السلام العالمي وعد حق من الله للبشرية
السلام العالمي وعد حق من الله للبشرية
راندا شوقي الحمامصي
تتزاحم في الأذهان تساؤلات كثيرة:
هل التنازع على البقاء انتقل من عالم الحيوان والنبات إلى الإنسان؟
هل أصبح عالم الحيوان نبراساً للإنسان في كل شؤون حياته؟
هل أصبح التنازع من ضروريات الحياة لبقاء الأنسب فتطحن الضعفاءَ سنابكُ الأقوياء؟
وهل أصبح هذا دستور حياة لمدٍّ كبير من فئات البشر من أجل تحسين النوع الإنساني؟
إلى متى ستظل روح الإنسان التي خلقت لتعيش في فضاء الفضائل الإلهية تتغذى من شمس الحق المحيية مثل أوراق الشجر التي ترتفع في الفضاء وتتغذى من الشمس وحرارتها، بدل أن تعيش في طين شؤونات النفس والهوى لتهوى بالنفس البشرية إلى الحضيض؟
هل ستبلغ معاناة البشرية إلى حد من القسوة تجعلها تفيق من غفلتها وترجع عن غيّها فتفكر في ما أصابها ويصيبها، وتتمعن في أسباب خلقها ووجودها في هذا العالم المادي، وما الهدف من رحلة روح الإنسان ومروره بهذا العالم المادي قبل رحيله إلى عوالم الله الروحانية بعد مفارقة هذه الحياة؟
إن الإنسان خلق وفي كينونته القدرة على توجيه فكره وروحه وقلبه نحو العُلا، فيأخذ الرسل والأنبياء وتعاليمهم هي الهادية والمرشدة والقدوة لا عالم الحيوان وقانون الطبيعة. فمبادئ الإنسان إن اتّبعها الحيوان يفنى، وقانون الطبيعة إن اتّبعه الإنسان يذوي ويزول. فالظلم والعدوان والأنانية وحب السيطرة والتملك واغتصاب الحقوق والقسوة والوحشية وغيرها إنما هي من كمالات عالم الحيوان والطبيعة ولكنها أساس نقائص عالم الإنسان.... فالطبيعة محبة للحرب، والطبيعة محبة للدماء، والطبيعة غدارة، لأن الطبيعة لا علم لها ولا خبر لها عن الله تعالى... ولهذا أرسل الله تعالى الرسل، وأنزل الكتب رأفة منه وشفقة، حتى تنجو النفوس البشريّة عن طريق التربية الإلهيّة من فساد الطبيعة ومن ظلام الجهل، وحتى تتّصف بالصفات الروحانيّة، وتكون مشرق الألطاف الرحمانيّة. ولكن يا للأسف وألف أسف، فقد صارت جهالة التعصب والاختلافات التي لا أساس لها، والعداوات المذهبيّة، سبباً لفناء العالم وعلّة لتقهقره، ومانعاً لرقيّه. والسبب في هذا التدني والتقهقر هو تركهم تعاليم المدنيّة الإلهيّة تركاً تامّاً، ونسيانهم مبادئ الأنبياء. "نجمة الغرب".
ففي السلام حياة وازدهار… وفي الحروب ممات ودمار. في السلام أمان واطمئنان… وفي الحروب اضطراب واضمحلال. في السلام سعادة ورخاء… وفي الحروب تعاسة وشقاء. في السلام تطور فكري وروحاني… وفي النزاع هبوط وتدنٍّ إنساني. في السلام حضارة وتقدم... وفي النزاع هدم وتقهقر. في السلام وحدة ومحبة ووئام... وفي النزاع فرقة وكره وخصام. في السلام تظهر الفضائل... وفي النزاع تبرز الرذائل. وأمام ما تمر به البشرية من ضيق ومحن ورزايا وويلات متتالية بلا هوادة تشخص لها الأبصار لهول ما ترى.
الصلح الأعظم
لقد سبق لرسل الله أنْ تنبأوا على مدى العصور بمجيء عصر السلام على الأرض والوئام بين البشر. ومن بينهم حضرة بهاءالله الذي يؤيّد هذه النبوات بعبارات أكيدة تتوهّج أملاً ورجاءً بقرب تحقّقها فيخبرنا بقوله:
... فأي ضرر في أن يتحد العالم على دين واحد وأن يكون الجميع إخواناً، وأن تستحكم روابط المحبة والإتحاد بين بني البشر، وأن تزول الاختلافات الدينية وتمحى الاختلافات العرقية؟... ولا بد من حصول هذا كله، فستنقضي هذه الحروب المدمرة والمشاحنات العقيمة، وسيأتي ’الصلح الأعظم‘... ولا بد من زوال هذه المشاحنات والبغضاء وهذا السفك للدماء وهذا الإختلاف، حتى يكون جميع الناس جنساً واحداً وأسرة واحدة...
وفي مقام آخر يقول:
قل قد جاء الغلام ليحيي العالم ويتحد من على الأرض كلها. سوف يغلب ما أراد الله، وترى الأرض جنة الأبهى. - لوح الرئيس
وجاء في الإنجيل قوله:
لأنه تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع. - انجيل متى، ٢٤: ٧
لأنه يكون حينئذٍ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون. ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام. - إنجيل متّى ۲٤: ۲۱، ۲۲
وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماء تتزعزع. - إنجيل متّى، ۲٤: ۲٩
وبعد ذلك الضيق تعي البشرية درساً مفاده أن السلاح لا يحل مشاكل النزاع والمشاحنات والإختلافات فتدخل عصر النضوج والذي فيه الحوار والتفاهم والمشورة سيد الموقف. ويكون هناك الرسول والشريعة التي ستقضي بين الشعوب والأمم فيما كانوا فيه مختلفين.
فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب فيما بعد. - أشعياء، ۲: ٤
في هذا الدور البديع يصير العالَم عالماً آخر، ويبدو العالَم الإنساني في كمال الزّينة والراحة، ويتبدّل النزاع والجدال والقتال بالصلح والصدق والوداد، وتحلّ المحبّة والمودّة بين الطوائف والأمم والشعوب والدول، وتستحكم روابط الألفة والوئام، وفي النهاية تمنع الحروب بالكليّة... ويرتفع سرادق الصلح العمومي في قطب الإمكان، وتنمو شجرة الحياة المباركة حتى تظلّل الشرق والغرب. فالأقوياء والضّعفاء والأغنياء والفقراء والطوائف المتنازعة والملل المتعادية الّذين هم بمثابة الذّئب والحَمَل والنمر والجدي والأسد والعجل يعامل بعضهم بعضاً بنهاية المحبّة والائتلاف والعدالة والإنصاف، ويمتلئ العالم بالعلوم والمعارف والحقائق وأسرار الكائنات ومعرفة الله.
وقد يتساءل المرء:
كيف يمكن للبشرية أن تتخلص من أفكار واتجاهات تقادمت عليها قروناً وأعصاراً وأوصلتها إلى ما هي عليه من شقاء وتعاسة؟
إنه سؤال يدعونا إلى البحث عن أسباب النزاعات والحروب التي انهزمت فيها جميع القيم الإنسانية والأخلاقية التي غرستها فينا الأديان السماوية المتعاقبة وليس من منتصر سوى قانون الطبيعة والحيوان. فكيف يعالج الدين البهائي تلك المعضلات؟
إن من أعظم الأسباب وأقواها تأثيراً التعصبات التي فتكت بمقدّرات الإنسانية الأخلاقية والفكرية.
التعصب الديني
لا شك أن كل منصف يقرّ بأن جذور العداء القائم بين أهل الأديان وما تبعه من صراعات وحروب دموية كان سببه فقدان الدين الحقيقي وليس دين الله الذي يدعو إلى المحبة والتسامح والوئام. إذ حلَّ محله آراء وأفكار باسم التمسك بالدين ولكن للاسف قد أبعدت الإنسان عن جوهر دينه فكانت الفرقة والتشيع والصراع والإقتتال، وأصبح الإنسان حبيس تقاليد وتفاسير ومفاهيم تتقاذفه بكل حيرة ويأس. ففي إحدى خطاباته يخبرنا حضرة عبدالبهاء بقوله:
منذ أوّل تاريخ البشريّة إلى يومنا هذا كفّر أتباع الأديان المختلفة في العالم بعضهم بعضاً ونسب بعضهم الباطل إلى البعض الآخر، وأخيراً قام بعضهم بمعاداة البعض الآخر بكلّ وسائل الجفاء والبعاد. لاحظوا تاريخ الحروب الدينيّة تروا أنّ الحروب الصليبيّة كانت إحدى هذه الحروب العظيمة، وقد دامت مائتي سنة، كان الصليبيون خلالها يتغلّبون حيناً، فينهبون المسلمين ويأسرونهم، وحيناً كان المسلمون ينتصرون، فيقومون على سفك دماء الصليبيّين المعتدين وإبادتهم. وكانت الحرب سجالاً مدّة قرنين بين شدّة وضعف، إلى أنْ رَحَلَ أصحاب تلك المذاهب الأوروبيّة عن الشرق، وتركوا البلاد خراباً يباباً كما تترك النيران أكوام الرماد، ورجعوا إلى بلادهم، فشاهدوا أممهم في منتهى الفوضى والاضطراب والهياج. وخلاصة القول سمّيت هذه الحروب الصليبيّة بالحروب المقدّسة، وكانت هناك حروب دينيّة كثيرة أخرى. فقد كان للمذهب البروتستانتي ٩٠٠ ألف شهيد نتيجة النزاع والاختلاف بين المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي، وكم من أرواح أزهقت في السجون، وكم من الأسرى عوملوا بقسوة لا هوادة فيها ولا شفقة. وكان كلّ ذلك يجري باسم الدين. واعتبر المسلمون والمسيحيّون اليهود شياطين أعداء الله ولعنوهم وآذوهم وقتلوا كثيرين منهم وأحرقوا بيوتهم أو نهبوها وأسروا أطفالهم، وكذلك اعتبر اليهود المسيحيّين كفّاراً والمسلمين أعداء هدموا شريعة موسى، فكانوا يتربّصون بهم الدوائر انتقاماً، وهم إلى يومنا هذا يسبّونهم ويلعنونهم. فعندما طلع حضرة بهاءالله من أفق الشرق طلوع الشمس المنيرة للآفاق أعلن بشارة وحدة العالم الإنساني، وخاطب عموم البشر متفضّلاً: ’كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد.‘ فالشجرة شجرة واحدة لا شجرتان رحمانيّة وشيطانيّة، لذا يجب أنْ يعامل بعضنا البعض الآخر بمنتهى المحبّة، فلا تعتبر طائفة طائفة أخرى شيطاناً، بل يجب علينا أنْ نؤمنَ أنّ جميع البشر عبيد الله وكلّ ما في الأمر أنّ بعضهم غافلون تجب تربيتهم، وبعضهم جهلاء يجب تعليمهم، وبعضهم أطفال تجب تربيتهم حتى يصلوا مرحلة البلوغ. يخبرنا عبدالبهاء بهذا الخصوص بقوله: فهم مرضى فسدت أخلاقهم، ولا بُدّ من معالجتهم حتى تتطهّر أخلاقهم. والمريض لا تجوز عداوته بسبب مرضه، وكذلك لا يجوز الابتعاد عن الطفل بسبب طفولته، ولا يجوز احتقار الجاهل بسبب جهله، بل تجب معالجته وتربيته وتـنشئته بمنتهى المحبّة، ويجب أنْ نبذلَ الجهد حتى يرتاح البشر في ظلّ الله، ويعيشوا في منتهى الراحة والاطمئنان والسرور الموفور. - "نجمة الغرب".
وتعصب آخر أضرم نار الحروب والنزاعات بين الأمم والأقوام هو:
التعصب العنصري والجنسي
أمّا التعصب الجنسي فهذا وَهْمٌ من الأوهام. لأنّ الله خلق البشر جميعهم. وكلّنا جنس واحد. وليست في الوجود أبداً من حدود، ولم تتعيّن بين الأراضي ثغور. ولا تتعلّق قطعة من الأرض بأمّة أكثر من تعلّقها بأمّة أخرى وجميع الأجناس البشريّة واحدة لدى الله، لا امتياز بينها. إذاً فلماذا يجب أنْ يخترعَ الإنسان تعصّباً كهذا التعصب؟ أفهل يجوز لسبب وهميّ أنْ نتـنازعَ ونتحاربَ؟ فلم يخلق الله البشر؟ أمن أجل أنْ يهلك بعضهم بعضاً. وانّ لجميع الأجناس والملل والطوائف والقبائل نصيب من فيض عناية الأب السماوي. ويمتاز البشر بعضهم عن بعض في الأخلاق وفي الفضائل وفي الإيمان وفي إطاعة شريعة الله، فبعضهم كالمشاعل مشتعلون وبعضهم كالنجوم الدرهرهة في سماء الإنسانيّة ساطعون. والنفوس التي تحب العالم الإنسانيّ ممتازة سامية، سواء أكانت سوداء أم صفراء أم بيضاء أم من أيّة ملّة أو عنصر وهي مقرّبة إلى الله.
أمّا التعصب السياسي أو الوطني فلا يقلّ ضرراً ووبالاً عن التعصب العنصري. وقد حان الوقت الّذي فيه تـندمج الوطنيّة القوميّة في وطنيّة أوسع منها حين يكون العالم كلّه وطناً لها.
