خيارنا: إما الحوار وإما....

خيارنا: إما الحوار وإما....

عبد الله محمد الغدامي

يجب ألا ننسى أننا مجتمع محافظ، ومن طبيعة العقلية المحافظة أن تتوجس من أي رأي مختلف، ويجنح العقل المحافظ إلى التمسك بنظرية الرأي الواحد، من جهة، وبنظرية التكتم من جهة ثانية، وإذا جرى الإعلان عن رأي مختلف تحفزت الظنون والهواجس والتخوفات، وصارت هذه تعبر عن نفسها بطرق متنوعة، ولاشك أننا نشهد اليوم كمية وفيرة من ردود الفعل على الآراء المخالفة، وهي آراء دفع بها حس الحوار الذي صار هو المفردة الأكثر انتشاراً في خطابنا اليومي الحالي، وبما إن الحوار حادثة جديدة في مجتمعنا فإن مواجهتها ستكون أكثر شراسة واشد تعنتا من مجرد تبادل الآراء وتصارعها التقليدي، ولذا ستدخل لغة جديدة لمواجهة الطارئ المختلف، وكل من قرأ الإنترنت سيجد لغة هناك هي من الصرامة والتشدد بدرجة توازي ما يحس به الرافضون من انطلاق يرون أنه انفلات وتهديد للساكن الثقافي والهدوء النسقي في حياة المجتمع، وكلمة واحدة عن إصلاح التعليم ستكون كأنها حرب عالمية على الذات الساكنة وعلى حراس السكون، وكأن الإصلاح بحد ذاته مفسدة كبرى.

 

ولست ممن يأخذون المسألة مأخذاً شخصياً ولا ممن تستفزهم الردود لكي يندفعوا في مبارزة شخصية مع الخصوم، تلك مهمة لاتليق بمثقف يسعى إلى قراءة أنساق المجتع والتعرف على ردود فعله وعلى لغة التبادل الثقافي فيه وفي اوساطه المتنوعة، ولاشك أن المواقف المؤيدة لي تبدو كبيرة وقوية، وفي المقابل فإن الرافضين مازالوا يستخدمون الوسيلة التقليدية ذاتها، وهي وسيلة تقوم، أول ماتقوم، على تشويه الخصم، وذلك بإظهاره عاجزاً ومشبوهاً وعميلاً ومارقاً، وإذا افلحوا في تشويه الخصم فإنهم بذا يسقطون مقولته، حسب التصور التقليدي الذي يعرف الحق بالرجال، وليس الرجال بالحق. وهو مبدأ يتنافى مع الإسلام كقيم في العدالة والتقوى، وإذا تحقق نبذ الخصم تحقق إسقاط المقولة في ظنهم.

 

وفي هذا الشأن جرى ويجري الربط بين دعوة مراجعة المناهج عندنا وبين أمريكا، والذين يقولون هذا القول لايترددون في التأكيد في الوقت ذاته على ضرورة تطوير المناهج، وهم إذا يفعلون ذلك يقعون في تناقض واضح، حيث يميزون بين ذواتهم التي يمنحونها حصانة وطنية وبين الآخرين الذين سيتم وصفهم بأنهم عملاء وأجراء للغرب، وحينما يقولون أنهم يريدون تطوير المناهج فإنهم يسعون الى الادعاء بأننا نسعى الى تغيير المناهج، ثم يفترضون فروقاً جوهرية بيننا وبينهم، حيث يكون التطوير مطلباً وطنياً فيه اخلاص وتقوى، أما التغيير فهو خيانة وطنية ومروق فكري.

 

ولايخفى على متأمل ان يكشف التلاعب اللفظي هنا وهو ليس تلاعباً واعياً بل إن الدافع إليه هو المخاصمة وهي مخاصمة مفتعلة، إذ كيف يكون التطوير إذا لم يكن هناك خلل معترف به ولو ضمنيا عبر هذه الدعوة، ثم هل لك أن تطور شيئاً دون أن تغير فيه وتعيد صياغته وتنقله من طور إلى طور- كما هو المعنى البسيط لكلمة تطوير-...؟

 

ثم إذا كان التطوير مطلباً مجمعاً عليه فلماذا الفصل في الدعوى بين مخلصين ومارقين، ثم طرد المخالفين وحرمانهم من حق المشاركة في المصطلح نفسه، والادعاء بأنهم دعاة تغيير، ومن ثم فهم عملاء....؟؟!!!!.

 

الحق فيما أراه أن المسألة نزاع نسقي بين معسكرات ذهنية، وهي معسكرات تتوسل باللعبة اللغوية لتمرر دعواها، حيث هي تمثل النسق المحافظ الذي يخيفه الحوار من حيث المبدأ ويرى أن الإجماع هو في قبول رأي واحد تنتجه وتصنعه المؤسسة التي درجوا عليها بحيث إن أي مساس برمزية هذه المؤسسة سوف يكون انقلاباً كونياً وزلزالاً معرفياً يسحب التاريخ من تحت أرجلهم.

 

وهذا صحيح بكل تأكيد، والتاريخ كله يشير إلى ان التحولات الثقافية في أي مجتمع هي صراع أفكار بالدرجة الأولى، ونحن نشهد هذا الصراع، وفي المعتاد ان المعسكر الذي يمتلك الساحة في الأصل هو الذي سيكون أكثر حدية في استعمال اللغة، وأكثر تشبثاً في الالتفاف التعبيري فيها ليحافظ على مواقعه وعلى رمزيته، وسيدعي لنفسه حصانة خاصة لاتتوفر له إلا عبر نفيها عن الآخر المخالف، ولذا تجدهم يقولون بتطوير المناهج، ولايرون في ذلك غضاضة عليهم ويقولون بالإصلاح ولا يرون في ذلك شبهة وطنية عليهم.

 

وفي مقابل ذلك فإن الطرف الآخر سوف يجري نفيه لغوياً عبر تسمية مشروعه بمسميات مختلفة، ثم عبر نفيه المعنوي ليحسب على العدو، ثم يجري اتهامه في نزاهته وبراءته الدينية والوطنية مع أن الأصل في طلب الإصلاح والتطوير هو أصل مشترك، والوطنية حق مشترك، مثلما إن مواجهة العدو ورفض تدخله أمر لا مناقشة فيه.أما الدين فويل لمن راهن على دين احد من الناس وسيكون خصمه الله الذي يعلم السر واخفى.

 

لماذا- إذن يضعون المخالف في خانة المتهم ويضطرونه لأن يثبت كل مرة بأنه تقي ومخلص وبريء ونزيه، وأمام من سيكون إثبات ذلك...؟

 

طبعاً سيكون أمام الخصم الثقافي نفسه، وهو صار خصماً بقرار من نفسه لأنه هو الذي يفترض الخصومة ثم إن أي محاولة لإرضاء هذا الخصم لن تفلح لأن المقاصد هنا ليست شخصية بقدرما هي نسقية، والدليل على ذلك هو دليل واقعي إذا كلما اقنعت واحداً جاءك غيره ممن يقول القول ذاته مما يدل على ان النسق هو الذي يتكلم وليس الفرد، والنسق لايهدأ إلا إذا نفى المختلف او ارغمه على التسليم ولهذا فإننا لانتحاور هنا وإنما نتحارب.

 

هنا أقول للأخوة كلهم تعالوا للحوار، وأقول لهم أن لابديل للحوار إلا الحوار، وخيارنا هو:إما الحوار وإما الحوار.

 

وأحث الجميع على الدفاع عن مشروع الحوار وعدم السماح لأي طرف بأن يخرج عن روح الحوار، ولا عن لغة الحوار، وأول ذلك هو أن لانسمح لأي كان بأن يستفزنا ويخرجنا عن (الطور) ويعيدنا إلى الفحولية الجاهلية، والمبارزات الشخصانية، ولكل أن يقول رأيه ولكن علينا أن نفرق بين المعلومة الخاطئة والتشويه المتعمد وبين الرأي.ومن حق أي كان أن يقول رأيه، ولكن ليس من حقه أن يدعي انه يمثل المجتمع كل المجتمع بلا برهان إحصائي واقعي، كما أنه ليس من حق أي إنسان إن يسرب معلومات غير صحيحة، فقط لتشويه الخصم ونفي مقولته، وفي مقابل ذلك لأبد أن نحث الناس بمن فيهم الخصوم على الحوار وعلى مزيد من الحوار.

 

على أن الدعوة للإصلاح بشكل عام وجذري- بما في ذلك المناهج- هي دعوة مشتركة باتفاق وطني، فلماذا- إذن- يسعى بعضنا إلى محاربة بعضنا الأخر عبر ألاعيب لغوية ليست سوى حيل ثقافية لرفض الآخر المختلف واحتكار المجال للذات وتحقيق رمزية شخصية عبر النفي والإلغاء، هذه ليست لغة الحوار، وهذا ما يجب أن نصمد أمامه للمحافظة على ثقافة الحوار ومحاولة غرسها في بيئتنا الثقافية التي مازالت في طور (التمارين على الحوار) وهذا يحتاج إلى جهد كبير وإلى صبر منا ومن غيرنا على وعثاء هذا السفر الفكري والنفسي، والله المستعان على ماتصفون، ويكفي ان نتذكر الآية الكريمة:

 

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) وهذا مبدأ عظيم لايستقيم حوار من دون تمثله.

 

المصدر: شبكة راصد الإخبارية

http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/2010-04-26-1552.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك