ثقافة الحوار والتسامح

 

تنازعتني ـ مؤخراـ  فكرتان عزت الخيرة بينهما والفكاك من سلطانهما :

أولاهما امتحتها من بيت الإمام محمد بن إدريس الشافعي :

ولا تعطين الرأي من لا يريده     فلا أنت محمود، ولا الرأي نافعه

و هو بيت أخذ مني تأملا وإمعان نظر، وبخاصة ما لعجزه من انطباق علي الواقع الموريتاني...

   والثانية  استقيتها من الحكمة الموريتانية  ـ بالغة الدلالة ، أصيلة المنبت ـ  القائلة  ( ال اعشاك واعشاه فكدح لا اتخليه إكب) " تفصيحها: (أن من كان عشاؤك وعشاؤه في صحفة فينبغى أن لا تمكنه من تفريغها)، وبخاصة حين العلم بما يترتب علي حملة القلم  من واجب تبصير و إعلام .انحسرت الفكرة الأولي أمام مد الفكرة الثانية، لقناعة راسخة مبناها ضرورة الكتابة تعلما لا تعليما.

و ذلك تزامنا مع انطلاق حوار زعم البعض أنه فرصة لطرق كبريات قضايا الوطن، فعن لي تسجيل خواطر علي هامشه كان بودى لو أسكب حبر القلم بخصوصها  إبان انعقاده، غير أن إكراهات حالت دون ذلك، حسبي محاولة  تدارك وتجميع  بعض ما عرض لي يومئذ من أفكار ورؤى...

فرغم  حساسية الظرف ودقته  و بدء البشرية  ـ في جلها ـ الانتقال من ثقافة الإكراه إلى ثقافة الإقناع،  حز بذهني  كمتابع  للشأن العام الموريتاني، غياب وضمور ثقافتي الحوار والتسامح اللتين تنحسران  فى المجتمعات المتخلفة وتنموان  وتزدهران  فى المجتمعات المتحضرة .

أقول قولي هذا رغم قناعتي أن  التعميم مفض  إلى الخطأ، إذ  يوجد  فى بلادنا  بعض المثقفين و قادة الرأي الذين يتمتعون بثقافة حوار  ويمارسون التسامح مع الآخر، و من الإنصاف ذكرهم و التنويه بجهودهم التي تمثل استثناءا يؤكد  أهمية الحوار كمبدأ عام يجب أن يحكم كل جوانب العلاقات الاجتماعية... بين أفراد الأسرة ... بين الزملاء في العمل... بين الجيران‏...

الحوار علي هذا المنحي  ليس  غريبا على القاموس السياسي الموريتاني... فلو أرجعنا  البصر  إلى تاريخنا الحديث لوجدنا الأحداث الكبرى والمنعطفات الحاسمة التي عاشتهابلادنا كانت ثمرة حوارات وطنية جادة تمت بين الفاعلين السياسيين في كل منعطف، وأدتإلى حلول إيجابية ومرْضية حققت الاستقلال والتنمية، وصانت الوحدة الوطنية والسلمالاجتماعي (مؤتمر ألاك 1958، الطاولة المستديرة في نواكشوط 1961، حوار السلطةوالتكنوقراط 1971 ـ 1974، الحوار بين السلطة والمعارضة في داكار 2009) .

الحوار تبعا لذلك مبناه  الاستماع الواعي والحقيقي للأقوال والآراء والأفكار، وعقد العزم على اتباع الأحسن وذلك مصداقا لقوله تعالى ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه )... ولأن الحوار يحتم وجود الآخر، فلا بد من تعريف الآخر، وهو تعريف لا يمكن أن يتم في معزل عن الأنا. إن فهم الآخر، ثم التفاهم معه، لا يتحققان من دون أن تتسع الأنا له... وبالتالي، كلما سما الإنسان وترفع عن أنانيته، وجد في ذاته مكاناً أرحب للآخر... إذ الحقيقة ليست في الأنا و إنما  في الأنا  حين تتكامل مع الآخر، حتى في نسبيتها. والحوار مع الآخر اكتشاف للأنا وإضاءة ساطعة على الثغرات والنواقص التي لا تخلو منها شخصية إنسانية. ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي، وهو مفتاح لفهم ذاتي والإحساس بوجودي".

وبذلك يختلف الحوار عن الجدال الذي هو هجوم ودفاع إفحام ومماحكة...  الحوار إذن  فهم وتفاهم ، تعارف وتواصل ، اشتراك مستديم في صنع الحقيقة والرأي المشترك‏، وبقدر تزايد  الاختلاف والتباينبين أطراف الحوار و تشابك علاقاتهم وتضارب مصالحهم، وتنامي تدافعهم تظهر  الحاجة إلي الحوار وتبرز أهميته و تتأكد مصداقا لقاعدة أن لا أحد منا جميعاً يملك الحقيقة، التي هي في واقع الحال نتاج المناقشة والحوار، فرأى الجماعة لا تشقى البلاد به ...

لكن ماذا أقصد بثقافة الحوار؟

وماذا أقصد بثقافة التسامح؟

قناعتي  أن الأولى( الحوار ) مقدمة للثانية (التسامح)، بحيث إذا لم توجد الأولى غابت الثانية ... فإذا لم توجد ثقافة الحوار غابت ثقافة التسامح. وثقافة الحوار تعتمد أساساً على إجادة  فن الاستماع ، و استيعاب ما نسمع قبل أن نرد عليه، و التفكر فى مضمون الرد مرة ومرة قبل إطلاق الأحكام .. فهل لنا أن نتساءل بأمانة عما إذا كانت تسود حواراتنا العامة هذه الثقافة؟  ثقافة الاستماع الجيد والاستيعاب والتفكير قبل الرد؟. أعتقد أن الواقع يقول إن العكس هو الصحيح، في غالب  الأمور طبعاً وليس فى كل الأحوال ...

حين أتابع مناقشاتنا في غرفتى البرلمان، وأغلب المنتديات والملتقيات العامة، يتملكني الإحباط  ،  الكل يتكلم في وقت واحد، والمقاطعة للمتحدث قبل أن يتم حديثه هي السمة المميزة، وما خفي أعظم ،  والذي يدير الحوار - حال وجوده - يعانى من تنظيم أحاديث المتحاورين كل المعاناة ويخرج فى النهاية و لم يرض أحداً...أليس هذا هو حال أغلب حواراتنا؟

الكل يريد أن يتحدث ولا أحد يريد أن يستمع، وهذا بالضبط هو ما يطلق عليه حوار الطرشان ، في ازورار عن فحوي  الآية الكريمة وصدوف عن  الحكم الشرعي الذي أسسته ، وتنكر للقاعدة التي أسسها الإمام الشافعي :  " رأيي صواب يحتمل الخطأ و رأي غيري خطأ يحتمل الصواب " ...

لعل الصدوف عن كل ذلك مبعث فشل أغلب حواراتنا  ـ الموريتانية ـ وعدم إفضائها إلى نتائج مفيدة، من شأنها نقل البلاد و العباد من الطالح إلي الصالح ، فكثير من المتحاورين يبدأ معتقدا  ملكيته الحقيقة ـ كل الحقيقة ـ وأن من يخالفه على خطأ، ولا يستحق أن يستمع إليه، ذلك على حين أنه لا أحد يملك الحقيقة المطلقة إلا «الله» - سبحانه وتعالى- فالحقائق فى عالم البشر كلها حقائق نسبية ...  مما  يؤكد أن الذي يمنع التزام الحق وتجنب الباطل ليس الغموض أو عدم الفهم، بل شيء مختلف تماما... إنه التعصب ... الحقيقة المطلقة الوحيدة في عالمنا هي حقيقة «الموت»، ولذلك وصفه القرآن بدقة حين قال: " حتى يأتيك اليقين " .  اليقين الوحيد المطلق في هذه الدنيا هو «إنك ميت وإنهم ميتون».

المشكلة الكبرى في ثقافة الحوار عندنا هي أننا لا نعرف كيف  ندير خلافاتنا ... كيف نتفق على بعض الأمور ونختلف على البعض  الآخر ... كل أحد يريد أن يتشبث برأيه ولا يستمع إلى الآخر، إنه وحده يعرف الحقيقة وغيره لا يعرفها.

عند  هذا الحد  يتوقف الحوار ويصبح غير مجد، وهكذا لا نعرف كيف نختلف ولا كيف نتفق ولا كيف نعمل كفريق متجانس، فما إن تبدأ مجموعة عملاً جاداً؛ حتى يدب بين أفرادها الشقاق نتيجة أن كل أحد يريد أن يصر على رأيه ولا يستمع لرأى الآخرين، فضلاً عن أن يناقشه أو يفكر فيه، ولعله تجسيد عملي للمقولة المتداولة في الوسط الإداري، "أن أي عمل شكلت له لجنة فقد وئد في مهده".

أعود فأكرر القول إن الصورة ليست قاتمة كلها إلى هذا الحد، ففي أحيان نادرة وبالذات فى المجموعات الصغيرة يسمع المتحاورون بعضهم، ولا يقاطع أحد، ولا يتسرع فى الرد قبل أن يستوعب، ولكن بأمانة شديدة كم نصادف مثل هذه الحالات، أظن أنها نادرة وعزيزة الوجود، بيد أنها موجودة.

ولأن الغالب هو غياب أو ضمور ثقافة الحوار، ـ ونحن أحوج ما نكون إليه نظرا وعملا ـ تعالوا نتعلم كيف نتحاور، وكيف نختلف، وكيف نخلص بعد التحاور والاختلاف إلى نتائج مفيدة تنفع الناس وتمكث في الأرض.

  وعليه فإن الحوار لا يستهدف إقناع الآخرين بقناعات الذات ، وإنما تعريفها على نحو حقيقي ، لأن الحوار هو سبيل التواصل والتعايش ..

حبذا لو نطور  سياسات الاعتراف بالآخر المختلف والمغاير ونمد جسور التعايش معه، شعارنا في ذلك جواب سيدى رسول الله صلي الله عليه وسلم  لعتبة ابن ربيعة مفاوض المشركين بمكة، فرغم "خشونة" حوار عتبة، وبذاء عبارته ـحيث يقول لرسول الله :إنا والله ما رأينا قط أشأم على قومك منك؛ فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب"، رغم ذلك لميقاطعه ولم يقل له: يا زعيم الشرك وكبير الطاغين، وإنما دفع إليه بكلمة من فئة "العيار الثقيل"، بعد أن سرد أفكاره وقدم جملة مطالب قريش الملحة والتي لا تنازل لها عنها،  قال له: " قد قلت فسمعت فاسمع أقل "، فهو يسمعه ويقبله شريكا رغم بعاد الشقة وقلة المشتركات بينهما .

فلا يمكن إذن في أي مجتمع أن تتعزز قيمة الحوار، بدون تطوير سياسات ومناهج الاعتراف بالآخر وجودا ورأيا وحقوقا ومسامحة، بمعنى قبول حق الاختلاف علي نحو ما قررته ذهبية الإمام المجدد الشيخ محمد عبده (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).

ونحن زيادة على ذلك بحاجة إلى مبادرات ومشروعات وطنية متكاملة، تستهدف دعم وإسناد عملية الحوار الوطني، بسياسات ومشروعات تعرّف الأطياف ببعضها البعض، دون أن نسقط في عملية التعارف والاعتراف مشكلات التاريخ ومآزقه المتعددة..كل ذلك لن يؤتي ثماره إلا بالنضج السياسي في الخطاب والممارسة، وسعة الصدر للمشاركة والمنافسة، والرؤية الإجماعية التي ترحب، بل تحتفى  بكل أطياف المجتمع ومكوناته، سبيلا لانتشال بلدنا الذي نحبه جميعاً، ونتغيى له اجتياز هذه المرحلة المقلقة والدقيقة وهو علي كلمة سواء .

و الله من وراء القصد والهادي إلي سواء السبيل

                                                                               

ا  . د . أحمـدو ولد عبد الدائم ولد انداه

كلية الحقوق ، جامعة نواكشوط

      محام لدي المحاكم 

المصدر: http://www.essirage.net/thought-and-education/5091-2011-11-05-16-11-52

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك