قواعد الحوار والتفاوض: كيف نحول الخلاف إلى تفاهم والعراك إلى تعاون؟
قواعد الحوار والتفاوض: كيف نحول الخلاف إلى تفاهم والعراك إلى تعاون؟
فاضل الصفار
في حياتنا اليومية كثيراً ما نخوض مفاوضات مع الآخرين ولكن قليلاً ما نلتفت إلى أنها مفاوضات ينبغي أن نراعي فيها شرائط المفاوضات الصحيحة..
يعرّف البعض المفاوضات بأنها أسلوب مميز في الحوار بهدف الوصول إلى اتفاق وسط يربط بين مصالح أطرافه.. وطبيعي ليس بالضرورة أن يصل الأطراف إلى هذا الاتفاق إلا أنه طموح يسعى إليه الجميع –في الأغلب-.
وحسب هذا التعريف تكون الكثير من محادثاتنا اليومية مع مختلف الشرائح والأصناف هي عبارة عن واقع المفاوضات وإن كنا لا نسميها بذلك أو لا نلتفت إلى أنها مفاوضات..
لأننا في الغالب نتعرّض إلى تزاحم في المصالح والرغبات كـــما نختلف في الكثير من الأحيان مع الآخرين في الرأي فنخوض مناقشات هادئة وأحياناً ساخنة من أجل إقناعهم برعاية مصالحنا أو إقناعهم بأفكارنا ورؤانا..
وهذا هو الذي يطمح إليه كل طرف مفاوض –على الأغلب-.
إذن.. المفاوضات أمر يلازم حياتنا اليومية ولا يمكن التخلي عنه..
إذ هو أمر تفرضه ضرورة الحياة والعمل والضرورات مفروضة علينا ولا مجال للهروب منا.. نعم الذي بأيدينا أن ندير المفاوضات بشكل صحيح ومناسب يضمن لنا ما نريد.
كما أن بأيدينا أيضاً أن نرسم لمحادثاتنا هدفاً يسعى إليه ونعبّئ له تفكيرنا وجهودنا من أجل الوصول إليه...
حتى لا نحس في آخر المطاف بأننا خاسرون أو هامشيون..
والسؤال هنا.. كيف يمكن أن نحوّل المحادثات إلى مفاوضات هادفة لا تنحصر مهمتها في حدود الكلام؟.
وكيف يمكن أن نبدّل حالة الاختلاف وربما النزاع أو الخصومة أحياناً إلى تفاهم وتعاون؟
أولاً: من المناسب أن نعرف أن منحى الحديث الذي يربط بين أطراف الحوار له إسهام فعّال وكبير في فرض النتائج السلبية أو الإيجابية على المفاوضات فإن الحديث الهادئ نتائجه تغاير –في الغالب- الحديث الذي ينحى باتجاه الشدة والصراحة ولعلّ من هنا تنقسم المفاوضات إلى ثلاثة أقسام هي:
1- المفاوضات المتشددة.
2- المفاوضات المرنة.
3- المفاوضات المتوازنة.
تقوم المفاوضة المتشددة أو الصلبة –في الغالب- على فكرة إفحام الآخر ثم هزيمته وتحقيق اكبر قدر ممكن من الأرباح والمصالح على حسابه.
وتقوم الثانية على عكس الأولى إذ تبتني على فكرة التنازل والتراجع وربما الاستسلام –أحياناً- للطرف الآخر عن بعض الأمور الهامة لأجل إرضائه والحفاظ على علاقة ودّية معه أو مصالح أخرى.
وإذا وضعنا هذين الأسلوبين في ميزان التقويم والموازنة سنجد أنهما أسلوبان لا يحققان لنا الكثير ولا يصلان بنا إلى النتائج المرضية..
أما الأول فلأنه قد يحول أجواء الحوار إلى عراك ويصفنا بصفة الأنانية وهي وحدها تكفي لإيقاعنا في الخسائر الكبيرة خصوصاً وأننا نعرف أنه لا أحد يحب أن يدفع وحده الثمن غالياً في حين يحظى الآخر بالمكاسب.
وأما الثاني فقد يكون تعبيراً آخر عن الهزيمة وترك المجال للآخرين يعملون ما يريدون ويحصلون على ما يطمحون..
لأننا بمرونتنا المفرطة نكون قد تراجعنا عن تحقيق أهدافنا المهمة التي بذلنا من أجلها الكثير لأجل الحفاظ على ود الطرف الآخر-الذي يفترض أنه هو الآخر يتمنى ويخطط لتراجعنا- أو لأجل أننا نخاف منه ونحو ذلك.
طبعاً لا ننكر أن لكل واحد من الأسلوبين فوائد قد تظهر في بعض الأحيان وفق ظروف خاصة إلا أنهما ليسا قواعد ناجحة بشكل دائم أو غالبي يمكن الاعتماد عليهما من أجل الأفضل.
فيبقى أمامنا سلوك طريق المفاوضات المتوازنة ونقصد منها تلك التي تهدف إلى إحراز التعاون ولكن مع توازن المصالح والآراء وأخذ جميع الأطراف في نظر الاعتبار.. فلكي نضمن لنا ولأطرافنا النجاح والسلامة ينبغي أن نحفظ لهم مصالحهم -بالقدر الممكن- كما ينبغي أن تحفظ لنا مصالحنا أيضاً..
فإن المفاوضات التي يشعر فيها أحد الأطراف بأنه الرابح الوحيد بينما يشعر طرفه الآخر بأنه الخاسر الوحيد –حسب تفاوت الأرباح والخسائر- تؤدي ي الغالب إلى خسارتهما معاً على المدى البعيد. لما يترتب عليها من الشعور بالألم لدى الطرف الخاسر الذي يبعثه في غالب الأحيان على التمرد على الاتفاق فضلاً عن أن إحساسه بالخسران سيدفعه لتحيّن -عاجلاً أو آجلاً- الفرص لينتقم لحظه الخسران..
وعلى أقل التقادير.. ربما سيعمل جاهداً على الانتقام أو ينتهز مواقع ضعف الطرف الآخر ليملي عليه شروطاً جديدة يستعيض بعض خسائره وبالتالي يعمل على إفشال ما توصلنا إليه..
إذن.. أول شيء ينبغي أن نراعيه من أجل كسب التعاون عقيب المفاوضات أن نهتم للتوصل إلى حل وسط ومنطقي يضمن لكل منا مصالحه ويشبع أكبر قدر ممكن من الحاجات والطموحات.. وبعبارة مختصرة..
حتى نكون موفقين في التفاوض وناجحين في كسب أرباحه..
بل وديمومة الاتفاق بين الأطراف يجب أن نعمل على إحراز الربح لكلا الطرفين..
ومتى ما شعر الطرفان بالارتياح والسرور عقيب التفاوض وأنه قد حصل على بعض ما يريد نكون قد وفرنا أول خطوات النجاح وتحمل مسؤولية تنفيذ الاتفاقات والحلول التي توصلنا إليها..
لقد تحدثنا في المقالات السابقة عن أساليب التواصل والتفاهم والحوار. ز وفي هذه المرة نريد أن نتحدث عن بعض الخطوات التي قد تكون أساسية في التفاوض إلى إيجاد حالة التعاون والتنسيق بين الأطراف..
معالجة الطرق المسدودة
أحياناً نحس وكأن محادثاتنا مع الآخرين أصبحت عقيمة ربما نكون نحن سبب وصولها إلى هذه الخاتمة وربما يكون غيرنا لا فرق فإن النتيجة في الحالتين واحدة..
وربما لا نبالغ إذا قلنا أن مستوى الثقاة والإحساس بالمسؤولية التي نحملها ومستوى المرونة وسعة الصدر وعلوّ الهمّة لها دخل كبير في فرض هذه النتائج الخطيرة على أجواء الحوار وهذا أمر ربما يكون معلوم أو محسوس للعديد منا إلا أن السؤال الذي ينبغي أن نورده في أذهاننا عندما تصل المفاوضات إلى طريق مسدود -أو ما يسمونها بالنقطة الميتة- نتسائل:
كيف ينبغي أن نفعل حتى نعيد إلى الحوار الأمل ونفتح أبواب التفاهم على مصراعيه؟ ماذا نفعل عندما يتخذ طرفنا الآخر موقفاً متشدداً يرضي طموحاته ويلبي مصالحه على حسابنا؟
وكيف نتصرف حتى نحوّل أنانيته هذه إلى وئام ومحبة للآخرين وكيف يمكن أن نضمن تعاونه معنا؟
وربما نجمع كل هذه الأسئلة بسؤال واحد مختصر..
ماذا نفعل عندما لا نكون راضين عن نتائج المفاوضات؟
هناك بعض الإجراءات الأولية من الضروري إتباعها لمعالجة هذه الأزمة قد نختصرها في نقاط:
الأولى: فصل المشكلات عن الأشخاص:
إن بعض المفاوضين يقعون في مطبات عميقة للفشل عندما يخلطون بين المشكلات وبين الأشخاص ويتعاملون معهما معاملة شيء واحد فيتصرفون معهم وكأنهم أعداء أو خصوم الدّاء ويبدأون أحياناً بالإهانات والتجريحات الناجمة في الغالب من سوء الظن وهذا خطأ كبير لأنه يؤدي إلى تصعيد الصراع وزيادة حدة التوتر وربما يحول الحوار إلى معركة حامية لإثبات الوجود أو الأنا.. بدلاً من إثبات العقل والمصالح المشتركة.
ولكن علينا أن نعلم.. بأنه لا يوجد شخص يتقبل أن يهان أو يتعامل معه كعدو لدود مجرد عن الإنسانية ولا يجب التعاطف مع الآخرين..
فإن الإنسان إنساني بالذات ميّال إلى الاحترام والمحبة -إلا النادر جداً لأسباب عارضة- وعندما ندخل في مفاوضات مع طرف من الأطراف فمن الحكمة أن نفكر بأننا جميعاً دخلنا الحوار لأجل الوصول إلى الحل..
وعليه ينبغي أن لا نغفل طيلة فترة الحوار والتفاوض آداب الحوار الهادئ وشروطه الصحيحة حتى نصل إلى هدفنا..
وأولى هذه الشروط أن نحسس الطرف الآخر.. بأنه شيء والمشكلة التي نعاني منها جميعاً شيء آخر..
بل الأفضل قد يكون -أحياناً- أن نشعره بأننا قد جئنا نستعين به لأجل إيجاد الحل للمشكلة حتى نحظى بتعاطفه ومحبته وبالتالي سيكن هذا عامل ربما يساهم بشكل كبير في التفاهم والتعاون معنا على ذلك.
وحتى نحقق هذا الهدف فلنتجنب ما يلي -وهي كنماذج فقط-:
1) لا تجعل نفسك في جبهة وطرفك الآخر في جبهة وأنت تخوض الحوار.
2) لا تذكّره بمواقف سلبية سابقة.. ربما اتخذها ضدك أو ضد غيرك.
3) لا تعيّره بأخطائه أو بمواقف هزيمته.
4) لا تبالغ في إظهار قوتك قوتك أو تفوقك.
5) لا تنكّر لإنجازاته.
6) إذا أردت تقييم بعض تجارب اذكر ايجابيات أولاً ثم حاول أن تهدئ في الأسلوب إذا أردت النقد ولا تبالغ في النقد.
إن هذه العوامل محفزات للتفاهم وعدم رعايتها ربما يحفز في الطرف الآخر وتيرة الغضب فيثأر لكرامته أو لحقّه الذي أحس باهتضامه -ولو بمنظاره هو-..
وهو إجراء من شأنه أن يبدل أجواء الحوار إلى مواجهات شخصية تعطف مسار الحديث عن موضوع الصراع الأصلي وتؤدي في معظم الأحيان إلى تقليل فرص التفاهم وبالتالي حل المشكلة بشكل بناء ومثمر.
إذن.. ينبغي أن نفصل -دائماً- ونحن نخوض المفاوضات بين الآراء الشخصية والمشاكل ونجرّد هذه عن تلك حتى نتمكن أن نركز على الأساسيات ونجد لها حلولاً ممكنة.
ولا ننسى أننا قد نواجه أشخاصاً يتحاورون معنا ولكن حماسهم للمشكلة أكثر من حماسهم إلى الحل وربما يتجاوزون المنطق والحكمة فيربطون المشكلة بهم كأشخاص ومن الصعب عليهم أن يفككوا بينهما لذا من الصعب أن تعثر على حل سريع معهم لذلك ينبغي أن نستخدم أسلوب التدوي والرهان على الزمن والوسطاء المصلحين للتفاهم معهم فإن هذا خير بديل عن الدخول المباشر معهم.
كما قد نبتلى أيضاً بأطراف يغفلون عن قاعدة التمييز بين المشاكل والأشخاص فيشنّون علينا هجوماً -من حيث يدرون أو لا يدرون- ويفرغون ما في جيبهم من الآلام وكأننا نحن أعداءهم فينبغي في هذه الحالة أن نتصرف وكأننا بلا أعصاب ونحتوي هجوم الطرف الآخر بسعة الصدر ونقبل النقد -وإن كان ظالماً- لنطفي حرارته بعقل ورويّة ثم يمكن أن نتفق معه على عقد جلسة أخرى للخوض في المسألة الشخصية والإجابة عن سوء التفاهم الذي يشعر به..
فنكون في هذا التصرف قد وفرنا له فرصة جيدة للتنفيس عما يحس به من آلام وكوامن للغضب وفي نفس الوقت فتحنا أمامه باباً للحوار وللتفاهم.. بما لا يضر بحوارنا المهم الآن.
هذا ولا يخفى.. في بعض الأحيان نواجه خلافات شخصية متضخمة ومستفحلة بشكل كبير وشك على الإنفجار الضار..
ففي هذه الصورة علينا أن نحتوي الأزمة بشكل آخر.
لأن الأزمة المستفحلة هذه قد تمنع من إمكانية الوصول إلى حل مقنع لمشكلتنا الأولى لأن التوتر العصبي وسوء الظن والتصورات السلبية تفقد الثقة بين الأطراف وهذا من شأنه أن يعرقل التفاهم..
لذا فإن الضرورة والحكمة تقتضيان هنا أن نؤجل المشكلة الأساسية التي جئنا من أجلها ونعطي فرصة جيدة قبلها للخوض في المسألة الشخصية بشكل واضح وصريح لإزالة الالتباسات والإجابة عن سوء التفاهم بما يدفع عنا الشبهات والشكوك.. فإن هذا من أهم الإجراءات المنطقية لتصفية الأجواء وتهدئة النفوس وإعادة الثقة بين الأطراف..
وبعدها يمكن أن نخوض في المسألة الأساسية بشكل مريح وهادئ سرعان ما يوصلنا إلى الحل. وقد قدمنا فيما سبق أن من الخطوات الأساسية التي تعين على فرض أجواء الحوار على الخلاف والتفاهم على العراك أن نبدأ:
1- بالتغذية المعلوماتية للطرف نشرح فيها مشاعرنا الحقيقية تجاهه وتجاه الآخر لأننا بذلك نزيل عنا الغموض ويرفع الوساوس والشكوك الذي قد يحس بها الآخر تجاهنا.
2- التلخيص.. لأنه يشعره بالاهتمام والحرص على تفهّم ما يريده والسعي إلى تلبية حاجاته والاهتمام بحلها..
3- الاقتراح البنّاء بعد التلخيص.. بأن تقترح له تأجيل الموضوع إلى أبعد المشكلة الأساسية بعد أن نكون قد سجلنا كلامه وأشعرناه بأن حقه محفوظ وسوف يطرح المباحثة على طاولة البحث فيما بعد ولو جربت هذا ستجد أنه أسلوب ناجح مع الكثيرين..
وطبيعي يمكن تبديل ذلك باقتراح آخر بأن تدعوه أنت أو طرف ثالث على مائدة طعام أو شرب فنجان من القهوة من أجل تسوية القضية بشكل منفصل عن المشاكل المتعلقة بالمفاوضات الآن وعلينا أن ننتبه بعد ذلك أن لا نعاود إثارة المسألة في أثناء الحوار ولا الخوض فيما قد يعود إليها ثانياً فننحى بالحديث إلى الهامش ثانية ونفقد التركيز في الأهم.
شرائط المفاوضين
وأنت ترى أن هذه القاعدة -أي فصل المسائل الشخصية من مسائل الحوار- تدعونا وبإلحاح لاختيار المفاوضين بحنكة وذكاء إذ ليس المفاوض المحنّك هو الأصلح في خوض الحوار -دائماً- بل قد يكون المفاوض الأوثق في نظر الطرف الآخر هو الإفضل -أحياناً- لأن الثقة من أهم عوامل النجاح في التفاهم..
وليس الذكاء لأن قوة الذكاء سرعان ما تنكشف للآخرين فإذا لم يقرن بالثقة فإنه قد يفسر بالاحتيال والمكر وهذا مما يزيد الطين بلّة. لذلك علينا أن نختار للحوار:
1) الخبير والثقة مهما أمكن، وإذا تعذّر وجدان الصنفين في مفاوض واحد قد نجمعهما في شخصين يتفاوضان معاً.
2) أن يكون من الأشخاص من الذين لهم أقل قدر ممكن من الخلافات الشخصية مع الآخرين.
3) الأوسع صدراً والأقدر على تحمل النقد بل وربما التجريح.
4) الأكثر اجتماعية وبتعبير آخر ا يتمثل فيه الحس الجماعي المرن أكثر من الفردي لأن الشخص المفاوض يمثلنا في الحوار وبالتالي فهو المعبّر عن مصالحنا وأهدافنا فكلما كان مرناً وهادفاً واجتماعياً كانت النتائج أفضل.
إن بعض الأشخاص تتجلى فيهم الأحاسيس الفردية وبالتالي لا يتمكن أن يتجاوز القرارات الفردية أو الارتجالية الأمر الذي قد يجعلنا في زاوية حرجة نتيجة تصرفاته أو تصريحاته اللامسؤولة..
بينما الأفراد الاجتماعيون -فإنهم في الغالب- عندهم الحفاظ على العلاقات اودية مع الآخرين وحفظ التوازن مسألة مهمة لذلك يكونون -في الغالب- محافظين في تصريحاتهم وتصرفاتهم خوفاً على النتائج..
لذا قد نضمن مع الشخص الاجتماعي حالة التشاور واستقرار الآراء ورعاية مصالح الآخرين أكثر مما نضمنها مع الشخص الذي يغلب عليه طابع التفرّد..
مع أن هذه ليست قاعدة كلية تجري دائماً إلا أنها بلا شك من العوامل المساعدة على إيصال النتائج إلى النجاح..
فإننا لو اخترنا للمفاوضات أشخاصاً صلبين أو قساة فإننا نكون قد خاطرنا باحتدام الصراع وتصعيد الأزمة بما لا نرضاه بل ربما يوقعنا في أزمات أقسى فضلاً عن تعريض المفاوضات إلى الفشل..
هاجم المشكلة فقط
إذن.. يمكن التعبير عن القاعدة السابقة بطريقة مختصرة:
(هاجم المشكلة ولا تهاجم الأشخاص) أبدي إنزعاجك من الأزمة.. وأظهر عدم ارتياح من المشكلة.. وحاول أن لا ينتقل هذا الانزعاج وعدم الارتياح إلى الأشخاص الذي قد يمثلونها أحياناً..
فإن الأزمة أمر واقع الكل يقبله منك وربما يتأثر منها أو بها أما إذا تحولت الأزمة إلى أشخاص فإن رد الفعل فيها قوي وسلبي لأنها تدخل في الإهانات وهتك الحرمات وبالتالي ربما لا تجد من الممكن أن يعذرك فيها..
ولعلنا نوضح الأمر بمثال إذا دخلت مع طرف على احتكاك مباشر معك في العمل مدير مثلاً أو تاجر في السوق أو صديق منافس يمكن أن نتحدث معه بصورتين:
الأولى: نقول:
كم أنا سعيد لأننا سندخل أخيراً في شركة واحدة فمن الأفضل أن نفتح مكتبنا في لندن أولاً!
الشريك: أوه.. بدأنا من أول الأمر نفك في مصالحنا الشخصية؟
التاجر: إنك حساس بشكل غريب كيف تفسر اقتراحي بأنه مصلحة شخصية؟ وأنا أفكر لمصالح العمل لأن التجارة في لندن رابحة؟
الشريك: لأنك تحب السفر إلى لندن وتريد أن تجمع عملك مع رغباتك؟
التاجر: أنت رجل تتعامل معي بسوء الظن وهذا مما لا أسمح به؟
الشريك: لماذا تتهمني بهذا..
وأنت ترى أن هذا النوع من الحوار عقيم بل تحول إلى عراك شخصي ولم يناقش المسألة بموضوعية هادئة.. إذ دمج الطرفان المشكلة بالأشخاص وتحول النقاش بينهما كأشخاص لا كأزمة..
الصورة الثانية: ولعلنا لو بحثا المسألة بشكل آخر لتوصلا إلى الحل المقنع انظر:
يبدو لي -حسب التقارير الواصلة- أن لندن بلد جيد لفتح مكتبنا التجاري؟ هل ترى ذلك صحيحاً؟
نعم ولكن لو تأملنا قليلاً قد نجد ما هو أفضل منه فعلينا أن نتروى بعض الشيء؟
لا باس وإذا كان العمل هناك أفضل ربما سنوفق للجمع بين تجارتنا ورغباتنا لأني أحب الإقامة في لندن أيضاً..
أنظر.. إنك بهذا الأسلوب ما جعلت الإقامة في لندن الرغبة الأولية التي تقدمه على باقي الرغبات بل المصلحة الأولية للعمل وظروف العمل فإذا اجتمعت -مصلحة العمل مع المصلحة الشخصية- فبها ونعمة.
وهذه القاعدة تجري في إدارة الأعمال والتنظيمات وغيرها.. أيضاً.
إذن علينا أن ننتبه أن من السهل أن نخوض الحديث مع التجريح والإثارة وبالتالي ننتهي إلى الاتهامات وبالتالي الخروج من الأزمة بلا حل ولكن من الصعب أن نجد الحل إذا لم ننتبه إلى أسلوبنا في الكلام وتحديد أولوياتنا ثم الدخول المباشر في صلب الموضوع بلا انعطاف إلى هنا واسترسال إلى هناك.
وبعبارة واحدة:
هاجم المشكلة التي تؤلمك.. وخطط لمعالجتها..
ولكن عامل الناس باحترام على كل حال.. فإنك بذلك فقط يمكن أن تحصل على محبتهم وتعاطفهم وبالأخير تعاونهم معك في حل المشكلة..
ولعل من المناسب هنا أيضاً أن نذكّر ببعض الأساسيات في إنجاح هذه القاعدة وهي:
1- أن نعمل دائماً على إبقاء حالة التواصل المثمر والتفاهم البنّاء كما أسلفنا.. فإن جسور الربط من أهم عوامل النجاح بين الأطراف المختلفة.
2- حتى نحصل على تطبيق صحيح للقاعدة ينبغي أن نحدد قبل كل شيء المشكلة الأساسية التي جئنا للمفاوضات من أجلها..
فعندما لا نقوم بالاتفاق على المشكلة ولم نحددها بشكل واضح ودقيق نكون قد فتحنا أبواب الفشل أمامها لأن من الصعب أن يدخل طرفان متخاصمان في حل مفاوضات -لم يتحدد مسبقاً- موضوع الحوار أن لا يخوضوا في المشاكل الشخصية وإثارة النزاعات والأزمات السابقة والقديمة.
3- أن يتم تحديد الحاجات والمصالح المشتركة التي تهم كل طرف من الأطراف بشكل مباشر وصريح أيضاً لأن المحادثات سفينة في بحر من الأعمال والأزمات فإذا لا نحدد نقطة البدء -المشكلة- ونقطة الانتهاء -المصلحة المرضية لكلا الطرفين- فإن السفينة تتيه بلا أن ترسوا على ساحل وهذا أمر يضر كثيراً بالحوار ويدخل فيه ما لا يحمد عقباه.
4- أن يكون الأصل المسلم في الحوار اجتناب التصلّب ثم تجنب العراك..
إن بعض المفاوضين يغفلون عن مصالحهم الأساسية ومصالح مفاوضيهم فيدافعون فقط عن أولوياتهم وربما يهاجمون أولويات خصومهم أو أفكارهم معرضين الحوار إلى توتر وبالتالي الوقوع في شراك التصلّب ثم العراك وهذا أمر لا يوصلنا إلى الهدف فعلينا دائماً أن نتجنب العراك بالمرونة والتصلب بالهدوء والثقة. (2)
قلنا سابقاً لا داعي لخلط الأوراق ودمج الأفراد بالأزمات.. أو نضعهم في جبهة واحدة لنخلق من الصديق خصماً ومن التفاهم عراكاً بل لنضع للأزمة حساباً وللأفراد حساباً آخراً فنتعامل مع الأولى بتصميم وإرادة وتحدي على الحل ونعامل الأفراد بأريحية واحترام لنضمن دوام الألفة والمحبة ثم التعاون في العمل..
ثانياً: لنركز على المصالح لا المواقف..
ونعني بالمصالح هنا.. الأولويات التي جاءت بنا إلى طاولة المفاوضات..
إن البعض منا قد يؤخذ بحوافز المواقف القديمة ويتقيد بآثارها وهذا أمر في الغالب يعيق من التفاهم ويفصل الطرفين في جبهتين.
في الوقت الذي يتطلب منه المنطق العقلاني التفكير بالأهداف والمصالح التي جاء من أجلها للحوار.. إننا في كثير من الأحيان نتناسى الخلافات أو نصبر على الأذى لمصالح أهم وفي كثير من الأحيان نعمل بسعة صدر ومرونة مع بعضنا من أجل أغراضنا الشخصية ولكن قد ننسى هذه السياسة المنطقية عندما نتعامل مع أطرافنا الأخرى وفي الأمور الكبيرة والأهداف الأكبر، الأمر الذي يزيد من توتر الأجواء ويعكّر صفوها في الوقت الذي ينبغي أن لا ننسى أن تحويل الخصم إلى صديق والصديق إلى حليف متعاون تحتاج إلى الكثير من الأجواء الصافية وتذويب الجليد ورفع الحواجز النفسية بيننا وبينه..
لقد أثبتت التجارب العديدة أن الدخول في المفاوضات مع خلفيات المواقف السابقة يحكّم التوتر والعراك أكثر وفي عاقبة الأمر ربما تخرج الأطراف من جلسات الحوار وهم أكثر عراكاً وعداءً وسوء ظن..
ولو فكر الطرفان دائماً.. بالأهداف.. والمصالح لتحلّى كلاهما أو أحدهما بضبط النفس وسعة الصدر بما يمتص الغضب ويعطي فرصة التفاهم وتوضيح الأمور بما يعود عليهما بالنفع.. أليس أعقل الناس أنظرهم في العواقب وأشدهم مداراة للناس كما قال مولانا أمير المؤمنين)عليه السلام(؟!
لذلك فإن أوليات خطواتنا نحو التفاهم ثم التعاون..
ينبغي أن تبدأ بالسؤال لماذا أريد التفاوض؟
وما هي المصالح التي تستدعي منا الحوار؟؟!.
لماذا يريد طرفنا الآخر الحوار معنا؟ وما هي مصالحه في ذلك؟
فإننا في هذه الأسئلة نوفر لأنفسنا رؤية واضحة وهدفاً واضح الأبعاد والأغراض بما يعيننا على الالتزام بشرائط الإنجاح..
وفي نفس الوقت الذي يوفر لنا فرصة ذهبية للتوصل إلى تفهّم أغراض طرفنا الآخر وبالتالي الإمساك بمفاتيحه التي تفتح لنا أبواب التفاهم والاقتناع وأخيراً التعاون طبعاً، قد لا نتوصل نحن بمفردنا إلى الأهداف والمصالح التي يتطلع إليها طرفنا الآخر وهو أمر معقول إلا أننا إذا كلفنا أنفسنا عناء السؤال والتفكير وربما سألنا طرفنا الآخر عنه سنكون قد وفرنا لأنفسنا فرصة أكبر للحل..
ربما نفكر أن بعض الأطراف يتعاملون مع أطرافهم الأخرى بالانغلاق أو الانفتاح المحدود وهذا أمر يحسه الكثير من المفاوضين، إلا أنه يبقى لأسلوبنا في الحوار وقدرتنا على زرع الثقة والاطمئنان في نفس شريكنا الدور الفاعل في كسبه وإحساسه بالأمان من الانفتاح.
لذلك.. قد نبدأ الحوار معه بتذكيره بالمواقف أو التعريف بها بين آونة وأخرى وزرع الألغام أثناء الحوار والإكثار من العتاب واللوم وغيرها..
وقد نبدأ الحوار بالحديث العادي ثم طرح بعض الأسئلة المباشرة البسيطة والهادئة، ولكل واحد من الأسلوبين نتائجه وآثاره في الفشل والنجاح.
فلو بدأنا الحديث مثلاً هكذا:
* إني أشعر بالراحة كثيراً وسعيد بلقائك وإن كان متأخراً، إلا أنه تبقى الفرص ثمينة وفي أي وقت نغتنمها فهي مكسب ولكن لا أدري بماذا تحس أنت؟
* لقد فكرت ملياً فيما صرحت به يوماً في الموضوع الفلاني –والمفروض أن نكون قد أعددنا لما يرتبط بموضوع الحوار- وقد عثرت على بعض الاحتمالات ولكنك تعلم أن الاحتمال يحتمل الصحة والخطأ. لذلك يبقى لك الكلام الفصل الذي يزيل عنا الغموض ويرفع الاحتمالات برأي واحد والأفضل أن نسمع منك.. ماذا كنت تقصد منه؟
ونحن بهذا البيان نكون قد عاملناه بحسن الظن.. وفي نفس الوقت طلبنا منه التحدث عن أهدافه وطموحاته ومن لا يحب أن يتحدث عن نفسه وطموحاته. ومن الذي لا يحب أن يحقق حاجاته وأغراضه؟
لذلك قد تجده يبدأ بالاسترسال بالكلام، نعم ربما في البدء يكون متحفظاً بعض الشيء، إلا أنك إذا منحته الفرصة الأكبر للحديث وأعطيت لنفسك الصبر على الاستماع وتسجيل بعض نقاطه أو أبديت تفهمها ستجد أنك أوجدت فرصة جيدة للسيطرة على أجواء المحاورة ثم إدارتها بالأسلوب الأفضل.
ولا يخفى علينا أن هذه الطريقة ليست هي الوحيدة إذ تختلف المفاوضات من ظرف لآخر كما إن درجات الثقة وحسن النوايا بين الأفراد له دوره الكبير في الاستجابة الإيجابية أو السلبية..
إلا أن طريق الهدوء والتعقل والاسترسال المنطقي والأخذ والعطاء في الحديث مع احترام الطرف الآخر وتثمين آراءه له كامل الأهمية في فرض التفاهم الذي يوصل الجميع إلى بر الأمان..
لأن ذلك كفيل بتفهم حاجات الطرف الآخر والتعرف على أهدافه بما يجعل المواقف السابقة وحالة التوتر واللارضى بيننا وبينه قليلة الأهمية وإنما تكمن الأهمية في تحديد المشكلة أولاً ثم حلها بما يقنع الطرفين ويلبي حاجاتهما.. إذن لنحدد قبل كل شيء أين تكمن المصالح وأين تكمن الأضرار؟
ثالثاً: لنقدّر حسنات الآخرين.. ولننظر إلى الأمور بإيجابية..
ينبغي أن نتماثل قصة الإناء الذي نصفه مملوء بالماء دائماً إذ كل قضية يمكن أن نراها من زاوية سلبية إذا أردنا أن نتشائم في الأمور ونأخذها بطابع الشك والوسوسة..
وإذا أردنا أن نتفائل وننظر إلى الأمور من زوايا الأمل والشعور بالنجاح فإننا سنراها إيجابية وعندها سنتجاوز النصف الفارغ من الإناء ونركز على النصف المملوء وهي خطوة باتجاه الهدف الذي نريده..
فإن للعاقل في كل كلمة نبل كما في الحديث الشريف، وقد ورد الكثير من الحث الأكيد في القرآن الكريم والسنة المطهرة وسيرة الأئمة المعصومين(عليهم السلام) على الأمل والتعامل مع الأشياء بالوسطية والاعتدال وإعطاء كل ذي حق حقه حتى لو كان العدو صاحب الحق.. فلا نبالغ في الإيجابية حتى نؤخذ بشعاراتها ولا نبالغ في السلبية حتى نتصور وكأن الناس أعداءً وخصوماً لنا.
وقد قال سبحانه:)ولا تبخسوا الناس أشياءهم((1) كما ورد في الأحاديث الشريفة الدعوة إلى الإنصاف وخصوصاً إنصاف الناس من أنفسنا..
إن البعض منا قد يفكر أن الاعتراف بما للخصم من فضائل وصفات حسنة يعد هزيمة لنا.. إلا أن في ميزان المنطق والشرع الهزيمة في بخس حقوق الناس والتنكر لما لهم من إيجابيات ومواقف نبيلة.
لعلك تعرضت في كثير من الأحيان إلى أناس غير منصفين إذا أحبوا أحداً فإنهم ينسبون له المزيد من الفضائل وإن لم يتحل بها كما إذا أبغضوا أحداً ينسبون له الكثير من الرذائل وهو بريء منها وعلى أحسن الفروض يسلبون عنه فضائله..
بينما في منطق الحكمة والعقل فضلاً عن الشرع لا هذا صحيح ولا ذاك..
وفي الغالب فإن أسلوب الإفراط والتفريط مكشوف وواضح أمام الآخرين كما أن مردوده السلبي كبير جداً ويكفي أنه يفقد اعتبارنا أمام الآخرين وربما يعدم الثقة بنا.
لا شك أن كل من له فضيلة أو موقف نبيل يستحق المدح والإشادة لأنه نوع كمال والكمال محبوب لذاته وممدوح لدى العقلاء.. كما أن مدحه والإشادة به يشكل دافعاً قوياً للمواظبة عليه والاستمرار في التحلي به.
جرّب مرة إمدح شخصاً بصفة إيجابية فيه فإنك ستجده يتعامل بها معك دائماً.. كما سيهتم ليظهر هذه الفضيلة أمامك لدى تعامله مع الآخرين لأن الإنسان بطبعه ميال إلى الكمال والمدح كما أن كل شخص منا يحب أن يرى نفسه مرآة الكمالات ويحتل مكانة مرموقة في قلوب الآخرين..
بعض الناس يفرضون مكانتهم بين الناس بالإرهاب والقوة وبعضهم الآخر يفرضها بالأموال والمكاسب.. أما الحكيم فإنه يزرعها بالصفات الحسنة والخصال الحميدة..
ومن أهم الخصال الحميدة التي تزرع المحبة والثقة بين الناس الإشادة بفضائلهم وذكرهم بالخير ومدح خصال الخير فيهم..
ولعلّ ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين)عليه السلام( يشير إلى بعض هذا حيث يقول:(الاستصلاح للأعداء بحسن المقال وجميل الأفعال أهون من ملاقاتهم ومغالبتهم بمضيض القتال) و(من استصلح الأضداد بلغ المراد( وكان فيما يوصي به لقمان ابنه:(يا بني ليكن مما تتسلّح به على عدوّك وتصرعه المماسحة وإعلان الرضا عنه ولا تزاوله بالمجانبة فيبدوا له ما في نفسك فيتأهب لك).
إذن.. لنأخذ الأمور دائماً من الزاوية الإيجابية ونشيد بالحسن.. ونغض الطرف عن القبيح.. إلا ما أخرجه الدليل. وإذا جلسنا مع أطرافنا الأخرى لنسع أن نذكر محامدهم ونذكرهم بمواقفهم الإيجابية ونترك السلبيات جانباً..
لقد تمكن العديد من الأطراف من تحييد خصومهم بسبب اسماعهم إنهم يذكرونهم بخير ويغضون الطرف عن سلبياتهم.. وإن لم يجلسوا على طاولة التفاهم.. ولو أردت دليلاً واضحاً لهذا لاحظ نفسك.. إذا سمعت أن خصمك –الذي تعده خصماً- يذكرك بخير ويمدحك أمام الآخرين ويشيد بإيجابياتك ما هو شعورك تجاهه؟
إنك إذا لم تبدأ باتباع الأسلوب ذاته معه ولا تجمّد خلافك معه.. فإنك سوف تمنع من زيادة التوتر معه على أقل الفروض وهذا وحده مكسب في وقت الأزمة ربما سيساعد في المستقبل على الحل.
إذن.. أذكر الإيجابيات في طرفك الآخر وإن كانت ضئيلة.. وأشعر طرفك الآخر أنك تقدِّر له هذه الصفة وتشيد بموقفه النبيل. واسع أن تذكر الإيجابيات الصحيحة المتصف بها بالفعل ولا تضف عليها ولا تزد كما لا تنقص منها لأن الزيادة تشعره بعدم واقعيتك وربما تبذر فيه سوء الظن لأنه يعرف حقيقة صفاته ومواقفه ويعرف أين هو محسن وأين هو مسيء والإنسان على نفسه بصيرة لذا لا ينبغي المبالغة في المدح، كما لا يصح التنقيص لأنه هو الآخر يفقدك الثقة ويجعلك أمامه متنكراً للجميل ومعادياً حقيقياً له..
فالصحيح هو ما قاله الشرع القويم من انتهاج الوسطية والاعتدال ووضع كل شيء في موضعه وإعطاء كل ذي حق حقه.. قال مولانا أمير المؤمنين)عليه السلام(:)الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الإئتلاف( و)بالنصفة تدوم الوصلة( وعنه)عليه السلام(: )حسب المرء من عقله إنصافه من نفسه.. ومن إنصافه قبوله الحق إذا بان له(.
قد نجد أثناء المفاوضات بعض الخصال الإيجابية التي تستحق الإشادة إلا أن التوتر والعواطف السلبية تدعونا إلى تجاهلها وهذا ما لا ينبغي أن يحصل إذا أردنا الفوز بنتائج مثمرة وإيجابية..
لهذا فإن من المفيد جداً أن نقدر الحسنات ونظهرها ونبدي إرتياحنا وشعورنا بأجلالها أمام الشريك.. فإن نتائجها الإيجابية اول ما ستنعكس علينا في بعدين:
1) إظهار مناقبنا وخصالنا النبيلة أيضاً ومن الواضح أن هذا اللون من التعاطي الإيجابي بين الطرفين من شأنه أن يعود بالأجواء إلى الصفاء والمحبة والتركيز على الإيجابيات والغفلة عن السلبيات وكلنا نعلم كم لهذه الأجواء من الفائدة على إعطاء الحوار قيمة كبيرة في الأحاسيس والنتائج.
2) وإشعار الطرف الآخر بفائدة الجهود المشتركة والسمات الحسنة ويبدأ يرى أن لها معنىً ملموساً حتى في أشد لحظات النزاع صعوبة، وهذا من شأنه أن يدعوه دائماً إلى أن يكون هو الآخر إيجابياً وتشده نحو التفاهم ومعنا والمساعدة على التعاون وبذل الجهود المشتركة مكامن الخير والعطاء في نفسه..
ومن هنا يبدو أنه كلما ازدادت المفاوضات صعوبة وتعقيداً وبعداً عن التوصل إلى التفاهم المشترك، ازدادت في مقابلها ازدياداً طردياً أهمية ذكر فوائد المفاوضة حتى وإن كانت ضئيلة والتركيز على الحسنات والتوغل في النظرة الإيجابية والتطلع إلى النتائج فإنها على أقل الفروض تضمن لنا ولأطرافنا فرصاً أخرى للجلوس في المرات القادمة إلى مائدة المفاوضات برغبة وأمل ونفس مفتوحة على المستقبل لأن وجود الحسنات والنجاحات يوحد الناس ويلاحم قلوبهم ويزرع فيهم الثقة والمحبة ويدفعهم لبذل المزيد من الجهود لأجل الأهداف المنظورة.
رابعاً: ونعود ثانية إلى فكرة التلخيص التي تحدثنا عنها في مقال سابق..
إن فهم ما نحن مختلفون فيه بشكل واضح وصحيح يعيننا كثيراً على سلوك سبل الحل بتوفيق ونجاح..
ومن أهم العوامل التي تساعد على التفهم الصحيح الإحاطة بأجواء الحوار والتركيز على إيجابياته وسلبياته والتلخيص المستمر للإيجابيات التي توصلنا إليها يعطينا دائماً نظرة صائبة إلى الحوار ويشعرنا بالثقة أكثر بأننا لم نكن غير موفقين في الجهود المبذولة.
إن التوتر المستمر والإثارات المتواصلة التي يؤججها الأطراف أو الأطراف الثالثة التي قد تستفيد من النزاع قد يضع أمام أعيننا غشاءً يمنعنا من رؤية الأمور كما هي عليه وبالتالي قد يسوّد الأمور في وجهنا ويجعلنا سلبيين متشائمين أكثر من كوننا إيجابيين متفائلين..
لذا فإن المقترح الذي قد يوفر لنا الفرص الإيجابية أكثر هو تلخيص ما تم إنجازه أو الوصول إليه من أهداف وطموحات ولو كانت قليلة..
أرأيت من يمشي مسيرة طويلة.. إذا وضع أمام ناظريه نقطة المنتهى فإنها وإن بعدت وتنائت إلا أنه لو نظر إلى المسافة المقطوعة سيشعر بتلاشي المسافة البعيدة وإنه أقرب إلى الهدف فيستعيد ثانية قواه وثقته بالنجاح..
وفي أعمالنا ومشاريعنا وليس فقط في المفاوضات وحل النزاعات أيضاً لو نظرنا دائماً إلى الخطوات الإيجابية التي حققناها بلا غرور أو مبالغات، فإنها وإن صغرت إلا أنها تشعرنا بأننا بالنتيجة من الموفقين ولو بعض الشيء وهذا الشعور مهم جداً في تحفيزنا للاستمرار..
إذن لننظر دائماً إلى الإيجابيات ونسلط الأضواء عليها أكثر مما ننظر إلى السلبيات - إلا بمقدار الاعتبار - ولو لخصنا الإيجابيات ووضعناها أمامنا سنكون أقوى على التحدي وأصبر على المقاومة..
ولا ننسى أن المتشاءم ينظر إلى إناء الماء أنه فارغ إلى النصف بينما الإيجابي المتفاءل ينظر إلى نصفه المملوء فإن الأول يستكنه اليأس وإن ما موجود لا يلبي حاجته بينما الثاني يقول مقدّراً قيمة ما موجود ومتفائل به ما زال هناك مجال لإشباع بعض الحاجة التي تخرجنا من الجولة ببعض النجاح فإنه أفضل من الفشل أليس كذلك؟؟!
قواعد وضوابط
خامساً: اتفق مع طرفك الآخر على قواعد خاصة بموضوع المفاوضة لضمان النجاح..
لعلّ البعض يستغرب من هذا القول إلا أن التجارب العديدة أثبتت أن العديد من الناس وإن كانوا يعرفون قواعد الحوار بل وربما ينظّرون له الأجواء الحوار الساخن في الغالب تمنعهم من الالتزام بها.. أو تنسيهم ما آمنوا به إلا القليل..
لذلك فإن الحكمة قد تستدعي منا أن نتفق مع شريكنا على بعض الأصول والقواعد لتطويق المفاوضات بالنافع المثمر من جهة وتطويق التوتر المحتمل نشوءه إذا لم نتوصل إلى تفاهم من جهة ثانية، ولنضمن بقاء باب التفاهم والعودة إلى الحوار مفتوحاً مرة أخرى ثالثة..
لذلك.. لنمهّد للتفاهم قبل الخوض في الحوار بوضع أسس تغلق أبواب الفشل مثلاً يمكن الاتفاق معاً على ما يلي (كنماذج):
- خلال بحثنا لا نعود إلى طرح المشاكل القديمة فلنتناسى الماضي وما فيه وما عليه..
- عندما نتحدث لا ينبغي أن تتصاعد لهجة الحديث ولا نصرخ في وجه بعضنا البعض مهما كان الحديث.
- إذا تحدث أحدنا لا يقاطعه الآخر.. ويسمح بالرد أو الإضافة بعد إتمام كلامه.
- لن نخوض في المفاوضات قبل أن يشرح كل طرف منا وجهة نظرة ويعبّر عن آراءه ويوضّح أهدافه وطموحاته.
- الصداقة اصل لا يمكن تجاوزه أو إلغاؤه فمهما كانت نتائج الحوار فإن الصداقة ينبغي أن تبقى فوق كل شيء.
- الهدف من الحوار هو الوصول إلى الحل فعلينا أن نبذل قصارى جهدنا من أجل الوصول إلى الهدف.
فبهذه القواعد وأمثالها نكون قد وضعنا للحوار سوراً نبدأ فيه بإيجابية ونحيط بأجوائه بإيجابية..
وهو أمر من شأنه أن يفرض النجاح عليه ويوصلنا إلى الهدف. وفي الغالب فإننا الأفراد في الأجواء الهادئة أقرب منهم إلى الاعتدال والمنطقية في ساعات التوتر وربما العصبية والغضب.
ولذلك قد نستطيع أن نحصل على اتفاقات ومواقف إيجابية من شريكنا تصب في صالح الجميع في أوقات الهدوء والاستقرار، بينما يتعذر علينا في أوقات أخرى.
ولهذا فإن الالتزامات والتعهدات المسبقة قد تمنع من التوتر ولو بعض الشيء كما تلزمنا نحن بشرائطها..
ولا يخفى عليك أن هذه ليست كل القواعد بل هي إثارات وربما تكون قواعد مشهورة وأولية الرجوع إليها بيسر وسهولة إذا أردنا الحل والوصول إلى تفاهم مثمر وندفع الجميع إلى التعاون لحل المشكلات وإبدال النزاع إلى تلاحم.
المصدر: مجلة النبأ العدد 36 و37