حاجتنا لإنضاج الرأي!
حاجتنا لإنضاج الرأي!
خالد الحسن
لماذا نضع أحيانا حجابا بيننا وبين العالم والثقافات والأفكار، لم لا نكون دائما على احتكاك وتلاحم مع هذه المتغيرات. لماذا ينقطع عنا النفس في منتصف الطريق، لنبدأ في التحرك العكسي.
لما سأل صديق مشفق المفكر إدوارد سعيد: "إدوارد، لماذا لا تهدأ قليلا، وترتاح قليلا، وأنت على ما أنت عليه، فتقعد عن السفر وقبول الدعوات، والتناثر في العالم، وما أنت بحاجة إلى شيء من هذا كله، فلقد بلغت ما بلغت"، أجاب وكله ثقة بنفسه مفعما بالحيوية: "لا أريد أن أهدأ، سأمضي إلى نهاية الشوط، إلى أن أسقط، أريد أن أفعل كل ما أريد أن أفعله، إذا هدأت، فكأنني أعترف للمرض بالقهر، وما أنا بقادر على ذلك". لنتوقف قليلا عند عبارة "أريد أن أفعل كل ما أريد أن أفعله"، بالبحث والتفكير والكتابة والمحاضرة والثراء اللغوي والمجاهدة والتوسع المعرفي وخوض معترك الصراع..تمكن إدوارد سعيد من تحقيق أبرز ما كان يتمناه، لقد خاض معارك مريرة في مواجهة هيمنة "الإمبريالية" وأكاذيب الصهيونية، رغم أن سرطان الدم كان ينخر كيانه. إن عددا من مثقفينا ومفكرينا سرعان ما يقبع في مكان ثابت ولا يتحرك، لا يغادره إلى مناطق وشعب أخرى، ربما لأنه ألفه، أو لإراحة عقله شيئا ما، أو لأنه يؤثر السكون، أو لعجز فيه وهكذا... أو لأنه "كلما تقادم العهد.. ساد التقليد، والترديد، وخاف القدماء من النقد، وهلعوا من التجديد، ووضعوا من عرفهم وعادتهم قيودا لازمة، فكثر الناقدون بحق وبدونه".
قد لا تتاح لهؤلاء الفرصة للقول والفعل أو بالأحرى قد يحال بينهم وبين صناعة الكلام والموقف، كما حيل بين إدوارد سعيد وبين الوصول إلى المراكز الأكاديمية والجامعات ووسائل الإعلام الأمريكية، لكن الفارق أن سعيد واجه الضغوط بإبعاده من المشهد الثقافي والفكري ورفع التحدي وكتب في صحيفة "نيويورك تايمز" دفاعا عن فلسطين وحاضر في بريطانيا وغيرها من الدول الغربية. ورغم ما أثاره موقفه تجاه الهوية من إشكالات ونقد واسع (حيث لا يرى الهوية كطرف فاعل إيجابي في بناء الثقافة، بل على العكس من ذلك تماما، يراها إثما قوميا أو فئويا) إلا أنه ظل "مناضلا" فلسطينيا إلى آخر لحظة في حياته. إن فكرة حية فاعلة تستحق أن يحشد لها المثقفون والمفكرون الدعم والسند، وأن يفنوا أعمارهم في خدمتها وحمل الغير عليها، وأن يفعلوا كل ما يمكن فعله، وأن لا يهدءوا في سبيل نشرها والتمكين لها في الأنفس والعقول، وانظر ماذا فعلت الفكرة الحية في إدوارد، جعلته يعطيها كل حياته، ويصارع مرض السرطان حتى لا يثنيه عن الالتزام بما تتطلبه، وأكثر من هذا، كيف يحافظ على استقلالية فكره وموقفه، وأن ينأى بذهنه عن السلطة، وهذا يفرض قدرا من تحمل "وحشة" التهميش وربما المصادرة، لكنها ضريبة حرية التفكير والقول وإرادة الفعل المستقلة (والاستقلالية لا تعني منازعة السلطة أو معاداتها)، غير أنه في الأخير قال ما يريد قوله وتحدى بفعله أشكال الحظر والمصادرة والتضييق. وبالتأكيد، ليس من فكر من خلال إملاءات الحاكم والسلطة أو انحاز إلى مقولاتها وضغطها، وخضع لمنطقها، كمن يفكر وينطلق بعيدا عن أشكال وأنواع التزلف أو الضغوط أو المجاراة، وتجد هذا التمايز والفروق في الأثر والقبول والفعالية. إن قوة التأثير الكامنة في الكلمة والمحاورة قد تتجاوز توقعات صاحبها، وقد أدرك إدوارد سعيد (وغفل عنه الكثير من مثقفينا ومفكرينا) أنه لا يقتل الفكرة إلا السكوت عنها أو تمييعها أو خذلانها من الوصول للناس، وكم من حق اغتاله الصامتون، وكم من مظلمة قهرت الناس بسبب سكوت العقول الواعية، إذ إن التنازل عن استقلالية الرأي والموقف في لحظة من لحظات الضعف أو الانفعال أو الصدمة أو التحولات الخاطفة وملازمة الصمت عن التعبير عن الحق، تلازم لحظة التخبط والاضطراب في إنسانية الإنسان، لأن الصوت الذي قد يعلو أو الفكر الذي يراد له أن يعم ويسود، أو يجبر عليه الناس، قد لا يكون صحيحا ولا مقبولا.
إن التأثير –ونعني هنا التأثير في الدوائر الغربية من قادة الرأي العام والمؤثرين محاورة وتواصلا- عملية مركبة، لا يكفي فيها الحرف البليغ، والفكرة الحية المعطاء، وإنما لا بد من وسط مرحب، ودعاية قوية يسندها تشعب في العلاقات العامة، وجهاز لقياس الرأي العالم، ومركز للدراسات والبحوث يطيل التنقيب في الفكر الغربي، ويصبر على المتابعة والرصد، ويحكم هذه المكونات، تأصيل شرعي عميق ومستوعب.
وأعتقد أننا أطلنا الجدل حول الحوار الإسلامي الأمريكي، ماله وما عليه، وأوغلنا في الطعن والتجريح، وأسرفنا في التهليل والتمجيد، لكن من المهمَ أن نخرج من هذا الجدل الدائر، بآلية أو صيغة أو منهجية تعتمد عملية التأثير عبر حراك ثقافي وفكري على وجه الخصوص.
والمثقفون يغلب عليهم ما غلب على حكامهم من الخوف والجهل والضعف، ويعاب على المثقفين أيضا، خاصة الإسلاميين منهم، تحزبهم غير الواعي، وقطعية مواقفهم بلا تروِ وسبر وتمييز، فمنهم من يرى الحوار الأمريكي خيرا بلا شر، أو شرا بلا خير، ويتعصب لأحد الموقفين بطريقة عمياء. من دون أن نحدد من هو الطرف الأمريكي الذي نحاوره أو لا نحاوره!.
كما أن حالة من طغيان الموقف العقدي على الفهم السياسي لا تخطئها العين، وهو ما يحجب جانب آخر مهم من الحقيقة، وليس هذا مدعاة للتمييع والجرأة على الثوابت أبدا، فهذه مسألة لا تحتكر وإنما يطلب فيها التبيان والدليل ومزيد تفصيل، والحكم على الشيء فرع من تصوره، فمن لم يستبصر الواقعة يخطئ في تقدير الموقف.
وهذا الغرب ليس شعبة واحدة ولا توجها واحدا، والموقف منه قابل للتجزيء، والقرار الأمريكي خاضع لضغط "اللوبيات" وتجاذبات قوى التأثير، ليس تشيني وحده من يصنع القرار دائما، فهناك دائما قوى معاكسة وتيارات مضادة، وموقف الجامعات والأوساط الأكاديمية، مثلا، يختلف أحيانا أو في كثير من الأحيان عن موقف صناع السياسات، ولعل في مقاطعة العشرات من الجامعات والآلاف من الأساتذة البريطانيين للمعاهد العبرية بعض التمايز الذي نتحدث عنه، وهناك.
ومهما كانت قدرات الجماعات والحركات والتيارات المعنية بالمبادرة الأوروبية والتوجه الأمريكي "الجديد" ومؤهلاتها العلمية والفكرية، فإنه ليس بمقدور المتصدر للرأي وصناعة الموقف والتأثير –مهما علا قدره- أن يوفق للصواب منفردا في كل حين وآن، خاصة مع تعقيدات الأوضاع وتداخل الأحداث وتسارعها، وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجموعة الواحدة –أو الجماعة والتنظيم والمؤسسة- التي ترى برأي واحد ويغلب عليها التماثل والتطابق، لأنه لا يعدو أن يكون حوارا داخليا مع "الأنا"، إذ من المهم أن نعتمد المسلكية الحوارية بأن نشرك "الغير" –داخل النسق الواحد- في الرأي والنظر طلبا للحق ووصولا إلى الصواب، وهذا "الغير" قد يأخذ شكل هيئات ومؤسسات استشارية أو أولو النظر والرأي والحكماء، من مختلف المدارس والتوجهات، إذ إن الآليات الاستهلاكية التي توسل بها تيار الإصلاح في الوطن العربي –على اختلاف مدارسه الفكرية والحركية- في صناعة الرأي وعملية التأثير، والفاقدة لأسباب الاشتراك والموغلة في النظر المجرد، غلب عليها الطابع الانتقائي أو التجزيئي أو"الفرداني" أو التجريدي.
ويمكن القول إن أكثر من تصدر للإصلاح وتحديات النهضة لم يلتفت إلى أهمية وحيوية "المفهوم الجماعي للصواب" الذي كان حاضرا بقوة في الممارسة التراثية في أوساط العلماء والنظار.
وإلى الآن لم تنضج تيارات الإصلاح ولم تطور آليات للشراكة في الرأي وطلب الصواب، بل تعتمد أساسا مسلكا حواريا موصولا بما اشتهرت به "الممارسة التراثية" من شيوع "طريقة أهل المناظرة" والتي شملت جميع شعب ودوائر المعرفة الإسلامية، والأصل في هذه المنهجية الأخذ بمبدأ الاشتراك مع "الغير" في طلب الحق والصواب والعمل به.
كما أن من يتوخى التأثير خاصة في الجمهور أو الرأي العام الغربي، لا يمكنه أن يستغني عن اللغة المعتمدة في هذه العملية، وهي لغة لا تحابي ولا تجامل، ونعني بها ما يسمى بأجهزة الإسناد، ومنها مؤسسة أو أشخاص –بمثابة هيئة استشارية- متفرغون لرصد ومتابعة البيئة الفكرية الغربية، وتوجهات قادة الرأي وصناع القرار، يزودون المعنيين بالتقارير والدراسات، ويعتمد عليها في الصياغة الفكرية والمنهجية، ثم جهاز آخر مختص في الدعاية والترويج للفكرة والمبادرة في الغرب، يتوفر على شبكة علاقات واسعة بالمراكز والصحف وقيادات الرأي وصناع القرار والشخصيات المؤثرة، ويتابع الحملة، وأصداءها وتفاعلاتها، ويمد المعنيين بالتقارير، وخطوتنا ليست وليدة ظرف زمني، ومبادرة تسويقية عاجلة، وإنما تمليها خطة وإستراتيجية ونظرة عميقة، والبداية من تفريغ أشخاص أكفاء للقيام بمثل هذه المهام من "أولي الأيدي والأبصار"، وأن نمدها بالمال والإمكانات، ونسد طلباتها واحتياجاتها، إنه ما لم نراع اللغة المعتمدة في التأثير في دنيا الناس، فإن عملنا لا يجاوز دوائر مغلقة، ويفتقد للفعالية، وقديما قالوا لغة الشعر لا تصلح لدار القضاء، نعم نريد أن نؤثر، ونثبت حضورنا المركز والممتد زمانا ومكانا، لكن كيف؟.
العملية ليست مجرد صياغة وتوقيع واختيار أسلوب، وإنما هناك الحجة البليغة، والعمق في الطرح، ودراسات ممهدة وتقارير ترشد، وشبكة علاقات لإيصال صوتنا ورسالتنا، وقبل هذا، ظرف مواتي، ووسط مرحب، وتأصيل شرعي وعقدي ضابط. لا أدري لماذا نبخل على مواقفنا ومبادراتنا، بالمؤسسات المتخصصة والموارد المالية والبشرية؟ آن الأوان أن نؤسس لطرحنا ومشروعنا وحضورنا أجهزة ومؤسسات تسند وتعزز مفرغة ومتخصصة، حتى نضمن -نسبيا- قوة التأثير، وآن الأوان أن نحترم عملنا وحراكنا قبل أن ندعو الآخرين لاحترامه، فضلا عن قبوله.
نعم نحن أصحاب حق لا مراء فيه، لكن كما ذكر ابن القيم في تفسير قوله تعالى: { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار}: "فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق، والأبصار: البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه" (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص82). وليست القوة محصورة في السيف، وإنما قوة التحدي والتأثير أيضا.
قد يعترض معترض، ويصيح في وجه هذه المقترحات مستنكرا: ما لا يدرك كله لا يترك جله، والبدء بالمتيسر لما قد يتعسر، نعم وهذا لا إشكال فيه، لكن ألا يتطور هذا المتيسر؟ ولم لا تكون عملية التأثير المركبة من هذا الجل الذي لا يترك؟، والمهم أن لا نتوقف عند حدود التبرير والتسويغ، وبإمكاننا فعل الكثير بمنهجية وآلية، ولا نحمل خطوة أكثر مما تتحمل على هناتها، ونشتغل بما يحقق الأثر والفعالية والخير للأمة.
ومهم أن نضع في الحسبان أن تحولات العالم الإسلامي هي في قلب تحولات العالم، فكريا وسياسيا وليس فقط جغرافيا، كما لم يسبق للعالم أن عاشها، من مدة طويلة، وهي مستهدفة صراحة دون مواربة، والعداوة السافرة للإسلام أيقظت النائمين ونبهت الغافلين وأغرت الآخرين بمحاورتنا!.
المصدر: مجلة العصر