كان ذا شخصيّة قويّة جذّابة ، وروح مؤثّرة محبّبة ، وأسلوب متميّز ، وقدرة عجيبة على غرس المبادئ التي يؤمن بها ..
كان يرانا أمامه رجالاً لا أطفالاً ، ويخاطبنا بلهجة خطابيّة ، تشدّ انتباهنا ، وتلهب مشاعرنا ، ونحن نردّد وراءه شعارات ، يريد لها أن تستقرّ في أعماق وجداننا مبادئ لا ننساها ، ولا نتخلّى عنها ما حيينا .. كان يقول لنا :
الأطفال بألعابهم .! فنجيبه : لا ، بهممهم .. فيقول : الرجال بجمالهم .! فنجيبه : لا ، بعقولهم .. فيقول : الأبطال بأجسامهم .! فنجيبه : لا ، بأفعالهم .. فيقول : الكرام بأموالهم .! فنجيبه : لا ، بأخلاقهم ..
وكان يقول : المؤمن لا يخاف .. فنجيبه : إلاّ الله .. لا يرجو .. فنجيبه : إلاّ الله .. لا يدعو .. فنجيبه : إلاّ الله .. لا يسأل .. فنجيبه : إلاّ الله ..
وكان ممّا حفّظنا من شعر الإمام الشافعي  ونحن صغار :
أمطري لؤلؤاً جبالَ سَرنديـ بَ وفيضي آبارَ تَكرورَ تِبرا
أنا إن عِشتُ لستُ أعدمُ قُوتاً وإذا مِتُّ لستُ أعدمُ قَبرا
هِمّتي هِمةُ المُلُوكِ ونفسِي نفسُ حُرٍّ تَرى المَذلّةَ كُفرا
وكان يقرأها لنا بصورة خطابيّة مؤثّرة ..
وكان ممّا حفّظنا أيضاً أبياتاً لأمير البيان الأمير شكيب أرسلان :
فدىً لحمانا كلُّ مَن يمنعُ الحِمى ومَن ليس يرضى حوضَه مُتهدّما
فما العيشُ إلاّ أن نموتَ أعزّةً وما الموتُ إلاّ أن نعيشَ ونـسلما
تأمّلتُ في صرف الزمان فلم أجِد سوى الصارمِ البتّارِ للسِّلم سُلّما
ولم أر أنأى عَن سَلامٍ مِن الذي تأخّرَ يعتدُّ الســـــلامةَ مَغنما
يقولون : وجهُ السيف أبيضُ دائماً وما ابيضّ إلاّ وهو أحمرُ بالدما
فإن كانَ دفعُ الشرّ بالرأي حازماً فما زال دفعُ الشرّ بالشرّ أحزما
تجاهلَ أهلُ الظلم كلَّ قضيّة ٍ إذا لم يجئ فيها الحســامُ مُترجما
ثمّ كان لي مدرّس الأدب العربيّ في المرحلة الثانويّة نعم الموجّه والمؤدّب .. لقد كان على سمت هذا المعلّم الفاضل ، رعى ما غرسه سلفه ، وتعهّد ما بناه أحسنَ تعهّد ، فكان لا يفتأ يوجّهنا من خلال النصوص الأدبيّة التي يشرحها لنا ، ويجعلنا نعيش أجواءها المؤثّرة بكلّ مشاعرنا .. وقد حملني إعجابه الشديد بالشاعر محمود سامي البارودي على شراء ديوانه ومطالعته ، وحفظ مقطوعات منه عديدة ، وكان يفضّله على أمير الشعراء أحمد شوقي ، ويقول عن الباروديّ : " هذا شاعر الوطنيّة الصادقة ، حامل السيف والقلم " .. وكان ممّا حفّظنا من شعره ، زيادة على المنهج المقرّر :
سِوايَ بتَحنان الأغاريدِ يَطربُ وغَيريَ باللذّاتِ يَلهُو ويَلعبُ
ومــا أنا ممّن تَأسِرُ الخمرُ لُبَّه ويَملِكُ سَمعَيه اليَراعُ المُثقّبُ
ولكن أخُو هَمّ إذا مَا ترجّحَت به سَورةٌ نحوَ العُلا راحَ يَدأبُ
نفَى النومَ عن عينيه نفسٌ أبيّةٌ لها بَينَ أطرافَ الأسنّةِ مَطلَبُ
لُبانةُ نَفسٍ أصغَرَت كُلَّ مَأربٍ فكلّفَتِ الأيّامَ ما ليسَ يُوهَبُ
إذا أنا لم أُعطِ المكارِمَ حَقَّها فلا عَزّني خَالٌ ، ولا ضَمّنِي أبُ
ومَن تكُنِ العَلياءُ هِمّةَ نَفسِه فكُلُّ الذي يَلقاهُ فيها مُحبّبُ
وحفظنا أيضاً :
ولي شِيمةٌ تأبَى الدنايا وعَزمةٌ تَرُدُّ لُهامَ الجيشِ وهُو يَمُورُ
إذا سِرتُ فالأرضُ التي نَحنُ فَوقَها مُرادٌ لمُهري وَالمَعاقِلُ دُورُ
فلا عَجَبٌ إن لم يكُن لي مَنزلٌ فليسَ لعُقبانِ السماءِ وُكُورُ
هُمامةُ نفسٍ ليسَ يُنفى ركابهـا رَواحٌ على طُولِ المَدى وبُكُورُ
مُعوّدةٌ أن لا تَكُفَّ عَنانَهــا عَنِ الحدِّ إلاّ أن تَتِمَّ أمُورُ
لها مِن وَراءِ الغَيبِ أذنٌ سَميعةٌ وعَينٌ تَرى ما لا يَراه بَصِيرُ
وفَيتُ بما ظَنَّ الكِرامُ فِراسةً بأمري ، ومِثلي بالوَفاءِ جَديرُ
وأصبحتُ محسُودَ الخِلالِ كأنّني على كُلِّ نَفسٍ في الزمانِ أميرُ
إذا صُلتُ كَفَّ الدهرُ مِن غُلوائِه وإن قلتُ غَصَّت بالقُلُوبِ صُدورُ
مَلكتُ مَقاليدَ الكلامِ وحِكمةً لها كَوكبٌ فَخمُ الضياءِ مُنيرُ
وإنّي امرؤٌ صَعبُ الشَّكِيمةِ بَالِغٌ بِنَفسِيَ شَـــأواً ليــسَ فِيه نَكيرُ
وكان يصول معنا في شَرحها ويجول ، ويحلّقُ بنا ويُبحر ، ويُشرّقُ بنا ويُغرّب ، ويجعلنا نتذوّق عزّة نفس الشاعر ، والأفق المحلّق الذي يعيشه ..
وعندما أصبحت في عداد الرجال ، ينظر إليّ بإجلال ، وتعقد عليّ الآمال ، قال لي والديّ : ألا نزوّجك ، فتكتمل حياتك ، ونفرح بنسلك وذرّيّتك .؟ فقلت لهم : دعوني من هذا المقال ، فلم يعد لي رغبة بذوات الحِجَال ( ) ، بعد ما سمعتُ ورأيتُ النساءَ يُضرَبنَ بالنعال ، ويعلّقن فلا يطلّقن السنين الطوال ..
فقال لي الوالد : وما علاقة ذلك بزواجك .؟! فقلت : أريد زواجاً لا كزواج أكثر الناس ، زواجاً يذهب الدهر بحديثه ، أكون به للناس أسوة ، ويتمنّى مثله كلّ من سمع به .. ويبدو لي أنّ الظروف لا تسمح بذلك في الوقت الحاضر ولا تواتي ..
فقال لي والدي : أنت كما عرفناك وعهدناك ، لا تزال بعيداً عن الواقع ، تأخذ الفلسفة عقلك ولبّك ..
وكان أهلي يسمّونني فيلسوفاً منذ الصغر ، لأنّني دأبت على مناقشة كلّ أمر ، ولا أرضى أن أكون مستجيباً لشيء بغير حجّة أو بيّنة ..
فقلت له : لكم أن تقولوا عنّي ما شئتم ، وجوابي إن شاء الله ما ترون ، لا ما تسمعون .. لقد عزم قلبي عزمته ، وأعددتّ لهذا الأمر عدّته ..
وقالت لي الوالدة : مالك وللناس .! لا تعب عليهم ، وكن خيراً منهم .. وهل أمّك تُضرب أو أختك ، أو عمّتُك أو خالتُك ..
فقلتُ لها : لو ذهبتُ أعدّد لذكرتُ لك الكثيرات ، ممّن تعرفين ، ولا يخفى عليك حالهنّ .. فأنا بغنىً عن الدخول في هذه المتاهة ، وعيش البؤس والسفاهة .. فقالت لي : ستبقى طول حياتك مُتعِباً لنا ولنفسك بفلسفتك ..
وتكرّر الحديث مع والدتي مرّة بعد مرّة ، ولم تيأس من إقناعي ، كما لم أتراجع عن موقفي وأقوالي .. ثمّ خشيت على نفسي أن أقع في شيء من العقوق لها .. فقلت لها ذات مرّة بعدما طال بيني وبينها القيل والقال : إذا كان هذا الأمر يسرّك إلى هذا الحدّ ، فليس لك إلاّ ما يسرّك .. ولكنّ لي شروطاً لابدّ أن تتحقّق في زواجي كيلا أظلِمَ أو أظلَمَ .. قالت : وما شروطك .؟ قلت : تحتاج إلى تأمّل وتفكير .. قالت لي : عدنا إلى فلسفتك مرّة أخرى .. فقلت لها : هل تريدين أن أنتكس في زواجي كمثل فلان ، وفلان .. وأخذت أعدّد لها من تعرف قصصهم وأخبارهم ، من الأقربين والجيران ، والأصحاب والخلاّن .. فقالت : لك الحقّ يا بنيّ ، ولكن كن بشروطك منصفاً ، ولا تكن مسرفاً ، ولا مجحفاً .. فقلت : شروطي خمسة فقط ، عدد أصابع الكفّ الواحدة ، إنّها حقوق وسط ، لا لغو فيها ولا شطط ، ولا تنازل عن واحد منها ؛ أوّلها أن تكون المخطوبة من أسرة دين معروفة ، وبالشرف والجاه موصوفة ، وثانيها أن تكون على درجة من العلم والدين ، والأدب والثقافة ، إذ هي المدرسة الأولى للبنين والبنات ، منها يرتضعن الآداب ، وعنها يأخذن جميل الأخلاق والصفات ، وثالثها أن لا تتجاوز العشرين من العمر ، تزيد سنة أو تنقص سنة لا حرج ، وأن تكون ذات حسن ظاهر ، وجمال باهر .. لا يهمّني لون شعر أو بشرة ، وإنّما أن تكون ذات خفّة دم مُؤثَرة ، كأنّها الهواء العليل ، والماء العذب السلسبيل ، تبهر أعين النساء ، وتمنح القلب من الأنس ما يشاء .. ورابع الشروط أن ترضى بالسفر معي حيث أرغب ، والمقام بها حيث أطلب ، لا يمنعها من ذلك أهل أو عشيرة ، ولا تكون لشيء من العادات أسيرة .. وخامسها أن أنظر إليها بعد الخطوبة ، وتنظر إليّ ، كما شرع الله تعالى وأحلّ ، فذلك أحرى بائتلاف القلوب ، وتحقّق المطلوب ..
فقالت الوالدة : لا أرى شروطك عسيرة إلاّ الشرط الأخير ، فأنت تعلم أعراف العشيرة وتقاليدها ، يرضى الرجل لابنته أن لا تعرف حياتها كلّها الزوج ، ولا يعرفها ، على أن ينظر إليها رجل قبل أن يعقد عليها .. فقلت لها : لن أتنازل عن هذا الشرط مهما كلّف الأمر ، وبيني وبين من يأباه شرع الله وهداه ..
فقالت : أنت تعلم أنّ الناس تحكمهم العادات والتقاليد أكثر من أن يحتكموا إلى شرع الله .. فقلت لها : مثل هؤلاء لا رغبة لي في المصاهرة إليهم ، فليتركوا بناتهم في بيوتهم ..
وخطبت لي والدتي من بيوت عزّ وشرف ، وتوقّفوا عند طلب الرؤية كلّ مرّة ، هم يأبون أن يستجيبوا لطلبي ، وأنا أرفض التنازل عنه .. وعبثاً حاول الوالدان أن أتراجع عن شَرطي ، ولكنّني كنت يابس الرأس ، صلب المراس .. ثمّ أذن الله سبحانه فهيّأ الأسباب ، وذلّل الصعاب ، فلا تسل كيف رأيت المخطوبة ، وقد كشفت عن وجهها الحجاب والنقاب .. فكان خبر خطوبتي فتحاً مبيناً ، طار خبره بين أبناء العشيرة ، وانكسرت به حواجز الوتيرة ( ) ، فأخذ الشباب يطالبون بحقّهم ، بعد أن كان عليهم حجراً محجوراً ، وإثماً من القول وزوراً ..
وصباح ليلة عرسي قلت لعروسي : ستأتينا اليوم مفاجأة .. هديّة لا كالهدايا .. تتحوّل من بيت أهلي ، ومن حياة عزوبتي إلى بيتنا الجديد .. وحياتنا الجديدة ..
وما هي إلاّ ساعة حتّى طرق أحد أصدقائي البيت ، فقدّم لي شكلاً مجسّماً كبير الحجم ، ملفوفاً بالورق من جميع أطرافه .. لا يستطيع أحد أن يتوقّع ما فيه ..
فنزعت عنه الورق برفق فإذا هو حوض كبير للزرع من صافي الزجاج الثمين ، مزخرف الأطراف ، في وسطه نبتة من شجر الزينة النادر ، لا يتجاوز طولها عشرين سنتيمتراً ، جميلة الشكل ، غليظة الساق ، أوراقها مميّزة .. فمسحت بعض أوراقها وشممتها ، وقلت لها :
شمّي هذه الرائحة .؟ هل رأيت مثل هذه الشجرة من قبل .؟ هذه شجرة الدرّ ، سليلة الطهر والخير ، لا تقبل الشرّ والضرّ ، أوّل أمرها البرّ ، وأوسطه العطاء الثرّ ، وآخره أطيب الثمر ..
هي تمثال المودّة والحبّ ، وجذرها ضارب في أعماق القلب ..
هي هديّة قلبي إليك ، أضعها بين يديك .. انظري ما كتب عليها :
( لا تنظر ، لا تلمس ، لا تمسّ إلاّ بإذن الزوج ) ..
إنّها مرآة قلبي ، ومظهر حبّي ، وبهجة أنسي ، وعلاج نفسي ، وفكرة عقلي ، لم يعرفها أحد من الناس قبلك ..
إنّها اليوم غرسة ضعيفة أعهد بها إليك ، وهي في الغد أريد لها بعنايتك أن تكون نبتة قويّة ، وأريد لها أن تكون بعد سنين شُجيرة ذات ظلّ ، تستقبل الطلّ ، تبهج النظر ، وتمنح الثمر ، وأريد أن يرثها عنّا الأبناء والأحفاد ، ويطير لها ذكر في البلاد ..
سمّيها ما شئتِ : ( شجرة الدرّ .. نبتة الحبّ .. روضة القلب .. ) هي مسئوليّتك أوّلاً وآخراً ، تتعهّدينها كلّ يوم .. فإذا توقّف نموّها ، وذوت أزهارها ، ويبست أوراقها ، والتوت أغصانها ، بإهمالك وصنع يديك ، فلن تسمعي منّي إلاّ كلمة واحدة ، تكون آخر عهدنا : ( هذا فراق بيننا ) .. دون خصومة أو نكد ، أو فضيحة عند الوالد والولد ..
تأمّلي هذا الحوض الذي نبتت فيه ! إنّه اليوم كبير على هذه النبتة ، وسيأتيه يوم يكون فيه صغيراً ، وربّما اضطررنا لتحويلها عنه ، وهذا ما أؤمّله وأتمنّاه ..
كانت تنظر إليّ وإلى النبتة واجمة مبهوتة ، كأنّها لا تدرك من كلامي كثيراً من مغزاه ، ويمنعها حياء العروس عن أن تستوضح ما وراءه .. فختمت لها بالقول : وسيأتيك من خبر هذه النبتة ما لم تعلمي ..
ومضت أيّام شهر العسل كما يقولون ، بخير وسلام ، لا نكد فيها ولا تنغيص ، وأنا أتعهّد أمامها هذه النبتة كلّ يوم بالسقي والعناية .. وبعد ستّة أشهر تقريباً عددت أمامها أوراق هذه الشجيرة ، فكانت ثلاثاً وعشرين ورقة ، وقلت لها : دونك هذه الشجيرة بأوراقها ، لقد أصبحت مسئوليّتك منذ اليوم ..
فبدأت عنايتها بهذه الشجيرة ، وأخذت تتعهّدها صباح مساء ، وشعرت أنّ رباطاً روحيّاً قد نما بينهما ..
وعند أوّل سوء تفاهم على أمر صغير ، بيّنت رأيي ، وعندما أصرّت على مخالفتي بدون مبرّر ، أخرجت من درج مكتبي أوراقاً صغيرة ذات ألوان متعدّدة ، وكتبت على إحداها رقم /1/ ، وعمدت إلى الشجرة فعلّقت الورقة عليها ، فقالت لي : وماذا تعني بذلك .؟ فقلت لها : أعني أنّ هذه بداية النكد بيننا .. فزيدي إن شئت أو أنقصي .. واعلمي أنّ كلّ عشر أوراق من هذه ، تحرق ورقة من أوراق هذه الشجرة .. فأنت وما تريدين وتختارين .. فدمعت عيناها ، وسارعت إلى الاعتذار ، فبادرت إلى الورقة فنزعتها ، واستبدلت بها ورقة زهريّة اللون على شكل قلب ..
وبعد عام من هذا التاريخ أقمت بيني وبينها احتفالاً ، لم يحضره سوى هذه الشجيرة ، وقد بلغ عدد أوراقها سبعاً وأربعين ورقة ، فعلّقت على الشجرة أمامها حَجَرةً صغيرةً لامعةً من الماس الصناعيّ ..
وفي العام الذي يليه علّقت حَجَرةً أخرى .. وعندما بلغ عدد أوراق الشجرة مئة علّقت حَجَرتين متميّزتين .. وعندما رزقنا المولود الأوّل قدّمت لها عقداً ثميناً من اللؤلؤ ، وعلّقت على الشجرة حَجَرةً متميّزة ، كتبت على ورقتها اسم المولود ، وتاريخ ولادته باليوم والساعة ..
لقد كانت هذه الشجيرة وسيطاً بيننا للتفاهم ، ووسيلة لفضّ الخلاف والتخاصم ، وعصمة عن الخلاف أن يستفحل ويتمادى ، ويخرج عن سيطرة هذا الحكم الصامت ، والمصلح المسكت ..
كانت تحمل بيننا ميزان العدل والفضل ، والإحسان والبرّ ، فهل يسعنا بعد ذلك أن لا نحتكم إليها .؟!
وهكذا مضت أيّامنا بهذه الصورة الهانئة الوادعة ، لا نعرف شيئاً من المنغّصات ولا تعرفنا ، ولا نسمح لأحد كائناً من كان أن يتدخّل في شيء من شئوننا ، وشاع ما شاع بين أهلي وأهلها ما نعيشه من حياة مطمئنّة هانئة ، وكنت عندما نسأل عن سرّ ذلك أقول مازحاً : " عندي وصفة سحريّة لذلك ، لا يعرفها أحد إلاّ أمّ حيّان .. " .
وما كان للدنيا أن تمرّ على الناس صفواً بلا كدر ، وأمناً بلا خطر ، فعصفت بي أزمة ماليّة ، لم تخطر لي من قبل على بال ، فقدت فيها أموال تجارتي بين عشيّة وضحاها ، بل أصبحت مديناً لبعض التجّار بسوء صنيع أحد شركائي أو خيانته ، واضطررت كيلا يفتضح أمري ، ويسوء ظنّ الناس بي إلى أن أرهن البيت الذي أسكنه ، لأستطيع الوفاء بالتزاماتي ، بما لا يسيء سمعتي بين التجّار ، ولأجد النفقة الضروريّة لأهلي ، بما لا ينزل بنا عن الحال المقبول ، دون تقتير ولا فضول ..
وكانت زوجتي رعاها الله تقف معي بكلّ تفهّم وإخلاص ، وتواسيني بكلّ ما أوتيت من لطف وبراعة ، وتشدّ من أزري ، وتخفّف عنّي الضغوط النفسيّة التي أتعرّض لها ، وهذا ما كنت أؤمّله منها ، وأظنّه فيها ..
كنّا نعيش الأزمة صامتين محتسبين ، بعد أن تعاهدنا ألاّ نشتكي حالنا لأحد إلاّ لله  ، ولا نبوح بشيء من أسرارنا ، فكثرة قيل الناس وقالهم نوع من البلاء ، الذي يستطيع الإنسان أن يدفعه عنه .. وكنت أقدّر أن نتجاوز هذه الأزمة بعد خمس سنوات بأقصى حدّ ، ونعود إلى السعة التي كنّا عليها ..
وحدث مرّة أخرى ما لم يكن بالحسبان ، ولكن هذه المرّة من أقرب الناس إلينا .. من بعض أهلها .. من أمّها على وجه الدقّة والتحديد ..
كانت في زيارة لنا ، وقمنا بما يجب علينا من حقّ إكرامها والاحتفاء بها ، وأرادت بسؤال صريح أن تعرف حقيقة ما نمرّ به من وضع عصيب ، فدفعت بالجواب على وجه الإجمال والعموم ، وأظهرت من التجمّل بعظم ما نعيشه من النعم ، ما يستر الحال الذي نعيشه ، ولكنّ هذا الجواب كان في نظرها مراوغة ، تدعو إلى أن ترسل عليّ أمام ابنتها سيلاً من التهم ، وبركاناً من الحمم ، لها أوّل ، وليس لها آخر ، وأوّلها أنّني أدّخر أموالي عن ابنتها ، لأتزوّج بأخرى .. وهي كما زعمت لا تخفى عليها أساليب الرجال وألاعيبهم ..
والحقّ أنّي فوجئت بموقفها وكلامها أشدّ المفاجأة ، فنظرت في وجه زوجتي ، وكأنّني كنت أستنجد بها أن تدافع عنّي أمام أمّها ، فرأيتها صامتة واجمة .. وأنا من طبعي بحمد الله أنّني لا أحبّ أن أواجه أحداً بما يكره .. ولكنّ الموقف لا يحتمل السكوت .. فالسكوت لا يفسّر هنا إلاّ تأكيداً لدعوى المدّعي .. فملكت أعصابي ، وأردت أن أقتصر على أقلّ القول وأوجزه ، فاستجمعت قوّتي ، وقلت لها : أنا لا أسمح لك أن تواجهيني بهذه الاتّهامات .. فزادَت حِدّةُ قولها ، وارتفعَ صوتُها ، وكأنّني بهذا الكلام أثرتها أكثر ، وشعرت أنّ الأمر تجاوز القنطرة ، وخرج عن السيطرة ، وكأنّ الشرّ قد بُيِّتَ بليل .. فالويل لك يا أبا حيّان كلّ الويل ، فأنت أمام امتحان ، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان ..
فالتفتُّ مرّة أخرى إلى زوجتي ، فرأيتها صامتة واجمة ، لا تحرّك ساكناً .. فقلت لها : أجيبي عنّي أمّك .. فلم تجب بكلمة .. ودارت الشكوك في نفسي أنّ الأمر قد دبّر بينهما بليل .. فلابدّ من قطع دابر الفتنة قبل أن تكون ناراً محرقة ، لا تبقي ، ولا تذر .. فالتفتُّ إلى زوجتي ، وقلت لها : تداركي الأمر قبل أن تحترق الشجرة .! فلم تحرّك ساكناً .. وانتبهت حماتي إلى كلمتي ، ولكنّها لم تفهمها ، ولم تعي ما أقول ، فعندما رأيت منها التمادي في القول قمت إلى المطبخ ، وأحضرت ولاّعةً ، وانتبهَت زوجتي إلى عملي ، فأجهشَت بالبكاء ، وجرَت ورائي تتوسّلُ إليّ أن لا أفعل شيئاً .. وسكتت حماتي ، وظهرت الدهشة على وجهها .. وتابعت طريقي إلى غرفة النوم ، وأمّ حيّان تبكي بصوت مرتفع ، وهي تلحّ في رجائها أن لا أفعل شيئاً .. فتوقّفت في غرفة النوم ، وقلت لها : ما لك لا تجيبين أمّك ، وتعرّفينها الحقّ .؟! هل أنت موافقة لها على ما تقول .؟ فقالت : لا ، والله ، ولكنّني خشيت من غضبها ، أو أن أدافع بكلام يفشي شيئاً من سرّك .. فسررتُ والله بقولها أيّما سرور ، وهدأ ما اعتراني من سَورةِ الغَضَب .. ولكنّني صمّمت في نفسي أن لا ألتقيَ أمّها بعد اليوم ، أو تعتذرَ إليّ من تطاولها عليّ ، وتدخّلها فيما لا يعنيها .. وكما صلحت حياتي مع زوجتي بهذه الشجرة ، التي سمّيتها : " شجرة الدرّ " ، فسأرتّب لكلّ طفل من أطفالي شجرة مثلها ، لتكون عوناً لي على تربيتهم ، وحسن رعايتهم ..
* إنّ الرجل أيّها السادة ما وكل إليه أمر القوامة في الأسرة إلاّ لما أوتي من العقل والحكمة ، فإذا انقاد إلى هواه ، وغلبت على حكمته انفعالاته ، فخير له أن يستقيل من هذه المسئوليّة ، ويترك أمر النساء على الغارب ، من أن يفسد ولا يصلح .. ومن أوتي العقل والحكمة يستطيع أن يبتدع من الأساليب المؤثّرة المثمرة ما يجنّب سفينة الأسرة كلّ عاصفة مدمّرة ، ويقودها باطمئنان ، إلى برّ السعادة والأمان ..
إنّ المرأة في نظري إنسان عجيب ؛ فيه من النقص والضعف ما يُفسدُ الإنسانيّة ، ويُزري بها لو سارت وراء ضعفه ، وما يُغري الرجل الظالم بظلمه وعسفه ، وفيه من الخير والنبل ما يدعو الكريم إلى تقديره واحترامه ، وما يرفعُ الإنسانَ ، ويحقّقُ معانيَ إنسانيّته ويكمّلُها ، بدون المرأة وخلالها .. ولا يكونُ الرجلُ رجلاً ، ولا يعرف النضج بدونها ..
والعجب كلّ العجب ممّن يظلمها ، كيفَ يَستبيحُ ظُلمَها ، وهو يعلمُ أنّ حياتَه بدونها تفقد أجملَ معانيها ، وأبهجَ مغانيها .؟! حقّاً إنّهنّ لا يُكرِمُهنّ إلاّ حُرٌّ كريم ، ولا يَظلِمُهنّ إلاّ أحمقُ لئيم .. وإذا كانت المرأةُ بنقصها وضعفها مُكمّلةً لطبيعة الرجل وكيانه ، مُزيِّنةً لحياته وعنوانه ، فإنّ ظلمَها إنّما هو انتقاصٌ لقدرِه ، وظُلمٌ لنفسه ، وسُخفٌ بعقله .. فليكن منه بعد ذلك ما يشاء .! فإلى أبينا آدم  أشكو ظلم الرجال ، وإلى أمّنا حوّاء أشكو طغيان النِّسَاء ..
وقبل أن نقف أيّها السادة ! من الطلاق موقف استهجان ورفض ، علينا أن نفكّر في المعايير التي قام على أساسها الزواج ، فإذا قام على منطق النظرة القاصرة ، والنزوة العابرة ، والاعتبارات الزائلة ، فأنّى لنا أن نقف أمام هذه المقدّمات والأسباب كيلا تبلغ نتيجتها ، وتأخذ مداها .؟!
وإذا كان الطلاق بمثابة عمليّة جراحيّة ضروريّة لعضو مريض ، فإنّ قيام الزواج على أسس متينة ، وشروط حكيمة ضرورة قصوى ، فقبل أن يقع الندم على الطلاق لأنّه يهدم الأسرة ، ويقطع الروابط ، ويسحق المشاعر ، علينا أن نحكم الزواج الذي يسوده التفاهم والوئام ، وتظلّه المودّة والرحمة ، وأن نصون حماه بضمانات تحقّق ذلك على خير وجه ..
لقد جرّبت الدنيا إجبار الأزواج الذين لا يرضون باستمرار الزواج بالعيش معاً ، وذلك بمنع الطلاق أو ربطه بشروط مستحيلة ، وجرّبت استعمال المرأة كمتاع يأخذها الرجل متى شاء ، ويطرحها متى شاء .. دون أيّ حقوق أو التزامات .. فكان الموقف الأول عذاباً للرجل والمرأة على حدّ سواء ، وباباً لشيوع الفساد في الأرض بلا مراء ، وكان الموقف الثاني هواناً للمرأة ما بعده من هوان .. وكان موقف الإسلام هو الحقّ والعدل والأمان ..



خبر أبي مساعد
* ـ قال مدير الجلسة : لتهنك الحياة الرغدة الكريمة أيّها الرجل .! وما خاب ظنّ من سمّاك فيلسوفاً ، وليت الرجال يبتدعون من الأساليب ما يجعل حياتهم الزوجيّة هانئة مطمئنّة ، وينالون من السعادة وهدوء البال ، مثل ما نلت .. وليتقدّم الآن إلى المنصّة أبو مساعد ..
فتقدّم إلى المنصّة رجل في العقد الرابع من العمر ، طويل القامة ، ممتلئ الجسم من غير سِمَن ، ناضر الوجه ، عليه هيئة النعمة .. وكان لباسه وهيئته ومركبه لا يوحي بشيء من غناه وثرائه ، ولكنّ منزله الذي كان أشبه بقصر من القصور ، ومجلسه الفاخر يدلّك على ما وراء الرجل من نعمة وثراء .. ومن يخالطه يعجب بأدبه وحسن حديثه ، وحكمته وسعة ثقافته ، وهو لم يتجاوز في دراسته المرحلة الابتدائيّة .. فوقف قليلاً يتأمّل وجوه الحاضرين ، ثمّ ألقى التحيّة ، وقال : حديثي أيّها الناس ذو شجون ، لا أدري بأيّ أخباره أبدأ .؟ وفي كلّ عبرة .. أنا بدويّ هجرت البادية لظروف المعيشة القاسية ، التي كنّا عليها ، وكنت صبيّاً لا أتجاوز العاشرة ، فقد كانت عشيرتي وأكثر الناس في فقر مُدقِع ، وجهد مُفظِع ، وساقتني الأقدار من أهل الوَبَر ، إلى حياة الحضر ، ثمّ ساقتني سوقاً عجباً إلى التعرّف على بعض أمراء الحضر ، فاتّصل سببي بأسبابه ، وأصبحت ملازماً لركابه ، فوثِق بي لما كنت عليه بتوفيق الله من الأمانة ، والإخلاص في الخدمة ، فأغدق عليّ ممّا بين يديه من فضل الله من الثراء والنعمة ، فدخلت في بعض أبواب التجارة ، فسعى إليّ الغنى بما أعرف من أبوابه ، وما لا أعرف من أسبابه ، وأصبحت وأنا ابن عشرين من السنين بين يدي من الأموال ما لا أحصي .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
على أنّ المال متاع جموح ، يغدو ويروح ، ولكنّ خير ما استفدت من صحبة الأمير ومجالسته ما كان يجتمع في مجلسه بصورة دوريّة ، من لقاء بعض العلماء والأدباء ، الذين يتحفون الجالسين بروائع الشعر وعيون الأخبار ، وأنا بفطرتي أحبّ الشعر ، وأطرب لسماعه ، وبخاصّة شعر الغزل ، وأخباره .. فكتبت وحفظت من ذلك الشيء الكثير .. وكنت أمنّي النفس أنّني إذا تزوّجت سأجدّد مع زوجتي سيرة الغزل العربيّ على أحسن ما يكون ..
وكانت عنده مكتبة جمعت أمّهات كتب الأدب ، ودواوين الشعراء على اختلاف طبقاتهم وأزمانهم ، فكنت أقضي فيها الساعات الطوال ، ما بين قراءة وكتابة في مجموعي الخاصّ ..
وعدت لزيارة والديّ وعشيرتي بعد أن انقطعت عنهم عشر سنين تامّة ، لا يعرفون شيئاً من أخباري ، إلاّ شوارد الكلام ، وبعض الظنون والأوهام ، وبين يدي من الأموال ما أدهش أهلي ، وعدتُ عليهم ببعض ما أنعم الله به عليّ ، ممّا أصلح أحوالهم ، وغيّر حياتهم ، ومكثتُ فيهم ستّة أشهر ، وكأنّني مولود جديد .. وعندما أردت العودة إلى عملي عزم عليّ والديّ أن لا أعود إلاّ وأنا متزوّج ، واختار لي والدي إحدى بنات عمومتي ، وكانت طموحاتي غير ذلك .. ولكن لابدّ من طاعة الوالد .! وتزوّجت في البادية ، بتقاليدها وعاداتها ، وكان يوم زواجي مشهوداً ، قرّت به عين الوالدين ، ونلت به رضاهما .. ثمّ عدت إلى عملي في المدينة ..
ومنذ وطئت قدماي المدينة بدأت حياةُ النكد المتواصل بيني وبين زوجتي ، بسبب أو من غير سبب ، رغم أنّها انتقلت من شظف العيش وشدّته إلى حياة رفاهية لا تحلم بمثلها في البادية .! ولا تخطر لها على بال .. كانت عصبيّة المزاج ، سليطة اللسان ، مترفّعة عليّ ، لا تجد لي في نفسها ذرّة احترام ، أو أحسبها كذلك كيلا أظلمها ، وكنت آخذها بالحلم والصبر دائماً ، ولعلّ سعة حلمي معها كان يزيدها اجتراء عليّ .! وعندما تشتدّ إهانتها لي أظهر لها بعض الجفاء أيّاماً ، فتجفوني وتهجرني أضعاف هجري ، فأذوق بهجرها مُرّ البلاء والعناء ، وأنا شابّ لا أصبر على هجرها ..
ومِنَ المُصيبةِ أن تحبـْ ـبَ فلا يحبّك مَن تحبُّه
( وتُقَدِّمُ الوُدَّ الجميـ ـلَ ويَغتَذي الأغلالَ قلبُه )
وتمادت في التطاول عليّ والإساءة ، وأنا والله لا أجرحها بكلمة واحدة ، يمنعني من ذلك أنّها ابنة عمّي ، وتكريمُ والدي ، وأنّي من قبيلة تَعُدُّ أخسَّ اللؤم والعار ، أن تُضرَبَ المرأةُ أو تهان ، ولئن تطلّق المرأة في نظر أهلي وعشيرتي أهون ألف مرّة من ضربها أو شتمها .! وهي لا تسمع منّي إلاّ كلمات الرقّة ، وأشعار الغزل .. ووصل بها الأمر أن ترفع صوتها بكلمات فظّة ، بعيدة عن الأدب ، لتُسمعَ من يكون عندي من ضيف .. وعظم الأمر في نفسي كثيراً ، ووعظتها بيني وبينها ، وزجرتها زجراً كبيراً ، وهدّدتها بالشكوى لوالدها ، فلم يغيّر ذلك من سلوكها شيئاً ..
وهنا تعالى صوت من بعض الحاضرين : " ولمَ لم تهدّدها بالزواج بثانية .؟! عَجَب أمرك .! كيف تَصبرُ عليها كلّ هذا الصبر .! " فنظر إليه أبو مساعد مُبتسماً ، وقال له : هذا ما لم أفكّر فيه أبداً يا صاحبي .. لقد كنتُ أحملُ حملةً قاسية على كلّ من يفكّر بالزواج الثاني ، لما رأيتُ من سلوك بعض الظالمين لنسائهم وأولادهم .. ولكنّ بعض أصحابي كانَ مرّة عندي فسمِعَ بعضَ كلامِها ، وشعَر بحَرَجي الشديد .. فقال لي : اسمع نصيحتي يا أبا مساعد ! لقد خبَرتُ النساءَ قبلك ، وعندي يا صاحبي دواؤك : إنّ بعض النساء لا علاج لدائهنّ إلاّ الضرّة تشغل عقلها ولبّها ، عن أذى زوجها .. وإنّ مثلك والله لا يساء إليه بهذه الصورة .! فعلام تصبر على هذه الحياة ، وأنت مقتدر .؟! فسكتّ ، ولم أجبه بكلمة .. ولكنّ كلامه أثّر في نفسي .. فقلت : أطلِقُ لها كلمةَ تهديد ، لعلّها تفيد ، وإن لم أكن جادّاً .. فما زادت على أن حدجتني بنظرة ازدراء ، وكأنّها تتحدّاني أن أفعل ..
ومرّت الأيّام ، والعلّة فيها تتفاقم ، والعلاقة معها تتأزّم ، والأمر يزداد سوءاً على سوء ، فلم أعد أطيق الصبر .. فأطلقت لها كلمة تهديد أخرى ، وقلت لها : اسمعي يا أمّ مساعد .! والله إنّي جادّ فيما أقول .!
فقالت لي : إن كنت رجلاً فافعل .! وهنا ثارت رجولتي ، فقلت في نفسي : وما الذي يمنعني أن أفعل .؟! والله لأفعلنّ مهما كلّفني الأمر ..
ولم يمض عليّ شهر من هذا الموقف إلاّ وأنا مقترن بإحدى الخيّرات الفُضليات ، الصالحات القانتات ، من عشيرة شرف منيعة ، وعلى درجة من التهذيب والأدب رفيعة ، قد اجتمع فيها خير الدنيا ، وَرغبة الآخرة ، أطولُ النساء إذا قامَت ، وأعظمُهنّ إذا قعدَت ، وأصدقُهنّ إذا قالَت ، وأحبّهنّ إذا سكتت ، وأكرمُهنّ في المجالس ، وأحظاهنّ عند المؤانس ، إذا غضبتُ حلُمَت ، وإذا ضحكتُ تَبسّمَت ، وإذا صنعَت شيئاً جوّدَت ، عزيزة في قومها ، ذليلة في نفْسِها ، تُطيعُ زوجها ، وتلزمُ بيتها ، وَدودٌ ولود ، وكلُّ أمرها محمود ، كانت بكراً كَثيّب ، ثمّ ثيّباً كبكر .. خطفَت قلبي بلطفها وأدبها ، وملكَت عقلي بتودّدها وتواضعها ، وأنا أعلم أنّ الشيءَ يتضاعَفُ حُسنُه في عينِ مُستحسِنه ، ومع ذلك فقد كانَت غايةً في حُسنِ وجهها ، ورَجاحةِ عقلها ، وعفافِها وطهارة نفسها ، وخفرها وأدبها ، قليلة الكلام ، طافحة البهجة والبشر ، غضيضة الطرف ، نادرة الظرف .. فخصصتها بمشاعر قلبي ، وأفانين حبّي وغزلي ، بعدما ضاعَت عند تلك ، ووجدَت بغيتها عند هذه .. فجدّدت في نفسي سورة الحبّ ، ومتعة الشعر .. وجدت منها التناغم الرقيق ، الذي أعطى الغزَلَ صداه المُمتع ، وأجواءه الشاعريّة الحالمة ، وأصبح الشعرُ كأنّه عرائس تتهادى بين أيديها ، لا كلمات وأوزان أتغنّى بها ..
تَسامى فُؤادي في هواكِ فليسَ لي على كثرة الآراب منك رِغابُ
فأنتِ الهوى ، وهوايَ أنتِ فلا يكن حَظّي بحبّك في الحياة سَرابُ
قالَ لي المحبوبُ لـمّا زُرْتُهُ : ـ مَن ببابي ؟ قلتُ : بالبابِ أنا
قالَ لي : أخطأتَ تَعريـفَ الهوى ـ حينَمـا فرَّقتَ فيـه بيـنَنـا
ومـضــى عـامٌ فلمّـا جئتُـه ـ أطـرُقُ البــابَ علـيه مَوهِنـا
قالَ لي : مَن أنتَ ؟ قلتُ : انظُر فما ـ ثمَّ إلاّ أنـتَ بالبـابِ هُـنا
قالَ لي : أحسنـتَ تعريفَ الهـوى ـ وعَرفتَ الحُبَّ فادخُل يا أنـا
وسافرت بها شهراً ، ونميتُ الخبرَ إلى أمّ مُساعد على صورةٍ من الشكّ والريبة ، كيلا تُفاجأ ، بما لم يكن منها بحسبان ، فتجتمع عليها مصيبتان ..
وعندما عدتُّ من السفر ، كنتُ طيلةَ طريق عودتي في وسواس ، أضربُ أخماساً بأسداس ، وأنا أوطّنُ نفسي على شرور لا أوّل لها ولا آخر .. ويتواردُ على خاطري الاحتمالُ بعد الاحتمال ، وأعدّ لكلّ احتمال ما يناسبه .. ولكنّي لا رجعة لي بحال عمّا فعلت .. وطرقتُ الباب على بيتي في وضح النهار ، وبجواري أمّ الخير ، كما أحببتُ أن أسمّيَها ، ففتحت لي أمّ مساعد لا خادمتها .. وكأّنها كانت تستشعر قدومي .. ويا لهول المفاجأة .! لقد نظرَت إليّ مدهوشة .! فألقيتُ عليها التحيّة ، وقلتُ لها : هذه أختُك في الله ، وشريكتُك أمُّ الخير .! فأحسني استقبالها .. فنظرَت في وجهي ووجهها ، وأمُّ الخير مُطرِقةٌ رأسَها ، حياء ممزوجاً بخوف وريبة .. ثمّ غضَّت أمّ مساعد نظرَها إلى الأرض لحظات ، كانت كأنّها ساعة ، ثمّ عادت وحدّقَت ببصرها إليّ ، وكأّنها تريدُ أن تقولَ شيئاً ، وزاغ بصرها عنّي ، ثمّ التفتت ، ودخلت إلى البيت ، وأغلقت الباب وراءها .. ففتحتُ الباب ودخلت ، ومعي أمُّ الخير .. وطمأنتها بأنّ الأمور ستكونُ على خير حال بإذن الله ، فلا تقلق ، ولا تشغل بالها بشيء من الوهم والظنّ .. وبوّأتها جناحاً في بيتي فارغاً ، بعيداً عن الجناح الذي تسكنه أمّ مساعد وأولادها ..
ومضى علينا ثلاثة أيّام وأمّ مساعد لا تخرج من غرفتها الخاصّة .. إلاّ حين لا تراني .. وفوجئت بها بعد ذلك عشيّة ، وهي بأبهى زينتها ، وأحسن حللها ، ضاحكة مبتسمة ، وادعة هادئة ، على غير ديدنها وعادتها ، فاستبشرت خيراً ، وقلت : لعلّها " هدنة على دخن " .. اللهمّ اكفنا شرّ الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .. " .
ومضت أيّام تلو الأيّام ، وهي على هذه السيرة ، لا أعرف لها رفع صوت ، ولا هجر قول كسابق عادتها ، ولا تذكر لي أمر ضرّتها بشيء ، وكأنّ أمراً لم يكن .. وأنا أعدل بينهما على ما أوجب الله ورسوله  .. وتطوّرت علاقتها بي إلى صورة ممتازة لا أكاد أصدّقها ، وكأنّها غير ما أعرف وأعهد .. حتّى لحظ ذلك خلّص جلسائي ، الذين طالما سمعوا صوتها ، وهي تسلقني بحديد لسانها .. وبلغ بها الأمر أنّي أكون في المجلس وحدي ، فتأتي إليّ وتقول : نعم ، فأقول لها : وماذا .؟ فتقول : سمعتك تناديني .! فأقول لها : لا غنى عنك ، ولكنّي لم أنادك ..
إنّ المرأة في نظري أيّها السادة مخلوق عجيب : ضعيف في تكوينه وخلقته ، قويّ بفتنته وإغرائه ، وكأنّ الله تعالى جلّت قدرته ، وتعالت حكمته علم استعداد الرجل للظلم والطغيان فسلّط عليه المرأة بضعفها ، لتكسر غلواءه ، وتطامن كبرياءه .. وإنّي لأحسب أنّ زينة الدنيا وفتنتها لا وزن لها إن تجرّدت عن فتنة المرأة وإغرائها ، وما قيمة الذهب والفضّة ، والخيل المسوّمة والأنعام والحرث إن لم تقترن بزينة المرأة وفتنتها وإغرائها .. تلك زينة جامدة ، والمرأة زينة حيّة ، وفتنة تجري مجرى الدم ، وإغراء يتسلّطُ على الرجل بكلّ بلاء ، وتحدّ للقوّة المزعومة ، والغلبة الموهومة ..
وقال بعض الحاضرين : ليسمح مدير المجلس أن يحدّثنا أبو مساعد عن شيء من غزله ، فقد مللنا والله أحاديث النكد ، وأخبار الأخذ والردّ ..
فقال مدير الجلسة : لا مانع لدينا من ذلك ..
فقال أبو مساعد : وما لكم وحديث المجالس الخاصّة .؟!
فقال مدير الجلسة : لا مانع لدينا من الحديث من رقيق الهواء ، وكنايات الشعراء ، وسطح الماء .. ودعنا ممّا دون ذلك ..
فقال أبو مساعد : كنت لا أعود من سفر إلاّ وأنا متهيّء بأشعار أزيّن بها مقدمي ، تحدوني رغبة مشبوبة ، ونفس تحبّ تجديد الحياة ، وطرد الملل .. ومحبوبتي تارة سلمى .. وتارة ليلى .. وتارة عزّة .. وتارة سُعدى ولُبنى .. وتارة فاطمة .. أورّي بذلك عن أمّ مساعد ، التي منحتها حبّي ، وأخلصت لها من قلبي .. فدخلت البيت مرّة ، وأنا أقول ، وكأنّي في سوق عكاظ ، أو مجنّة أو ذي مجاز ، وتخيّلت نفسي أنّي أعتلي منبراً ، وأخطب بألوف الناس :
سلامٌ على سَلْمَى ومنْ حَلّ بالحمى وحُقّ لمثلي رِقّةً أنْ يُسـلّما
ومــاذا عـلـيـهـا أنْ تــردّ تحـيـّــةً علينَا ولكنْ لااحتكامَ على الدما
سَرَوْا وظلامُ الليل أرخى سدولَه فقلتُ لها : صبّـاً غريـماً متيّما
فأبدتْ ثنـايـاهــا وأوْمَض بَارقٌ فلم أدرِ مَنْ شَقّ الحنادسَ منْهما
وقـالَتْ : أمـا يكفيـه أنّي بقلبــه يشاهدني في كلّ وقت ؟ أما أما
فقابلتني بكلّ برود ، وكأنّي أتغزّل بجدران بيتي .!
وقلت لها مرّة ، وقد هجرتني بغير مبرّر ولا سبب :
إنّ التي زعمَت فؤادك ملّهـا خلقت هواك كما خلقت هوى لها
منعت تحيّتها فقلت لصاحبي : ما كــان أكثرهـــا لنــا وأقلّهــا
يَودُّ بأن يُضحي سَقيماً لعلّه إذا سمعَت شكواه ليلى تُراسلُه
ويهتزّ للمعروف في طلب العلى لتُحمَد يوماً عند ليلى شمائلُه
وأستغفر الله العظيم من أن يكون عملي لغير وجهه الكريم ..
صحيحٌ يودّ السقمَ كيما تعوده وإن لم تعده عاد عنها رسولها
ليعلم : هل ترتاع عند شكاته كما قد يروع المشفقاتِ خليلها
وما أكثر ما تمثّلت بعد أسفاري بقول الشاعر :
ولمّا نزلنا منزلاً طلّه الندى أنِيقاً وبستاناً من النور حاليا
أجدّ لنا طيبُ المكان وحسنُه مُنىً فتمنّينا فكنتِ الأمانيا
فلا أجد منها هَشّة ولا نَشّة ، وكأنّي أناجي أعجميّة بكماء .!
وقلت لها مرّة :
وَسَعَى إليّ بِعَيـبِ عَزَّةَ نِســوَةٌ جَعَلَ المَلِيكُ خُدُودَهُنَّ نِعَالَهَا
ولَوَ أنَّ عَزَّةَ خاصَمَتْ شَمْسَ الضُّحَى في الحُسْنِ عنْدَ مُوَفَّق لَقَضَى لَهَا
وهجرتني مرّة هجراً غير كريم ولا جميل ، فقلت لها :
أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلّل وإن كنت قد أزمعتِ صرمي فأجملي
أغرّك منّي أنّ حبّكِ قاتلي وأنّك مهما تأمُري القلبَ يفعل
وأنّكِ قَسّمتِ الفُؤادَ : فنِصفُهُ قَتيلٌ ونِصــفٌ بالحَديــدِ مُكَبَّلِ
فإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكَ منّي خَليقَةٌ فَسُلِّي ثِيــابي منْ ثيـابِكِ تَنْسُـلِ
وما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلاّ لتَضْرِبي بِسَهْمَيكِ في أَعْشَــارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ
تَسَلَّت عماياتُ الرجال عن الصبا وليس فؤادي عن هواك بمنسلي
وكَشْحٍ لَطيفٍ كالجَديْلِ مُخَصَّرٍ وَسَاقٍ كأُنْبــوبِ السَّــقيِّ المُذَلَّلِ
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصُبح وما الإصباحُ منك بأمثل
ولكنّ ليلي كان أطول من ليل امرئ القيس ، وأظلم وأطغى .!
وسافرت مرّة سفراً طويلاً ، وأنا مصروم الحبال ، محطّم الآمال ، مشتّت النفس ، منكسر القلب ، ذاهل الفكر واللبّ ، فكتبت إليها :
كنت أتمنّى أن تكون ليلة وداعنا كما قال الشاعر ، لا كعواء الذئاب في وادي الدواسر :
باتا بأنعَمِ ليلةٍ حتّى بَدا صُبحٌ تَلوّحَ كالأغرّ الأشقرِ
فتلازما خَوفَ الفِراق صبابةً أخذَ الغَريم بفَضلِ ثوبِ المُعسِرِ
ليتَ هنداً أنجزَتنا ما تعِد وشفَت أنفسَنا ممّا تجد
واســتبـدّت مرّةً واحدةً إنّما العاجزُ مَن لا يَستبد
كتبتُ إليك من بلدي كتـابَ مُـولّه كَمدِ
كئيبٍ واكـفِ العَينين بالحسَـرات مُنفردِ
يؤرّقُـه لهيـبُ الشوق بين السَّحر والكَبدِ
فيمســكُ قلبَـه بـيـد ويمسـح عينه بيدِ
إنّ العيــون التي في طرفهــا حور قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا
يصرَعنَ ذا اللبّ حتّى لا حراكَ به وهنّ أضعفُ خلق الله إنسانا
تُغري الهوَى وتَصُدُّه لمحاتُها فتحار بين تمنّع وسماحِ
أين أنت أيّتها العزيزة المتعزّزة ، الصادّة المتلمّزة .؟! من قول بعض المحبّين وحياتهم :
وإذا مشَت تركت بصدرك ضعفَ مَا بحليّها من كثرة الوسواسِ
قالَت وقد طاب اللِقاءُ فكأسُــه قد خُولط الساقي بها والحاسي :
أكرم بهـاتيـــك العـهـــودِ فإنّما هي نشوة الذكرى ولمسة آسي
وكثيراً ما كنت أتمثّل لها بقول الشاعر :
كأنَّ عليها كلّ عقدٍ ملاحةً وحُسناً وإن أمست وأضحت بلا عقدِ
أو بقول الآخر :
ولم أر مثـلَ الـعــامريّة قبلهــا ولا بعدهـا يوم التقينــا موّدعا
شـكونا إليها قبضة الحبّ بالحشى وخشية شمل الحيّ أن يتصدّعا
فما راجعَتـنـا غير صـمت وأنّـةٍ تكاد لهـا الأحشـاء أن تتقطّعـا
لقد خفتُ أن لا تقنَع النفسُ دونها بشيءٍ من الدنيا وإن كان مَقنَعا
وأعذُلُ فيها النفسَ إذ حِيل دونها وتأبَى إليها النفسَ إلاّ تطلّعا
ومَرِضتُّ مرّة بعد أن اشتدّ عليّ بلاء الهجر وطال ، وقدّمت لها الاعتذار بعد الاعتذار ، دون جدوى تجبر الخاطر ، وتقيل العثار .. فكتبت لها أبياتاً من الشعر ، بلغت منها لأوّل مرّة مبلغ العذر :
أنا ما قَتلتُ وما جَرحتُ وما جَنيت ..
ولا سَفَكتُ دماً حَراماً أو هَتكت ..
ولم أكُن " كَديك الجنِّ " آثاماً أتَيت ( ) .
لكنّ ذنبي أنّني
يوماً هَويت ..
ووهبتُ مَن أهوَى فُؤادي
واحتَفَيت ..
فهَوَيتُ في لججِ المتاعِبِ
مُذ هويت ..
ما ذنبُ قَلبي يا حَبيبُ ؟
وما جَنيت .؟!
رَدُّ التحيّةِ مِثلُها
أدنى الحقوقِ كما عَلِمت
عذّب فُؤادي دون هَجري
إنّما الهجران مَقت ..
حَسبي شَفيعاً في الهوَى أنّي مَرِضت ..
وقلت لها مرّة ، وقد أسمعتني هجراً كثيراً ، وأنا ألوم نفسي أكثر من أن ألومَها ، وأقصد لأوّل مرّة الذمّ بما يشبه المدح :
ألا قُل لهذا القلبِ : هل أنتَ مُبصرُ وهل أنت عن سَلاّمة اليومَ مُقصِرُ
إذا أخذَت في الصوتِ كادَ جليسُها يَـطـيرُ إليهــا قـلبُـه حـين تَـنظُرُ
ألا لهفي على إخاء ناقة أصيلة كوماء ، لها مشاعر وأحاسيس مرهفة ، لا يعرفها كثير من الناس ، إنّها تعرف للشوق والحنين معنى جميلاً ، يأخذ بلبّها ، ويحرّك شجنها ، فيطير بها الشوق ، تقطع الفيافي والقفار :
أقولُ لنضو أوهَن السيرُ عظمَها فلم يبـقَ منـه غيرُ هَـشّ مجـلّدِ
خُذيني ابتلاك اللهُ بالشوقِ والهوى وشــاقَك تحنــانُ الحمامِ المغرّدِ
فولَّت سريعاً خوفَ دعوة عاشقٍ تجـوبُ بي الظلـماءَ في كلِّ فَدفَدِ
فلمّا ونَت في السير جدّدتُ دَعوتي فكانَت لها سَوطاً إلى ضَحوة الغَدِ
وقلت لها معاتباً متذلّلاً ، راجياً مؤمّلاً ، بعد هجر طويل ، طبعاً منها لا منّي ، وقد عانيتُ منه بلاءً مُبيناً ، وذلاًّ مهيناً :
خَليَلَّى هذا رَبْعُ عَزَّةَ فـاعْقِــلا قَلُوصَيْكُمَا ثمَّ ابْكيَا حَيْثُ حَلَّتِ
وما كُنْتُ أَدْرِى قَبْلَ عَزَّةَ ما البُكَا ولا مُوجِعاتِ الحُزْنِ حَتَّى تَوَلَّتِ
وكانَتْ لِقَطْعِ الحَبْلِ بَيْنَى وبَيْنَها كَنَـاذِرَةٍ نَذْراً وَفَـتْ فأَحَــلَّـتِ
فَقُلْـتُ لهـا : يا عَـزَّ كُـلُّ مُـصِيبَةٍ إِذا وُطِّنَتْ يَوْماً لها النَّفْسُ ذَلَّتِ
ولم يَلْقَ إِنْسَــانٌ منَ الحُـبِّ مَيْعَةً تَعُــمُّ ولا عَـمْيــاءَ إلاَّ تَجَــلَّـتِ
كأَني أُنادي صَخْرَةً حينَ أَعْرَضَتْ منَ الصُّمِّ لَوْ تَمْشي بها العِـسُ زَلَّتِ
صَفُوحــاً فما تَلْقَــاكَ إِلاّ بَخِيـلَةً فمَنْ مَلَّ منها ذلكَ الوَصْلَ مَلَّتِ
أَباحَتْ حِمًى لم يَرْعَهُ النَّاسُ قَبْلَها وحَلَّتْ تِلاَعاً لم تَكُنْ قَبْلُ حُـلَّتِ
أُرِيدُ الثَّــوَاءَ عِنْدَهــا وأَظُنُّهــا إِذَا ما أَطَلْنـا عنْدَهَـا المَكْثَ مَلَّتِ
يُكَلِّفُهـا الغَيْرَانُ شَتْمى ومـا بها هَوَانِى ولكـنْ للمَليك اسْتَذَلَّتِ
هَنيـئـاً مَرِيئــاً غَيْرَ داءٍ مُخـــامِر لعَزَّةَ من أَعْراضنــا ما اسْتَحَلَّتِ
فإِنْ تَكُنِ العُتْبى فأَهْلاً ومَرْحَباً وحَقَّتْ لهـا العُتْبَى لَدَيْنـا وقَلَّتِ
وإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فإِنَّ وَرَاءَنـا مَناوِيحَ لو سارَتْ بها الرِّئْمُ كَلَّتِ
أَسيئى بنا أَو أَحْسنِى لا مَلُومَةً لَدَيْنــا ولا مَـقْــليَّةٌ إِنْ تَـقَـلَّـتِ
ووالله ما قارَبْتُ إلاّ تَبَـاعَدَتْ بِصُرْمٍ ، ولا استَكْثَرْتُ إلاَّ أَقَلَّتِ
ووالله ثُمَّ الله مـا حَـلَّ قَبْلَـهـا ولا بَعْدَها مِن خُلَّةٍ حَيْـثُ حَلَّتِ
ومـا مَرَّ مِن يَوْمٍ عَلَيَّ كيَوْمـهـا وإِنْ كَثُرَتْ أَيَّـامُ أُخْـرَى وجَلَّتِ
فَوَا عَجَباً للقَـلْب كَيْفَ اعْترافُهُ وللنَّفْس لَمَّا وُطِّنَتْ كَيْفَ ذَلَّتِ ؟
وإِنَّى وتَهْيَــامِي بعَزَّةَ بَعْدَمــا تَخَــلَّيْــتُ ممّا بَيْنَنَــا وتَخَــلَّـتِ
لكــالمُرْتَجِى ظِـلَّ الغَمَامَةِ كُلَّما تَبَــوَّأَ منـهـا للمَقيل اضْمَحَلتِ
وأعدتُّ لها الأبيات ، التي كأنّها قيلت فيها مرّتين مرّتين .. ولكن هيهات ! هيهات ! لا داعي عندها ولا مجيب ، ولا حظَّ من مشاعر الحبّ ولا نصيب .! لقد كانت بوادٍ غير ذي زرع ، ومن ماشية ليس لها ضرع .! وكأنّها لا تعرف مشاعر الأنثى ، ولا تعرفها .. ولله في خلقه شئون ، ما قَدّر سبحانه كان ، وما لم يُقدِّر لا يكون ..
وقلت لها مرّة ، وكانت غضبى منّي لأمر تافه : أنا أعرف أنّ قلبك غير ما تظهرين لي ، والعوامّ يقولون : الكلام على القلب .. فلم تجبني إلاّ بنظرة عتب لاذعة ، فقلت لها كما قال الرشيد متمثّلاً :
مالي تُطاوعُني البريّةُ كلُّها وأطيعُهُنّ وهُنَّ في عِصياني .؟!
ثمّ أنشدتها هذه القصيدة :
مالي فتنت بلحظك الفتـّـــــاك وسـلوت كل مليـحة إلاّكِ
يسراك قد ملكت زمـام صبابتي ومضلّتي وهداي في يمنـاكِ
فإذا وصلت فكلّ شيء باســم وإذا هجرت فكلّ شيء باكِ
هذا دمِــي في وجنتيـك عرفتـه لا تَـستطيعُ جحـودَه عيناكِ
لو لم أخَـف حَـرَّ الهـوَى ولهيبَه لجعلتُ بين جوانحي مَثواكِ
إنّي أغار من الكئـوس فجنّبي كأسَ العصائر أن يقبّل فاكِ
لك في جمالك أو دلالك نَشـوة سَحَرَ الخليلَ بفعلِها عطفاكِ
قـالـَت خليلتُهـا لهـا لتُلينَها : ماذا جنى لمّـا هجرتِ فتـاكِ
عهـدي به لبقَ الحديث فمالَـه لا يستطيع القول حين يراكِ
إيّـاك أن تـقـضى عليـه فإنـه عرفَ الحيـاةَ بـحبّـه إيّـاكِ
لم تُـنـصتي ومشـــيتِ غيرَ مجيـبـةٍ حتّى كأنّ حديثَهـا لســواك
وبَـكــت علىّ فما رحمتِ بكـاءهـا ما كان أعطفهـا وما أقسـاك
عطفَت عليّ النـيّراتُ وســاءلت مذعورةً قمرَ السـماء أخـاك
قالت : نرى شبحاً يروح ويغتدي ويبثّ في الأكوان لوعة شاك
أنّــات مجروح يعـالـج سهمـــه وزفير مأســور بغير فكـا ك
يقضي ســواد الليل غير موسّــد عين مُسَــهّدة وقلـب باكي
حتّى إذا مـا الصبـح جرّد نـصلـه ألفيتـه جـسـماً بغير حـراك
إنّا نكـادُ أسَــىً عليه ورحمـَــــةً لشـبـابه نَهوي مِن الأفـلاك
فلم يحرّك هذا العبث كلّه منها كامناً ولا ساكناً ..
وأرسلتُ لها رسالة وأنا في بعض أسفاري بهذه الأبيات :
يا أختَ سَعدٍ مِن حبيبي جئتني برســـــالةٍ أدّيتِـهـا بتـلطّف
فقرأتُ ما لم تَقرئي ، وشهدتُ ما لم تَشهدي ، وعرفتُ ما لم تعرفي
يـا دار عـاتكة التي أتَـعزّلُ حذَرَ العدا وبها الفؤادُ مُوكّلُ
إنّي لأمنحُكِ الصدودَ وإنّني قسماً إليك مع الصدود لأميلُ
فكان جوابها عند اللقاء سيلاً من الكلام القاسي ، والاتّهام بلا احترام .. فقلت لها : ( .. ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) يوسف .
وبلائي يا قوم بالحبّ والشعر مع هذه الإنسانة ذو شئون وشجون .. وأحمد الله تعالى أن جعل العاقبة معها خيراً ، وجمّلني بالحلم ، فلم أسئ بطلاقها لوالد أو عمّ ..
* ـ قال مدير الجلسة : لقد أمتعتنا يا أبا مساعد ! بحديثك الأدبي الجميل ، فطوبى لقرينتيك بهذه الروح الشاعريّة العذبة ..
خَبر أبي دَردَرة
وليتقدّم إلى المنصّة الآن أبو دردرة .. فظهرت على شاشة ضوئيّة أمام الحاضرين الأسطر التالية :
" أبو دردرة " بطاقة شخصيّة :
" أبو دردرة " اسمه : " حَسن حِكمَت " ، رجل أعمال في منتصف العقد الرابع من العمر ، متخصّص في الإدارة ، مثقّف ثقافة عامّة ، غنيُّ التجارِب في الحياة ، فيه رقّة ونعومة ، بقدر ما فيه من شدّة وصعوبة مراس ، متواضعٌ عذبُ الحديث ، سمحٌ كريمُ النفس ، مستقيمٌ في معاملاته ، ليّنٌ مع مَن يستقيمُ معه ، مُرهَفُ الإحساس ، دقيقُ الملاحظة ، يحمِلُ عزيمةَ التغييرِ والتحدّي للأعراف الفاسدة ، والعادات المنحرفة ، دون ضجّة أو إثارة .
من يرى انهماكه في أعماله التجاريّة ، ومصالحه المتنوّعة يظنّ به التفريط في مسئُوليّاته الأسريّة ، ومن يرى اهتمامه بأولاده وشئونه الأسريّة يظنّه بعيداً عن أيّ عمل تجاريّ أو دنيويّ .
ومسئوليّاته الأسريّة لا تقاس بها مسئوليّة أحد .. إنّه مسئول عن ستّة وعشرين ولداً من أولاده ، وأحد عشر ولداً ، من أولاد بعض زوجاته من غيره ، عدا عن مسئُوليّته عن أربع زوجات ، وما يتّصل بهنّ من حقوق المصاهرة ، وتبعاتها المادّيّة والأدبيّة .. وهو ذو علاقات اجتماعيّة وإنسانيّة واسعة ، تتجاوز أهله ووطنه ، يغذّيها الإحسان ، ويوثّقها حبّ الإنسان حيث كان ..
واشرأبّت الأعناق ، واستعدّ الناس لِحديثٍ طالَ انتظاره ، وتنحنح بعض الحَاضرين .. وجاهر بعضهم بشيءٍ من الهمس .. ولا يدري الكاتب : ما الذي أطار الذكر لهذا الرجل بهذه الصورَة .؟! فلنترك ثنايا حديثه تكشف لنا عن سرّ ذلك .. فتقدّم أبو دردرة إلى المنصّة ..
أيّها السادة ! تحيّة مباركة طيّبة ، وبعد ؛ فمن أين جاءتني هذه التسمية ؟ إنّ الكنية التي أحبّها ، وأتمنّى أن أدعى بها هي " أبو عاصم " لأنّها تذكّرني بوالدي وولدي .. وأمّا كنية أبي دردرة فقد غلبَت عليّ منذ صغري ، ولها قصّة طريفة ، فقدْ كنت مُولَعاً بجدّي منذ ما وعيت الدنيا ، كما كان مولعاً بي ، لما كنت أرى منه من ملاعبة وملاطفة ، وحبّ ورفق ، وكان ذا رُوْح عذبة فكِهة ، وجاهٍ في الناس عريض ، يرتاد مجلسَه كلّ مساء عليةُ القوم من الوجهاء والتجّار وأعيان الناس ، فإذا كان منصرفاً إلى حديثه معهم ، لا يحسّ بأحد يأتيه ، فأقف أمامه طويلاً أنتظر منه ما يخصّني به من حبّ وتقبيل ، ومدح وثناء .. فلا يلتفت إليّ .. فعدت مرّة إلى أمّي وأنا في غاية الغضب ، وكأنّها أحسّت بما يعتمل في نفسي فقالت لي : مالك يا حبيبي حسن ؟! فانفجرت بالبكاء ! فظنّت أنّ جدّي قد زجرني عن شيء أو ضربني .. وليس من عادته ذلك بحالٍ من الأحوال .. فقالت لي : هل ضربك جدّي .! فقلت لها وأنَا أبكي : لا .. فقالت : وماذا قال لك .؟ فقلت وأنا أبكي : دردرة ! دردرة ! فاستغربت ! وأخذت تردّد هذه الكلمة متعجّبة ، ثمّ سألت جدّي . وبعد التفكير العميق اهتدوا إلى أنّني أنقل بتحوير ما اعتاد جدّي على تكراره في حديثه ، عندما يتعجّب من موقف أيّ إنسان فهو يكرّر قوله : لله درّه ! لله درّه ! فنحتّ منها على صغرِ سنّي هذه الكلمة ، فسمّيت بها : أبا دردرة ! ولنعد إلى ما نحن بصدده من حديث النساء ، وما أعذبه ؟! وأشجاه وأطربه .!
أيّها الكرام .! عمّن تريدون أن أحدّثكم عن نسائي .؟! وهنّ لسن واحدة ولا اثنتين ، ولا ثلاثاً ولا أربعاً .. ولكلّ واحدة منهنّ قصّة ..
وأبدأ حديثي بحديث عامّ لا يخلو من فائدة : كانت سيرتي مع كلّ من تزوّجت أنّني أصارحها أنّ لها منّي عُشرَ عقلي ، وأقلّ من ربع قلبي ، ولها أن تطلب منّي ما دون عُشرِ العُشرِ من مالي .. ولا أسألها ما تريد أن تفعل به .. ولها أخوات يقال عنهنّ ضرائر ، يجب عليها أن تعيش معهنّ ، وتعايشهنّ على أحسن خلق ومعاملة ، وليس لها أن تبحث عن أيّ شيء من شئون ضرّاتها ، أو تدخل مع واحدة منهنّ في خلاف وشجار .. ولن يكون حظّها منّي عندئذٍ إلاّ التأديب والزجر ، أو الإهمال والهجر .. ويلخّص حالي قولُ الشاعر :
وللحلم أوقاتٌ وللجهلِ مثلُها ولكـنّ أوقـاتي إلى الحلم أقربُ
يصولُ عليّ الجـاهلـون وأعتَـلي ويُـعجِـمُ فيّ القـائلون وأعـربُ
يرون احتمالي غصّةً ويزيدُهم لواعجَ ضغن أنّني لستُ أغضبُ
وأنا لا أعرف في حياتي شيئاً اسمه الطلاق ، أكرهه أشدّ الكره ، ولا أحبّه ، ولا ألجأ إليه .. إلاّ أن يكون بطلب من إحداهنّ وإلحاحها .. وحتّى اليوم لم تطلب واحدة منهنّ الطلاق .. إلاّ ما كان من أمّ عمرو .! التي لا أنساها مدى الدهر ، ولا تزال قصّتها غصّة في حياتي ولغزاً ..
ولم يخطر في بال واحدة منهنّ أن تسألني وقت الخطوبة عن تفسير هذه النسب : الربع ، والعشر ، وعشر العشر ، إلاّ واحدة ، كانت أذكاهنّ عقلاً ، وأحضرهنّ قلباً .. فوعدتها أن أفسّر لها ذلك بعد الدخول ..
وكثيراً ما سُئلت أيّها السادة ! ولا أزال أسأل : كيف استطعت الجمع بين هذا العدد من الضرائر ، وكيف أعالج ما يقع بينهنّ من مشكلات .؟ وربّما نظر لي بعضهم نظرة إشفاق .. وهو أولى منّي بذلك .. والجوابُ ما قدّمته آنفاً ، وما عبّر عنه أحد الشعراء قديماً ، وكأنّه يتكلّم عن حالي إذ يقول :
وكنتُ إذا ما جئتُ أجللنَ مجلسِي وأبدينَ منّي هيبةً لا تجهّما
يُحاذرنَ منّي غَيرةً قد علمنَهـا قديماً فما يَضحكنَ إلاّ تَبسّما
تَراهُنّ إلاّ أن يؤدّين نظرة بمؤخر عينٍ أو يقلّبن معصما
كواظمَ لا ينطقنَ إلاّ مَحُورَة رَجيعةَ قولٍ بعد أن تُتفهّما
وكنّ إذا ما قلنَ شيئاً يَسرُّه أسرّ الرضا في نفسه وتحرّما ( )
وإذا اجتمعن عند إحداهنّ في بعض المناسبات فكأنّهنّ أخوات ، ولسن بضرائر ، فما أشبههنّ بقول الشاعر :
ينطقنَ مَعـروفـاً وهُـنّ نـواعِمٌ بيضُ الوجُـوهِ رقيـقةُ الأكبـادِ
ينطقنَ مخفوضَ الحديث تهامُساً فبلغنَ ما حاولنَ دُونَ تنادي
ولستُ بحمد الله في شيء من قولِ ذلك العربيّ الذي كان يجمع الضرائر ، فسئل : كيف تقدر على جمعهنّ .؟ فقال : " كان لنا شباب يصابرهنّ علينا ، ثمّ كان لنا مال يصبّرهنّ لنا ، ثمّ بقي لنا خلق حسن ، فنحن نتعاشر به ونتعايش " .
إنّني أسوس نسائي بقانون صارم ، جزؤه مكتوب ، وجزؤه معروف غير مكتوب ، ولكنّه عادل منصف ، وقد أقرّت به ، وقّعت عليه كلّ واحدة منهنّ ، بعد أن فهمت نصوصه ، وعرفت حقوقها وحدودها ، فليس لها أن تخرج عنه أو تتجاوزه .. وإلاّ فإنّها تتحمّل مسئوليّة قولها ، أو فعلها .. وقطع حديثه صوت من آخر القاعة : حدّثنا عن قانونك هذا .؟ فقال :
لا يتّسع مجلسكم لذلك .. ويسع أيّ واحد من الرجال أن يأخذ خبره عن النساء ، فليس خبره بسرّ .. ثمّ تابع حديثه : وكم أنا معجب بقول أمير الشعراء ، أتأسّى به ، وأراه يناسب حالي :
أتغلبني ذاتُ الدلالِ على صَبري إذن أنا أولى بِالقِناعِ وَبِالخِدرِ
تَتيهُ ولي حِلمٌ إذا مَا رَكبتُهُ رَدَدتُ بهِ أمرَ الغَرامِ إلى أمري
ومَا دَفعيَ اللوّامَ فيها سَآمةً وَلكِنَّ نَفسُ الحرِّ أزجَرُ للحُرِّ
إنّ الضرائر في بيتي يتنافسن في استرضائي ، ويتنافسن في التجمّل لي بما أحبّ ، والبعد عمّا أكره .. ولا أنصح رجلاً أن يجمع بين الضرائر إلاّ إذا كان قادراً على مثل ذلك ..
أيّها السادة ! يخطئ كثير من الرجال والنساء عندما يظنّون أنّ العلاقة الحميمة بين الزوجين هي كلّ ما يطلبه الرجل من المرأة .. وكلّ ما تطلبه المرأة من الرجل .. إنّ العلاقة بين الزوجين أيّها السادة ! أسمى من ذلك وأرفع وأكرم .. إنّها علاقة روحيّة نفسيّة قبل أيّ شيء .. ألم يقل النبيّ  : ( انْظُرْ إِلَيْهَا ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ) ( ) .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ  عَنْ النَّبِيِّ  أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ( مَا اسْتَفَادَ المُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللهِ خَيْراً لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ : إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ ) ( ) .
إنّ أسوأ إسفافٍ بالحياة الإنسانيّة الكريمَةِ أيّها السادَة ! ألاّ ينظر إليها إلاّ بمنظار العلاقة الجنسيّة ، على الطريقة الحيوانيّة البحتة ، تقوى بقوّتها ، وتضعف بضعفها ، وأن يختزل الوجود الإنسانيّ في هذه الحياة بالوجود الحيوانيّ .. الذي لا يعرف إلاّ المأكل والمشرب والمنكح ..
وإنّ كلّ من يرفض قولي منَ الرجال أو النساء أستطيع أن أقول : إنّهم لم يزالوا في مرحلة المُرَاهَقة الزوجيّة ، ولو بلغوا النضج النفسيّ لصدّقوا كلامي ، وشهدوا به ..
