حول مكابح ثقافة الحوار وقبول الآخر

حول مكابح ثقافة الحوار وقبول الآخر

في لقاء جمعني مع نخبة من الشباب الرائعين، في الأيام الأخيرة دار الحديث حول ما يجري من أحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكيف اتخذت الصراعات السياسية الفلسطينية - الفلسطينية مسارات دامية، أدت في النهاية إلى وجود "سلطتين فلسطينيتين" ﻜ"أمر واقع"، أحدهما في القطاع "تقودها" حماس، وأخرى بالضفة "تحت سيطرة" السلطة الفلسطينية.

 

وانتقل الحديث من الجزئي إلى العام، من الأوضاع الفلسطينية إلى الأوضاع العربية، هناك صراعات داخلية في كل قطر عربي تقريباً، وهناك احتراب واحتكام إلى السلاح، وعشرات القتلى في العراق ولبنان والسودان والصومال والجزائر واليمن والقائمة لا تزال مفتوحة. لماذا نحن هكذا؟ ولماذا نرفض لغة الحوار، بينما الآخرون، في الغرب يحتكمون إلى المؤسسات والدستور والقانون ويقبلون لغة الحوار؟ وكانت صور أخرى من جلد الذات.

 

وتتالت الأجوبة، وكانت في غالبها مألوفة، نستمع إليها في وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة والمقروءة، بعضها وجد العلة في تكلس النصوص الدينية، وسد أبواب الاجتهاد، وبعضها الآخر طالب بانقلاب ثقافي، أو ثورة ثقافية. فهذه الثقافة لا تقبل الآخر، وترفض لغة الحوار، وهي ثقافة تقوم على تضخيم الذات، وترفض المبادرة، وتعطل الإبداع، وهي ثقافة تقريرية، يقينية، لا تؤمن بنسبية الحقائق.

 

جواب ثالث، حسم الموضوع وقال إن ثمة خطأ في تكوين الجينات العربية، فهذه الجينات تقدس الفرد، والنتيجة أن أمتنا لا تفرخ سوى الطغاة. يأتي الثائر إلى السلطة، فيأمل الناس خيراً، وبعد فترة وجيزة بقدرة قادر ما يلبث أن يتحول إلى الضفة الأخرى، من مناضل يحمل هموم وآمال الأمة في وطن حرّ موحد وسعيد، إلى ضفة اللصوص وسارقي قوت الشعب، والمتنكرين لأحلامه ولحقوقه.

 

بدت جميع الأجوبة، متماهية مع ثقافة الاستشراق، ثقافة تسلبنا الإرادة وتلهبنا بالسياط، وتعالج عقدة الذنب لديها، وتقفز فوق تاريخ طويل من القهر، من خلال تحميل الضحية مسؤولية وتبعات ما جرى ويجري لها. وقد استشرت هذه الثقافة المهزومة في معظم أدبياتنا، منذ نكسة يونيو/حزيران عام 1967، من هوامش على دفتر النكسة، إلى تهدم المسرح من أركانه، وتريات ليلية في الشعر، وفي مسرحية "يحيا الوفد" وأعمال دريد لحام والماغوط في "غربة" و"ضيعة تشرين" و"كاسك يا وطن". إلى عشرات الأفلام السينمائية ﻜ"الكرنك" و"أحنا بتوع الأتوبيس" و"الحدود" و"التقرير" والمسلسلات التلفزيونية، وأطنان المقالات في الصحف كلها تمارس جلد الذات وتسهم عن عمد أو بحسن نية في قهر مقاومات الأمة وزعزعة ثوابتها الوطنية. لا محيص إذاً من إعادة هذه الأطروحات، وإعادة "الوعي المفقود" إذا جاز لنا استخدام عنوان كتاب المرحوم الأستاذ محمد عودة. وهي بالتأكيد مهمة أخلاقية ووطنية، كونها تضعنا في الموقع الصحيح، في سياق الحراك الكوني والإنساني.

 

قراءة تاريخ أوروبا في المرحلة التي سبقت عصر النهضة، وما بعدها، وحتى يومنا هذا تشي بحقائق مغايرة تماماً، لما تطرحه أدبياتنا ووسائل إعلامنا. فالغرب عاش حروباً محلية قبل نشوء دولة القومية، استمرت ما يقرب من الخمسمائة عام. وقد أوحت تلك الحروب ببروز نظريات عرفت بدورات الحروب التاريخية. كذلك هناك أيضاً نظرية الحق إلهي، وصكوك الغفران، واحتكار لقراءة وتفسير الكتاب المقدس، وحرق للمبدعين والمفكرين، وكانت قصة جان دارك وغاليليو، تتصدر عمليات قمع حرية الرأي، وغياب الرأي الآخر. ولم تنشأ حركة الاصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر وكالفن من فراغ. كانت تعبيراً عن تفاعلات اجتماعية واقتصادية وانتقال في مراكز القوى، عبرت عن نفسها في قيام مدن جديدة، وطبقات جديدة، وحرف جديدة، وقتل بالآلاف للرهبان والراهبات في عهد الملك الانجليزي هنري الثامن، ثم ما لبثت تداعيات تلك الأحداث أن تحولت إلى ثورات فكرية وإبداعات شملت الفنون والآداب والفلسفة، وبروز عدة مواهب فكرية وفنية وفلسفية، رومانسية وسيريالية، وواقعية.. ومسارح عبث ليتضح في مراحل لاحقة أن تلك الإرهاصات لم تكن سوى مخاض الولادة لانفجار ثورتين رئيسيتين اجتماعيتين هما الثورة الفرنسية والثورة الانجليزية.

 

بعد انتصار الثورتين، وانتقال السلطة في البلدين من الإقطاع إلى البورجوازية، وقيام نظام يستند إلى ما يدعوه ماكس فيبير بالعقلانية القانونية، رأينا الصراعات بين الثوار تتفاعل، لتتحول إلى تصفيات جسدية واحتراب دموي، وتغيرات مستمرة في هرم السلطة انتهت بمصرع معظم قادة الثورتين. وكان في مقدمة الضحايا الخطيب المفوه للثورة الفرنسية، ورئيس حكومتها لاحقاً، روبيسبير، وأيضاً قائد الثورة الانجليزية، كرومويل، وكثير من الذين بشروا بالثورة وحرضوا عليها، من أمثال جون مليتون الذي اشتهر بديوانه الشعري، الفردوس المفقود، الذي حمل ترانيم الثوار.. ولتسود مقولة "الثورة تقتل أبناءها" في المجتمعات الغربية، في تلك الحقبة المرتبكة من التاريخ.

 

إن هذا الغرب هو ذاته الذي انتقل لاحقاً من حال إلى حال.. بنى دولة القومية، على أساس علاقات تعاقدية بين الحاكم والمحكوم، محدثاً تغيرات جوهرية في هياكل ونظم الحكم، ولتسود مقولة ما لله لله وما لقيصر لقيصر، معززة الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية، وأيضاً الفصل بين سلطة الدين والحكم، لينتقل لاحقاً إلى مرحلة أعلى في تاريخ نشوء الامبراطوريات، فيرسل أساطيله وجيوشه عبر القارات، وليبدأ رحلة الكشف عن المضائق والممرات الدولية، ومرحلة الاستعمار، حيث السطو والنهب للمواد الخام والأساسية، وإحكام السيطرة على المواقع الاستراتيجية في العالم بأسره.

 

لم يتغير جوهر الدين، إنما تغيرت سلطة سدنته، وضعف تأثيرهم. وكانت التغيرات الهيكلية الاجتماعية قد أدت إلى انشطارات وبروز مذاهب دينية جديدة، فبرز البروتستانت، الذين غيروا كثيراً من الأحكام، بما يتوافق مع التطورات الهائلة من حولهم. وكانت الكلفة دائماً باهظة في الأرواح والممتلكات.. ملايين القتلى والمهجرين والمنفيين، الذين رحل كثير منهم إلى القارتين الجديدتين: أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية ليلعبوا لاحقاً دوراً رئيسياً في إدارة هذه الأمة البكر. وليتم تصارع دموي قاس وشرس، يصل إلى حد الإبادة، في القارتين الجديدتين بين السكان الأصليين والقادمين الجدد في المراحل الأولى، ثم بين الاسبان والبرتغاليين والأنجلو ساكسونيين.

 

الحديث عن جينات خاصة في المجتمع العربي، هو الآخر، غير واقعي وغير علمي، ويحمل إيماءات عنصرية واضحة، وإذا كان له من معنى، بالنسبة للخطاب الغربي، كونه جزءاً من حملة التحشيد ضد شعوب العالم الثالث، فإنه يصبح ضرباً من الحرب على الذات، وسقوطاً في شرك الترويج لثقافة الهزيمة، وغير مقبول، أخلاقياً ووطنياً، تسويقه في أدبياتنا وأجهزة إعلامنا.

 

وإذاً فهو ليس الموروث بمفرده، وليست الثقافة بمفردها، وهي بالتأكيد ليست الجينات التي تحجب عنا لغة الحوار وقبول الآخر، والتماهي مع عصر كوني سمته الديمقراطية وقبول الآخر، ولكنها أمور أخرى، ينبغي البحث عنها في محاور أخرى، لعلها الإرث الكولونيالي وانعدام الإرادة السياسية، وضعف الهياكل الاجتماعية، وعجز الدولة القطرية عن الوفاء بالتزاماتها، وهو عجز كامن في طبيعة نشوئها وتكوينها. ولا شك أن التغيير في الثقافة والموروث يتطلب توفر المناخ والبيئة الملائمة للتغيير، وانتقالاً حقيقياً وحاسماً في مراكز القوى، بما يعزز من الدفع السريع بمشروع النهضة، وهي محاور بحاجة إلى مناقشات مستفيضة وعميقة، علنا نتمكن من تغطيتها في أحاديث أخرى قادمة بإذن الله.

المصدر: http://www.arabrenewal.info/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D9%85%D8%AF%D8%A9/23828-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%A8%D8%AD-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D9%82%D8%A8%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AE%D8%B1.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك