الحوار السني – الشيعي

الحوار السني – الشيعي

أبو يعرب المرزوقي

المطالع لخريطة الفكر الإسلامي وطبقاته التاريخية لا بد أن يدرك الحاجة لتعلم سنن التاريخ والجهد المطلوب لتوحيد الفكر الإسلامي وتوحيد التاريخ الإسلامي.

 

وليس التوحيد هنا مقصودا به نفي التعدد ومصادرة الاختلاف الذي يفرزه العقل المسلم في قراءته للوحي وللواقع ومسيرته في التاريخ، وإنما المقصود إدراكه في كليته كما في جدليته، وتبصّر مساره حول محور التوحيد كعقيدة، ووضع النزاعات والاختلافات في سياقاتها التاريخية والمكانية / الزمانية، وهو ما لا يتأتى إلا باعتبار التوحيد قلب هذا الفكر وهذا التاريخ، وهو في الوقت ذاته حده الأدنى الكافي الذي سمح فيما بعده بالتنوع والاجتهاد في النظر الشرعي والخيار الواقعي. وهكذا نرى في فكرنا وتاريخنا سيرورة تجاوزية تعلو على الاقتراب التنازعي لفهم التاريخ الذي صار أيدلوجيا لدى البعض ليقرأ بها الفكر والتاريخ بل وقد يستمد منها شرعية فكره ووجوده هو.

 

استكمال مشروع النهضة

 

إن على فكرنا المعاصر تبين سبل استكمال مشروعنا الحضاري، وهو مهمة كل المفكرين المسلمين المؤمنين بضرورة تجاوز خلافات الماضي، والشروع الفعلي في تحقيق شروط النهوض الفاعل.

 

ولعل المشروع الذي يمثله السعي إلى إثبات الوحدة التاريخية كما تعينت في مسألة الخلاف الأساسية بين المذهبين الرئيسيين -السني والشيعي- في الفكر الإسلامي هو المسألة السياسية عامة، ومسألة مبدأ الشرعية التي يستند إليها الحكم خاصة. وموضوع الدراسة اللازم هو إثبات الوحدة العميقة وراء الخلاف الفكري بين المذهبين في الماضي، وهو مشروع مهم جدًا بالنسبة إلى من يسعى إلى توحيد المسلمين في المستقبل، وبخاصة بالنسبة إلى من ينطلق من الفكر الشيعي الذي كان يتجاهل هذا "الماوراء" الواحد؛ فيكتفي بالمقابلة بين الأخيار والأشرار. وسبب تخصيصنا للشيعة بالذكر هنا أنه من النادر أن تجد بين مفكري السنة الكبار من يحط من شأن أهل البيت أو من الإمام علي –رضي الله عنه-، وهنا يجب الفصل بين البعدين: تاريخ الوقائع السياسية، ومنطق المواقف العقدية.

 

إن التأريخ للواقع السياسي والمذهبي يبدأ ببحث سيطرة الاستبداد، وإعصار الغلبة، وتحليل الأزمة الأصلية التي سيطرت على التاريخ الإسلامي كله، وهي ما ينسب إلى الأمويين من زيغ عن قيم الإسلام، وعودة إلى قيم الجاهلية، ومعالجة ما تولد عن هذه الفتنة من صراع فكري ومذهبي حدد مآل الفكر السياسي الإسلامي كله تحديده للواقع السياسي الإسلامي في مجمله، الذي جعله محكوماً بشراك الاستبداد، خلافاً لما تقتضيه عقيدة الإسلام ورسالته.

 

إن التجوال في فكر المسلمين يدلنا على أصناف القول في "السياسة"، وهي:

 

1- الفلسفة العملية، ويمثلها الفارابي خاصة.

 

2- فقه القانون العام، ويمثله الماوردي خاصة.

 

3- أدب نصائح الملوك، ويمثله مسكويه خاصة.

 

4- علم اجتماع السياسة، ويمثله ابن خلدون خاصة.

 

5- القول العام الجامع للأصناف الأربعة السابقة.

 

وابن خلدون يمكن اعتباره ممثلاً لتصور هو أقرب ما يكون من التصور السني الذي غلب في تاريخ الحكم. والفارابي ممثل لتصور هو أقرب ما يمكن من التصور الشيعي الذي غلب في تاريخ المعارضة.

 

بالطبع التاريخ الفعلي لا يكاد يخلو من اعتبار المثال، والموقف الثاني يتحدد بظرف التاريخ الخيالي الذي لا يخلو من اعتبار الواقع.

 

وهنا علينا أن ندرك أن فكر المسلمين لا يمكن أن يصبح فكرًا بحق إلا إذا تعالى على التحدد بكونه سنياً أو شيعياً، بل يتعين بطبيعة موضوعه (سياسي، طبيعي... إلخ)، أو بطبيعة منهجه (علمي، تقني... إلخ)، أو بقصده المعرفي (تفسيري، تأويلي، نقدي.. الخ).. يومها فقط يمكن أن نقول: إن الحوار بين المسلمين بجميع فرقهم العقدية وألوانهم السياسية قابل لأن يصبح حوارًا مثمرًا وفكرًا ناجعًا؛ لكونه يجعلهم مسهمين في التاريخ الإنساني بما يسهم به العقل الإنساني عامة في التاريخ؛ أعني بإبداع القيم الخمس المناسبة لحضارته: الذوقية (جميل - دميم)، والخلقية (خير - شر)، والمعرفية (صدق - كذب)، والتشريعية (حر - مضطر)، والوجودية (شاهد - جاحد)، لتحقيق نسيج الحضارة الإنسانية في خدمة القيم العليا التي يحددها علمنا بالشرائع والطبائع، وما بينهما من تبادل في الاتجاهين ثم وحدة متعالية عليهما وعلى تفاعلهما.

 

شروط تحقيق المشروع

 

إن الموقف الذي نهدف لتأكيده والذي يؤمن بوحدة الفكر الفلسفي الإسلامي متجاوزًا الخلافات "الشعوبية" (بين العرب والفرس)، و"العقدية" (بين السنة والشيعة) السطحية، هو الذي تمثله قيادات النهضة الراشدة في الفكر السني والشيعي تخلصاً من الخلافات المذهبية؛ لتحقيق الوحدة الإسلامية أمام الهجمة الاستعمارية في بدايات النهضة.

 

وللسيد محمد خاتمي في هذا الصدد كلام نفيس، إذ استخلص في كتابه "الدين والفكر في شراك الاستبداد" أنه يمتنع أن تتحقق نهضة المسلمين دون التخلص من الخلافات العقدية التي طابقت الخلافات الشعوبية وخاصة بين أقوام الإسلام الخمسة الرئيسية: العرب والفرس والترك والهنود والبربر. فالعرب هم الأصل الأول لكون الرسالة بلغتهم، والفرس يبرزون حضارياً، والترك سياسياً: وثلاثتهم يمثلون القلب. ويضاف إلى هذا القلب جناحاه: البربر والهنود فهم في الجناحين وفي الأقاصي. لذلك فالنسر الإسلامي يحتاج إلى هذا المخمس الذي يمثل قاعدة الانطلاق الدائمة التي فتحت للإسلام كل العالم بأقوامه الأخرى، غربا وشرقا، فضلا عن كون الأقليات المهاجرة من هذه الأقوام الخمسة هي التي تمثل سفراء الإسلام في كل بقاع العالم.

 

ولأن هذا الاستنتاج الذي وصل له السيد خاتمي فيه بصيرة ويدركه المفكرون من سنة وشيعة بدرجة متزايدة تتضح في الحوارات والمتابعات والجهود المشتركة -لذا فالواجب يقتضي تأييد مشروع الحوار والتعاون من خلال الإسهام في تحقيق هذا الهدف بطلب الحقيقة ومناقشة شروطه وشروط صموده أمام رواسب الصراع المذهبي بين السنة والشيعة أولاً، وأمام ثوابت تأويل تاريخ هذا الصراع في النظريات التي تخلق مناخاً ثقافياً وأكاديمياً سلبياً، خاصة اليسارية.

 

إن علينا أن ندقق البحث في المسائل التالية تعميقا للحوار حول إشكالية الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية بصرف النظر عن المقابلة المذهبية بشكليها التقليدي (بين السنة والشيعة) والحالي (بين يسار التيار التحديثي ويمين التيار التأصيلي)، وهي تلك المقابلة التي تسيطر على قراءة هذا التاريخ قراءة أيديولوجية فتواصل تمزيق كلا المذهبين السني والشيعي إلى فريقين بينهما نزاع متجدد.

 

ولنسأل: لماذا لمْ تكن الوحدة الواقعية والسلوكية بين السنة والشيعة كافية لإيجاد فكر سياسي علمي يمكِّن من تحقيق شرط تجاوز الأيديولوجيا، يتعامل مع الظواهر الإنسانية؛ ويسعى إلى تفسيرها بدلاً من التحسر على كونها ما كانت، أو على عدم كونها على ما كنا نتمنى أن تكون.

 

وبعبارة أوضح: هل نستطيع أن نقدم علاجاً عملياً لواقع الاستبداد يجتمع عليه أهل المذهبين؟ أم إن المقابلة بين الفكر الشيعي والسني ما تزال في الحقيقة فاعلة مما يسبب الإعاقة المعرفية والتقابل/ التعارض المستمر –وغير النافع- بين خصائص مشروع الفارابي الفلسفي ممثلاً للفكر الشيعي، وخصائص مشروع ابن خلدون الفلسفي ممثلاً للفكر السني؛ إذ إن كلا الفيلسوفين صريح الانتساب إلى أحد الموقفين المعرفيين وكذلك إلى أحد المذهبين؟

 

هل يمكن أن نحقق مشروع وحدة المسلمين، وهو مشروع نتفق عليه ونطلبه بكل إيمان وثقة؛ مشروع وحدة النهضة الإسلامية الجامعة بين الحرية والعدالة بإنجاز مصالحة بين الموقفين القديمين؟ وأليست هذه المصالحة تتطلب فهم سبب كونها لم تتحقق حتى الآن ليس بين المذهبين فحسب، بل بين أصحاب التصور اليوتوبي وأصحاب التصور العملي للظواهر الإنسانية في كلا المذهبين؟ أليس هذا شرط البحث عن الحقيقة التاريخية وشروط المعرفة العلمية للظاهرة السياسية في التاريخ الإسلامي.. والإنساني؟

 

الشروط الضرورية والكافية لتحقيق هذا المشروع الطموح (وحدة المسلمين لتحقيق النهضة) تستلزم التخلص من عائقين أساسيين هما:

 

1- تصور التاريخ كمجرد قالب يحصل فيه ما يحصل بمقتضى إرادة البشر المتحررة من كل مؤثر موضوعي ، الأمر الذي قد ييسر العودة إلى المقابلة/ المواجهة والاستسلام للمسار السالف للمواجهة. (عائق منهاجي/ إبستمولوجي).

 

2- عرض التاريخ بوصفه صراعا بين الخيّرين بإطلاق والشريرين بإطلاق، الأمر الذي قد ييسر العودة إلى التاريخ المذهبي (عائق إيديولوجي).

 

وبذلك يصبح مشروع توحيد المسلمين بالتغيير السلمي والإدارة السياسية/ الاجتماعية الشورية التي نسعى إليها جميعا ممتنعاً لسببين:

 

1- سبب إبستمولوجي هو علة سوء تأويل فكرة الثورة كما وصفها ابن خلدون (الغلبة) بدلالاتها القرآنية المنضبطة والإيجابية التي أدرجت ظلماً ضمن النظريات التبريرية للاستبداد، وليس محاولة لتحقيق المعرفة العلمية التي هي شرط في كل تغيير وإبقاء مستوى العنف في أدنى صورة.

 

2- وسبب أيديولوجي هو التمييز بين علم العمران وفلسفة المدينة الفاضلة وكأنهما منفصلان.

 

ذلك أن تغيير العالم التاريخي (العمران) مثله مثل تغيير العالم الفيزيائي (الطبيعة) يشترط أن يكون العمران ذا قوانين معلومة، مع عدم استثناء الإيمان الواجب بالقيم.

 

الوسيلة التي تحقق تلك الغاية -التعاون السني الشيعي- تتطلب التوحيد بين الموقفين السني والشيعي من الاستبداد. فلا يكون التوحيد بين الفكرين السني والشيعي توحيدا ظاهريا يحقق صلحا ظرفيا وسطحيا ويبقي على عمق الخلاف وأساسه البنيوي، ظناً من الطرفين أن السنة عمليون والشيعة يوتوبيون، وكأنهما شرق وغرب لا يلتقيان.

 

ويعطينا ابن خلدون مثالاً للتوحيد بين الرؤيتين في تحليله لثورة الإمام الشهيد - سيدنا الحسين رضى الله عنه- فنجده يقول:

 

"فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما على من له القدرة على ذلك. وظنها في نفسه بأهليته (معيار خلقي وروحي) وشوكته (معيار سياسي ومادي). فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة فغلط يرحمه الله؛ لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية. فقد تبين لك غلط الحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه. وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه وكان ظنه القدرة على ذلك".

 

منطق الحلول السياسية في الحضارة الإسلامية

 

لا نتصور المسلمين خارجين عن سنن التاريخ البشري؛ لذا فإعادة قراءة منطق الخلاف في سياقاته التاريخية هام.

 

والمعلوم أن المسألة السياسية قد كانت منطلق الحرب الأهلية/المذهبية التي عاشتها الحضارة الإسلامية منذ مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه إلى الآن بين الفريقين، والمعلوم كذلك أن هذا التاريخ ما يزال يعرض عرضا عقديا فيعتبر صراعا بين حزب الملائكة وحزب الشياطين بلغة القدماء وحزب التنويريين وحزب الظلاميين بلغة المحدثين. ومن عجائب الأمور أن هذا العرض مشترك لعموم المفكرين من السنة والشيعة. وكان الإنصاف يقتضي أن يُقرأ التاريخ بعين ناقدة وموضوعية تبين أن المواقف التي تتغاضى عن شروط بناء الحضارات الجديدة قد حالت دون هؤلاء المفكرين وفهم دور بناة الدولة الإسلامية الأولى والضرورات التي جعلتهم يكونون ما كانوا ويفعلون ما فعلوا، بغير حاجة ولا حكمة من إعادة تدويرنا للتاريخ ولا للنزاع.

 

فالخلاف الذي حصل حول خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم عبر عن نفسه بصيغتين، إحداهما كانت صريحة عاد بمقتضاها المسلمون (الذين كان جلهم من العرب في بداية الدعوة) إلى الانقسام بحسب محور لم يتخلص بعد من العصبيات الجاهلية، ويرمز إليها عبارة: "منا أمير ومنكم أمير". والثانية كانت ضمنية وشرع المسلمون في ولوجها، وفيها سيصبح الانقسام بحسب محور بات قريبا من مذاهب الحكم التي ستتحدد لاحقا، ويرمز إليها تأخر الإمام علي في المبايعة. أما الحل الذي حصل في التاريخ فكان بالضرورة أشبه بعدم الحل منه بالحل مما آل بالأمر إلى الحرب الأهلية التي يحدد خصائصها المبدآن اللذان تتضمنهما الصيغتان بعد أن وصلا إلى صورتهما الكلية: فمبدأ العصبية الجاهلية اتسع ليصبح مبدأ العصبية القومية، ومبدأ العصبية السياسية اتسع ليصبح مبدأ العصبية العقدية. وهما المبدآن اللذان حكما الحرب الأهلية التي تكونت في ظلها الحضارة الإسلامية وازدهرت رغم كونها قضت على وحدة الدولة الإسلامية. وقد عمل هذان المبدآن بالتناوب والتصاحب على النحو التالي: فالصراع العقدي تغلب في الأول (الحرب الأهلية كانت عقدية في بدايتها)، ثم انقلب إلى الصراع القومي (حيث تبنت الشعوبية الفارسية الدعوة الشيعية الخالصة بعد أن فشلت محاولة الجمع بين الدعوتين العباسية والعلوية)، ثم عاد الصراع العقدي (ثم أصبح الصراع بين الشيعة عامة بقيادة الفرس والسنة عامة بقيادة الترك)، ثم عاد الصراع القومي (بين الأتراك والعرب) فكان القشة التي قصمت ظهر الخلافة. لكن هذا التناوب لم يستثن التصاحب لكون كل قومية كان الصراع فيها متضمنا للصراع بحسب العقيدة؛ إذ إن كل قومية من قوميات الأمة كانت تتضمن المذهبين مع غلبة التشيع على الفرس لذلك آلت إليهم قيادته حينا، والتسنن على الترك لذلك آلت إليهم قيادته حيناً آخر، فحال هذا الأمر دون التمييز بين البعد العقدي والبعد الشعوبي في الصراع بين المذهبين.

 

وهذه الحرب بدأت منذ توقفت محاولات الخليفتين الأولين تأجيلها بسعيهما الحثيث إلى تخليص الأمة من تطرف المبدأين.

 

فالمبدأ القبلي انضم إليه بُعْد الشعوبية ليصبح صراعا قوميا فبعث الوعي بالقومية الفارسية وكون الوعي بالقومية العربية (وهو أمر لو لم يحصل لما وجدت آداب الأمتين اليوم بين أيدينا). والمبدأ السياسي انضم إليه بعد المذهب ليصبح صراعا عقديا؛ فكون الوعي بالفهم السني والوعي بالفهم الشيعي للرسالة المحمدية (وهو أمر لو لم يحصل لما وجد فكر الإسلام الفلسفي والكلامي في أهم معضلات الوجود الإنساني عامة والمسألة السياسية على وجه الخصوص). وقد تراكبت المقابلتان تراكبًا جعل الصراعين متواليين في التاريخ الإسلامي بالتداول (بين العرب والفرس ثم بين الفرس والترك ثم بين العرب والترك)، ومتصاحبين دائمًا في كل قوم من أقوام الأمة الإسلامية (بين السنة والشيعة من هذه الأقوام جميعا). وذلك –لحكمة الله- كان هو سر حيوية الحضارة الإسلامية. ولا معنى لهجاء مثل هذه الظواهر ومدح مقابلاتها. فتوسع المبدأ القبلي إلى مبدأ العصبية القومية وتوسع المبدأ الحزبي إلى مبدأ العصبية العقدية لم يقضيا على وحدة الحضارة الإسلامية رغم قضائهما على وحدة الدولة فتمكنت الأمة من تحقيق دورها الكوني بتوحيد غايتها، أعني طموح الأمة الروحي أو نشر الرسالة المحمدية (القضاء على الردة وتوحيد القرآن الكريم في المصحف العثماني) وتوحيد أداتها، أعني طموح الأمة التاريخي أو تكوين دار الإسلام (توحيد المسلمين ضد العدو الخارجي ببداية الفتح خارج الجزيرة)، فكان التوسع الجغرافي والتأثير الحضاري، وكان الجدل الفكري والصراع التأويلي أساسًا لكل الفلسفات الإسلامية.

 

ومن ثم فلا معنى حسب رأينا للموقف المتحسر على ما كان ينبغي أن يكون فما كان حصل وما وقع، والذي علينا أن نفهمه لتكوين من نتمنى تحقيقه بحسب مبدأ العمل على علم. وعلينا أن نبحث في طبيعة الخلاف السياسي الذي لم يكن خلافا طرأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يتصور البعض بل كان خلافًا موجودًا حتى في حياته لكونه من جوهر الرسالة الإسلامية ذاتها: فالرسالة التي تختم الرسالات ينبغي أن تتضمن بطبعها أعقد مشكل عرفه العقل الإنساني: كيف يكون الأمر في إدارة الشأن الإنساني الديني والسياسي بعد توقف الوحي الذي يختم الوحي وحتى قبل هذا التوقف كما في حالات تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم تصرفًا غير مستند إلى الوحي؟ فأهم مفارقات الدين الإسلامي التي هي جوهره موجودة فيه منذ حياة الرسول حتى وإن لم تبرز بوضوح إلا بعد وفاته. إنها مميزه الأساسي الذي جعله يقوِّم تحريف الدينين المتقدمين عليه صراحة (المسيحية واليهودية)، ويصلح تحريف الفلسفتين المتقدمتين عليه (اليونانية والرومانية).

 

فليس أساس الحكم ربوبيًا (ثيوقراطيًا)، وإلا أصبح ختم الوحي غير قابل للفهم؛ إذ من شرط هذا الحكم أن يكون الوحي محتاجا لتوالي الأنبياء أو لمؤسسة الأوصياء التي تنوب عنهم (الكنيسة: الجماعة الروحية/ أحبار الشعب المختار). وليس أساسه بشريًا (أنثروبوقراطيًا) كما هو الشأن في الفلسفات، وإلا أصبح وجود الوحي غير قابل للفهم؛ إذ من شرط الحكم الأنثروبوقراطي أن يكون العقل مكتفيا بتوالي العقلاء أو بمؤسسة الحكماء التي تنوب عنهم (الجمهورية: الجماعة العقلية). إنما الأساس أمر فريد النوع: وهو تنظيم رابطة بين الديني والسياسي يكون فيها الديني غير مستثن للسياسي والسياسي غير مستثن للديني، وكلاهما على أرضية إنسانية عقلانية، ولهما مظلة من الوحي هادية. وهذا يقتضي أن تكون الأمة كلها -بالشورى الملزمة- مشاركة في السلطانين الروحي والعقلي تحديدا للغايات والأدوات وقياما بالأمرين قياما ذاتيا، والمشاركة فيهما بآليات ومؤسسات وإجراءات تم ترك تحديدها للاجتهاد البشري كفرض عين. وكل تحريف لطبيعة النظام السياسي حصل في تاريخنا كان مصدره جعل هذه المشاركة فرض كفاية، وعجزا عن تصور المؤسسات والآليات التي تحقق فرض العين هذا، أعني أساس البيعة العامة أو الديموقراطية الحقيقية.

 

تلك هي صيغة المفارقة التي كان على الفكر الإسلامي علاجها وهي صيغة طرحها الإسلام لتجاوز الحلين اللذين يعتبرهما محرّفين، أحدهما صراحة، والثاني ضمنا (الحل العبراني المستند إلى الاستبداد الذي تبرره النخبة الروحية، والحل اليوناني المستند إلى الاستبداد الذي تبرره النخبة العقلية). وهما حلان عرفتهما ومارستهما الرقعة الحضارية التي بُعث الإسلام في قلبها. لكن قلة من المسلمين ألغت هذه المفارقة بسرعة عجيبة، وأحلّت جمع خصائص الحل العبراني وخصائص الحل اليوناني، متناسية نفي الإسلام الصريح لفرعي هذين الحلين. ويبدو هذا المهرب من دعوة الإسلام كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم معقولاً ومتناسقًا بل وبدهيًا لكونه يعالج ما في ختم الوحي من تناقض ظاهري: إنه حل يعوض اتصال الوحي الذي ينفيه الوحي المختوم بعلم الأئمة المعصومين الموصى لهم بحكم المسلمين وعلمهم الذي يقوم مقام الوحي المتصل (وهذا الحل لم يتغير منذئذٍ ولا يمكن لهذا الحل- الذي لقب منذئذٍ بحل شيعة الإمام علي كرم الله وجهه- أن يتطور حسب رأينا إلا بالتخلص منه). والخوف هو أن يحصل التخلص بالصورة التي تمخضت عن وحدة الحل العبراني واليوناني الحديثة في التوراتية المحدثة الجرمانية، أعني صورة الفصل بين الدين والدولة، وهو ما يجعل الشيعة مرشحة لتحقيق العلمانية إذا لم تتحرر من مهربها السهل من دعوة الإسلام كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم. لذلك فلا عجب إذا رأينا في التاريخ الإسلامي كيف أن هذا الإلغاء ازداد تدعيما بفضل الحل الصوفي المستند إلى لدنية علم الأولياء رغم تناقض الحلين. وبفضل الحل الفلسفي لكون التقارب بين الحل العبراني والحل اليوناني تم بتوسط الكلام المسيحي اليهودي في العهد الهلنستي.

 

أما غالبية المسلمين فإنها لم تلغ المفارقة ولم تهرب إلى الحل السهل بل فرضت على نخبها تجريب الحلول الممكنة عقلاً لفهم هذه المفارقة التي لا نظير لها في تاريخ الحل الروحي والحل العقلي المعلومين، أعني التقليد العبراني والتقليد اليوناني. فقد ظل المشكل عندهم معضلة المعضلات وصار فكرهم السياسي بحثا دائمًا عن حله بالتجريب العقلي والفعلي لكل الحلول السياسية الممكنة عقلا. لذلك ففهم منطق هذا التجريب هو المبدأ الذي يساعد على فهم تاريخنا السياسي كما نحاول وصفه وصفًا نسقيًا ومنطقيًا يخرجنا من تحليل الفكر والتاريخ بالاتكاء على المهارب القديمة أو بالاستناد إلى الموقف النفساني التحكمي.

 

وهذه الوسطية هي التي ينبغي أن ينطلق منها الضمير الإسلامي وكما يقتضي مفهوم الفطرة. فالإسلام يعتبر إطلاق الفصل بين المبدأين عين التحريف الذي يتنافى مع سنن الله. وتحقيق هذه المؤسسات الشورية هو جوهر الثورة التي سعت إليها الرسالة المحمدية من خلال تحديدها شروط المؤسستين الضروريتين لذلك، وهما:

 

1 - مؤسسة الاجتهاد العقلي التي مبدؤها التواصي بالحق لمعرفته معرفة هي فرض عين على الجميع.

 

2 - مؤسسة الجهاد العادل التي مبدؤها التواصي بالصبر للعمل به عملاً هو فرض عين على الجميع.

 

ويمثل جدل الفكر السياسي بين السنة والشيعة خاصة وبين كل الفرق عامة في الفكر الديني محاولة لفهم الدلالة السياسية لهاتين المؤسستين ولتجريب الحلول الممكنة عقلا. لكن هذا التجريب غلب عليه الفشل بحكم تأثير تعاضد التحريفين اللذين أرادت الثورة المحمدية إصلاحهما، أعني التحريف الروحي العبراني والتحريف العقلي اليوناني والمرتزقة من الجند والمجرمين الذين استولوا على السلطة السياسية: المؤسستين الشارطتين لتحقيق هذا الوسط الذي يجعل الفعل على الإباحة في الاجتهاد والجهاد ويغني عن مؤسسة الأوصياء المعصومين (الكنيسة) والحكماء المطلقين (الجمهورية أو المدينة الفاضلة) أعني المؤسستين المحرفتين اللتين أفسدتا شرط التغيير الإسلامي النظري كما صاغه الرسول (الاجتهاد النظري بما هو فرض عين أو التواصي بالحق) وشرطها العملي (الجهاد العملي بما هو فرض عين أو التواصي بالصبر).

 

مشروع الوحدة وأهميته

 

إذن منطلق الفكر السياسي في حضارتنا كان الخلاف حول السؤال عن أساس الحكم، وهذا السؤال هو: هل الحكم ربوبي (ثيوقراطي) ينتسب إلى العقيدة بحسب العلم المطلق (المتناقض مع ختم الوحي) بالحقيقة الدينية (نظام الوصية والتعيين في الإمامة الشيعية) أم هو بشري (أنثروبوقراطي) ينتسب إلى إدارة الشأن العام بحسب العلم النسبي (الوحيد الممكن بمقتضى ختم الوحي) بالمصالح العامة (نظام الاختيار والمبايعة في الخلافة السنية)؟

 

ولتحقيق تعاون بين المذهبين أيضاً لا بد أن يتخلص "أهل السنة" من السلبية العملية فتعمل بالجهاد مثل "الشيعة"، وأن تتخلص "الشيعة" من السلبية النظرية فتعمل بالاجتهاد مثل السنة:

 

1- وشرط التخلص من السلبية العملية عند السنة هو العمل الإيماني بالعلم العقلي أو الجهاد المتمم للاجتهاد، فلا يكفي أن يبين ابن خلدون دور القوة في العمل السياسي إذا وضعها بصورة تحول دون عملها في وجودها التاريخي، بل كان ينبغي أن يضع شروط استعمال القوة نفسها لتحقيق الإصلاح السياسي وذلك هو مفهوم الثورة السياسية المستندة إلى المعرفة العلمية. وهذا لا يكون من دون التخلص من نظرية في العمل والتغيير. ففي العالم السني حالت السلبية العملية دون التصدي العملي للفصل بين مبدأي الحكم الطبيعيين: مبدأ تأثير القانون الطبيعي أو القوة، ومبدأ تأثير القانون الخلقي أو العقل، فصار مبدأ الشوكة بيد المرتزقة يحكم الواقع المادي بالقوة العمياء منفصلا عن مبدأ العقل الذي يمثله العلم الاجتهادي. وصار مبدأ العقل منفصلا بيد العلماء يحكم الواقع الرمزي بالفكرة العَزْلى منفصلا عن مبدأ القوة.

 

2- وشرط التخلص من السلبية النظرية عند الشيعة هو العلم العقلي بالعمل الإيماني أو الاجتهاد المعد للجهاد، فلا يكفي أن يبين الفارابي دور القيم في العمل السياسي إذا وضعها بصورة تحول دون علمها في وجودها التاريخي، بل كان ينبغي أن يضع شروط تحقيق القيم لتحقيق الإصلاح السياسي وذلك هو مفهوم المعرفة العلمية الهادية للثورة السياسية.

 

ففي العالم الشيعي حالت السلبية النظرية دون التصدي النظري للفصل بين مبدأي الحكم الطبيعيين؛ فأدت إلى نفس النتيجة وإن بدرجة أخف لكون القانون الخلقي يمثله العقل بما هو علم الأئمة المعصوم.

 

لذلك فليس من المصادفة أن يكون الفكر السياسي الشيعي قد بدأ يحاكي الفكر السني لينظر اجتهاديا في شروط تحقيق قيم الدين جمعا لوجهي الإيمان الحقيقي (بإضافة النظر الاجتهادي بدلا من العلم المعصوم إلى العمل بالقيم الدينية).

 

كما أنه ليس من المصادفة أن يكون الفكر السياسي السني قد بدأ يحاكي الفكر الشيعي ليعمل إيمانيا بشروط تحقيق قيم الدين جمعا لوجهي الإيمان نفسيهما (بإضافة العمل الجهادي بالقيم الدينية إلى النظر الاجتهادي بدلا من دعوى الاستسلام إلى القدر).

 

وبذلك يتبين التكامل بين فرق الفكر الإسلامي بحيث يصبح مشروع توحيد المسلمين أمرا ممكنا؛ لأنه ضرورة يقتضيها المنطق الذاتي للفكرين في مستوييهما النظري والعملي كما وصفنا.

 

آفاق الصحوة الإسلامية

 

الصحوة في جوهرها هي إعادة اكتشاف لمقومات النهضة عبر إعادة اكتشاف السنن الإلهية في كتاب الوحي المسطور وكتاب الكون المنشور، ترتيلا وتفكرا مع سير ونظر.

 

وسورة العصر وسورة آل عمران تشرحان تعريف الإصلاح من خلال مناقشة مفهوم التأويل لتحديد نظرية الاجتهاد أو الرسوخ في العلم. ومناقشة مفهوم القدر لتحديد نظرية الجهاد أو الرسوخ في العمل وهو ما جعلنا نربط بين السورتين.

 

فسورة العصر: "والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" تبدأ بالقسم بالعصر محددة منزلة اللحظة الإنسانية الوسطى وساطة العصر في الصلوات ووساطة الإسلام في التاريخ الكوني وفي العمل بالقيم. وتصف الآية الثانية الإنسان بأنه يوجد في هذه اللحظة أمام الخيار بين الخسر والاستثناء منه. ثم يأتي ذكر شرطي هذا الاستثناء، أعني مضمون الإصلاح أو الإسلام بمستوييه النظري والعملي في صيغة خبرية بالنسبة إلى من اتصف بهذه الصفات في الماضي فيعد من المسلمين (مبدأ قراءة تاريخ الأديان لبيان أنها جميعا إسلام عندما لا تكون محرفة). ويأتي كذلك وفي الوقت نفسه بصيغة إنشائية بالنسبة إلى من سيتصف بهذه الصفات، إذ هي تتضمن دعوة للتحلي بهذه الصفات (شرط الانتساب إلى الإسلام). وكلا المستويين من الإصلاح ذُكِر مرتين مرة ببُعده الشخصي الذاتي ومرة ببعده الجمعي الموضوعي: فالإصلاح النظري تشير إليه الآية بالإيمان شخصيا ذاتيا وتشير إليه جماعيا موضوعيا بالتواصي بالحق, والإصلاح العملي تشير إليه الآية شخصيا ذاتيا بالعمل الصالح وتشير إليه جماعيا موضوعيا بالتواصي بالصبر.

 

ولما كان التواصي بالحق هو عينه الاجتهاد الذي يعني العلم بحسب معايير إجماعية في غياب العلم المحيط بالوجود (وهو معنى المشاركة في التواصي بالحق)، وكان التواصي بالصبر هو عينه الجهاد الذي يعني العمل بحسب معايير إجماعية في غياب العلم المحيط بالقيم (وهو معنى المشاركة في التواصي بالصبر) -بات من الواجب أن نبحث عن معرفة الشروط الموجبة والسالبة التي يضعها القرآن الكريم لعمل هاتين المؤسستين (الاجتهاد والجهاد في النظر والعمل، سواء كان الموضوع طبيعيًا عالميًا أو شريعيًا تاريخيًا) بوصفهما الأصل الذي تستمد منه السياسة بعديها: النظري والعملي.

 

أما سورة آل عمران فتعالج تحليل أسباب الفساد الناشئ عن الموقفين القائلين بالعلم المحيط (تأويلا للمتشابه) والعمل المحيط (تعليلا بالقدر) فتنقسم آياتها المائتان إلى قسمين: المائة الأولى تعالج تحريف التواصي بالحق الناتج عن تأويل المتشابهات، والمائة الثانية تعالج تحريف التواصي بالصبر الناتج عن التعلل بالقدر الذي هو في الحقيقة أصل كل متشابه. فهي تحدد في الآية السابعة منها العلة الرئيسية التي لأجلها يمكن لتحريف المعرفة الإنسانية أن يحصل: إنها محاولة تأويل المتشابه في أهم موقف نظري من مواقف الحياة, موقف مواجهة المجهول خلال الاجتهاد من أجل الحقائق العقلية التي تجعل العمل يكون على علم. وهي تحدد في الآية الرابعة والخمسين بعد المائة العلة الرئيسية التي لأجلها يمكن لتحريف العمل الإنساني أن يحصل: إنها محاولة التعلل بالقدر في أهم موقف عملي من مواقف الحياة موقف مواجهة الموت خلال الجهاد من أجل القيم الروحية؛ مما يعني أن الرسوخ في العلم لا يمكن أن يكون إلا معرفة اجتهادية تتحرر من وهم تأويل المتشابه، إذ من دون ذلك لا معنى للدين ولا معنى للوحي ولا معنى لانعدام تناهي الطلب النظري. والرسوخ في العمل لا يمكن أن يكون إلا عملا جهاديًا يتحرر من وهم تحليل القدر؛ إذ من دون ذلك لا معنى للحرية ولا معنى للالتزام الخلقي ولا لانعدام تناهي الطلب العملي.

 

ولما كان الوهم الثاني (وهم تحليل القدر) عائدًا إلى الوهم الأول (وهم تأويل المتشابه) تقدمت الآيات التي تدرس تحريف النظر بتأويل المتشابه للتعلل به عن الجحود على الآيات التي تدرس تحريف العمل بتحليل القدر للتعلل به عن القعود. لكن المقصود من الآيات التي يتعين فيها المتشابه والقدر ليست مقصورة على المعنى الفني من كلمة آية (أي: المعنى الدال على مقاطع النص القرآني) فحسب بل المقصود كل الآيات الكونية والشرعية والجامعة بينهما جمعا متشخصًا في العين البشرية وجمعا كليا في التاريخ البشري، أعني الموضوعات التي تتكلم فيها الآيات التي يتألف منها نص القرآن الكريم. الآيات المتشابهة هي إذن أنواع الآيات الخمس التي يتكلم فيها الكتاب الذي أنزل بما فيها هذا المعنى المحدود الذي حُصر فيه النهي عن تأويل المتشابه في الأدبيات التفسيرية التقليدية أو الفلسفية: الآيات الكونية, والآيات الخلقية, والآية الجامعة بينهما في الشخص الإنساني, والآية الجامعة بينهما في التاريخ الإنساني, وآية الآيات أو القرآن الكريم.

 

ولعل سر الأسرار في الرسالة المحمدية هو إثبات القيام الموضوعي للآيات الخلقية مثلها في ذلك مثل الآيات الكونية واعتبار ذلك معلوما بالفطرة بل هو عين الفطرة الإنسانية كما تتبين من النفس البشرية التي هي وحدة الضربين الأولين من الآيات في قيامهما العيني ومن التاريخ البشري الذي هو وحدتهما في قيامهما الكلي. وليس القرآن الكريم إلا التذكير الخاتم بهذا الأمر من حيث ما لا يمكن للإنسان إلا أن يتدبره لتحقيق شروط الاستخلاف في التاريخ الفعلي وتسيير ذاته بنوره الفطري لكون الرسالات قد ختمت والرسالة الأخيرة ألغت الوسطاء بينه وبين السماء واعتبرت مهمة الدين الرئيسية تحقيق شروط الحرية العقدية والسياسية في العمران الإنساني كما تشير إلى ذلك بوضوح الآية الكريمة : "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.

 

فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" (البقرة 265).

 

وهذا الأساس القرآني هو في الوقت نفسه شرط تحرير المسلمين والبشرية من العولمة، فمهمة الدين الرئيسية تحقيق شروط الحرية العقدية والسياسية في العمران الإنساني كما تشير إلى ذلك بوضوح آية الكرسي: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم".

 

الخاتمة

 

الحوار بين فرعي الإسلام الرئيسيين لتجاوز الخلافات المذهبية على أرضية عقدية وفلسفية وعلمية تستند إلى فكر يصل بين سنن فلسفية ودينية ورثناها من تراثنا وسنن تعلمناها من الفكر الإنساني في شكله الحالي خلال القرنين الأخيرين -من الاستفاقة الإسلامية. لذلك فقد سعينا إلى جعل الحوار يجري في مستوى المعرفة بالوحي والعقل والتاريخ.

 

ومن خلال طبيعة العلاج ومنهجه يتم تقديم البديل ليكون الحوار الجدي في سياق نفس الحضارة.

 

ومن دون صياغة هذين الوعيين صياغة فلسفية تقبل النقاش بالفحص الداعم أو بالفحص الداحض بالحجج العلمية في الحالتين -فلا يمكن للمسلمين أن يسهموا في التاريخ الكوني بفكرهم النظري والعملي إسهاما يكون بالمواصفات الإيجابية التي تطلبها رسالتهم خاصة وقد مكنهم التاريخ الماضي من تحقيق شرطي هذا الإسهام: الحجم الجغرافي التاريخي والوزن الاقتصادي (أهمية موقع العالم الإسلامي في المعمورة ووزنه الاقتصادي) والمنزلة التاريخية والمغزى الحضاري (منزلة الحضارة الإسلامية في التاريخ ودلالتها الروحية).

 

والله ولي التوفيق.. * د. أبو يعرب المرزوقي: أستاذ الفلسفة-كلية الآداب - جامعة تونس الأولى

 

المصدر: موقع إسلام أون لاين - بتاريخ 12/05/2002

http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/2010-04-26-1500.htm

الأكثر مشاركة في الفيس بوك