وما أكثر ما يقرن المتحدّثون عن الحياة الزوجيّة السعادة بها ، ويرون السعادة أهمّ مُنتَج للحياة الزوجيّة المطلوبة .. وهذا موقف حقّ .. ولكن يقلّ حديثهم عن المُنتِج للسعادة الزوجيّة .. وينبغي أن يسبق الحديثُ عن المُنتِج الحديثَ عن المُنتَج ، لأنّه مقدّمته وسببه .. والمُنتِج للسعادة الزوجيّة كلمتان في كتاب الله تعالى إنّهما : ( المودّة والرحمة ) .. والمودّة والرحمة بحدّ ذاتهما مُنتَج عن معادلتين يجب أن تتوفّرا في كلا الزوجين ، ليسعد كلّ منهما بحياته مع صاحبه ، ويمكن ترتيبهما بالصورة التالية :
الرجل : الدين + العقل والحكمة + الخلق والمروءة = المودّة والرحمة .
المرأة : الدين + العاطفة المنضبطة + البرّ والطاعة = المودّة والرحمة .
ومن هاتين المعادلتين ندرك لماذا أكّد النبيّ  على صفة الدين في كلا الزوجين ، وأفرد الرجل بزيادة صفة الخلق ، وهو مُنتَج العقل والحكمة ، لأنّ الرجل يتحمّل مسئوليّة القوامة ، فكانت مسئوليّته أكبر ، والصفات المطلوبة فيه مضاعفة ..
ثمّ إنّ قصّتي أيّها السادة ! مع سيّداتي النساء دليل عمليّ على أنّ تعدّد الزوجات حقّ ، وأنّه خير للمرأة والمجتمع .. وإلاّ فلماذا رضيت هذه الزوجات وغيرهنّ عند الأزواج المعدّدين بالجمع بينهنّ ، عند زوج واحد ، ولم يؤثرن العُنُوسة على ذلك .؟!
ولماذا قَصَر الله تعالى التعدّد على أربع ، ولم يجعله خمساً أو وتراً ثلاثاً .؟ إنّي لألمح في جواز تعدّد الزوجات ، وجمع الرجل بين أربع نساء كحدّ أقصى سرّاً يتعلّق بالرجل والمرأة على حدّ سواء ، وعلاقةً أشبه بالعلاقة الرياضيّة ، التي تحتاج من يكشف عنها ، ويثبتها كنظريّة علميّة ، لا يستطيع أن يماري بها أحد ، ولم أكن في يوم من الأيّام ماهراً بها ؛
ففي كلّ أربعة إخوة من الرجال واحد معدّد ، أو راغب في التعدّد ، أو تدعوه ظروفه الخاصّة إلى التعدّد ، وإن لم يفعل ذلك ، أو تعوّذ بالله من هذا الفعل ، وتبرّأ منه في ظاهر الأمر .. وقد رأيت ذلك بالاستقراء الناقص ..
وفي كلّ أربع نسوة امرأة جديرة أن يجمعَ معها زوجها مثيلتها ، واحدة أو أكثر ، دون ظلم لها أو انتقاص لحقّها ، نظراً لسوء خلقها ، وفساد عشرتها مع زوجها ، أو ضعفها عن أداء حقّه ، أو لأمور تعذر بها ، لا يد لها فيها ، من مرض أو غيره ، فخير لها أن يجمع بينها وبين جارة لها ، ولا ينتقصها شيئاً من حقّها ، من أن يكسر قلبها بطلاقها ..
ولماذا يبحث بعض الرجال عن زوجة ثانية ، ويلحّون على ذلك .؟! إنّهم ولاشكّ يشعرون بحاجة حقيقيّة للزواج ، أما فكّر النساء بهذا السؤال .؟ وإذا فكّرن فيه جاء تفكيرهنّ بطريقة معكوسة ، لا تجديهنّ نفعاً ، لأنّها تقوم على التظلّم والتشكّي ، واتّهام الرجل بكلّ نقيصة ، وأنا لا أذهَب في هذا الكلام مذهب الدفاع عن الرجال ، أو التبرير لهم ، والتماس الأعذار ، وإنّما أدرس الأمر بصورة موضوعيّة ، وعلى وجه العموم ، بعيداً عن أيّ تحيّز ، فأقول باختصار : إنّ المرأة إذا حقّقت للرجل السكن النفسيّ على أحسن وجه ، وملكت أنوثتُها عليه أقطار قلبه لم يتطلّع إلى الزوجة الثانية ، ولم يفكّر فيها ، ومَثلُه في ذلك كمثل الآكل الشبعان الممتلئ ، لا يفكّر في الطعام ولا يتشهّاه ، ولو قدّم له لاعتذرَ عنه .. وعلى عكس ذلك عندما يكون الرجل متزوّجاً وكأنّه مُعَلّق ، مضطرب الحياة قلق ، هو أشبه بالعزَب ، بل العزَب أنعم منه عيشاً ، وخير منه حالاً ، وأهدأ بالاً ، لأنّ حاله كما قال الشاعر :
كالعِيسِ في البيداءِ يَقتُلُها الظما والماءُ فوقَ ظُهورِها محمُولُ
أفما كان حال هذا أولى بشفقة المشفقين ، من لومهم وتثريبهم .؟!
إنّ الزواج الثاني أيّها السادة حلّ لكثير من المشكلات النفسيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ، للرجال والنساء على حدّ سواء .. ومن يرفض ذلك لا يرفضه إلاّ بدافع عقدة مرّ بها ، أو سمع بها ، أو لخلل في فهمه ، أو شكّ في دينه .. أو لأنّه يهون في نفسه أن يسلك الرجل مسالك الفجورِ من أن يقال : إنّه تزوّج زوجة ثانية .. وأنا أربأ بكلّ مسلم ومسلمة عن ذلك ..
والمرأة التي ترفض أن تكون زوجة ثانية ، لا بديل لها عن الزواج إلاّ العنوسة وأدواؤها ، أو الفجور وفساده .. وكلّ ذلك خروج عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها .. وقد استسهلت أكثر المجتمعات سبيل الفجور ، ورخّصت به ، ومع ذلك فقد وقعت أيضاً في شَرَك العنوسة ، ولا مخرج لها منها إلاّ بإخراج المرأة عن أنانيّتها الواهمة ، وحبّ ذاتها المفرط ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بالتربية الإسلاميّة القويمة لكلا الجنسين .. وهو ما أصبح أندر من النادر في مجتمعاتنا وللأسف ..
وإنّ على الزوج المؤمن الغيور أن يعالج زوجته من الحساسية المفرطة من الزوجة الثانية ، والتأثّر بحملات المبطلين وافتراءاتهم ، التي قد تصل بها إلى الاعتراض على دين الله تعالى ، أو ارتكاب الحرام ، فعليه أن يقنع زوجته بمشروعيّة تعدّد الزوجات ، وأنّ ذلك من المصالح الاجتماعيّة العليا للأمّة ؛ صوناً لأخلاقها ، وتوثيقاً لروابطها ، وحلاًّ لمشكلاتها ، وحفظاً لرجالها ونسائها من مقاربة الحرام أو غشيانه ..
وإنّ الرجل إن لم يجد بغيته عند المرأة بحث عن سواها ، فالزوجة الثانية فطرة في الرجل ، ومن لم يبحث ، فلعجز أو ضيق ذات يد .. وهو ليس بحجّة على من تطلّع وبحث ، وطلب واجتهد ، وباح وصرّح .. وليس للمرأة إلاّ أن تجد بغيتها في زوجها ، وتلك فطرة الله .. فإن لم تجدها .. فلتوجِدها بفنّها وفتنتها ، وما يشهد لها الدين والواقع من عظيم كيدها .!
إنّ إباحة تعدّد الزوجات أيّها السادة هي من وجهة نظر نفسيّة برمجة للحبّ ، ليسير في طريقه الشريف النظيف ، بعيداً عن الإثم والفجور .. فالحبّ بين الذكر والأنثى خارج إطار الشريعة وضوابطها يعني : " الخيانة " في أبشع صورها وأقذرها ، وأسوأ آثارها ونتائجها .. والإسلام لا يعترف بما يسمّى تلطّفاً : " الحبّ العذريّ " وهو في حقيقته حبّ جنسيّ بصريح العبارة ، وليكون مقبولاً شرعاً لابدّ فيه من الخطوبة والزواج ..
ثمّ أتدرون أيّها السادة ما البديل عن تعدّد الزوجات المشروع .؟ إنّه ليس بديلاً واحداً ، بل بدائل بعضها أقبح من بعض .. إنّ البديل عن تعدّد الزوجات انتشار العنوسة ، وكثرة المطلقات الأرامل ، وانتشار الزنى واللواط ، وكثرة اللقطاء ، وشيوع الاغتصاب ، والاعتداء على القاصرات من أقرب الناسِ إليهم .. وانظروا هذه المآسي المتفاقمة يوماً بعد يوم ، على صفحات الجرائد ، وبحوث الباحثين ، وشكوى العقلاء الغيورين ..
ثمّ بعد كلّ هذا الظلمِ للمرأة ، والإفسادِ في الأرض يعمى أصحاب الأهواء عن الحقّ ، وتضيق صدورهم عن الحلال في تعدّد الزوجات ، فيذهبون مذاهب شتّى في محاربته ، وتضييق سبله ، ولا تقشعرّ أبدانهم عن ارتكاب المآثم والحرام .. بل يفتحون سبلها وأبوابها من كلّ جانب .. ولا عجب فتلك سيرة المفسدين في الأرض في كلّ جيل وعصر ..
ولقد حدّثني أبي عن جدّي ، وقد جمع بين أربع نسوة ، وكان سعيداً في حياته غاية السعادة ، أنّه كان يقول : " من لم يعدّد لم يدخل الحياة .. ولا تكتمل رجولة الرجل وسعادته إلاّ أن يتزوّج أكثر من واحدة ، ودليلي على ما أقول حالُ أهل الجنّة " . إلاّ أنّ والدي لم يزد عن واحدة أدباً مع أمّه رحمهما الله ، وامتثالاً لرغبتها .. ولقد تأسّيت بجدّي في التعدّد ، وتأسّيت بوالدي في إدارة المال ، والسداد في العمل التجاريّ ..
وأنا أقول تحدّثاً بنعمة الله تعالى عليّ : إنّ قصدي ودافعي الأوّل إلى الزواج لم يكن في كلّ حالة يقتصر على دافع الجنس والجسد .. فأنا أجد والحمد لله في أمّ عاصم ، وهي الزوجة الأولى العفّة والسكينة ، والحصانة والكفاية .. ولكنّني أسعى بحمد الله إلى تحقيق المقاصد العليا من تشريع تعدّد الزوجات ، والإكثار من النسل الصالح .. ولا يهمّني بعد ذلك صدّق الناسُ قولي أم لم يصدّقوا ..
* ولنبدأ بالتعريف المجمل بهنّ :
1) أمّ الوفاء : أمّ الوفاء ! وما أمّ الوفاء ! طابَ العيش معها ، وكان الهناء ، وسعد دهري بها ، إلى ما قدّر الله وشاء ، وكانت كسحابة صيف عابرة .. ثمّ كانت بفقْدِها الداهية الواقعة ، والمصيبة الفاجعة ، بعدما أغاثت بعض الغواث ثمّ زالت ، كمثل سحابة الصيف ، فيها الغيث والصعق ، والرعد والبرق ، فجلّ بفقدها الخطب ، وطمّ الغمّ والكرب ، إلى أنْ كشف الله البلاء بأمّ عاصم .. ولي منها بنت .
2) أمّ عاصم : أمّ عاصم ! وما أمّ عاصم ! أمّ المكارم والمغانم .! بارك الله بأبيها وأهلها ، كانت لي كالماء البارد على شدّة الظمأ ، أنس محنتي ، ودواء علّتي .. حريصة على المكارم ، تسالم ولا تخاصم ، عروس حالمة ، وفتنة حلال دائمة ، حديثها طاقة أزهار ، وبيتها روضةٌ معطار ، وأطفالها كالملائكة الأطهار ، ما عرفتُ فيها ما يَنقُص ، وما رأيْتُ منها ما يُنغّص .. تزيد مع الأيّام بهجةً وجمالاً ، وتسمو على الحدثان رفعة وكمالاً .. ولي منها خمسة أولاد ، كرام بررة ..
3) أمّ المحاسن : أمّ المحاسن ! وما أمّ المحاسن ! أنس وودّ ، ورحمة ومجد ، ومحاسن لا تعدّ ولا تحدّ .. ساعية في البرّ ، مولعة بحبّ الخير ، لا يقرّ لها قرار ، ولا يهدأ لها بال إلاّ أن ترى بهجة الأرامل ، وبسمة الأطفال .. قضى الله بحكمته ورحمته أن يختارها إلى جواره ، وهي تسعى في عمل الخير مجتهدة ، فأحسبها عنده شهيدة سعيدة ، وأسأل الله أن يجمعَني بها على أحسن حال .. ولي منها أربعة أولاد ..
4) أمّ عمرو : أمّ عمرو ! وما أمّ عمرو ! ذكرها يملأ قلبي حسرةً ، ويجدّد أحزاني عشيّة وبكرة ، ورؤية أولادها تجلبُ الهمّ والغمّ .. لا أزال في دهشة من أمرها ، وأظنّ أنّي في حلمٍ من شأنها ، كانت الحياة معها حلماً ، وكان فراقها كابوساً ملمّاً ، وخطباً مدلهمّاً .. ليتَ عاقبتَها كانت كأمّ المحاسن ، لكنتُ نعمتُ بالاً بفقدها ، واحتسبت عند الله أجرها .. ولعلّها تعود يوماً إلى رشدها ، وتحنّ إلى أولادها .. فلي منها خمسة أولاد .. وإلاّ فحسبي فيها قول الشاعر : لقد ذهب الحمار بأمّ عمرو فلا عادت ولا عاد الحمار
5) أمّ العطاء أم أمّ لدد : أمّ لدد ! وما أمّ لدد ! بلاء ونكد ، ووجعة كبد ، لا أطمع منها بوصل ولا ولد ، ولا أتركها عندي إلاّ تتمّة العدد ، لا تسكت فتريح ، ولا تموت فترتاح ، سمّيتها أمّ العطاء ، تيمّناً بها أن يغدقَ الله عليّ بقدومها العطاء ، فأكرمني الله منها بأربعة من الولد .. وأبت عليّ وعلى نفسها إلاّ أن تنادى بأمّ لدد .. ولي منها أربعة أولاد ..
6) أمّ كمال : أمّ كمال ! وما أمّ كمال ! رضيّة الحال ، هنيّة البال ، حَسَنة الاستقبال نِعمّا ما أنجبت من الفتيات والرجال ، وورّثَت من كمال ، وَدُود وَلود ، حظيّة أملود ( ) ، طيّبة الحديثِ كعَرف العُود ، لا تعرف إلاّ الكرم والجود ، لم أعرف منها نُكراً ، ولم تعص لي أمراً .. قد زادها عندي تكرمةً وحظوة كثرةُ ما أنجبَت لي من الولد ، وحسنُ رعايتها لأولادها ، وأنّها لا تدعو على أحد .. ولي منها سبعة أولاد ..
7) أمّ الرجاء : أمّ الرجاء ! وما أمّ الرجاء ! المؤمنة القانتة ، العابدة الزاهدة ، الذاكرة الخاشعة ، لها سبعة أولاد من غيري ، وليس لي منها أيّ ولد .. أكبر منّي سنّاً ، وأظهرُ فَضْلاً ، وأجلّ منزلة وقدراً ، ما تزوّجتها رغبة في الوصل أو الولد ، وإنّما إيثاراً للآخرة على حظّ العاجلة ، ورغبة في رعاية الذمام ، وكفالة الأرامل والأيتام ، لا حقّ لي عليها إلاّ أن تدعو لي صباح مساء ، أخاف إن أغضبتها أن يغضب عليّ الله .. وكلّ زوجاتي لا يشعرن أنّها ضرّة منافسة ، يعرفن فضلها فلا تغار منها واحدة ، ويعرفن مكانتها عندي فيحرصن على مرضاتها ، ركنها منيع ، وقد عمّ فضلها الجميع ، كريمة الصفات ، وموجّهة البنين والبنات ..
وقطع حديثه مرّة أخرى صوت من آخر القاعة : أتجمع بين أكثر من أربع نساء .! في أيّ شريعة تفعل ذلك .؟! حرام عليك يا رجل .!
وهل فهمت من كلامي أنّي أجمع بين أكثر من أربع نساء .! آسفُ لعجلتك وسوء فهمك أيّها الرجل .! ويبدو أنّك محام قدير عن حقوق المرأة المزعومة .!
* ولنعد أيّها السادة ! إلى قصّتهنّ وحديثهنّ واحدة واحدة ..
بعد أن ناهزت الحلم عزَمَ والداي على تزويجي ، وعرضا عليّ الأمر فلم أمانع ، ولكنّي قلتُ في نفسي : ما داموا يريدون تزويجك فأنت إذن رجل ، فليكن لك رأيك المحترم .. فقلت لوالديّ :
أريد زوجة من غير بيئتي ، يكون غناي عليها نعمة ، ويدي إليها مبسوطة بالمنّة ، تراني كلّ شيء في حياتها ، ولا ترى حياتها تصلح بشيء دون زوجها ، فقال والدي : أنت واهم تحلم .. لقد قال الأوّلون : " من أخذ من غير ملّته وبيئته مات بأزماته وعلّته .. " ، وأصرّ عليّ والدي أن أوافق على الخطوبة ممّا يناسب بيئتنا ومكانتنا الاجتماعيّة .. فوافقت بعد أخذ وردّ ، وعلى مضض ..
وكانت زوجتي الأولى من بيئة غنى وجاه ، والدها صديق لوالدي قديم ، وأمّها تعرفها أمّي في مناسبات الأفراح وغيرها ، وتعرّفتُ عليها ، كانت في الحقّ فتاة بارعة الجمال ، كأنّها فلقة قمر ، أو طلعة الشمس من بين السحاب الأغبر .. عرِبة عروب ( ) ، وضيئة مقصورة ( ) ، عفيفة طاهرة ( ) ، حَصَان رَزان ( ) ، خَفِرة آنسة ( ) ، وتمّ زواجنا بأسرع ما يكون ، وسمّيتُ زوجتي أمَّ الوفاء لتدومَ العشرةُ بيننا بالمعروف ، وتقوم حياتنا على الوفاء .. وكنتُ لا أعرف قليلاً ولا كثيراً من خفايا الزواج وأسراره ، ولا بلاياه وأوزاره ، فأنا أقربُ إلى عهدِ الطفولة الساذجة ، منّي إلى نضج الرجولة .. ولكنّ الحقّ يقال : لقد نضجتُ في أشهر بعد الزواج ، ما لا ينضجه غيري في بضع سنين ..
ولم تمض على زواجنا أشهر قليلة حتّى تبدّت أخلاقُها غيرَ ما ظننت .. فلم تعُد يُعجبها في حياتنا العجَب ، وليس يغريها المال والذهب .. وكان المالُ بين أيديها بغير حساب ، وكأنّه الدقيقُ أو التراب .. وأخذت تُدلّ بنفسها وتتمنّع ، وتتكبّر عليّ وتترفّع ، وأنا لستُ أدنى منها منزلة ، أو أقلّ مالاً ، فصبرتُ عليها تَكرِمةً لوالديّ ووالديها .. ولكنّها كانت تتمادى يوماً بعدَ يوم ، حتّى لم يبق منّي في القوس مَنزَع .. فصارحتُ أمّي بما بيننا ، وأنّني لم أعد أصبرُ على العيش معها .. وأفكّر جدّيّاً في طلاقها ، فنهتني أمّي عن ذلك بشدّة ، وقالت لي : وهل تظنُّ الحياةَ الزوجيّةَ تمرّ دائماً بالسمن والعسل ، وبهجة المقل .. إنّ فيها الحلوَ والمرّ .. وفيها المرّ والأمرّ .. ولابدّ لك من سعة الصدر والصبر ، وما يدريك لعلّك تبتلى بغيرها فتكون الأخرى أسوأ عليك من الأولى ..
وبعد مدّة قليلة حملت زوجتي ، فتبدّلت كلّ خلائقها معي .. لقد أصبحت كالشاة الوديعة ، سميعة مطيعة ، هيّنة ليّنة ، أليفة لطيفة ، تحرص على رغباتي حرصاً أكاد لا أصدّقه ، وتسعى في مرضاتي في كبير الأمور وصغيرها .. وكلّما تقدّم بها الحمل ازدادت ودّاً وإحساناً ، وديناً وتقى ، فتعلّق قلبي بها أيّما تعلّق .. وأصبحت أنافسها في الإحسان والبرّ .. إلى أن حان موعد وضعها ، وقد كنّا ننتظره بفارغ الصبر .. وحجزت لها في أرقى المستشفيات .. ولازمتها قبل يومين من ولادتها ، أفتنّ بإخلاص في دلالها وخدمتها ، ولم تكن بحاجة إلى شيء من خدمتي ، فبين يديها أكثر من خادمة وممرّضة .. ولكنّه الحبّ والبرّ ، والحرص على الأجر .. وحانت ساعة الولادة ، فكنت خارج الغرفة على أحرّ من الجمر ، أذرع الممرّ جيئة وإياباً .. أنتظر البشرى بالمولود الأوّل ، الذي سيغيّر حياتنا بما لا نتصوّر .. وأنا لا أتصوّر ما ينتابني من مشاعر متسارعة .. كانت الممرّضات في حركة دائبة .. يخرجن ويدخلن ، ويبدين من الاهتمام ما ظننت أنّه طبيعيّ ، أو أنّه بدافع إرضائي لأكرمهنّ ببعض المال .. وأنا منذ أوّل الأمر لم أنسهنّ ..
وسمعتُ صوت زوجتي تصرُخُ وتستغيثُ أكثر من مرّة ، فهممتُ أن أدخل فلم يسمحوا لي ، وليتني أرغمتهنّ على الدخول ، وبعد ساعة أو أكثر خرجَت كبيرةُ المُمرّضات ، وأغلقَت البابَ وراءَها ، ووقفَت أمامه .. وعلى وجهها كآبةٌ ظاهرة .. فتجاهلتُ مَنظرَها ، وقلتُ لها : هاه ! بشّري .!
لقد وضعَت زوجتُك بُنيّة .. ولكنّ الأمّ .. حالتُها حرِجة ..
فقلتُ لها وأنا لا أصدّق ما أسمع : وماذا .؟!
ـ قد تحتاج إلى دم ..
ـ ودخلت إليّ الريبة ، فقلت لها : دعيني أدخل أراها .!
ـ عفواً النظام لا يسمح .! فلم أتمالك نفسي .. فأبعدتُها بقوّة ، ودخلت .. ورأيتُ ما لا أصدّق .. زوجتي مُسجّاةٌ بغطاء أبيض .. والغرفةُ فارغة ، ليس فيها أحد .. وشبحُ الموت يخيّمُ على المكان .. لقد انتهَى كلّ شيء .. وكشفت عن وجهها لأتأكّد .. فإذا هي جُثّة هامدة ..
كنتُ أتمنّى أن تكونَ أمّي بجواري .. أو أمّها .. أو أيّ واحد من الناس .. لقدْ تلقّيتُ أوّلَ صدمة عنيفةٍ في حياتي ، وأنا غِرّ وحدي .. لم أكن قد خبرت أيّ مصيبة من قبل .. ولأوّل مرّة في حياتي أرى وجه الموت ، يطلّ عليّ مِن وجه مَن أحببت .. وأكببتُ على وجهها أقبّله .. ولم أعد أشعُرُ بشيء مِن حولي إلاّ بعدَ يوم أو أكثر ، وأنا مُسجّى في فراشي ..
فليتَ البـاكيــاتِ بـكـلّ أرض جُمعنَ لنا فنُحنَ على فُتُونِ
لقـد غــادرتِني جـمّ الرزايـا وهل يجدي الجوى ماء العيونِ
أستَودِعُ اللهَ في فِردوسِهِ قَمراً بحسرةٍ منه في قَلبي تُقَطّعُه
ودّعتُه وَبِوُدّي لَو يُودّعُني صَفوُ الحياةِ وَأنّي لا أُوَدّعُه
مَا كنتُ أحسبُ أنّ الدهرَ يَفجَعُني بهِ ولا أنّ بي الأيّامُ تَفجعُه
وأنتِ يا وردةً مِن روضِه بقيَت تَزيدُني حَسرَةً وَالقَلبَ تَقطَعُه
لهفِي عَليكِ ومَا لهفِي بنَافعةٍ يَصُونُكِ اللهُ مِن سُوآى وَيمنَعُه
يا زهرة لو أمهِلت مَلأت نوافحُها الرحاب
ما زينةُ الدنيا إذا جـ ـفّ الصبا وخبا الشهاب
لم يبقَ مِن ماءِ الشباب وقد جرى إلاّ السراب
بِنتُم وبنّا فما ابتلّت جوانِحُنا شوقاً إليكم ومـا جفّت مآقينا
نكادُ حين تُناجيكم ضمائرُنا يَقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاءُ ففي مَواقفِ الحشر نلقاكم ويَكفينا
وأفقت من هول المصيبة وأنا أهذي : أين فتون .؟! أين فتون .؟! وأحاط بي الأهل من كلّ جانب ، يحاولون مواساتي والتخفيف عنّي فلا يزيدونني إلاّ مصاباً وحزناً .. وأحضروا لي بعض المشايخ ، يقرءون لي ويواسونني ، فكان في حديثهم خير المواساة .. ولكنّها كانت مؤقّتة ، تزول بعد قليل .. ولا يلبث الحزن أن يتجدّد .. وجلس معي بعضهم جلسات نفسيّة ، ولكنّها كانت عديمة الجدوى ..
وما أشبه ما كنت فيه من حال بقول الشاعر :
متى تكشـفا عنّي القميصَ تبيّنا بيَ الضرَّ من عَفراءَ يا فتيــانِ
إذن تَريـا لحماً قليلاً وأعظماً بَلِينَ وقلباً دائمَ الخفَقـانِ
جعلتُ لعرّاف اليمامة حكمـه وعرّاف نجد إن هما شفيـاني
فما تركا من حيلة يعرفانهـا ولا شربةٍ إلاّ وقد سقيـاني
ورشّا على وجهي مِن الماء ساعةً وقاما مع العُوّاد يَبتـدراني
وقالا : شفاك الله ، والله ما لنا بما ضمَّت منك الضـلُوعُ يدانِ
أو حال تلك المرأة الوفيّة التي فقدت زوجها فقالت :
سئمت حياتي حين فارقت قبره ورحت وماء العين ينهلّ هاملُه
وقالت نساء الحيّ : قد مات قبله شريف ، فلم تهلك عليه حَلائلُه
صدقن لقد مات الرجال ولم يمت كنَجدة من إخوانه مَن يُعادلُه
فتى لم يضق عن جسمه لحد قبره ولا تسعُ الأرضَ الفضاءَ فضائلُه
أو كما قال الشاعر :
وقفَ الهوى حيث أنت فليس لي مُتأخَّرٌ عنه ولا ُمتقدَّمُ
أجد الملامة في هواك لذيذة حبّاً لذكرك فليلمني اللوّم
وحُمِلتُ إلى الأطبّاء ، وليس فيهم طبيب يعرف داء الهوى ، ويداوي منه .. فكان الأمر في نظرهم يحتاج إلى بعض المهدّئات ، لأنسى ما أنا فيه من هذه الأزمة والمصيبة .. وهيهات .! هيهات .!
وأثّرت في جسمي المهدّئات حتّى أصبحت أشبه بالمجنون ، لا يشكّ من رآني ، أو سمع حديثي وهذياني إلاّ أنّني أسير بخطى حثيثة نحو الجنون .. فكان والداي في همّ فأصبحوا في همّ أكبر .. لقد أصبحتُ عبئاً عليهم ، وغُصّةً في حياتهم ، التي لم تعرف أيّ ابتلاء من قبل .. ولكن ما حيلتي وحيلتهم .؟! ومصيبتي أكبر من أيّ احتمال .؟!
إنّ السلوَّ كما علمتَ لراحةٌ لو كانَ قلبي للسلوّ مُطيقا
وأمّا اللائم الغبيّ فيقول له المتنبي :
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتّى يكون حشاك في أحشائه
وساق القدرُ والدي إلى شيخ مبارك اسمه : " الشيخ معروف " ، فعندما علم قصّتي قال لوالدي : دواؤه عندي بإذن الله ! فهل لك أن تتخلّى عنه ستّة أشهر على أكثر تقدير، لا تراه فيها إلاّ كلّ أسبوع مرّة .؟!
فوافق والدي وهو شبه يائس من أمري .. وأخذني الشيخ معروف إلى داره .. ومكثتُ عنده شهرين أو ثلاثة لا أعي منه أكثر ما يقولُه لي .. إلاّ أنّني كنتُ أشعرُ تماماً أنّه كان يَقرأُ لي كثيراً ، ويدعُو لي ، ويَستغرقُ في دعائه .. وبعدَ ثلاثةِ أشهر عُدتُ إلى حالتي الطبيعيّة .. وكأنّني كنتُ مُصاباً بالمسّ ، أو مُسلسلاً بالأغلال ، وقد وضع عليّ حمل جبال من الأثقال ، فأزيح عنّي ذلك كلّه .. وأصبحت لأوّلِ مرّة إذا ذكرت زوجتي الفقيدة أمامي كأنّ أمراً عاديّاً يذكر لي ، فلا أزيد على الترحّم عليها .. لقد رحلت من حاضري ، ولكنّها لم ترحل من قلبي ، فهي فيه مقيمة ، وذكرى حميمة ..
ورأى ذلك والداي فسرّا سروراً عظيماً .. وأنا متأكّد لو أنّ الشيخ طلب منهم مئات الألوف من الذهب والفضّة لأعطوه ذلك فرحين مغتبطين .. ولكنّه لم يطلب منهم أبيض ولا أحمر ( ) ، كان يعرف عظمة العمل لله ، وابتغاء مثوبته ورضوانه ..
وبدأ الشيخُ معي مرحلةً أخرى .. إنّه يريدُ أن يعودَ بي إلى الحياة الطبيعيّة ، وأصبحتُ أشعرُ بانجذاب رُوحيّ إليه ، لم أشعره قبل ذلك تجاه أحد ، حتّى والديّ .. وأصبحَت مُنيتي أن ألبّيَ رغباتِ الشيخ معروف مهما كانت شَاقّة على نفسي .. وذُقتُ لذّةَ العبادةِ بصُحبة الشيخ ، فكنتُ أصلّي وأحبُّ أن أطيلَ صَلاتي ، وأدعُو وأطيلُ دعائي .. وكانَت أيّامي عنده بحقّ أسعدَ أيّام حياتي وأمتعها بلا استثناء .. تعلّمتُ منه فيها الكثير من العلم والأدب .. وقدّم لي من خبرته بالحياة ما لا يقدّر بأطنان الذهب ..
وكانَت حياةُ الشيخ مَعروف الخاصّة نموذجاً رائعاً من حياة السلف الصالح ، قوامُها البساطةُ ، والبعدُ عن التكلّف ، لا يبالي فيها بشيء من المظاهر ، ولا يهتمّ بها ، لأنّ ما يشغله من الجوهرِ والحقائق قد أخذ عليه اهتمامه ووقته .. وكانَ عفيفَ النفس عِفّةً عجيبة ، إذ كانَ لا يقبلُ مِن أحد عطيّة ، ولو باسم هديّة .! ويقول : أخشى أن يُظَنّ بي الحاجة .. وايم الله ! إنّ به لحاجة ، ولكنّه يترفّع عليها ، أن تملكه أو تستذلّه .. وكانت البركة تحفّ حياته كلّها ، فكأنّه واسع الرزق ، لا يعرف الضيق .. وكان يحتفي بزائريه بأطيب الطعام ، ويكرمهم غاية الإكرام ..
وكانَ الشيخُ يسكُنُ في حيّ شعبيّ قديم ، وفي مسكن على غاية من التواضع ، وهو سعيد بسكناه كلّ السعادة ، وقد عرض عليه أهل الحيّ أكْثرَ من مرّة أنْ يجدّدوا له مَسكنَه فتعفّف وأبى .. وكانَ مَرجِعَ أهل الحيّ في كلّ شأنٍ ، محبوباً من كبَارهم وصغارهم .. لأنّه كان قريباً من جميعهم ..
وقد رُزق سبعة بنين وخمس بنات ، وكانت تربيته لهم على غاية من الأدب الجمّ وحسن الخلق ، يغلب على جميعهم الحياء ، فكأنّ البنين قبل البنات إناث خَفِرات .. وكنتُ بحكم صحبتي للشيخ وملازمتِه أكثرَ مَن ألِفَ أولادَه وألفُوني .. وكانَ البعيدُ عن الشيخ ربّما ظنّني بعضَ أولاده .. وكنتُ أفرحُ بهذا الظنّ وأُسَرّ ..
وكانَ له نظام في مأكله ومشربه ونومه وحياته ، قلّما يخرج عنه إلاّ لضرورة ملحّة .. وكان في البيت دمثاً محبوباً ، ولكنّه ذو هيبة كبيرة .. فلا يرتفع صوته ، ولا يخاصم أحداً من أهله ، وكانت زوجته على غاية من الأدب معه .. وقد عوّد أهله جميعاً أن يلحظوا رغباته قبل أن يصرّح بها ..
وفي نهاية المطاف مع الشيخ .. وفي الشهر الأخير من حياتي عنده ركّز كلّ اهتمامه على إعادة تأهيلي للحياة الأسريّة والاجتماعيّة .. وذلك أنّني ظهر منّي العزوف المطلق عن العودة إلى الحياة الزوجيّة .. وهل يمكن أن أتزوّج بعد فتون .؟! هكذا كنت أقول ، ويضحك أبو دردرة .. ويقلّب نظره في وجوه الحاضرين .. صدّقوني كنت أقول : " إنّ الزواج بعد " فتون " من سابع المستحيلات .؟! " .. ولكنّ مستحيلاتي السبعة كانت من الطرافة كحديث خرافة .! ما لبثت أن تبدّدت كما تتبدّد الأوهام ..
كنتُ أقضي معه كلّ يوم ساعات ، تصل إلى أربع ساعات أو خمس .. وينتقل بنا الحديث من فنّ إلى آخر .. وكلّ حديثنا : حوار هادئ .. أسئلة بلا جواب .. وكلمات من الحكمة موجزة ، كأنّه يستشرف بها المستقبل .. وجواب لإشكالات في النفس قبل أن أسأل عنها .. وكنت أجلس بين يديه مجلس التلمذة والأدب ، وكان يتلقّى كلَّ ما عندي بصَدرٍ رحبٍ .. وطبيعة حديثه وأسلوبه كان يثير في نفسي الأسئلة التي لم تخطر على بالي من قبل ، فتأخذ من اهتمامه ما لا أتصوّر من التفكير والتحليل ، ولا يلقي الجواب عن شيء بغير رويّة ، أو إعادة لطرح السؤال والمحاورة ..
وكان ممّا تحدّث به إليّ عن الزواج أنّه قال : " النساء ! وما النساء ! يعرف الإنسان منهنّ على حسب ما يرى من إحداهنّ .. من خيرٍ أو شرّ ، وعرف أو نكر ، إنّهنّ ضعيفات مستضعفات ، ولكنّهنّ ذوات كيد عظيم ، لا تقوم به قوّة الرجال وعزيمتهم ، وعلمهم وعقلهم .. يغلبْنَ الكرام ، ويغلبُهنّ اللئام .. ولا تطيبُ الحياة إلاّ بهنّ ، وما أصدق قول الشاعر :
كلُّ السعادةِ في الحياة عَقيلةٌ في بيتِ عَاقل
واعلم يا بنيّ ! أنّ النساء أشدّ اختلافاً من أصابع الكفّ الواحد ، فتوقّ منهنّ كلّ ذات بذاء ، مجبولة على الأذى . فمنهنّ : المُعجَبة بنفسِها ، المُزرية ببعلها ، إن أكرمها رأته لفضلها عليه ، لا تشكر على جميل ، ولا ترضى منه بقليل ، صوتها كالصهيل ، ولسانها عليه سيف صقيل ، قد كشفت القحَةُ ستر الحياء عن وجهها ، فلا تستحي من إعوارها ، ولا تأبه لجارها ، مهارشةٌ ثرثارة ، هرّارة عقّارة ، وجه زوجها مكلوم ، وعرضه مشتوم ، وفكره مأزوم ، وبصره زائغ يحوم ، لا ترعى عليه الدنيا ولا الدين ، ولا تحفظه لحسن صحبة ، ولا لكثرة بنين ، حجابه مهتوك ، وستره منشور ، وعقله مأفون ، وخيره مدفون ، يصبح حزيناً ، ويمسي كئيباً ، شرابه ضرّ ، وطعامه مرّ ، وولده في ذلّ ، تلدغه بلسانها ، وتلسعه بعويلها ، إن ضحك فواهِنٌ ، وإن تكلّم فمُتكارِه ، وإن سكت فواله ، نهاره ليل ، وليله ويل ، فوارحمتاه لحاله .! وعقبى عيشه ومآله ..!
إن لقيت صاحباتها فهي ضاحكة متزيّنة ، فرحة مستبشرة ، وإن لقيت زوجها فهي عابسة باسرة ، مكفهرّة مُكشّرة ، قد أفل نجمه عندها ، ولم يعد له حظّ من بشرها أو زينتها ..
ومنهنّ العطوف الودود ، المباركة الولوع ، المأمونة على غيبها ، المحبوبة في جيرانها ، المحمودة في سرّها وإعلانها ، الكريمة التبعّل ، الكثيرة التفضّل ، خافضة الصوت ، نظيفة البيت ، فضلها مُعلَن ، وابنُها مُزيّن ، وخيرها دائم ، وزوجها ناعم ، مَرموقة مَألوفة ، وبالعفافِ والخيراتِ مَوصوفة ( ) ، " إنّها من القانتات العابدات ، الصالحات السائحات ، الحافظات للغيب بما حفظ الله ، تَصونُ نفسَها ، وتُسعِدُ زوجها ، لا تُفرَك ، ولا تُضرَب ، وإلى الله ببرِّها يُتقرَّب ... ما أجمل وصف الشاعر لأمثالها :
حُورٌ حَرائرُ ما همَمنَ بريبةٍ كظِباءِ مكة صَيدُهنَّ حَرامُ
يحسبنَ مِن حُسن الكلام رَوانياً ويصُدُّهُنَّ عن الخنا الإسلامُ
أو كما قال آخر :
وَلَو أنّ النِّسَاءَ كَمَن عَرَفنا لَفُضِّلَت النِّسَاءُ على الرجَالِ
فَما التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيبٌ وَلا التذكِيرُ فَخرٌ لِلهِلالِ
وإنّ من أعقد الأمور في الحياة الزوجيّة يا بنيّ ! : القدرة على الجمع بين " الحبّ ومصلحة إدارة البيت " ، وهذا إشكال لا يستطيع حلّه أكثر الرجال ، وهو أندر من النادر في وعي النساء .. إذ أكثرُ النساء مقياسُ محبّة زوجها لها أن يحقّق لها كلّ رغباتها ، ما يمكنه منها ، وما لا يمكنه ، وما فيه مصلحة ، وما ليس فيه مصلحة ، بل قد يَكون فيه مضرّة ظاهرة ، عاجلة أو آجلة ، وإلاّ فهو غير صادق المحبّة في نظرها .. فتقوم بينهما المشكلات الزوجيّة وتقعد ، وتتأزّم وتتفاقم ، ثمّ لا تزال تصرّ على ذلك ، وتلحّ ..
إذ تصرّ المرأة على الأخذ بهذا المعيار ، الذي لا يقبل الخلل أو الشطط في نظرها ، وتحاسب عليه في كلّ موقِف ، فتسوء العلاقة ، وتتباعد القلوب ، وتكال التهم للزوج جزافاً ..
وقد قيل لأعرابيّ : صِف لنا شَرّ النساء ، فقال : شرُّهنّ نحيفة الجسم ، قليلة اللحم ، مقراض ممراض ، لسانها كأنّه حربة ، تبكي من غير سبب ، وتَضحكُ من غير عجب ، عنيدة بليدة ، عرقوبها حديد ، منتفخة الوريد ، كلامها وعيد ، وصوتها شديد ، تدفن الحسنات ، وتفشي السيّئات ، تعين الزمان على زوجها ، ولا تعين زوجها على الزمان ، إذا دخل خرجت ، وإن خرج دخلت ، وإن ضحك بكت ، وإن بكى ضحكت ، تبكي وهي ظالمة ، وتشهد وهي غائبة ، قد دلّي لسانها بالفجور ، وسال دمعها بالزور ، ابتلاها الله بالويل والثبور وعظائم الأمور .. كرهت شمائلها ، وانقطعت عنّي حبائلها ، إذ هي كثيرة الصخب ، دائمة الذرب ، مهينة للأهل ، مؤذية للبعلِ ، مسيئة للجار ، مظهرة للعار " .
وما أظنّه يصف إلاّ من نتحدّث عنها ، تلكَ التي لا تعرف المصلحة ولا تعرفها ، ولا تفكّر إلاّ في أهوائها ، ولا مقياس عندها سواها .. إنّها لا همّ لها دائماً إلاّ البحث عن المفقود ، فإذا وجدته هان في نظرها ، وأخذت تبحث عن غيره ، ثمّ تشتدّ في طلبه والرغبة فيه .. وتنغّص حياتها وحياة من حولها بذلك ..
وقال الأصمعيّ : أخبرنا شيخ من بني العنبر قال : كان يقال : النساء ثلاث : فهيّنة ليّنة ، عفيفة مسلمة ، تعين أهلها على العيش ، ولا تعين العيش على أهلها ، وأخرى وعاء للولد ، وأخرى غُلٌّ قَمِل ، يضعه الله في عنق من يشاء ، ويفكّه عمّن يشاء .
والرجال ثلاثة : فهيّن ليّن ، عفيف مسلم ، يصدر الأمور مصادرها ، ويوردها مواردها ، وآخر ينتهي إلى رأي ذي اللبّ والمقدرة ، فيأخذ بأمره ، وينتهي إلى قولِه ، وآخر حائر بائر ، لا يأتمر لرشد ، ولا يطيع مرشداً .
وقال بعض العرب : النساء أربع : فمنهنّ معمع ( ) ، لها شيئها أجمع ، ومنهنّ تبع ، لا تضرّ ولا تنفع ، ومنهنّ صدع ، تفرّق ولا تجمع ، ومنهنّ غيث هَمِع ، إذا وقع ببلد أمرع . وقال الأصمعيّ : وزاد بعضهم : ومنهنّ القرثع ( ) .
أي بنيّ ! إنّ الأدبَ خيرُ ما ترثُه المرأةُ عن أبويها ، وتُورّثُه لأولادها ، فتحفظُ الحسب ، وتصونُ النسب ، وتصنعُ العزّ المنيع ، وتبني المجدَ الرفيع ، وتُعظِمُ الأجر ، وترفعُ الذكر ، وإلاّ كانَت عاراً على الآباء والأبناء ، ومُفسِدةَ الحياةِ والأحياء ، وقد تناولها الشاعر بقولِه:
ورثنا المجد عن آباء صدق أسأنا في ديارهمُ الصنيعا
إذا الحسبُ الرفيعُ تواكلته بناتُ السوء يُوشِكُ أن يضيعا
وممّا يروى عن أبي الدرداء  أنّه قال لزوجته أمّ الدرداء رضي الله عنها عندما دخل عليها :
خذي العفو منّي تستديمي مودّتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضبُ
فإنّي وجدت الحبّ في الصـدر والأذى إذا اجتمعـا لم يلبث الحبّ يذهبُ
ولا تنـقريني نقرك الـدفّ مـرّة فإنّـك لا تـدرين كيف المغيّبُ
ولا تكثري الشكوى فتذهب بالهوى ويأبـاك قلبي والقلوب تقلّبُ
فلم تزل تلك سيرتهما رضي الله عنهما حتّى فارق الدنيا .. وخطبها بعده معاوية بن أبي سفيان  وهو خليفة ، فلم تستجب له .
أي بني : إنّ من النساء فتّانة مُفسدة ، لا يكون منها إلاّ التوجيه الُمسِفّ ، المفسد المضلّ ، ولا تزال تظنّ توجيهها عين الكمال ، ولا يهمّها بحال إن كانت عاقبته التدمير والفساد .
وأخبث ما سمعت في هذا الباب منْ وصيّة حماة ، أنّ امرأة قالت لابنتها عند هِدائها : " اقلعي زجّ رمحه ، فإن أقرّ فاقلعي سِنانه ، فإن أقرّ فاكسري العظام بسيفه ، فإن أقرّ فاقطعي اللحم على ترسه ، فإن أقرّ فضعي الإكاف على ظهره ، فإنّما هو حمار " .
