لسنا بحاجة إلى (فاتيكان) إسلامي

لسنا بحاجة إلى (فاتيكان) إسلامي

وائل ميرزا

هذا موضوع من المواضيع الحساسة، والحديث فيه يبدو أقرب إلى محاولة المشي على حد السيف. فالمرء يتوقع أن يعترض على الرأي الوارد في هذا المقال أولئك الذين يحلمون بوجود (جهة) إسلامية (واحدة) تكون مصدر الرأي والقرار لأكثر من مليار ونصف مليار مسلم. وسيعتقد هؤلاء أن هذا المقال يناقض الدعوة إلى وحدة كلمة المسلمين. ولكن من الممكن أيضا أن يسيء فهم المراد من هذا الكلام بعض المثقفين والعلماء الأكثر موضوعية وحيادا. فالضغوط التي يتعرض لها العرب والمسلمون من جانب، والواقع الصعب والمعقد الذي تجد الشعوب نفسها فيه من جانب آخر، كلها أسباب تزيد من العبء النفسي المتزايد على الجميع لإيجاد حل ما.. ولما كانت الفرقة في الرأي والموقف سببا أساسيا من أسباب هذا الواقع في نظر الكثيرين، فإن البحث عن كل ما يجمع ولا يفرق يصبح في نظرهم مشروعا ومطلوبا ومرغوبا فيه. من هنا يفهم الإنسان شعارات الوحدة الإسلامية، ويتفهم الدافع وراء تلك الدعوات التي تُطلق من هنا وهناك لتشكيل هيئات أو تجمعات أو منظمات تجمع كلمة العرب والمسلمين، وتوحد رأيهم تجاه القضايا الأساسية التي تواجههم في هذه المرحلة الحساسة.

 

رغم كل هذا، فإن من المطلوب دوما التفريق بين الشعور بالحاجة إلى شيء وبين طريقة الحصول عليه. كما أن من الواجب على الدوام التأكد من سلبيات وإيجابيات الحلول والبرامج والهياكل التي تُطرح ويعتقد البعض، في كثير من الأحيان ببراءة وإخلاص، أنها تحقق الأمر أو الهدف المطلوب، خاصة عندما يحصل ذلك الطرح تحت مطارق الضغوط النفسية والعملية الهائلة، بمعنى أن من الضرورة بمكان أن تكون هناك جردةُ حساب استراتيجية، من منطلقات شرعية وعلمية وواقعية، تأخذ بعين الاعتبار جميع الآثار والنتائج الإيجابية والسلبية التي ستترتب على قيام أي مشروع. ونحن عندما نتحدث عن الصفة الاستراتيجية لجردة الحساب المطلوبة، فإن هذا يعني تحديدا امتلاك القدرة على رؤية الآثار بعيدة المدى لأي مشروع وليس الوقوف عند الآثار المباشرة والقريبة له.

 

نطرح هذا الكلام تعليقا على بعض المشاريع التي أُعلنت منذ فترة لتشكيل هيئة عليا قيل إنها ستجمع رأي علماء المسلمين في العالم بأسره، بحيث تُصبح هذه الهيئة مصدرا للفتوى والرأي الشرعي لأكبر شريحة ممكنة من مسلمي العالم. والحقيقة أن تأخير التعليق على هذا الموضوع كان مقصودا حتى لا يكون في الأمر مظنة ردة فعل، وحتى يمر زمنٌ يمكن فيه رؤية بعض ما يمكن لمثل تلك الهيئة أن تقوم به عمليا.

 

ورغم المقام المحفوظ لغالبية من شارك في ذلك النشاط المذكور، إلا أن هذا لا يعني أن ما جرى يحمل أي مناعة أو قدسية أو صفة تمنع الحوار فيه ومناقشته على أي مستوى من المستويات. وما دام المنطلق المشترك هو المصلحة العامة، فإن المجال يصبح مفتوحا لجميع من يريد أن يدلي بدلوه باحترام ومنهجية وموضوعية.

 

وبناء على هذا يمكن لي التصريح بأن مثل هذا المشروع ينطوي في رأيي على محاذير في غاية الخطورة، تتمحور تحديدا حول إمكانية تحول الهيئة المذكورة إلى ما يشبه (الفاتيكان) الإسلامي، الذي يمكن بالتدريج أن يتولى مهمات لا يجوز أن تنحصر في أفراده، وأن يُصدر توصيات وقرارات تؤثر في مصير العرب والمسلمين والعالم أجمع، دون أن تمتلك تلك القرارات بالضرورة كامل المقومات والشروط المطلوبة لإصدارها. والمسألة الحساسة التي يجب الانتباه إليها هنا تتمثل في ذلك الارتباط الدقيق الذي أصبح سائدا بين الفتوى الشرعية وبين القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وإذا كان المُعلن أو المُتعارف عليه أن الهيئة ستختص بإصدار فتاوى شرعية، غير أن القاصي والداني يدركان أن تلك الفتاوى الشرعية تتعلق في حقيقتها، وبشكل كبير، بالمسائل الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تشغل الواقع العربي والمشهد الإسلامي المعاصر. والمشكلة هنا هي أن إصدار تلك الفتاوى (وهي في حقيقتها مواقف سياسية وأحكام اقتصادية وثقافية)، يتطلب وجود دراسات وتحليلات في غاية العمق والتنوع والشمول من جهة الاختصاص.. وحيث إن تخصص الغالبية العظمى من الشخصيات التي تعمل على مثل تلك المشاريع ينحصر في إطار العلوم الشرعية، فإن من الصعوبة بمكان أن تتوافر الشروط العلمية المطلوبة التي تضمن كون المسألة قيد البحث قد فُهمت ودرست بالشكل المطلوب. وبالتالي، فإن الفتوى أو الحكم الصادر بخصوصها سيحمل لا محالة درجةً مُقدرةً من النقص والقصور. الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى ظهور تَبعاتٍ عملية غير محمودة النتائج، هذا إذا لم يؤدِّ الأمر بمجمله إلى حصول كوارث على أكثر من صعيد.

 

ومع الاحترام المطلوب للمتخصصين في العلوم الشرعية، غير أن الصراحة والواقعية يقتضيان التأكيد بأن عصر الموسوعات الكبرى المجموعة في شخص عالم الدين انتهى منذ زمن بعيد. وأصغر إنسان يمتلك شيئا من العلم الأصيل بالدين في هذا الزمان ويحترم نفسه يستحي أن يدعي معرفته بجوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والثقافة والأدب والعلوم.. وحتى على صعيد العلم الشرعي أو المعرفة بالدين، فإن من المفترض أن مما يميز الإسلام عن غيره من الأديان وجود الصلة المباشرة بين المخلوق وخالقه، إضافة إلى قدرة ذلك المخلوق على تلقي تعاليم الخالق وفهمها دون وسيط يمكن أن يتمثل في طبقة كهنوت أو رجال دين أو غير ذلك من طرق الوساطة وأشكالها.

 

إن احترام التخصص مطلوب كقاعدة، ونحن لا نقول إن جميع الناس سيكونون علماء دين، ولكن المحظور هو أن تَحدُث بشكلٍ تراكمي على مدى الزمان عملية استقالةٍ نفسية وفكرية من قبل الناس فيما يختص بفهم الإسلام، وأن يُوكل هذا الأمر كليا إلى شريحة معينة يصبح هذا الأمر شيئا فشيئا منوطا بها حصراً، الأمر الذي سيصل بنا إلى (فاتيكانية) إسلامية، سيترتب عليها ما ترتب على وجود الفاتيكان من آثار سلبية على دين الناس ودنياهم. إلى درجة يمكن أن تقتل الحيوية الذهنية والحراك الفكري الذي ينبغي أن يكون مدخل فهم الإسلام وتنزيله على الواقع، أو تدفع في المستقبل إلى زهد كامل وإعراض نهائي عن الدين وتعاليمه، فيما إذا ما تحول إلى مؤسسة يسيطر عليها حفنة من رجال الدين.

 

لقد وجدتُ أثناء التفكير والبحث في هذا الموضوع نقدا قاسيا وجهه غربيون من مختلف التخصصات يستعرض الآثار السلبية التي نتجت عن علاقة الفاتيكان بالدين من جهة، وبالدنيا وأهلها من جهة أخرى، وأنا لا أريد إيراد هذه النقولات هنا لأنني لا أريد حرف الموضوع عن مساره ولا أن يُفهم هذا على أنه داخل في دائرة تقاذف التهم بين الحضارات والأديان والثقافات.. ولكن بعيدا عن ذلك، فإن كثيرا من المفكرين والمثقفين، ومنهم من شارك أو يشارك في مثل المشاريع التي نتحدث عنها، كتب بشكل أو آخر حول السلبيات الخطيرة التي يمكن أن تظهر تدريجيا في حال دَخَل فهمُ الإسلام وتنزيله على الحياة في مداخل هيكلةٍ تُؤطِّرُ التعامل معه وتُقيم أسواراً وتُنشأ وظائف يصبح منوطا بها تدريجيا حماية ذلك التأطير والحفاظ عليه..

 

ما هو الحل إذا؟ وهل يكون في هذا الكلام دعوة إلى ترك الأمور على ما هي عليه في انتظار حل سحري يأتي من مكان ما أو من جهة ما؟ ليس الأمر كذلك على وجه اليقين، وهذه كالعادة دعوة إلى فتح الملف قبل كونها أي شيء آخر. أما إذا كان لابد من التفكير بمثل هذا الشكل المؤسسي، فالموضوع يحتاج إلى أكثر مما تم بكثير من جهود على الصعيد النوعي، ويحتاج إلى إشراك دوائر أوسع بكثير من أبناء العرب والمسلمين ممن يملكون خبرة ودراية في مجموعة كبيرة من العلوم والمعارف على الصعيد الكمي. بل وربما كان من المطلوب أن لايقتصر الأمر على إشراك الإسلاميين و المسلمين فقط كما يتوقع البعض، وإنما أن يتم التعامل مع هذه المسألة بالشكل الذي يليق بالفهم الصحيح لحقيقة الواقع العالمي الراهن، وللمصير المشترك الذي يعلم الجميع أنهم على طريقه سائرون.. * وائل مرزا : باحث في السياسة والإعلام

 

المصدر: الوطن السعودية 03-09-2004

http://www.alwihdah.com/fikr/scholar/2010-04-26-1681.htm

الأكثر مشاركة في الفيس بوك