ولقد قيل في السابق ’حبّ الوطن من الإيمان‘، ونطق لسان العظمة في يوم الظّهور ’ليس الفخر لمن يحبّ الوطن بل لمن يحب العالم‘، فعلّم طيور الأفئدة بهذه الكلمات العاليات طيراناً جديداً، ومحا التحديد والتقليد من الكتاب.(لوح الدنيا)
فالتعصبات بجميع أنواعها وآفاتها ليست من شِيَم الإنسان المؤمن في شئ وهوالذي خُلق في أحسن تقويم ويعمل الصالحات، بل من صفات الإنسان الذي رُدَّ أسفل السافلين، وغاص في مستنقع النفس الأمارة بالسوء فانتمى بذلك إلى عالم الحيوان.
لهذا أرى لزاماً أن يوجّه كل واحد منكم أفكاره ومشاعره نحو المحبة والإتحاد، وكلما خطر بقلبه خاطر من الحرب قاومه بخاطر أكبر من الصلح والوئام. ويجب محو فكرة العداوة بفكرة أكثر مهابة وجلالاً منها ألا وهي فكرة المحبة. وكلما اشتدت سيوف العالم ورماحه سفكاً للدماء، اشتد هتاف جنود الله وعناقهم بعضهم بعضاً بكل محبة ووداد. إذن تجب إبادة هذا التوحش البشري بفضل الله وعنايته. وهو تعالى يقلّب القلوب الطاهرة والنفوس المخلصة، ولا تظنوا أن الصلح العالمي أمر مستحيل، إذ لا مستحيل على الألطاف الإلهية. ولو انبعثت من أعماق قلوبكم أمنية محبة كل جنس من الأجناس البشرية، لسرت أفكاركم وانتشرت مادياً وروحانياً فخلقت نفس الأماني في الآخرين، وازدادت قوتها حتى أصبحت فكرة عامة شاملة للعالمين.
إنّا أمرنا الكلّ بالصلح الأكبر الذي هو السبب الأعظم لحفظ البشر. إن سلاطين الآفاق يجب عليهم أن يتفقوا فيما بينهم على التمسك بهذا الأمر الذي هو السبب الأعظم لراحة العالم حفظ الأمم. –الإشراقات.
السبيل إلى تحقيقه
لا بد أن تشكل في الأرض هيئة عظمى يتفاوض الملوك والسلاطين في تلك الهيئة بشأن الصلح الأكبر. وذلك بأن تتشبث الدول العظمى بصلح محكم لراحة العالم. وإذا قام ملك على ملك قام الجميع متفقين على منعه. وبهذه الحالة لا يحتاج العالم قط إلى المهمات الحربية والصفوف العسكرية إلا على قدر يحفظون به ممالكهم وبلدانهم. هذا هو السبب لراحة الدولة والرعية والمملكة. عسى أن يفوز بمشيئة الله الملوك والسلاطين الذين هم مرايا اسم الله العزيز بهذا المقام ويحفظوا العالم من سطوة الظلم. لوح مقصود.
يا معشر الملوك إنّا نراكم في كل سنة تزدادون مصارفكم وتحملوها على الرعية إن هذا إلا ظلم عظيم... لمّا نبذتم الصلح الأكبر عن ورائكم تمسكوا بهذا الصلح الأصغر لعلّ به تصلح أموركم والذي في ظلكم على قدر يا معشر الآمرين. أن أصلحوا ذات بينكم إذاً لا تحتاجون بكثرة العساكر ومهماتهم إلا على قدر تحفظون به ممالككم وبلدانكم.
... اتحدوا يا معشر الملوك به تسكن أرياح الإختلاف بينكم وتستريح الرعية ومَن حولكم... إن قام أحد منكم على الآخر قوموا عليه، إن هذا إلا عدل مبين.
لسوف تزول هذه النزاعات العديمة الجدوى وتنقضي هذه الحروب المدمرة فالسلام العظيم لا بدّ أن يأتي. السلام العالمي وعد حق.
نحو التمدن الحقيقي
إن يد الغيب الإلهية تعمل في كل اتجاه في تطهير ما علق بجسم البشرية من شوائب حتى تمكّن الإنسان بعد ذلك من صنع حضارته الإنسانية القادمة، حضارة تتوازن فيها القوى الروحانية والمادية لتشكل له ملكوت الله على الأرض فيعيش في سلام ووئام طبقاً لمشيئة الله له.
نعم إن التمدّن الحقيقي لينشر أعلامه في قطب العالم عندما يتقدم ذوو الهمة العالية من أعاظم الملوك الذين هم مشرقون كالشمس في عالم الغيرة والحمية، ويعملون بالعزم الأكيد والرأي السديد على خير البشر وسعادته، فيطرحون مسألة السلام العام في مجال المشورة، ويتشبثون بجميع الوسائل والوسائط ويعقدون مؤتمراً عالمياً، ويبرمون معاهدة قوية، ويؤسسون ميثاقاً بشروط محكمة ثابتة فيعلنونها، ثم يؤكدونها بالاتفاق مع الهيئة البشرية بأسرها، فيعتبر كل سكان الأرض هذا الأمر الأتم الأقوم الذي هو في الحقيقة سبب اطمئنان الخليقة أمراً مقدساً، وتهتم جميع قوى العالم لثبات هذا العهد الأعظم وبقائه، ثم تعين حدود كل دولة وتحدد ثغورها في هذه المعاهدة العامة، ويعلن بوضوح عن مسلك كل حكومة ونهجها، وتتقرر جميع المعاهدات والاتفاقات الدولية وتتحدد الروابط والضوابط بين هيئة الحكومة البشرية. وكذلك يجب ان تكون الطاقة الحربية لكل حكومة معلومة ومحددة، ذلك لأنه إذا ازدادت الاستعدادات الحربية والقوى العسكرية لدى إحدى الدول، كان ذلك سبباً لتخوف الدول الأخرى. وقصارى القول يجب ان يبنى هذا العهد القويم على أساس أنه إذا أخلّت دولة ما بشرط من الشروط من بعد إبرامه قامت كل دول العالم على اضمحلالها، بل هبّت الهيئة البشرية جميعاً لتدميرها بكل قوتها. الرسالة المدنية.
الحمد لله أنني أجد نفسي اليوم في مجمع كلهم يرجون الصلح ومقاصد جميعهم انتشار الصلح العمومي وجميع أفكارهم وحدة العالم الانساني وجميعهم خادمون للنوع البشري واني أرجو الله أن يؤيدكم ويوفقكم كي يصبح كل واحد منكم علامة عصره وسبباً في نشر العلوم وسبباً في اعلان الصلح العمومي وسبباً في ارتباط القلوب. ولقد أعلن حضرة بهاءالله قبل خمسين سنة مبدأ الصلح العمومي بين الدول وأعلن الصلح العمومي بين الملل وأعلن الصلح العمومي بين الأديان وأعلن الصلح العمومي بين الأوطان وتفضل قائلاً إن أساس الأديان واحد وجميع الأديان أساسها الألفة والوئام وإنما الاختلاف في التقاليد ولا دخل لهذه التقاليد في التعاليم الالهية. وحيث إن التقاليد مختلفة فقد أصبحت سبباً للنزاع والقتال. أما لو جرى تحرٍ للحقيقة فان جميع الأديان تتحد وتتفق. - الخطب .
في الواقع عندما نرى الظلام المتزايد في العالم اليوم ندرك تماماً بأن رسالة حضرة بهاءالله يجب أن تصل الى قلوب البشر وتعمل على تغييرهم، عندها يمكن للسلام أن يتحقق ويمكن للروحانية أن تتطور في المستقبل...
تباشير السلام تلوح
إن السلام العظيم الذي اتجّهت نحوه قلوب الخيّرين من البشر عبر القرون، وتغّني به ذوو البصيرة والشعراء في رؤاهم جيلاً بعد جيل، ووَعَدت به الكتب المقدسة للبشر على الدوام عصراً بعد عصر، إن هذا السلام العظيم هو الآن وبعد طول وقت في متناول أيدي أمم الأرض وشعوبها. فلأول مرة في التاريخ أصبح في إمكان كل إنسان أن يتطلع بمنظار واحد إلى هذا الكوكب الأرضي بأسرة بكل ما يحتوي من شعوب متعدّدة مختلفة الألوان والأجناس. والسلام العالمي ليس ممكناً وحسب، بل إنه أمر لا بدّ أن يتحقق، والدخول فيه يمثل المرحلة التالية من مراحل التطور التي مرّ بها هذا الكوكب الأرضي، وهي المرحلة التي يصفها أحد عظماء المفكرين بأنها مرحلة ’كوكبة الجنس البشري‘. إن الخيار الذي يواجه سكان الأرض أجمع هو خيار بين الوصول إلى السلام بعد تجارب لا يمكن تخّيلها من الُرعب والَهلع نتيجة تشبث البشرية العنيد بأنماط من السلوك تقادم عليها الزمن، أو الوصول إليه الآن بفعل الإرادة المنبثقة عن التشاور والحوار. فعند هذا الُمنعَطف الخطير في مصير البشر، وقد صارت المعضلات المستعصية التي تواجه الأمم المختلفة َهمّاً واحداً مشتركاً يواجه العالم بأسره – عند هذا المنعطف يصبح الإخفاق في القضاء على موجة الصراع والاضطراب مخالفاً لكل ما يمليه الضمير وتقصيراً في َتحمّل المسؤوليات. من رسالة "السلام العالمي وعد حق".
إن التفاؤل الذي ُيخالجنا مصدره رؤيا ترتسم أمامنا، وتتخطى فيما تحمله من بشائر، نهاية الحروب وقيام التعاون الدولي عبر الهيئات والوكالات التي تشكل لهذا الغرض. فما السلام الدائم بين الدول إلا مرحلة من المراحل اللازمة الوجود، ولكن هذا السلام ليس بالضرورة، كما يؤكد بهاءالله، الهدف النهائي في التطور الاجتماعي للإنسان. إنها رؤيا تتخطى هدنة أولية تفرض على العالم خوفاً من وقوع مجزرة نووية، وتتخطى سلاماً سياسياً تدخله الدول المتنافسة والمتناحرة وهي ُمرغمة، وتتخطى ترتيباً لتسوية الأمور يكون إذعاناً للأمر الواقع ُبغية إحلال الأمن والتعايش المشترك، وتتخطّى أيضاً تجارب كثيرة في مجالات التعاون الدولي ُتمهّد لها الخطوات السابقة جميعها وتجعلها ممكنة. إنها حقاً رؤيا تتخطّى ذلك كله لتكشف لنا عن تاج الأهداف جميعاً، ألا وهو اتحاد شعوب العالم كلها في أسرة عالمية واحدة. - من رسالة "السلام العالمي وعد حق".
الصلح الأصغر هو الخطوة الأولى نحو الصلح الأعظم والسلام
لا شك أننا نعيش عصراً يمكن اعتباره عصر انتقال من عهد مظلم إلى آخر نوراني، ولا بد أن يسود في نهاية هذا العصر فترة من الظلام الحالك قبل انبلاج النور، فترة من الضيق وتزلزل الأفكار والقواعد التي أقامها الإنسان لنفسه بعيداً عن كلمة الله المحيية للقلوب والأرواح والنفوس، وشاد عليها ما أوصله إلى هذه الهاوية. فالطريق لا زالت تكتنفها الصعوبات والعوائق، والتمسك بكل عناد بماضٍ لا يزال يشكل لنا طريقنا الوعر الشائك، ولا يزال الإنسان متشبثاً بأسباب شقائه على أنها السبيل الوحيد لخلاصه. فالويلات ستشتد والرزايا تتفاقم والآلام ستعظم إلى أن تثوب الإنسانية إلى رشدها.
إن تحقيق الصلح الأصغر يتطلّب تغييراً أساسياً في أركان وقواعد المجتمع الإنساني الحالي. ومع ان الشواهد مشجّعة وإيجابية ولكن يجب أن لا ننسى بأن الطريق المظلم لعصر التغيير والانتقال لم ينته بعد، وهو طريق طويل وملئ بالانزلاقات والالتواءات. فموجة الكفر والإلحاد مازالت سائدة والمادية منتشرة أما القومية والعنصرية فما زالت مسيطرة على فكر وقلب الإنسان، والبشرية مازالت في غياهب الظلام بعيدة عن الأساس الروحاني لحل المعضلة الاقتصادية.
ومهما قَصر طريق السلام فسيكون غاصّاً بالآلام. ومهما تفاءلنا بتحقيق الصلح الأصغر المنتظر الذي سيمهد هذا الطريق، فان السلام يحتاج إلى فترة طويلة من التطور حتى يتم نضجه مع ما يصاحبه من فتن ونكسات ومجابهات إلى أن يأتي الميقات بالتأثير المباشر لدين الله حتى يأخذ شكل الصلح الأعظم. وإلى أن تحين الساعة سينتاب الناس في كل مكان على الأغلب يأس وحيرة قبل إدراكهم لما يحصل من تحّول.
مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة
إن تشكيل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى لهو دليل على قوة يد الغيب الخفية التي تقود الإنسانية بالتدريج طوعاً وقسراً نحو حل مشاكله بالاتفاق والتعاون. إلا أنها في روحها كانت بعيدة عما يريده الحق للبشرية أن تحققه، ذلك لأنها عجزت عن منع الحروب، بل إنها زادت في لهيب العداوة والبغضاء بين الأمم والشعوب إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية، فاستفاق العالم وقتئذٍ على نقائص عصبة الأمم في نظامها ليضع نظاماً جديداً أكثر تقدماً وخدمة لهدف تحقيق السلام في العالم. فكانت هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. ومع جميع المواثيق والعقود المبرمة من قبل الدول الأعضاء، إلا أن الأرض تحت أقدام الشعوب والأمم لا تزال تَميدُ مهددة بمزيد من الويلات والحروب والدمار. إنها ويلات أصبحت كثيفة متلاحقة تواكبها الكوارث الطبيعية المدمرة وتشير إلى دلائل يجب التمعن بها على ضوء ما جاء في الكتب السماوية من تحذيرات وانذارات – شأننا شأن باقي الأمم السابقة التي عصت كلمة الحق.
... فإن أهمية الخطوات التي اتخذت إلى الآن لا يمكن إغفالها، وأنه مهما يكن من أمر الموقف الحالي للعصبة أو النتائج المترتبة على حكمها التاريخي، ومهما يكن أيضاً من أمر التجارب والتيارات المضادة التي سوف تقع فيها وتواجهها في القريب العاجل، فإنه يجب الإعتراف بالحقيقة بأن ذلك القرار الخطير (أي تشكيل عصبة الأمم) يكوّن أبرز علامة في الطريق الوعر الطويل الذي يصل بها إلى هدفها وهو المقام الذي تصبح فيه هيئةُ جميع الأمم المبدأَ الحاكم على الحياة العالمية. وعلى ذلك فتلك الخطوات التاريخية ليست إلا وميضاً خافتاً في الظلام المحيط بإنسانية مضطربة، وأنها مجرد لمعة تظهر بين الحين والآخر في وسط ارتباك يمتد غوراً. إن عوامل الانحلال لا بد تستمر بشدة وأثرها الشديد لا بد أيضاً يتأصل في قلب عصر ممزق، وآلام كثيرة لا تزال ضرورية لصهر شعوب البشر ومذاهبه وطبقاته وأجناسه في حوض البلاء العام، ولصقله بنيران العدل الشديدة حتى يستحيل إلى أداة لحكومة واحدة ونظام فسيح موحّد ملتئم فعّال، ولهذا فإن الحوادث القاسية، والأزمات والصدمات التي لا تخطر على العقل، والحرب والمجاعة والأمراض الفتاكة، كل هذه قد تتضافر على جيل غافل وتنقش على قلبه الحقائق والمبادئ التي رفض الاعتراف بها واتِّباعها. وما من دافع لأشدِّ شلل عُرف في التاريخ ما سوف يصيب جهاز هيئة اجتماعية محطمة قبل أن يُعاد بناؤها وتجديدها.
إن المدنية التي شاد بذكرها أهل الفنون والعلوم تكون شراً عظيماً على الناس إذا تُرِكت تتعدى حد الإعتدال... إن المدنية إذا أُفرط فيها تكون سبباً في جلب الشر كما كانت سبباً في جلب الخير عندما كانت في حد الاعتدال، سوف يأتي يوم يحرق لهيبها المدائن وينطق لسان العظمة المُلك لله العزيز الحميد...
... وقد يتساءل جيل حائر عما عساه يبقى لإصلاح هذا التشقق الذي يتسع باستمرار ويهدده بالإبتلاع يوماً ما. ودلائل الإنحلال المتجمّعة، وعلامات العذاب والإفلاس التي تُرى حيثما اتجه البصر قد جعلت ذوي العقول من الرجال والنساء يرتابون في كل خطوة من خطوات الحياة على وجه التقريب ما إذا كانت الهيئة الإنسانية في نظامها الحالي تستطيع بجهودها المفككة تخليص نفسها من اللّجة التي تغمرها بازدياد. فكل نظام افتقد توحيد البشر قد جُرِّب وجُرِّب ووُجد ناقصاً، واشتعلت الحروب واحدة تلو الأخرى، وانعقدت مؤتمرات لا حصر لها، واستُنفِدت الجهود في صوغ المعاهدات والضمانات وإحكام المواثيق وتنقيحها، وجُرِّبت قواعد الحكم بكل جَلَدٍ وتناولتها أيادي الإصلاح والتعديل، ووضعت مشاريع الإنشاء الإقتصادي بكل عناية ونُفِّذت بغاية الدقة، ومع ذلك والأزمة تعقبها أزمة، بما يضاعف سرعة تدهور عالم غير مستقرٍّ، ويعجِّل الأخطار المحدِقة والهُوَّة السحيقة الفاغرة فاها، الأمر الذي ينذر بحلول نكبة عامة تنزل بالعالم على السواء لا فرق بين شعوب راضية وأخرى متذمرة... فالإنسانية الدامية الضالة قد فقدت بغير شك توازنها، كما يبدو أنها فقدت إيمانها ورجاءها وهي تترنح بغير رادع ولا تبصرة على حافة القضاء الذي يوشك أن يحل بها، يخيّم على حظها أطباق من الظلمات كلما اجتازت المعابر الأمامية في طريقها إلى أظلم منطقة في حياتها المضطربة. ومع ازدياد هذه الأشباح ألا يجدر بنا أن ندعو إلى خيوط الرجاء التي تطلع في فترات متقطعة على الأفق العالمي وتبدو خلال طبقات الظلام المحيط بالإنسانية؟ أليس من الحق أن نقول أن في عالم ٍ هذا حالُه من تقلقل العقيدة وتشويش الفكر، عالم يزداد تسلحه وتشتعل فيه نيران البغضاء والثورات التي لا يُطفَأُ لها لهيب، تشاهد مع ذلك تقدم العوامل التي مهما يكن شأنها فهي تعمل على وفاق مع روح العصر؟ ومع أن نعرة القومية التي ظهرت بعد الحرب تشتد وتزداد يوماً بعد يوم فإن عصبة الأمم التي ما تزال بعد في مقام النواة، والتي تقوى العواصف المحيطة بها على طمس معالمها وقلب أداتها لمدة من الزمن، تدل على أن الاتجاه الذي تعمل في محيطه فكرة تكوينها هو في ذاته هام للغاية. فإن الأصوات التي ارتفعت منذ تكوينها والجهود التي بذلت والعمل الذي قامت به يمكن أن نستشف من ورائه مدى ما قُدِّر في النهاية لهذه المؤسسة الحالية أو لأية هيئة أخرى قد تحل مكانها من الغلبة والنصر. الكشف عن المدنية الالهية.
إن الإضطراب الهائل الذي يعصف بمقدرات الإنسانية في وقتنا الحاضر لم يسبق له مثيل، وعواقبه وخيمة، وأخطار فاقت التصور تكالبت على الإنسانية عبر تاريخها وتركتها حائرة مذهولة. إن أعظم خطأ يرتكبه قادة العالم في هذا المنعطف الفاصل من عمر البشرية، أن يَدَعوا الأزمات تلقي بالشكوك على ما يمكن لعملية التطوير أن تهبنا من نتائج باهرة، ولا شك أننا الآن نشاهد عالماً جديداً يناضل من أجل ولادته على أنقاض عالم تتداعى أركانه. فالمفاهيم والتقاليد التي تراكمت، والمؤسسات التي ارتفعت عبر القرون تواجه الآن امتحانات لا شك أنها ضرورية لعملية التطوير هذه ولا مفر منها. وما يطلب من شعوب الأرض قاطبة توخي الإعتدال في الدين والفكر والعقيدة بطهارة القلب ونقاء السريرة، فيتوجهون بعزيمة لا تنثني لاستقبال قوى التأييد الهائلة التي أنعم بها خالق كل شئ على البشرية في هذا الربيع الروحاني من عمرها.
قل أن اتحدوا في كلمتكم واتفقوا في رأيكم واجعلوا إشراقكم أفضل من عشيكم وغدكم أحسن من أمسكم. فضل الإنسان في الخدمة والكمال لا في الزينة والثروة والمال. قل لا تصرفوا نقود أعماركم النفيسة في المشتهيات النفسية ولا تقتصروا الأمور على منافعكم الشخصية ... لوح الحكمة.
هل يبدو أن البشرية ماضية في غيّها، وسائرة نحو مصيرها المحتوم الذي ستتجمع فيه جميع أنواع البلايا والنكبات لصهر بنيته بهذه النار التي ستعمل على تطهيرها مما دخل فيها من شوائب، وسيزداد أوارها إلى أن يرى الحق أن صورته تنعكس على صفحات قلوب مخلوقاته التي يحبها؟ عندها يرفع غضبه ويقوم الإنسان الجديد على تكوين حضارته وحياته كما يحب الله ويرضى، فيجنمع قادة العالم ليضعوا الميثاق, فالسلام العالمي إنما هو في البريق الآتي من نهاية هذا النفق المظلم الذي سنجتازه بفضل طهارة ونقاء نيّات العاملين المخلصين لخير الإنسانية من رؤساء وحكام ومسؤولين وعلماء دين وأفراد غيورين تجللهم وحدة الضمير والوجدان حتى يكون ما نشيده قوى البنيان ثابت الأركان وما نزرعه عالي الأغصان وافر الثمرات يؤتي أُكُلَه في كل حين.
المصدر: http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2009/02/03/156377.html