وبلغني أنّ امرأة معاصرة ، تظنّ بنفسها العلم والثقافة ، والفهم والأدب ، أوْصت ابنتَها ، فكانت وصيّتها بِئس الوصيّة ، فكان ممّا قالته لها :
" .. إيّاكِ يَا بُنيّتي أن تُطيعيه في كلّ أمرٍ ، وأن تَستجيبي له في كلّ شأن ، وأن يَستشعرَ أنّك مُحتَاجةٌ إليه ، فإنّ ذلكَ أشدُّ ما يُطمِعُ الرجلَ بالمرأة ، فيَنتقصُ حقوقَها ، ويحتقِرُ شخصيّتَها ، ولا يُبالي بمشاعرها ومطالبها .. قولي له : لا ، لمحض مخالفته ، وإظهار أنّ رأيَك غيرُ رأيه .!
" وإيّاك أن تُظهري له رغبة في " العلاقةِ الحميمة " .! كوني المتمنّعةَ عنه دائماً ، وليكن الطالبَ لك في جميع الأحوال ، ولا تشبعيه فيفكّر بغيرك .. ولا تفضي له بمكنون صدرك ، ولا تُصفيه دون أهلك ودّك وحبّك .. فإنّ أكثرَ الرجالِ إن لم أقل كُلَّهم لا يحسنون فهم وفاء المرأة ، ولا يصدُقُونها الوفاء ، وإن كانَت أهلاً لذلك ، ولا يحترمونها إذا عرفوا مَكْنُون صدرها ، أو أبدت لهم صادق عواطفها وودّها .. " دعي الرجل يتبعك ، ولا تتبعيه " .
فأين هذا الكلام الغَثّ المُسِفّ ، الكفيل بفصم عرا أيّ علاقة زوجيّة ، أو توهِينِها إلى أبعد حدّ .! إنّه ينزع منزع الضغينة وسوء الظنّ وأن تقوم العلاقة الزوجيّة على الندّيّة المشاكسة ، لا المودّة والرحمة ، ورعاية الحقوق ، وحسن الأدب .. أين هذا الكلام الغَثّ من كلام تلك السيّدة العربيّة أسماء بنت خارجة ، التي أوصت ابنتها عند زواجها فقالت :
" يا بُنيّتي ! إنّ النصيحة لو تركت اعتماداً على فهم وذكاء وأدب ، لتركتها اعتماداً على فهمك وذكائك وأدبك ، ولكنّ الأمرَ ليس كذلك ..
أي بُنيّتي ! ليس زواج الفتاة ناشئاً عن احتياج وضرورة ، فلو أمكن تركه لامرأة ذات ثروةٍ وقدر ، لكنتُ أوّل من استغنى عن ذلك كلّه وتركه ، ولكنّ الأمرَ ليس كذلك .. فإنّ البارئ تعالى خلق الرجال للنساء ، كما خلق النساء للرجال ..
أي بُنيّتي ! إنّك تفارقين بيتك الذي منه خرجت ، وعشّك الذي فيه درجت ، إلى رجل لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ، فكوني له أمةً يكن لك عبداً ، وكوني له أرضاً ذليلةً يكن لك سماءً ظليلة .
وعليك بالقناعة ، وحسن السمع له والطاعة .
وتفقّدي موضع عينه وأنْفِه ، فلا تقع عينُه منك على قبيح ، ولا يَشَمُّ منك إلاّ أطيبَ ريح .
وتفقّدي وقت منامه وطعامه ، فإنّ تواترَ الجوع مُلهِب ، وتنغيصَ النوم مُغضِب .
وأحسني رعايةَ مالِه وحشمِه وعيالِه ؛ فمِلاكُ الأمر في المال حُسنُ التدبير ، وفي العِيال حُسنُ التقدير .
ولا تَعصي له أمراً ، ولا تُفشي له سرّاً ، فإنّك إن خالفتِ أمرَه أوغرتِ صدرَه ، وإن أفشيتِ سِرَّه لم تأمَني غدرَه .
ثمّ إيّاكَ والفرحَ بين يديه إذا كان مَهموماً ، والكآبةَ بين يديه إذا كان فَرِحاً مَسرُوراً .
واعلمي أنّك كلّما أظهرتِ له التعظيمَ والاحترام قابلكِ باللطفِ والإكرام ، وبقدرِ طاعتِك لأمرِه تجتني ثِمارَ ألطافِه وبِرّه .
وقد حفظ لنا تراثنا الأدبيّ على هذا الغرار نماذجَ مُشرقةً من وصايا الآباءِ والأمّهاتِ لبناتِهم ، ممّا يَعرِفُ عُظمَ حَقِّ الزوج ، ويُقدّرُ رفيعَ منزلته ، وممّا يُروَى في ذلك أنّ عامرَ بنَ الظرِب زوّجَ ابنتَه مِن ابنِ أخيه ، فلمّا أراد تحويلها قال لأمِّها : " مُري ابنتَك ألاّ تنزلَ مَنزلاً إلاّ ومعها ماء ، فإنّه للأعلى جِلاء ، وللأسفل نَقاء ، ولا تُكثِر مُضاجَعتَه ، فإنّه إذا ملّ البدَنُ مَلّ القلبُ ، ولا تمنَعه شَهوتَه ، فإنّ الحِظوةَ في المُوافقة .. " .
إنّ التقنية المعاصرة يا بنيّ ! قد استطاعتْ أنْ تغيّرَ الأشكالَ والرسُوم ، وتفرضَ القوانينَ والأنظمة ، وتتلاعَبَ بعلاقات الناس ، فتنقُضَها عمّا كانت عليه ، وتُعيدَ بناءَها على طريقَتِها .. ولكنّها لا سبيلَ لها إلى تغييرِ الحقائِقِ والجواهر .. وهيهات لها ذلك .! لقد استطاعت بحيلها وتزويرها أن تبدّلَ عَيناً بعَين ، ولَوناً بلون ، وَوزناً بوَزن .. واستطاعَت أن تجعَلَ من القُبح جمالاً ، ومِن الجبلِ خَيالاً .. فهل آل أمر الناس بها إلى خير .؟! وهل استطاعَت أن تسقِيَ القُلوبَ الظمأى رُضابَ النورِ ، وتَكسُوَها حُلَلَ البهجة والحُبُور ، وتَنزعَ عَنْها ضغائن الشرور .؟! إنّها لا تستطيع ذلك ، ولن تستطيعه .. لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه ، وكلّ إناء لا ينضح إلاّ بما فيه .. ولو استطاعَت ذلك لاستطاعت أن تبدّلَ طبائع أولئك المُجْرِمين الذين أقضّوا مضاجعها ، وأقلقوا رجالها ، وبدّدوا أموالها ، وأشاعوا الذعر في مجتمعاتها ..
بلى ! إنّها لتستطيع ذلك ـ لو أرادت ـ بالتربية الحكيمة القويمة .. التي تستخرج المعادن النفيسة ، فتصقلها ، وتزيل عنها الأذى ، وتذهب عنها الوضر والخبث ، وتبدي للناس جمالها ، وأوجه نفعها ، فيتمّ انتفاعهم بها على أحسن الوجوه والأحوال ..
يا بنيّ ! اسمع منّي ! وصيّتي إليك أن تتزوّج أكثرَ من واحدة .. إذا كنت واثقاً من نفسك بالعدل .. قادراً على الوفاء بالحقّ ، تحقيقاً للحكم الشرعيّ ، وما فيه من الحكم والمصالح ، الذي يسيء أكثر الناس النظر إليه أو التعامل به ..
ـ فما بالك أيّها الشيخ لم تأخذ بهذه الوصيّة لنفسك .؟!
ـ ألَم ترَ يا بُنيّ حالي ؟ مَاذا أفعَلُ .؟ العينُ بصيرةٌ ، واليدُ قصيرة .. وعندي من أولويّات الحياة ما يشغلني عن هذا الأمر ، فلا أستطيع القيام بحقّه ..
وتابع الشيخ قوله : وقياساً على ما قالوا في الماء : " إذا بلغ قلّتين فإنّه لم يحمل الخبث " ، فإنّ الرجل إذا بلغ النصَاب من الزوجات لم يحمل الخبث ..
ـ وأيّ خبث تعني .؟
ـ لم يحمل الخبث في دينه وأخلاقه ، وعلمه وعقله ..
ـ وما العلاقة بين الأمرين .؟
ـ تسألني : ما العلاقة .؟! إنّك لن تكتشف العلاقة ما لم تعدّد ، فسلّم لما أقول ولا تنكر ، وضعه في تفكيرك وحسابك يأتك تأويله في حينه ..
وعندما طاب لي عند الشيخ المقام ، ونسيت بحديثه الهموم والآلام ، قال الشيخ لوالدي : ألا ترى أنّني قد وفيت بوعدي كلّه ، وأدّيت الرسالة التي تحمّلتها خير أداء .. فدونَك ولدك على أحسن ممّا كان .. إنّه يريدك الآن أن تزوّجه .. فشكر والدي الشيخ أبلغ الشكر ، وأقلّ ما يجب .. وعدت مع والدي إلى البيت ، وقلبي معلّق بالشيخ ومجالسه وحديثه ..
كانت فرحة الأهل والأصحاب لا تقدّر ولا تُوصف .. وأحبّ والدي أن يترجم هذه الفرحة ، ويقدّم الشكر للشيخ الجليل ، الذي يؤثر الخفاء دائماً على الظهور ، فأقام حفلة كبيرة ، دعا إليها عدداً لا يقدّر من الناس : من الأقارب والأصدقاء ، والمعارف الكبراء ، والأغنياء والفقراء .. وكان مدار الحفل كلّه شكر الله أوّلاً ، على شفائي ممّا ألمّ بي ، ثمّ تقديم الشكر أمام الناس للشيخ على ما قدّم لي من المعروف .. وكانت المفاجأة للناس جميعاً عندما قدّم والدي صكّ بيت هديّة منه للشيخ على معروفه معي ، وجميل صنعه .. وكان والدي يقول قبل ذلك ويكرّر القول : " والله لو طلب الشيخ منّي جميع أموالي لقدّمتها له فداء ولدي .. " وأسقط في يد الشيخ أمام الناس .. وهو المتعفّف الذي لم يقبل هديّة من أحد .. ولكنّ والدي استبق كلّ احتمال ، وهو الذي يعرف الشيخ حقّ المعرفة ، فأقسم على الشيخ ، وسأله بالله ألاّ يردّ هديّته .. وعقدت المفاجأة فيما يبدو لسان الشيخ عن الكلام بعض الوقت .. وهو يسمع القسم بالله ، والسؤال به ، فلم يدر ما يقول ، ثمّ فاجأ الشيخ الجميع بما لم يخطر لأحد على بال .. فقال أمام الناس : لقد فاجأني والله أبو حسن فيما فعل ، ولم يخطر ذلك على قلبي بحال .. ولن أقبل منه هذه المفاجأة إلاّ بمثلها .. وإنّي أعلن لكم في هذه الليلة أنّني أقدّم ابنتي أسماء هديّة لابنه حكمت .. وهي خير فتاة فيما أحسب تسعد أيّامه ، وتنسيه أحزانه ، وتجدّد له حياة الأنس والمودّة .. فكانت مفاجأة الشيخ لي وللحاضرين أشدّ من مفاجأة والدي .. وكان الأمر بالنسبة لي حلماً لا يصدق .. فما كنت أحسب أنّ الشيخ يراني أهلاً لابنته بحال من الأحوال ..
وزاد الأمر عجباً ، والحلم غرابة ، أنّ المجلس لم ينفضّ إلاّ على إجراء العقد ، تيمّناً بالحاضرين ، وتلبية لرغبة بعضهم واقتراحه .. وكانت تلك أمنيتي التي ما كنت أحسب إلاّ أنّها من أحاديث النفس الواهمة ..
وتلك كانت قصّة زواجي بأمّ عاصم .. بارك الله فيها ، ورعى أيّامها ، وطيّب أنفاسَها وأنسالها ..
وأمّ عاصم ، ومَا أدراك مَن أمّ عاصم .؟! إنّها أمّ العزّ الدائم ، والمجد الباسم ، رأيت الكون بقدومها مُزداناً ، والخير ألواناً ، إنّها جُنّةٌ وجَنّة ، ورحمةٌ ومِنّة ، ونفْسٌ مُطمئِنّة ، طعامُها طيّب ، وريحها أطيب ، وبيتها نظيف مرتّب ، وغرفة نومها أشهى وأعذب ، وَأولادها بهجة النفس ، ومُنية القلب .. لها في نفسي ما لَيسَ لي في نَفسِها .. ومع ذلك فأنا أصرّ على مدحها وحسن وصفها ، ويكفيها خصوصيّة عندي أنّي لم أنظم الشعر بواحدة سواها .. ويكفيني هذا القدر من الحديث عنها ..
وصَرّح إذا حدّثتَ بالبان والحِمَى وإيّـاكَ أن تَنسَـى وتـَذكرَ زَينبا
أشِر لي بوصفٍ واحد من صِفاتها تكُن مِثلَ مَن سَمّى وكَنّى ولَقّبا
ودّعَـتـني برُقـاهـا إنّهـا تُـنـزِلُ الأعصَمَ مِن رأس اليَفَع
تُسمِعُ الحدّاثَ قَولاً حَسناً لو أرادُوا غيرَه لم يُستَمَع
وأمّا خبرُ زواجِي بأمّ المَحَاسِن فقد كان صديقي جمال من أحبّ الأصدقاء إليّ ، وأقربهم إلى قلبي ، وكانت وفاته من أشّد المصائب التي مرّت عليّ .. وكان زوجاً لابنة عمّ الوالد ، وقبل يوم من وفاته كنّا معاً في مجلس أنسٍ فقالَ لي بصورةٍ مفاجأةٍ : " الوفاء في الناس قليل يا صاحبي ! وأكثر الناس لا يعرفون الأخوّة المخلصة ، وإنّما صداقة المصالح العاجلة .. وأنا أعدّك يا فلان من خلّص أصدقائي الأوفياء فأوصيك بأولادي خيراً إن أنا متّ قبلك ! فقلت له : ما هذا الكلام الآن .؟! أنت دائماً تحبُّ المزاح الثقيل !
فقال لي : إنّني لا أمزح .. بل أحسّ أنّ أجلي قريب .. فأحسست برهبة من كلامه ، وضاق به صدري ، وانقبضت نفسي .. ولكنّني غلّبتُ على كلامه الوهم ، وعدتّ به إلى ما كنّا فيه من الحديث مرّة أخرى ..
ثمّ جاءني خبر وفاتهِ كالصاعقة .. حادث سير مروّع ، اختلطت فيه أشلاؤه بحديد سيّارته ، وزاد المصيبةَ في نفسي حديثُه إليّ قبل يوم .. وقد ترك من بعده أربعة أطفال ، وزوجة في ميعة الصبا .. وعزمت في سرّي أن أكفل أسرته حتّى الموت .. وجاءتني الوالدة بعد مدّة يسيرة ، تطلب منّي أن أخصّصَ لأسرة أبي المحاسن مساعدة شهريّة ، فالمرأة عندها أربعةُ أطفال .. وزوجها لم يترك من بعده شيئاً يذكر من نَشَب الدنيا .. فقلتُ لها : وهَل لها في خير من ذلك .؟ قالت : وماذا ؟ قلت : أتزوّجها ! قالت : وهل أنت جادّ فيما تقول ؟ قلت : ولم لا أكون جادّاً ؟! قالت : وأمّ عاصمٍ ! وكانت تظنّ أنّي لا أتزوّج على أمّ عاصم ، لما ترى من فرط حبّي لها ، فقلت لها : إنّها امرأة مُؤمنة ، وهي على يقين أنّه لا يكون شَيْء من ذلك إلاّ بقضاء الله وقدره .. وقد وطّنت نفسها على الصبر ، وتقبّل هذا الأمر ..
ثمّ جاءتني الوالدة بعد أيّام تقول : إنّ فلانة لا ترضى بعد زوجها بأحد .. وهي تريد أن تتفرّغ للعمل الخيريّ ، وتقول : هل مِنَ الوفاء لصديقك أن تتزوّج امرأته بعد وفاته .؟! فقلت لها : إنّ مفهوم الناس عن الوفاء غير صحيح .. فرسول الله  سيّد الأوفياء ، ومنه يتعلّم الناس البرّ والوفاء ، وقد تزوّج بعد خديجة رضي الله عنها .. وتزوّج السيّدة أمّ سلمة رضي الله عنها ، زوجة أحد الأحبّة من أصحابه  .. ومع ذلك فالرأي رأيها .. وأمّا ما تريد منَ التفرّغ للعمل الخيريّ فهل يتعارض ذلك مع الزواج .؟ بل إنّ زواجها قد يكون عوناً لها على ذلك ..
وضاقت المرأة ذرعاً بتربية أولادها ، وأحسّت بثقل المسئوليّة على كاهلها ، وقصّرت فيما كانت تقوم به من أعمال الخير والإغاثة ، وشكت للوالدة ذلك ، فأحسّت الوالدة أنّها مُتراجعَة عن قولها .. وكأنّها تعرض نفسها من جديد .. وكان الظنّ في محلّه .. وسقت لها من المهر ما ظننت أنّه يبهج نفسها ، ويزيد عن طلبها .. واشترطَت عليّ ألاّ أحولَ بينها وبين ما تقوم به من نشاط في العمل الخيريّ ، فوافقتها على ذلك مُرحّباً ..
ووالله ما فرحت بزواجها ، كما سعدت نفسي بكفالة أيتامها .. ورأيت فيها نعمَ المرأةُ الصالحة الخيّرة .. ورزقت منها بأربعة أولاد ..
وأخبرتني ذات يوم أنّها تريد المشاركة بنشاط خيريّ في بعض القرى ، فلم أجبها بشيء ساعتها ، لأنّ الأمر لها كما اتّفقنا .. وبينما أنا في مكتبي ضُحى النهار تذكّرتُ سفرَها ، فشعرتُ بانقباض شديد في نفسي فاتّصلت بها ، وقلتُ لها : أنا غيرُ منشرح لسفرك هذا اليوم .. فلا تسافري .. ففوجِئَت بكلامي ، وأنا لم أعتد أن أتدخّلَ لها في ذلك منذ تزوّجنا ، فقالَت : ولكنّ الأمور مرتّبة بناء على سفري ، ولا يمكنُ أن أتخلّف ..
فقلتُ لها : أرجُوك لا تُسافري هذا اليوم .! فقالَت : ليسَ مِن عادتك أن تمنعَني .! فقلتُ لها : أنا لا أمنعُك ، بل أرجُوك .. فقالَت : لا يمكنُ أن لا أسافر .. وانتهى الحديثُ بيننا ، وفي نفسي غُصّة ، لأنّها لم تستجِب لي ..
وبعد صلاة العصر تلقّيتُ مُكالمةً من شُعبةِ حوادثِ المرور أنّ زوجتي في المستشفى ، وهي مصابةٌ بحادث مروريّ .. وسارعتُ إلى المستشفى ، فأدركتها وهي في الرمق الأخير ، فنظرَت إليّ .. وأرسلَت دمعةً سَخيّةً من عينيها .. وكأنّها تعتذِرُ عن عدم استجابتِها أنّ القدرَ ساقَها إلى مضجعها .. وبعد نصف ساعة تقريباً .. رفعَت أصبعَها بالشهادة .. وفاضَت روحها إلى بارئها .. وانتهى كلّ شيء ..
ووقفتُ ذاهلاً أمامَ هذا المشهد ، وتكرّرَ على لساني مرّاتٍ عديدة قولُ المؤمنين الصابرين : ( .. ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) ( ) .. وعادَت بي الذكرى إلى مَشهد وَفاة أمّ الوفاء .. وما جَرّ على حياتي مِن مَآسٍ نفسيّة ، وأوضاع أليمة .. ووصَلَت بي الذكرى إلى الحياةِ عندَ الشيخِ معروف ، فكانَت كالسكِينةِ ، تنسكِبُ في قَلبي ، فتَمنحُني تجلّداً عجيباً لا عهد لي بمثله .. وقفزَت إلى خاطري مواعظُ شتّى طالما سمعتها من الشيخ معروف ..
* نَصيبُك في حياتِكَ مِن حَبيبٍ نَصِيبُكَ في مَنامِكَ مِن خَيـالِ
رمـاني الـدهر بـالأرزاء حـتّـى فؤادي في غشاء مِن نِـبـالِ
فصِرتُ إذا أصـابَتني سِـهـامٌ تَكسّرَتِ النصالُ على النصالِ
* والناسُ همُّهُمُ الحياةُ ولا أرى طُولَ الحيـاةِ يَزيدُ غيرَ خَبـالِ
وإذا افتقرتَ إلى الذخَائِرِ لم تجِـد ذُخراً يَكونُ كصَالِحِ الأعمالِ
* ألا إنّما الدنيـا نَضـارَةُ أيـكةٍ إذا اخضرَّ مِنها جَانبٌ جَفَّ جانبُ
هيَ الوهمُ مَا الآمالُ إلاّ فَجَائعٌ عَلينـا ولا اللـذّاتُ إلاّ العَطـائبُ
ومـا لذّةُ الأولادِ والمـالِ والمُنى لدينـا ولا الآمـالُ إلاّ مَـصَـائِبُ
فلا تَكتحِل عَيناكَ يَوماً بِعَبرَةٍ على ذاهِبٍ مِنها فإنّكَ ذاهِبُ
* وَهَبني عَلِمتُ الكيمياءَ ونِلتُها وَأتقَنتُهـا صَبغـاً وَأتقنتُهـا صُنعـا
وَلخّصـتُ تَسـيـيرَ الكواكِبِ كُلّهَـا بِبَحثي وتَدقيقي ونِلتُ بها مَســعَى
ومُلِّكتُ أموالَ البرايـا بأسرِهــا وجالَت يَدي مِن أصفَهانَ إلى صَنعَا
أليـسَ مَـصيري بعدَ ذَلِكَ كُلِّــه إلى تحتِ هذا التربِ في حالةٍ شَنعَا
فقُل للذي يُمسي ويُصبـحُ همُّــه لِغَيرِ رِضا الرحمنِ : يَا خَيبةَ المَسعَى
وغبتُ عن الدنيا وما فيها ، واستشعرتُ عظمَ ما نحن فيه من الغفلة وسَكرة الدنيا .. ثمّ صحوتُ من ذُهولي على مَشهدِ زَوجتي أمّ المَحاسِن أمامي ، وهي مُضرّجةٌ بدمائها .. أحقّاً أنّها انتقلَت إلى ديار الحقّ .؟! فلم أملِك إلاّ أن أجهَشَ بالبكاء .. ويَقفَ القلبُ ذليلاً مُستكيناً ببابِ الرجاء : أن يَتقبّلَها اللهُ شهيدةً مبرورة .. فإنّها لا تَقِلُّ عن شَهيدِ المعركةِ أمامَ الأعداء .. فقد كانَت تَسعى في مَرضاة الله .. رحمها الله تعالى ، ورفعَ منزلتَها عنده ..
وتوقّفَ أبو دردرةَ عن الحديثِ قليلاً .. يُغالبُ دمعَه ويُغالبُه .. وسادَت رهبةُ الموتِ بين الحاضرين ، فلا تَسمعُ إلاّ همسَ المُسترجِعين .!
ثمّ عاد أبو دردرة إلى حديثه فقال : وأمّا زواجي بأمّ عمرو ! فله قصّةٌ طريفة ، وذلك : أنّ أخواتي حَضرنَ حفلةً نسائيّةً دوريّة ، فيها برامجُ مُتنوّعة ، فأبدينَ إعجابَهنّ بفتاةٍ ذَكيّةٍ نَجيبة ، كانَت تُجيبُ أحسنَ الإجابات وأدقَّها ، فلمّا سمعتُ خبرَها ، سرَحَ الخيالُ وراءها ، وقلتُ لهنّ : " هل لكُنّ أن تخطِبنَها لي ؟ فإنّ مثلَها أذهب للكمد ، وأرجَى لنَجابة الولد .. فأبدينَ استهجانَهنّ واستبعادَهنّ لما أقُول ، فقلتُ لهنّ : ليس لكُنّ أن تستنكرنَ ما لا يُستنكَر .. احضرن اللقاء الآخر ، وتعرّفنَ عليها أكثر ، وتلطّفنَ في القول ، وسيكونُ بعد ذلك كلُّ خير .. ويومَ اللقاء حمّلتُهنّ عِقداً من اللؤلؤ النفيس ، مَلفوفاً بورق الهدايا ، الذي لا يُوحي بنفاسة ما فيه .. وقدّمنَ لها تلك الهديّة ، وتواعدنَ معها بزيارةِ أهلِها ..
وعندما زُرنَ أهلَها كانَت الفتنةُ بنا قد سبقَت زيارتَنا .. وتوثّقَت العلاقةُ خلالَ مُدّةٍ وجيزة .. وحُملَت الهدايا إليها وإلى والديها كلّ مرّة .. وعندما كان الطلب كان الجوّ مهيّئاً بكلّ سبب ، وكان السفير بيننا الكرم والجود ، نعمَ السفير المؤتمن الموثوق .. أبرز الحسنات ، وأخفى العيوب البيّنات ، ولا عيب فيّ بنظر النساء ظاهراً إلاّ أنّني أتزوّج الحرائر ، وأجمع بينَ الضرائر .. ولكنّ هذا العيب يهون أمام بريق الذهب والفضّة عند بعض النفوس .. وتمّ الزواج ، وكان التوافق بيننا على أحسن حال .. وأنجبت لي من الأولاد بحمد الله ما فيه قرّة العين والقلب .. ممّا زادها عندي مَنْزلةً وزُلفى .. ولكن هل دام اجتماع الشمل بأمّ عمرو .؟! آه ما أعجب ما يخبّئ للإنسان الدهر .!
وسكت أبو دردرة قليلاً .. وتنهّد تنهّداً عميقاً ، ثمّ واصل حديثه بقوله والغصّة في حلقه ظاهرة : أمّ عمرو ! وما أمّ عمرو ! لا تنقطع حسرتي عليها مدى الدهر ، صفا عيشي معها زماناً ، وتقلّبَت في بحبوحة النعمة والأنس ألواناً ، ثمّ عدا على اجتماعنا من الكيد والظلم ما لا يحسب له العاقل الحصيف حساباً ، ففرّق بيننا ، وفكّ وثاق عقدنا ، ولو أنّه الموت لهان الخطب ، وخفّ الكرب ، لأنّه حقّ منتظر ، ما منه مفرّ أو مهرب .. ولكنّه البغي والعدوان ، والحقد والحسد ، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان ..
لقد تركَت لي مع الحسرةِ خمسةَ أقمار ، يضيء كلّ واحد منهم آناء الليل ، وأطراف النهار .. وقصّة ذلك :
كان الودّ بيني وبين أمّ عمرو لا يتصوّره عقل ، وكان بين الناس مضرب المثل ، ورزقت منها بخمسة أقمار ، أفدي كلّ واحد منهم بأضعاف أموالي ، وازدادت علاقتنا مع الأيّام قوّة وتوثيقاً ، حتّى أصبحت أترك كثيراً من أسفاري ، ومصالح تجاراتي نزولاً عند رغبتها ، وإيثاراً للقرب من أولادي .. وتنهّد أبو دردرة تنهيدة سمعت لها بين الحاضرين أنّةُ هائم مُدنَف : ثمّ ماذا كان .؟ كان أن فوجئت أنّها تغادرُ بيتها .. وتترك أولادها .. وتطلب الطلاقَ ! نعم أيّها السادة ! تطلب الطلاقَ ! دون أن تبيّن سبباً .. وحاولت المستحيل لأعرف السبب فما استطعت .. وفعلاً بعد أشهر كان الطلاق ..
وتكشّفت الأمور ، وعرفت مَن كان السبب .. أسأل الله أن يجزيه بسوء عمله ، ولي معه وقفة بين يدي أحكم الحاكمين ، فهل ينجو من حساب ربّه وعدله .؟! ولا أقول أكثر من ذلك .! لأنّني لا أستَطيعُ أن أبوح بأكثر من ذلك من الأسرار ، فللجدران كما يقولون آذان ، وأرجو أن يكون للآذان جدران .. فواحسرتاه على حياتي معها ! ومن لي بردّها إليّ وإلى أولادها .؟! إنّها منذُ تركتهم لم تسأل عنهم ، وكأنّها لم تحمل كلّ واحد منهم في بطنها تسعة أشهر ..
ولم أسلُ مصيبتي ، ويهدأ خاطري إلى أن خطبت الخامسة أمّ عطاء ، وتزوّجتها .. فما قصّة أمِّ عطاء .؟ وما خبرها .؟!
كان لي صديق ناصح ودود ، طالما دلّني على أبواب الخير والأجر ، جاءني ذات يوم ، وقال لي : كنّا نذكرك بالأمس ، فقد عرضت مسألة اجتماعيّة عويصة ، فقلنا : قضيّة ليس لها إلاّ أبو دردرة ! فقلت : وماذا عرض .؟ فقال : ألا تذكر فلاناً رفيق الدراسة .؟ قلت : بلى ، وكيف لا أذكره .؟! وأخوه فلان ، وأخوه فلان .. وما خبره .؟ قال : جاء يستشيرني في طلاق زوجته ، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وبلغت الأزمة بينه وبينها مداها .. والعجب أنّه لا مشكلة بينه وبين زوجته ، وإنّما الأزمة بين زوجته وأخته ، وما موقع أخته من الإعراب .؟ إنّها مطلّقة عانس ، ضائعة في بيوت إخوتها وأخواتها مضيّعة ، كان حظّها من الزواج أشهراً معدودة ، ثمّ فارقها زوجها ، لأنّه لم يصبر على أذى لسانها ، على ذمّة أخيها فيما يروي .! فقاطعتُه بقولي : وما المطلوب منّي .؟ وهل أصبحتُ بنظرك يا صاحبي كمأوى العجزة ، أو كالمقبرة لا تردّ ميّتاً .؟!
فضحك صاحبي وهو يتابع حديثه .. واشتدّ الخلاف بينها وبين نساء إخوتها ، فخرجت زوجة أخيها من البيت ، وحلفت أنّها لا تعود إلى البيت ما دامت أخته فيه .. وكيف يستطيع الرجل التخلّي عن أخته .؟! ولمن يتركها .؟!
وهل يهون عليه خراب بيته .؟! وركبت المرأة رأسها عناداً .. وركب رأسه كذلك .. وأصبحت الأسرة مهدّدة بالدمار الوشيك .. وعندما عرض عليّ صديقي مشكلته والأسى يعتصر قلبه ، تذكّرتك ، وقلت في نفسي :
" إنّ أبا دردرة خيّرٌ مُقتدِر ، فلو تزوّج هذه المرأة ، فإنّه ينقذها ، وينقذ أسرة أخيها من الخرابِ ..
على أنّني لا أعرض لك بضاعة كاسدة ، فالمرأة أعرف عنها كلّ خير .. إنّها صوّامة قوّامة ، طيّعة مُواتية .. ولكنّها ثَرثارةٌ مِهذارة ، أتعبَت زوجَها الأوّل بكثرة القيل والقال ، فلم يصبر عليها ، ويبدو أنّه لم يكن مقتدراً على معالجة أدوائها ، فسارعَ إلى بتّ حبلها ، ولك يا صاحبي من الحكمة والحزمِ ما يجعلُك تقطف شهدها وثمرها ، وتحذر إبرها وغوائلها .
وكان صاحبي أشبه بالمحامي القدير ، وهو يرافع في قضيّة قد اتّضح له الحقّ فيها ، فهو مُتحمّسٌ لنصرتها ، مُتفانٍ في الدفاع عنها ..
واستخرتُ ربّي فيما سَمِعت ، فانشرح صدري للأمر ، وبخاصّة أنّني أنقذ بذلك أسرة من الهدم .. وشدّدتُ عليها في شروطي قبل العقد ، لتكونَ على بيّنةٍ من أمرِها ، وتعرفَ نفسَها على أيّ أمر هي مُقدِمة ..
وسعدَت أمُّ العطاء فيما يبدُو بصحبتي ، ولم أسعدْ كثيراً بصحبتها ، ورُزقتُ منها بأربعةِ أولاد ، فكانَت عَصبيّةَ المِزاج كثيراً في تربية أولادها .. وكانَ ذلكَ مَصدرَ خِلافٍ ونِزاع بيننا لا يَنتهي ..
ثمّ كانَت مصيبتُها الكبرى ، وبلاؤها المبين أنّها فتحَت على نفسِها باباً للوسوسة في أمر الطهارة لا يغلق ، فحذّرتها من ذلك ، وبيّنت لها أنّ هذا الأمر يفسد عليها حياتها ، ويضيّع لها أوقاتها ، ويسلمها إلى المرض المتلف ! وهذا كلام الأطبّاء لا كلامي .. ولكنّها كانت تتّهمني بالتساهل في أمر الطهارة ، وتبشّرني بعذاب القبر .! وامتدّت وسوستها إلى الأولادِ فقلت لها : إلى هنا وكفى .! وعزلت الأولاد عَنْها ، فهم لا يختلطون بها في شيء .. والمسكينة تتقلّب من حال إلى ما هو أسوأ ، ولا تستجيب لكلام طبيب ، ولا أريب .. فهل بين ثرثرة الكلام ، ووسوسة الأوهام من حبل وثيق ، ونسب عريق .؟ أفيدونا بما تعلمون يا أولي الألبَابِ ..
كلُّ ذلك عدا عمّا أنال من بركات سلاطة لسانها عليّ ، بسبب وغير سبب ، فأحتسبُ الأجرَ بذلك عند ربّي ، وأظنُّ أن ذلكَ البلاءَ نوعٌ من التهذيب لنفسي ..
وكثيراً ما كنت أعظها أن تجتنب القيل والقال ، وكثرة اللدد والجدال ، مع زوجها ومع الناس ، وأقول لها : أنت أمّ العطاء ، ليكن لَكِ من اسمك نصيب .. فتقول لي : وأنتَ أبو دردرة ، فما نصيبك من اسمك ؟ وقالَت لي مرّة في ساعة غضب : بل أنا أمّ لدد ! فكُفّ عن مواعظك لي .. وهي بحقّ أمّ لدد ! ومحنة الزوج والولد ..
وهدأت عنّي عواصف الزواج خمس سنوات متواليةٍ ، غرقت فيها ببعض أعمالي التجاريّة .. وظنّ بي المتربّصون الظنون ، وتكلّم الشامتون ما يشاءون ، وأنا أسمع ما أكره ، وأقول في سرّي : الجواب أيّها القوم ما ترون دون ما تسمعون ! وبخاصّة أنّي كنت أقول في السرّ والعلن : " لن يقرّ لي قرار حتّى يكتمل لديّ نصاب الرجال ، وأحقّق ما أصبو إليه من الآمال " ، وإنّ من سنّة الله تعالى أنّ من صفت نيّته طابت أمنيّته ، فكان الزواج بأمّ كمال محطّ رحال المرحلة الثالثة من هذا الأمل المعقود ..
وقصّة ذلك أنّني كنت في رحلة تجاريّة إلى نيجيريا ، وعُرضَت عليّ قصّة امرأة نزل عليها من بلاء المحنة ، وشدّة الفتنة ما تَنوءُ بحمله عزائم الرجال .. وقد تذهب بها الفتنة العاصفة إلى حدِّ الردّة عن دين الله ، أو القتل حفظاً لكرامة الزعامة الموهومة ..
كانَت أمُّ كمال بنتَ زعيم مرموق من زعماء القبائل الوثنيّة ، تزوّجها زعيم قبيلة ثمّ تنصّر ، فتبعته على ما اختار من دين ، ولكنّها بعدَ مدّة زهدت في دين زوجها ، ورأت أنّه ما اتّبعه إلاّ طمعاً فيما يُقدَّمُ للناس من مال .. وقرأت عن الإسلام ، وهيّأ الله لها فرصة التعرُّف عليه فسارعت إلى الدخول فيه .. فكان ذلك مصدر خطر على تلكَ المغانم .. عدا عمّا في تغيير دينها عن دين زوجها من تجاوز للأعراف القبليّة ، التي تقضي أن تكون المرأة تبعاً لزوجها في كلّ شيء .. فكيف يتأتّى لها أن تغيّر دينها دون رغبته .؟! ولولا أنّها ابنة زعيم معروف لكان من حقّ زوجها أن يقتلها انتصاراً لكرامته المهدورة ، دون الرجوع إلى أحدٍ من أهلها ..
واشتدّت الضغوط على أمّ كمال ، وهُدّدتْ من أبيها بالقتل .. واشتدّ تمسّكها بدينها ، وحرصها عليهِ حتّى لجأت إلى قبيلة ثالثة .. وانتشر الخبر بين الناس ، فكان حديث المجالس ..
وعلمتُ بالقصّة فثارَت حميّة ديني ، وقلت : لا ينقذ هذه المسكينة إلاّ أن أتزوّجها ، وأنقذها من هذا المجتمع بكلّ مآسيه .. وكان تقدّمي إلى ذلك لا يقلّ خطراً على نفسي من الخطر عليها بتغييرِ دينها .. ولكنّ حسن علاقتي بكثير من الناس في ذلك المجتمع حفظني من أيّ سوء بإذن الله ..
ونجحت مهمّتي بحمد الله بعدما بذلت عشرات الألوف من الدولارات .. وعدت من رحلتي ، وبصحبتي امرأة سمراء .. يسعد قلبي وروحي أنّني ما تزوّجتها لشيء من حظّ نفسي ..
وقال بعض الناس : " أبيض أشقر يقترن بإفريقيّة سمراء ، كاقتران الظلام مع الضياء .. أيّ ذوق يحمله هذا الرجل .؟! " وللإنسان أن يفكّر كما يشاء ، وأن يقول ما يشاء ، ولكن ليس له في المقابل أن يحجر على فكر أحد ، أو يفرض على اختياره وذوقه وصاية .. وكثر عليّ القيل والقال .. وبخاصّة من أصحاب المقاييس المختلّة العوجاء ، وذوي النظر القاصر .. وسمعت كثيراً ممّا يقال ، فكنت لا أبالي بما أسمع ، وأزداد بحمد الله اعتزازاً بما أقدمت عليه من عمل ، إذ لم أبتغ به سوى وجه الله تعالى ..
وكان استقبال زوجاتي لهذه الضرّة فاتراً ، لم يخل من التأثّر بما قيل ، والشعور بالترفّع عليها .. ولكنّ الزمن كان كفيلاً بتغيير هذه النظرة جذريّاً .. بل بتغيير نظرتي كذلك ..
لقد كانت المرأة مثقّفة ثقافة عالية ، ما كنت أظنّها في مجتمع من تلك المجتمعات ، كما كانت على درجة لا تقلّ عن ذلك ، من التهذيب والفضائل النفسيّة الرفيعة ، تكسو صورتها الظاهرة جمالاً ، لا يعرفه أصحاب الأذواق الدخيلة ، والمفاهيم العليلة .. ممّا جعلها تفرض احترامها على الجميع ، وزادها احتراماً وتقديراً ما أنجبت منَ الأطفال ، التي أحسنت العناية بهم ، فكانت وَلوداً وَدوداً مُنجبة .. وانعكس هذا الشعور النفسيّ على نظرة الناس إليها ، وعلاقتهم بها ، فتبوّأت منزلة رفيعة ، ما كانَت تَظنُّ أن تنالها ، وأخذَت مَوقعَها المتميّز بين ضرائرها ..
وأحبّ أن أزيدكم في الحديث عنها أنّني قد اخترعت لها قاموساً طريفاً من فنّ الغزل المناسب لمثيلاتها القادمات من إفريقية ، إنّه باب من الفنّ الأدبيّ لم أعرفه من قبل ، ولا مجال للحديث عنه في هذا المقام ..
إنّ هذه التجربة علّمتني أيّها السادة ! أنّه لا يكسر ما في نفس الإنسان من تعاظم بالجنس واللون ، وما يشبه ذلك ، وأيّنا لا يحمل شيئاً من ذلك .. إلاّ مثل هذه المواقفّ ، التي تترجم المبادئ النظريّةَ إلى واقع عمليّ ، وتستلّ من النفوس التعلّق بالصور والأشكال ..
وأمّا قصّة زواجي بأمّ الرجاء ؛ فلقد كنت أيّها السادة ! مشدوداً إلى العيش في حياة روحيّة خالصة بعدما عشت هذه الفترة الوجيزة بصحبة سيّدي الشيخ معروف .. وكنت أرى أنّ السبيل إلى ذلك هو الاقتران بالنساء الصالحات ، اللائي ينبع صلاحهنّ من داخلهنّ بدافعٍ ذاتيّ ، ولا يكون مظهراً خارجيّاً بتأثير البيئة ، التي يعشن فيها ..
وأنا أحمد الله تعالى أنّ كلّ زوجاتي على خير وصلاح واستقامة ، ولكنّني أطمح من ذلك إلى المزيد ، لنفسي ولهنّ ..
وإنّ الحياة الزوجيّة أيّها السادة ! أشبه بالحياة الروحيّة ، بل هي نوع منها ، وبينهما في الكتابة كما تلاحظون زيادة نقطتين .. وإنّ عالم الروح ، وحياتنا الروحيّة لا يمكن أن تحيط بها الكلمات ، أو تحدّها العبارات .. لأنّها تعود إلى الله تعالى ، والله  يقول : (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) الإسراء .
وما أحسن أن تأتلق الحياة الروحيّة في حياتنا الزوجيّة ، فتكون حياتنا الزوجيّة سبيلاً للسموّ الروحيّ ، كما تكون حياتنا الروحيّة مرتكزاً لتوازن حياتنا الزوجيّة ومتطلّباتها ..
فمن التي دلّتني على أمّ الرجاء ، وخطبتها لي .؟ لقد علمت أمّ عاصم أنّي متزوّج لا محالة ، فكان من ذكائها ودهائها أنّها سعت بكلّ إخلاصٍ وصدق .! لاختيار الزوجة المناسبة لي بنظرها ، فلا تكون منافسة لها بصورة من الصور ، وكانت أمّ الرجاء خير امرأة وقع عليها اختيارها ، لاعتبارات عديدة .. فكانت تحدّثني عنها ، وكأنّها تعرضها عليّ ، فتذكر من دينها وتقواها ، وزهدها واستقامتها ، وحسن قيامها على أولادها السبعة ، تربيةً وتهذيباً ، ورعاية ومتابعة ، بعزم وحلم ، ورقّة وحزم ، فلا يستطيع ولد أن يخرج عن رغبتها طوعاً وحبّاً ، وهيبةً ورغبى .. ومع أنّها كانت تعلم أنّ أمّ الرجاء رافضة للزواج بعد زوجها ، ولكنّها كانت تؤمّل أن تستجيب لي رغبة في تحسين حياة أولادها المعيشيّة ..
فلم تزل تذكرها لي بمناسبة وأدنى مناسبة حتّى صارحتُها بما يعتملُ في نفسها ، فقالَت : إن كنتَ ترغبُ بها فإنّها لا رغبة لها في الرجال .. وأنا أعلم ما تعني بهذا الكلام .؟ إنّها تريد كشف رغبتي بها ، كما تريد إثارتي وتحريضي .. وقد بلغت بكيدها ما تريد .. فعزمت على خطوبتها في السرّ ، فكان أوّل ردّها الرفضُ .. ولكنّني لم أستيئس من الأمر ، وأردت أن أعرف السبب ، فقلت لأوليائها دعوني أجالسها وأحاورها من قريب ، لأعرف سبب رفضها ، فلعلّ عندي من الحديث ما يثنيها عن رأيها .. وهذا ما كان ..
وإنّ ممّا يسرّني من أمّ الرجاء حسن علاقتها بضرائرها ، فهي ليسَت لهنّ ضرّة ، ولسنَ لها بضرائر ، إنّها تُعاملُهنّ ويُعامِلنَها كأختٍ لهنّ كبيرة .. ومن ثمّ فهي تهب ليلتها لمن شاءت منهنّ ، على حسب ما ترى من زيادة دين إحداهنّ ، وعفوها عن ضرّاتها ، وحسن تصرّفها ؛ فربّما وهبت لها خمس ليال ، وربّما وهبت لها قسم شهر ، ولا تزيد على ذلك .
وخلاصة قولي في المرأة بما مرّ بي من حلو التجارب ومرّها : " أنّ المرأة بكلمة واحدة هي مِرآةٌ : مِرآةُ الطفولةِ في براءتِها وصفائِها ، ومِرآةُ الرجل في جدّه وهزله ، واجتهاده وعبثه ، وضعفه وتسلّطه ، ومِرآةُ المجتمع في رقيّه وتخلّفه ، ومِرآةُ الأمّة في نهضتها أو كبوتها ، وتماسكها أو تفرّقها ، ومِرآةُ فضائلنا ورذائلنا ، وحسناتنا وسيّئاتنا ، فعلام نلوم المرأة ، ولا نلوم أنفسنا .؟! وإنّ كلّ شكوى من المرأة تحمل أضعافها من الرجل ، ومن المجتمع كلّه بما فيه من حسنات وسيّئات ، وعادات وأخلاق .. " .
هذا وخير ما أختم به حديثي قول الله تعالى : (.. ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) الفرقان .



قال مدير الجلسة : وهنا يصل بنا المطاف إلى ختام حديث الرجال عن النساء ، ونترك الفرصة للأسئلة .. ويبدو أنّ الأسئلة تنهال على أبي دردرة بكثرة ، وليس له أن يجيب عنها كلّها ، فالوقت بنا قد طال ، ومفاجأة آخر المجلس تنتظركم أيّها الرجال .. وقد رأينا أن نختار له خمسة أسئلة فحسب .. يجيب عنها باختصار ما استطاع ، ومن شاء زيارة السيّد حسن في ديوانه الأسبوعيّ ، فعلى الرحب والسعة ، فصدره رحب ، وبيته فسيح ، وديوانه للجميع مفتوح .. ولا أقول ذلك إلاّ برغبة منه وتفويض ..
ـ السؤال الأوّل : حديث السيّد أبي دردرة يوحي بأنّه يضبط نساءه بنظام عسكريّ ، أو شبه عسكريّ . فهل له أن يلقي لنا الضوء عن طبيعة علاقته بنسائه ، وهل هنّ سعيدات بمثل هذه الحياة معه .؟
ـ السؤال الثاني : كيف يقسم أبو دردرة بين نسائه مع كثرة أسفاره .؟ ومن تصحبه منهنّ في السفر .؟
ـ السؤال الثالث : فهمتُ من حديث أبي دردرة أنّ زوجاته يعشن معه في بيت واحد ، فهل تحدث بينهنّ مشكلات .؟ وكيف يعالجها .؟ وكيف العلاقة بين أطفاله .؟ وهم من أمّهات مختلفات .؟
ـ السؤال الرابع : أرجو من أبي دردرة أن يحدّثنا عن أطرف المواقف التي مرّت به من غيرة زوجاته ، وكيف عالجها .؟
ـ السؤال الخامس : أنا متزوّج وعندي ثلاثة أطفال ، وسعيد مع زوجتي غاية السعادة ، ومع ذلك فإنّني أحسّ برغبة داخليّة شديدة بأن أتزوّج زوجة ثانية ، فهل تنصحني بذلك .؟
قال أبو دردرة :
ـ أمّا جواب السؤال الأوّل عن طبيعة علاقتي بنسائي ، وهل هنّ سعيدات في حياتهنّ معي .؟ فليس لي أن أجيب عن هذا السؤال ، والأولى أن يقدّم إليهنّ ، وبيتي مفتوح لأيّ زائر أو زائرة .. ولكلّ من يرغب بمعرفة أيّ شيءٍ عن حياتي الخاصّة .. ولكنّني أقول تحدّثاً بنعمة الله عليّ : إنّ علاقتي بنسائي بحمد الله علاقة مثاليّة ، فأنا لست بصاحبِ مزاجٍ خاصّ في أيّ شيء من حياتي ، وأنا متسامح ما استطعت ، وأغضّ النظر عن الهفوات ما قدرت ، وهذا لا يمنع أن يكون لحياتي نظام خاصّ لا أخرج عنه إلاّ لضرورة ..
وأظنّ أنّ أكثر ما يحرج المرأة ، ويعكّر عليها صفو حياتها ، أن يكون الرجل صاحب مزاجٍ خاصّ ، في مأكله أو مشربه ، أو أيّ شأن من شئونه ، ينغّص عليها حياتها إذا خالفت له مزاجه ، أو تكدّر ..
ـ وأمّا جواب السؤال الثاني : كيف أقسم بين نسائي مع كثرة أسفاري .؟ ومن تصحبني منهنّ في السفر ، فالأمر في غاية اليسر والسهولة : إنّ كلّ واحدة منهنّ تعرف ما لها ، وما عليها ، لأنّها تعلم غاية العلم أنّ الأخريات يتابعن الأمور بدقّة ، ولا يسكتن عن شيء من حقوقهنّ ، أو التجاوز عليهنّ مهما بلغ .. وكما أنّني أقسم بينهنّ في الحضر ، فأنا أقسم بينهنّ أيضاً في السفر ، ومن لم ترغب في السفر معي لسبب من الأسباب ، يسقط حقّها ، وينتقل إلى من بعدها .. ولا حرج عليها فيما فعلت ولا تثريب ..
ـ وأمّا جواب السؤال الثالث عن حدوث المشكلات بينهنّ .؟ وكيف أعالجها .؟ وكيف العلاقة بين أطفالي .؟ وهم من أمّهات مختلفات ، فليس لبيت أن يخلو من مشكلات ، ولكنّها تختلف نسبتها من بيت لآخر ، كما تختلف درجتها ، وأساليب الرجال في معالجتها .. وأحبّ أن أقول بهذه المناسبة : إنّ هناك نوعاً من المشكلات غير العاديّة ، من الظلم والإساءة ، والتطاول وبذاءة اللسان لا أسمح بوقوعها بحالٍ من الأحوال ، ولها فى أسرتي عقوباتها المقرّرة المعروفة ، وهي بحمد الله قليلة الوقوع ..
وأمّا المشكلات العاديّة فأمرها ميسور ، ولا أحمل لها أيّ همّ .. وأمّا العلاقة بين أولادي .؟ وهم من أمّهات مختلفات ، فأنا أعرّف أطفالي بأيّ أخ أو أخت جديد يأتيني ، وأغرس في قلبه محبّته والشفقة عليه ، ولا أزال ألاحظ ذلك في علاقتهم ببعضهم بعضاً ، وأتابعه في كلّ مناسبة ، وعندما يكبرون ، كما أحثّ أولادي على برّ زوجاتي ، واعتبارهنّ بمثابة الخالات لهنّ ، وأنا بحمد الله  لا أجد أيّ سلوك شاذّ عن هذا المنهج .. فالحبّ يورّث ، والكره كذلك يورّث ، والمشكلة دائماً في الكبار وأخلاقهم ، وكثرة القيل والقال ..
ـ وأمّا جواب السؤال الرابع عن أطرف المواقف التي مررت بها من غيرة الزوجات ، وكيف عالجتها .؟ فأحبّ أن أقول أوّلاً : ما من امرأة من زوجاتي إلاّ وقد كانت منها مواقف غيرة ، تجرّب فيها نفسها ، أو تعبّر عن مشاعرها ، وتحاول في الوقت نفسه أن تفرض سيطرتها على زوجها ، أو تبسط هيمنتها على ضرّتها ، فإذا اصطدمت من الطرف الآخر بإرادة قويّة ، أو ردّة فعلٍ أقوى من فعلها ، وقفت عندئذٍ عند حدّها ، ولم تتجاوزه ..
اللهمّ إلاّ أمّ الرجاء ، فقد تجرّدت عن ذلك ، فكأنّها ليست لها ضرّة .! ولله درّها ما أعقلها وأتقاها .؟! وهل عجز النساء أن يكنّ مثلها فيرحن أنفسهنّ من المتاعب قبل كلّ شيء ..
على أنّ النساء لسن في الغيرة سواء .. فكلّما كانت المرأة أذكى قلباً ، وأقوى عاطفة وحبّاً كانت غيرتها عاصفة جامحة ، لاهبة مرهبة ، لا تملك زمامها ، ولا تحسن ضبطها ، فلعلّها تعذر بكثير ممّا يكون منها ..
ثمّ إنّ المرأة إذا تمادت في غيرتها وقعت في الحرام ولابدّ ، ومن هنا فإنّ خير ما يقف بالغيرة عند حدّها الشرعيّ أن تُقوَّى مخافة الله تعالى في قلب المرأة ، وأن تعلم أنّ الجزاء من جنس العمل ، وأنّ أيّ إيذاء لضرّتها سيؤخذ من حسناتها يوم القيامة ، ويعطى إلى من لا تحبّها .. فهل من العقل إذن أن تؤذي ضرّتها بقولٍ أو عمل .؟!
فإذا اجتمع إلى ذلك نظام صارم ، لا يقبل الظلم ، وتجاوز الحدّ بحال من الأحوال ، ويفرض على ذلك العقوبة الرادعة استقامت سيرة كلّ امرأة رغباً أو رهباً .. وسار مركب الضرائر حتّى يبلغ شاطئ السلامة بأمان .! وقديماً قيل : " مَن أمِنَ العُقُوبة أسَاءَ الأدب " .!
وإنّي لأعجب والله أشدّ العجب ! كيف لا تصبر النساء على غيرتهنّ ، ويحتسبنها عند الله تعالى إذا علمن أنّ النبيّ  يعد الصابرة منهنّ على غيرتها بأجر شهيد .؟ ( ) .
ولعلّ ما في هذا القول من النفع ما يعفيني من ذكر طرائف الغيرة ، التي لا أرى في ذكرها كبير فائدة .!
ـ وأمّا جواب السؤال الخامس لمن يجد في نفسه رغبة داخليّة شديدة بأن يتزوّج زوجة ثانية ، وهل أنصحه بذلك .؟ نعم ، أنا أنصحه بما أنصح به نفسي .. ولكن إن كان على قدر هذه المسئوليّة مادّيّاً وأدبيّاً ونفسيّاً ، وصلحت نيّته ، واستقامت سيرته ، وكان حكيماً حليماً ، يحسن البناء ، ولا يسمح بالهدم ، ويعالج المشكلات ، ويخمد الحرائق .. وإلاّ فرحم الله امرءاً عرف حدّه فوقف عنده .! والقاعدة الشرعيّة تقول : " درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح " .. ونفس تنجيها ، خير من إمارة لا تحصيها ..
وفي الختام : أعوذ بالله من حظّ النفس ولغو الكلام ، وتقبّلوا خالص التقدير والشكر والاحترام .



الخاتمة
قال أَبو بَكرَة :
أيّها السادة .! لقد آن لنا أن نختم مجلسنا هذه الليلة ، وأحبّ أن يكونَ الختام مِسكاً عبِقاً ، وعِطراً فوّاحاً .. إنّه بيانٌ رائع ، وقَولٌ في المرأةِ جامع ماتع ، فصلٌ ، ليس بالهذر ولا الهزل ، سطّر كلماته شيخ أديب ، وداعية حبيب ، صاحب فكر أريب ، وسهم مصيب ، له في الناس ذكر شائع ، وصيت رائع ، وفي ميادين الحَقّ صَولاتٌ ، ورحاب الخير جَولات ، إنّه الشيخ الدكتور عائض القرني رعاه الله وتولاّه ، إذ يقول في مقامته عن المرأة :
" رفقًا بالقوارير ، فإنهنّ مثلُ العصافير ، لكلِّ روضٍ ريحان ، وريحانُ روضِ الدنيا النسوان ، هُنّ شقائقُ الرجال ، وأمّهاتُ الأجيال ، هنُّ الجنسُ اللطيف ، والنوعُ الظريف ، يَلدنَ العظماء ، ويُنجبنَ العلماء ، ويُربّين الحُلماء والحكماء .
المرأة عطفٌ ، ولطفٌ وظُرف ، سِبابها سَراب ، وغَضبُها عتاب ، من وخطه المشيب ، فليس له من وُدهنّ نصيب ، لو جَعلتَ لها الكُنوزَ مَهرا ، وقُمتَ على رأسها بالخدمة شَهرا ، ثمّ رأت منك ذنباً قليلا ، قالت : ما رأيتُ منك جميلا ، القنطارُ مِن غيرها دينار ، والدينارُ منها قِنطار ، هي في الدنيا مَتاعُ الحسن والإبداع ، وهي للرجل لِباسٌ ، وفي الحياة إيناس .
هي الأمّ الحنون ، صاحبة الأسى والشجون ، خيرُ مَن رثى وبكى ، وأفجَعُ مَن تألم وشكى ، لبنُها أصدقُ طعام ، وحضنُها أكرمُ مُقام ، ثديُها مَوردُ الحنان ، وحَشاها مُستقرُّ الإنسان ، في عينِها أسرار ، وفي جَفنِها أخبار ، في رَضاعِها مَعاني الجُود ، وفي ضَمّها الوُدُّ المحمود ، قُبَلاتها لطفلها صَلواتُ القلب ، وبِرُّ طفلِها لها مَرضاةُ الربّ ، شِبَعُها أن لا يجوعَ وليدُها ، وجُوعُها أن لا يشبعَ وحيدُها ، غيابُها من الحياة وأْدٌ للسرور، واختفاؤها في مهرجان الدنيا قتلٌ للحبور .
هي بيتُ الحسبِ والنسب ، وجامعةُ المثل والأدب ، ذهبٌ بلا امرأةٍ لهب ، وجوهرٌ بلا امرأةٍ خشب ، تقرأ في نظراتِها لغةَ القلوب ، وتُعلّم الحبَّ مِن هجرِها المحبوب .
وبالمرأة عُرف الهجرُ والوصال ، والاتّصالُ والانفصال ، والغرامُ والهيام ، والبراءةُ والاتهام ، تقتُلُ بالنظرات ، وتخطُب بالعبرات ، كلامُها السحر الحلال ، ولفظها العسل السيَّال ، بسمتُها ألذُّ من العنبِ والتوت ، وهي أسحرُ مِن هارُوتَ وماروت ، وقالَ نسوةٌ في المدينة : كلُّ مُهجةٍ فهيَ لنا مَدينة .
وأفضلُ النسوان الحَصَانُ الرزان ، ألفاظُها أوزان ، وعقلُها ميزان ، إذا تحجّبَت فشمسٌ في غمام ، وظبيٌ في خُزام ، هي روايةٌ تترجمُها الأرواح ، وهي مِسْكٌ تذروه الرياح ، في شَفتيها ألفُ قِصَّة ، وفي أعماقِها سبعون غُصَّة ، ليلى جعلَت نهارَ المجنونِ ليلاً ، وصيرَت عَزَّةُ دموعَ كُثيِّرٍ سيلاً .
ليلي وليلى نفَى نومي اختلافُهما في الطُّول والطَّول طُوبى لي لو اعتدلا
يجودُ بالطُّـول ليلي كُلّما بخلت بالطّـول ليلى ، وإن جـادَت به بخِـلا
على شفتيها المُطبَقاتِ سُؤال ، وفي جَفنيها مَقال ، أحرفُ الحبِّ صامتةٌ على محيّاها ، وقصائِدُ الغرام حائرةٌ على ريّاها ، حُسنُ الشمس مِن حُسنها يَنهار ، والليلُ مِن شَعرها يَغار .
مِن النساءِ خديجةُ رمزُ الفضل والأدب ، لها قصرٌ في الجنة من قَصَب ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب ، ومِن النساءِ عائشةُ ، الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيق ، صاحبةُ العِلم والإتقانِ والتحقيق ، المطهّرةُ الطاهرة ، صَاحِبةُ السجايا الباهرة ، والمحامِدِ الظاهرة ، ومِنَ النساءِ فاطمةُ الزهراءُ البتول ، بنتُ الرسول ، أمُّ السِبْطين : الحسنُ والحسين ، سَيِّدةُ نساءِ العالمين ، المرضيّةُ عندَ ربِّ العالمين . رضي الله عنهنّ أجمعين .
وَلَو أنّ النِّسَاءَ كَمَن عَرَفنا لَفُضِّلَت النِّسَاءُ على الرجَالِ
فَما التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيبٌ وَلا التذكِيرُ فَخرٌ لِلهِلالِ
المرأةُ صَحيفةٌ بيضاء ، يكتُبُ فيها الرجلُ ما يشاء ، مِن حُبّ وعتاب ، وغَضَب وسِباب ، وهي روضةٌ خضراء ، وحديقةٌ فيحاء ، فيها مِن كُلّ زوج بهيج ، ومن كلّ عطرٍ أريج ، أمضى سُيوفِهنّ الحبّ ، يصرَعنَ به ذا اللُّب ، الحازمُ معهنّ ضَعيف ، والعاقلُ عندهنّ سَخيف ، تَرى الرجلَ يُصارعُ الأسود ، ويُقارعُ الجُنود ، ثمّ تغلِبُه امرأة ..!
وتَرى الرجلَ يزهَدُ في الحُطام ، ويَصُومُ عن الشرابِ والطعام ، ثمّ تَصرعُه امرأة ، وتَرى الشجاعَ يَطرَحُ الكُماة ، ويَهزمُ الرماة ، وإذا قَصْدُه امرأة ..!
عَنترةُ فُتِن بعَبلة ، فرأى بَريقَ السيوف كثغرِها فقَاتَل ، ورأى سَوادَ الهول كشَعرِها فنازَل ..
حَضَر جيشٌ فَشَمّ طِيبَ العَطارة مَن شَمّ ، فيا خَسَارَةَ مَن شَمّ ، فصَارَ الجيشُ بطيبِها في هَزيمَة ، ولأعدائِه غَنيمة .
المرأةُ ولو أنّها في الخصَامِ غيرُ مُبين ، فدَمعُها أفصحُ شيءٍ عندَ المُحبِّين ، سِرُّ قُوّتِها أنّها ضَعيفة ، ولُغزُ بأسِها أنّها لطيفة .
يُريدُ الغربُ مِن المرأةِ أن تتبرّج ، وبِالفتنةِ تَتبهرج ، وعلى الثلج تَتزلّج ، ويُريدُ الإسلامُ منها العفافَ والستر ، والتقوى والطهر، لتكونَ آيةً في الحُسن والقَبول والأسر ، يُريدُون منها أن تكونَ عالمةَ فيزياء ، وعارِضةَ أزياء ، ولو فتنَت رجالَها ، وعقَّت أطفالَها ، وضيّعَت أجيالَها ، ويُريدُ الإسلامُ لها أن تكونَ أمينةً حَصينة ثَمينة .
الأملُ مِن عينيها يُشرِق ، والظمأ في دَمعِها يُغرق ، بُكاؤُها صرخةُ احتجاج ، وصمتُها علامةُ الرضا بالزواج ، كانَ آدمُ في الجنّةِ بلا أنيس ولا جليس ، فطالَت وَحشتُه ، وصعُبَت عليه غُربتُه ، فخلقَ اللهُ له حوّاءَ ، فَتمَّ بينَهما الصفاءُ والوَفاء ، وحُسنُ اللقاء ، وجميلُ العِشْرةِ والاحتِفاء .
فرجلٌ بلا امرأةٍ كِتابٌ بلا عُنوان ، ومُلْكٌ بلا سُلطان ، وامرأةٌ بلا رجل صَحراءُ لا نبتَ فيها ولا شَجَر ، وروضةٌ لا طلعَ بها ولا ثمَر .
شُكراً يا آمنةُ بنتَ وَهب لقد أهديتِ للإنسانيّة ، وقدّمتِ للبشريّة ، ابناً تَضاءلَت في عظمتِه الشمسُ في ضُحاها ، والقمرُ إذا تلاها ، ابناً قالَ للوثنيّةِ ، وهي تَعرِضُ عليه عروض الإغراء : ( وَالذي نَفسي بيدِه لو وَضعتُمُ الشمسَ في يَميني ، والقمَرَ في يَسَاري لن أتركَ ديني ، حتّى يَعُمَّ القُرى والبَراري ) ، ويكفي النساءَ فَخراً ، ما أطلَّ صَباحٌ ، وكَرَّ مَساء ، أنَّ محمّداً  مِن امرأةٍ وُلِد ، ومن أنثى وُجِد :
بُشرَى مِن الغَيبِ ألقَـت في فَمِ الغَـارِ وَحياً وأفضَت إلى الدنيا بأسرارِ
بُشرَى النبوّةِ طافَت كالشذَى سَحَراً وأعلنَـت في الدنَى مِيـلادَ أنوارِ
وَشَقّت الصمتَ والأنسـامُ تحمـلُهـا تحتَ السـكيـنـةِ مِن دارٍ إلى دارِ
قدَّمَت المرأةُ للعالم الخلفاءَ الراشدين ، والأبطالَ المُجاهِدين ، وعباقرةَ الدنيا والدين .
المرأةُ إذا حَسّنَت آدابَها ، وطهّرَت جِلبابها ، ملأت القلب حَنانا ، والبيتَ رضوانا ، والدنيا سَكناً وعِرفانا .
والبيتُ بلا امرأةٍ محرابٌ بلا إمام ، وطريقٌ بلا أعلام ، إذا اختفَتِ المرأةُ مِن الحياة ، اختفَت منها القُبلاتُ والبسَمات ، والنظراتُ والعبرات .
وإذا غابَت المرأةُ مِن الوجود غابَ منه الإخصابُ والإنجاب ، والكلماتُ العذاب ، والعيشُ المُستَطاب .
وفي الحديث : ( تَزَوّجُوا الوَدودَ الوَلود ) ، والسرُّ في ذلك لِتكثُر الحشُود ، وتَزدادَ الجنُود ، وَليُكاثِر بنا رسُولُنا  يومَ الوُفود .
ويومَ تخلعُ المرأةُ الحِجَاب ، وتَضَعُ الجِلباب ، فقد عصَت حُكمَ الإسلام ، وخَرجَت على الاحتِشام ، وقُل على العَفاف السلام .
كيف يُسكَنُ بيتٌ بلا أبواب ، ويُحلُّ قصرٌ بلا حِجاب ، ويُشرَبُ ماءٌ ولغَت فيه الكلاب ، مِن حَقِّ الدرّةِ أن تُصان ، ومِن العِنايةِ بالثمرةِ أن تُحفَظَ في الأكنان ، وكذلكَ المرأةُ بيتُها أحسَنُ مَكان ، وأعزُّ أمان ، ولكنّها إذا قلبَت ظَهرَ المِجَنِّ ، وعرّضَت نفسَها للفِتَن ، فهي ضَحيّةٌ وجلادٌ ، وظالمةٌ في ثَوبِ مَظلوم .
كيدُ الشيطانِ ضَعيف ، وكيدُهنَّ عظيم ، وقوّتُهنَّ واهِية ، لكِنَّ خطرَهُنَّ جَسيم ، هُنّ صويحباتُ يُوسُف ، ذواتُ السكاكين ، وقاهِراتُ الرجالِ المساكين ، حتّى قال الرشيدُ في بعضِ النشيد :
ما لي تطاوعني البرية كلها وأطيعهنّ وهُنَّ في عصياني
فاجعَل بَينهُنَّ وبينَ الشرِّ لهَبا ، واملأ عليهِنَّ مَنافِذَ الفتنةِ حَرَساً شديداً وشُهُبا ، فلا تَعرِضِ اللحمَ على الباز ، ولا تَنشُرِ القماشَ على البزّاز ، فأنعِم بحِرز السترِ والصيانة ، وأكرِم بحِجابِ العِفّةِ والحَصانة .
وإذا رُزقتَ بَنات ، فإنّهنّ مِن أعظَمِ الحسناتِ والمكرُمات ، حِجابٌ مِن النار ، وحِرزٌ مِن غَضَبِ الجبّار ، فاحتَسِبِ النفقة ، فإنّها صَدَقة ، ولو أنّها غَرفةٌ مِن مَرَقة ، وتَعاهَدهُنَّ بالبرّ والصلة ، فإنّ رحمتَهُنَّ للجَنّة مُوصِلة ، وكفاك أنّ الرسول المشرِّع ، رزق ببنات أربع .
والمرأةُ هيَ بَطلةُ الأمُومَة ، ومُنجِبةُ الأمّةِ المرحُومة ، فَضائِلُها مَعلُومة ، وهيَ مَعدِنُ الحَسَب والكَرَم والأرُومة ، وتَعليمُها الدينَ مِن أشرفِ خِصالِ المُوحّدين ، لأنّها تُصبحُ لكتابِ اللهِ تالية ، ذاتَ أخلاقٍ عالية ، تَتفقّهُ في الكتابِ والسنّةِ ، لأنَّهما أقربُ طريقٍ لِلجنّة .
ونَحنُ الرجالُ أُسنِدَت إدارةُ الحياةِ إلينا ، وكُتِبَ القتلُ والقِتالُ علينا ، وأمّا النسَاء في الإسلام فمَقصُوراتٌ في الخِيام ، مَحفُوظاتٌ مِن اللئام ، مَصُوناتٌ عَن الآثام .
أمّا الغَربُ فهي عندهم للمُغرِياتِ وَرَقةٌ رابِحة ، أبرَزُوها في صُوَرٍ فاضِحة ، أخرَجُوها بلا أدَبٍ ولا دِين ، وعرَضُوا صُورَتَها في المَيادِين ، باعُوها في سُوق النِّخَاسَة ، ووظَّفُوها للرجسِ والخَسَاسَة ، وأقحَمُوها مَغاراتِ السياسَة .
جَعلُوا المرأةَ سِلعةً للدعايةِ والإعلان ، وخَطيبةً في البرلمان ، تُشارِك في التجارة ، وتُقاتِلُ الجُنود الجرّارة ، جَعلُوها جُنديَّ شُرَطة ، فوَقعَت مِنَ الإحراجِ في وَرطة ، تمتطِي الدبابة ، وتطارد المجرمين في الغابة ، يُستَدَرُّ بهنّ عَطفُ الجبابرة ، وتُبرَمُ بهنّ الخُطَطُ الماكِرة ، وقد خلقها الله لمهمّة ، فكيف يزج بها في أمور مُدلهمّة .؟!
وما كَرَّم النسَاءَ مِثلُ صَاحِبِ الشريعةِ السمحَاء ، والمِلّةِ الغرّاء ، فقد بيّن كَرامَتهُنَّ بقولِه : ( خيرُكم خيرُكم لأهلِه ) ، ويا مَعاشِرَ الأُمَم هل عندَكم مثلُ حَديث : ( اللهَ اللهَ في النسَاء فإنّهنَّ عَوانٍ عندَكُم ) .؟!
وكانَ  في بيتِه أفضلَ الأزواج ، دائِمَ السرورِ والابتِهاج ، يَملأُ البيتَ أنساً ومزاحا ، وبشراً وأفراحا ، طَيّبَ الشذَى ، عديمَ الأذى ، لطيفَ المَعشَر ، جميلَ المظهَر ، طيّبَ المَخبَر ، لا يُعاتِبُ ولا يُغاضِب ، ولا يُطالِبُ ولا يُضَارِب ، يُؤثِرُ الصفحَ على العِتاب ، والحِلم على السِّباب .
ومِن حُبِّه للبنات ، وعَطْفِه على الضعِيفات ، يحمِلُ أُمامة ، وهو في الإمامة ، فإذا سَجَدَ وَضَعَها ، وإذا قَامَ رَفَعَها ، وكانَ يَقُومُ لفاطِمةَ الزهراء ، الدرّةِ الغرّاء ، ويُجلِسُها مَكانَه ، فكأنّ سُرورَ الحياةِ صُبَّ عليها ، وكأنّ الدنيا وُضِعَت بين يَدَيها .
هيَ بنتُ مَـنْ ؟ هي أمُّ مَـنْ ؟ مَن ذا يُساوِي في الأنام عُلاها
أمّا أبوهـا فهو أشرفُ مُرسَلٍ جبريلُ بالتوحيدِ قد ربّاها
وعليُّ زَوجٌ لا تَسلْ عنه سِوى سَيــفٍ غَـدا بيَمينِـه تيَّـاهــا
وكانَ  يجلِسُ للنساء مِن أيامِه ، فيُفيضُ عليهنَّ مِن بِرِّه وإكرامِه ، وجُودِه وإنعامِه ، فكأنّه الغيثُ أصابَ أرضاً قاحِلة ، والماءُ غَمَرَ تُربةً ماحِلة ، فإذا هوَ يَملأُ القُلوبَ حُبّا ، والنفُوسَ أُنساً وقُربا ، يُبشّرُ مَن ماتَ لها وَلَد بالنعِيم المُقيم ، فتتمَنّى كلُّ امرأةٍ أنّها ذَهَبَ لها فَطِيم ، لِما سَمِعَت مِنَ الأجرِ العَظيم .
ويُخبِرُ مَن تُطيعُ بَعلَها ، وتُحسِنُ فِعْلَها ، بأنّ الجنّةَ مَأواها ، والفردَوسَ مَثواها ، يَقِفُ مَعَ المرأةِ الشاكية ، ويَتفَجَّعُ للأنثى الباكِية ، فلو كانَت الرحمةُ في هيكلٍ لكانَت في مِثالِه ، ولو كانَ الرفقُ في صُورةٍ لكانَ في سِربالِه ، تَأتيه المرأةُ المُصابَة في خَوفٍ وهَول ، وفي دَهَشٍ وذُهُول ، فما هُو إلاّ أن تَرى إشراقَ جَبينِه ، ويُسْرَ دِينِه ، ولُطفَه المُتناهِي ، وخُلقَه الباهي ، حتَّى تَعُودَ عامرةَ الفُؤاد ، حَسنةَ الفأل والاعتقاد " ( ) .

وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه سيّدنا محمّد
وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والحمد لله ربّ العالمين .




الموضوع الصفحة
الإهداء ......................................... ....................................... 5
 ......................................... ............................................ 7
بيان واعتذار........................................... ........................... 13
بدء حديث أبي رحاب ودعوة أبي زنادٍ له ............................. 15
افتتاح رئيس المجلس أَبي بكرة للحديث ............................... 15
1 * خبر أبي بَدر : زوجة ودود ولود ، وكلّ شأنها محمود ، أبهجت نفسها ، وأسعدت زوجها ، فطوبى لها .. ................
16
2 * خبر أبي نواس : حمقاء نكراء ، مشاكسة عوجاء ، هي بعض الذنوب والأخطاء .. ....................................................
23
3 * خبر أبي سيّار : زوجة متغرّبة عن دينها وقيمها ، سلبت من زوجها ماله وأولاده .. .........................................
29
4 * خبر أبي عزّام : زوجة غافلة جاهلة ، صبر عليها وعلّمها فكانت خيراً من غيرها .. .........................................
34
5 * خبر أبي زهير : زواج لم يتمّ ، لتسلّط أمّ ، هي كنفّاثة السمّ .. ......................................... ............................
38
6 * خبر أبي هتّان : زوجة موسوسة بلهاء ، ذات غيرة حمقاء ، لا تزال تلحّ في الطلاق دون موجب أو سبب ..
41
الموضوع الصفحة
7 * خبر أبي عارف : زوجة مفتونة بالوظيفة ، عن زوجها وولدها عزوفة ، كان مآلها الطلاق ، وأخرى مثقّفة لبيبة ، أحسنت خدمة بيتها ، ورعاية زوجها وولدها .. .................

49
8 * خبر أبي عفراء : زوجة من بنات حوّاء ، لها ما شئت من الصفات ، تعرف منها وتنكر ، يجمل في صفاتها ولا يفصّل .. ......................................... .........................................

54
9 * خبر أبي أيمن : زوجة غريرة ، من بيئة فقيرة ، سعدت مع زوجها وأسعدته لولا تدخّل أبيها بحياتها .. ... .............
58
10 * خبر أبي بردة : زوجة كريمة حسيبة ، وفيّة حفيّة ، شروطها شديدة ، طال العهد معها ولم تنجب ، إلى أن خطب غيرها في السرّ فحملت .. ...........................................

70
11 * خبر أبي خليل : زوجة صعبة العشرة ، لكنّها لا تفرك ، يعتذر عن الحديث عنها ، لأنّهم أخلّوا بشروط لقائهم ..
75
12 * خبر أبي المعالي : زوجة طالب علم ، خُطب ولم يخطب ، لم تعرف للعلم قيمة ، فطلّقت بعد عناء شديد .. ثمّ أبدله الله خيراً منها .. .........................................................

78
13 * خبر أبي حيّان : زوجة الفيلسوف المبدع ، صاحب العزّة النفسيّة ، والهمّة الأبيّة ، الذي أبدع أسلوباً نأى بحياته الزوجيّة ، عن كلّ خلاف أو مشكلة عصيّة .. ..........

85
14 * خبر أبي مساعد : زوجة البدويّ الثريّ المتأدّب ، متطاولة سفيهة ، لم تصلح حياتها إلاّ بعد زواجه بغيرها ..
99
الموضوع الصفحة
* ألوان من غزل أبي مساعد ، الذي لم يجده شيئاً مع زوجته الأولى .. ......................................... ..............................
105
15 * خبر أبي دردرة : ....... ..................................................... 115
* التعريف بأبي دردرة : ......................................... ................. 115
* تعريف بأبي دردرة ونظرته إلى الزواج وتعدّد الزوجات 116
* حديث أبي دردرة عن زوجاته على وجه الإجمال : ........... 125
1) أمّ الوفاء : كانت كسحابة صيف عابرة ، ثمّ كانت بفقْدِها المصيبة الفاجعة .. ..... .................................................
125
2) أمّ عاصم : * أمّ المكارم والمغانم .! كانت كالماء البارد على شدّة الظمأ ، أنس المحنة ودواء العلّة .. .........................
125
3) أمّ المحاسن : أنس وودّ ، ورحمة ومجد ، ومحاسن لا تعدّ ولا تحدّ ، توفّيت في حادث سير .. .........................................
125
4) أمّ عمرو : ذكرها يجلبُ الهمّ والغمّ .. ليتَها تعود يوماً إلى رشدها ، وتحنّ إلى أولادها .. ...........................................
125
5) أمّ العطاء أو أمّ لدد : بلاء ونكد ، ووجعة كبد ، لا أطمع منها بوصل ولا ولد ، ولا أتركها عندي إلاّ تتمّة العدد ، لا تسكت فتريح ، ولا تموت فترتاح ........................

126
6) أمّ كمال : * رضيّة الحال ، هنيّة البال ، نِعمّا ما أنجبت من الفتيات والرجال ، وورّثَت من كمال ، ودود ولود ، حظيّة كعَرف العُود .. ..............................................................

126
الموضوع الصفحة
7) أمّ الرجاء : * المؤمنة القانتة ، العابدة الزاهدة ، الذاكرة الخاشعة ، لها سبعة أولاد من غيري ، أكبر منّي سنّاً ، وأظهرُ فَضْلاً .. ........................................................................

126
* تفصيل الحديث عن سبب زواج أبي دردرة بكلّ واحدة من زوجاته ، وأخبار زوجاته ، وسياسته في الجمع بينهنّ .
127
* الأسئلة الموجّهة إلى أبي دردرة ، وجوابه عنها . ................ 158
الخاتمة : رِفقاً بالقَوارير من مقال للشيخ عايض القرنيّ . ..... ............ 163
 ....................................................................................... 171



* صدر للمؤلّف *
1 ـ ضرب الأمثال في القرآن أهدافه التربويّة وآثاره .
2 ـ وجوب وحدة المسلمين .
3 ـ رسالة المعلّم وآداب العالم والمتعلّم .
4 ـ رسالة اعرف نبيّك محمّداً  يا بنيّ .!
5 ـ رسالة ومضات من هدي النبيّ الخاتم  .
6 ـ البيّنات في تفسير سورة الحجرات .
7 ـ رسالة المنهج القويم للداعية الحكيم .
8 ـ رسالة مشاهد الأتقياء في الصبر على الابتلاء .
9 ـ رسالتان في التربية .
10 ـ قصص وعبر من عجائب القدر . المجموعة الأولى .
11 ـ قصص وعبر من لطائف القدر . المجموعة الثانية .
12 ـ حديث القلب .
13 ـ رسالة النصائح الذهبيّة لتربية الأولاد ورعايتهم .
14 ـ قبسات من نور النبوّة لصاحبي الفضيلة الشيخ أحمد عزّ الدين البيانونيّ والشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة رحمهما الله بعناية د. عبدالمجيد البيانونيّ ، وفي ختامه رسالة : " ومضات من هدي النبيّ الخاتم  " .
15 ـ تذكرة العابد بحقوق المساجد .
16 ـ أساليب تربويّة ومفاهيم دعويّة من حياة الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني .
17ـ ركائز دعويّة من هدي النبيّ  في العلاقات الاجتماعيّة .
18 ـ القول المبين في تفسير سورة : " يس " .
19 ـ لمحات من حياةالشيخ أحمدعزّ الدين البيانوني وتعريف بمؤلّفاته .
20 ـ لئلاّ تضيع الطفولة : ثلاثون سبباً تمنعك من الطلاق .!
21 ـ مواقف تربويّة من هدي النبيّ  مع الأطفال .
22 ـ إنّها الأنثَى .! رؤى نقديّة حول دعوى التمييز ضدّ المرأة
23 ـ ملامح السعادة في تربية الطفل على العبادة
24 ـ نبيّ الهدى والرحمة 
25 ـ نحن وأبناؤنا
26 ـ دندنات حول بيت السعادة
27 ـ مع أشجان الروح : نَوافِذُ الإقدَام ِوَمَوطِئُ قَدَمٍ بَينَ الأقدَامِ
28 ـ رِفقاً بالقَوارير !
29 ـ أربع رسائل في التربية .
30 ـ خطوة خطوة نحو التربية الناجحة .
31 ـ الغائب المنتظر
32 ـ كيف تنعم أسرنا بالأمن .؟
33 ـ خمس عشرة مهارة تجعلك مربّياً متميّزاً .
34 ـ أيّها الأمير رسَالتَان فِي النُّصح وَالرِّعَايَة



هذا الكتاب
خَيرُ هَديّة للعَروسين
وخَيرُ وَسيلة للإصلاح بين الزوجين
وخَيرُ أنيس في مجالس الأنس والسمر
وخَيرُ مُؤدّب لمن يبحَثُ عن عُيُون الغَزَل
وخَيرُ مُعلّم لفنّ الحداء للقوارير في بيداء الحياة اللافحة
اِقرَأه مَرّةً وأكثر من مرّة .. وأهده لمن تحبّ إسعاده
قبلَ أنْ تقرأَه في صَفحَاتِ الحَياةِ مِئةَ مَرّة ..

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك