اللـه جل جلاله واحــد أم ثلاثــة ؟
اللـه جل جلاله
واحــد أم ثلاثــة ؟
د. منقذ بن محمود السقار
مقدمة
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد (سورة الإخلاص)
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( المائدة: 75). إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل (الزخرف: 59) وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّاً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً (مريم: 88-95).
لخصت الآيات الكريمة معتقد المسلمين في الله الواحد، ونبيه المسيح عليه الصلاة والسلام، فهو نبي كريم ورسول عظيم أرسله الله بالتوحيد والبينات والهدى.
وتوحيد الله الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم هو معتقد سائر الأنبياء قبله وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (الأنبياء: 25).
لكن النصارى يقولون بنقيض ذلك، حين يقولون ببنوة المسيح لله، أو يقول بعضهم بأنه الله، وأنه تجسد وتأنس وصفع وصلب من أجل أن يكفر خطايا البشرية التي ورثتها منذ أخطأ أبوها آدم، فمن أين استلوا هذا المعتقد، وهل في كتبهم ما يؤيد ذلك قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (الأنبياء: 24).
وإدراكاً منا لخطورة هذه المسألة نطرح سؤالنا الهام: المسيح عليه السلام رسول أم إله؟ وهل الله واحد أم ثالوث؟ وذلك في حلقتنا الثالثة من سلسلة الهدى والنور.
ونستنطق في الإجابة عنه الكتاب المقدس بعهديه، القديم والجديد، ونستأنس بأقوال رجالات الكنيسة وأحرار الفكر من الغربيين. فماذا هم قائلون؟
اللهم اهدنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
د. منقذ بن محمود السقار
مكة المكرمة – ربيع الأول – 1424هـ
mongiz@maktoob.com
المسيح في معتقد المسلمين
يتلخص معتقد المسلمين في المسيح عليه السلام أنه المسيح ابن مريم الصديقة، ولد بمعجزة إلهية من غير تدخل بشري، وقد ابتعثه الله نبياً ورسولاً إلى بني إسرائيل، يدعو إلى توحيد الله، ويبشر بمقدم خاتم النبيين، وأيده بالمعجزات العظيمة، فاستمر في دعوته، مراغماً لليهود الذين أرادوا قتله، جرياً على عادتهم في قتل الأنبياء، لكن الله أنجاه من مكر اليهود ومؤامرتهم لقتله، ورفعه إلى سماواته، وسيعود عليه السلام قبيل قيام الساعة، داعية إلى الله من جديد، ومطبقاً لشرعه، منكساً للصليب، ورافعاً لأعلام التوحيد.
ولمزيد من البيان نستعرض الآيات التي أنزلها الله بشأنه عليه السلام في القرآن الكريم.
فقد تحدثت الآيات عن عيسى عليه السلام، فذكرت أن الله شرفه ببنوته لمريم الطاهرة البتول المصطفاة من نساء العالمين إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (آل عمران: 42) وقد أكرمها الله بالكرامات، ومنها كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله (آل عمران : 37).
وحكى القرآن عن كفالة زكريا لها بعد نذر أمها بأن يكون حملها محرراً لله، وقد أمرها الله عز وجل بعبادته يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (آل عمران : 43)
وقد حملت مريم بمولودها بعد أن بشرها الله به عن طريق الملائكة، وسماه لها إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ( آل عمران : 45).
وذكرت الآيات أنه المولود القادم قد خُلق بكلمة من الله، من غير تدخل بشري، فقد خلقه من غير أب، وبينت الآيات أن ليس في ذلك ما يقتضي ألوهيته، فقد خلق الله آدم أيضاً على غير الصورة المألوفة في البشر إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (آل عمران : 59)، لقد خلقا جميعاً بكلمة التكوين الإلهية (كن).
وتحدثت الآيات القرآنية عن ولادة هذا المولود المبارك، فقد كان ميلاده من غير أب، لتكون أول معجزاته عليه السلام وجعلنا ابن مريم وأمه آية (المؤمنون : 50)، ثم أنطقه الله في المهد حال طفولته، أنطقه ليرد فرية اليهود على أمه العذراء البتول قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً قال إنّي عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصّلاة والزّكاة ما دمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً والسّلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً (مريم: 29-33)، ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين (آل عمران: 46).
ولما بلغ مبلغ الرجال أرسله الله كما أرسل رسلاً قبله وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم (المائدة : 46)، ورسالة عيسى تصديق وتتمة لرسالة موسى الكليم ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم (آل عمران : 50)، لذا آتاه الله العلم بالتوراة إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (المائدة : 110)، وأنزل الله عليه الإنجيل وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور (المائدة : 46).
وقد أيده الله بالمعجزات، وآتاه من الآيات ما ينبغي أن يؤمن له قومه الذين أرسل إليهم وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني (المائدة : 110)، ومن آياته أيضاً علمه ببعض الغيوب التي أطلعه الله تعالى عليها وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ( آل عمران : 49).
وكما أيده الله بالبينات أيده بروح القدس، جبريل عليه السلام وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس (البقرة : 87)
وبين القرآن أن رسالته عليه السلام كانت إلى بني إسرائيل خاصة ورسولاً إلى بني إسرائيل (آل عمران :49)، فدعاهم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد (الصف : 6 ).
وقد انقسم بنو إسرائيل حيال دعوته إلى مؤمن به وكافر فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة (الصف : 14)، والمؤمنون به هم حواريوه البررة الكرام.
وأما غيرهم من اليهود فكادوا عيسى ابن مريم ولم يؤمنوا به، فاستحقوا اللعنة والغضب من الله لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (المائدة : 78-79).
وتحدثت الآيات القرآنية أيضاً بوضوح عن نجاة عيسى من الصلب الذي لم تنف الآيات وقوعه، لكنها أكدت على أن المصلوب الذي تمكن منه اليهود غيره عليه الصلاة والسلام وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم (النساء : 157)، وأكد القرآن قلة علم أهل الكتاب في هذا الموضوع وعدم تيقنهم منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً (النساء : 157).
وأكدت الآيات نجاته من الصلب مرة أخرى في قوله: ومطهرك من الذين كفروا (آل عمران : 55)، وقوله: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( آل عمران : 54).
ويذكر القرآن مصير عيسى بعد نجاته من المؤامرة إني متوفيك ورافعك إلي (آل عمران: 55)، وقوله: بل رفعه الله إليه (النساء : 158)، والوفاة المذكورة في الآية تحتمل معان في لغة العرب، منها الموت، ومنها النوم، ولا يمكننا الجزم بأي المعنيين، وإن مال الكثيرون من أهل العلم إلى الثاني.
ويشهد لصحة هذا الرأي في فهم الآية ما يذكره القرآن من نزوله آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب به وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته (النساء : 159).
وأشارت الآيات أيضاً إلى أن نزوله سيكون آخر الزمان، فذكرت في سياق معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه يكلم الناس في المهد وكهلاً ( آل عمران : 46)، وليس في كلام الكهل إعجاز إلا إذا كان صاحبه قد رفع إلى السماء ولما يبلغ بعد سن الكهولة، أي أنه سيعود مرة أخرى، ويكلم الناس حال كهولته.
وأخبر النبي عن نزول المسيح وكسره للصليب، وأنه لا يقبل من الأديان غير الإسلام، وأنه يبقى في الأرض أربعين سنة، ثم يموت كسائر الناس ، فيصلي عليه المسلمون، قال : ((ليس بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، بين مُمَصَّرَتين [أي ملابسه فيها صُفرة خفيفة]، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويُهلِك المسيحَ الدجال، فيمكثُ في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، فيصلي عليه المسلمون)) ( ).
وحذرت الآيات من الغلو في عيسى عليه السلام يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه (النساء: 171)، فهذه هي حقيقة المسيح التي أوضحها القرآن ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ الّذي فيه يمترون ما كان للّه أن يتّخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون (مريم: 33-34)، فقد خلقه الله بكلمته، وحاشا لله أن يتخذه أو غيرَه ولداً.
وهو عليه السلام لم يدع ألوهية نفسه قط، بل يبرأ يوم القيامة من كل المشركين الزاعمين ألوهيته، وذلك حين يسأله الله: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم (المائدة: 116-117 )، فعيسى بشر رسول.
لذا فإن مذاهب النصارى فيه زور وافتراء ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (مريم : 34)، ومن افترائهم قولهم الذي كفرهم الله به ببنوة المسيح لله: وقالت النّصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم (التوبة : 30)، كما ذمّت الآيات قول آخرين بأنه هو الله : ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً﴾ ( المائدة : 17).
وهكذا فإن إيمان المسلم بهذا النبي العظيم ركن من أركان الإيمان، لا يقبل الله عبداً إلا به ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله﴾ (البقرة: 285)، عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
عقائد الفرق النصرانية المعاصرة
تجمع الفرق النصرانية المثلثة اليوم على القول بأن الله إله واحد في جوهره ، لكنه مثلث من جهة أقانيمه، وتجمع أيضاً على أن أول هذه الأقانيم هو الآب، وثانيها هو الابن (الكلمة)، وثالثها هو روح القدس. وتعتقد أن الثلاثة إله واحد.
لكن هذه الفرق تختلف اختلافاً بيناً في تحديد طبيعة المسيح، فلقد صدر عن مجمع نيقية تأليهه، ثم حار النصارى في تحديد طبيعة هذا الاتحاد ومصدر هذا الانبثاق الذي أثمر معتقد الألوهية.
ونتوقف بعض الشيء مع الفرق النصرانية الكبرى، ونذكر أوجه الاختلاف بينها وظروف نشأة كل منها.
أولاً : الأرثوذكس
وهم أتباع الكنائس الشرقية (اليونانية)، وكلمة "أرثوذكس" كلمة لاتينية معناها: "صحيح أو مستقيم العقيدة" أو "مذهب الحق".
وينتشر أتباع الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا وعموم آسيا وصربيا ومصر والحبشة، ويتبعون أربع كنائس رئيسة لكل منها بطريريك (القسطنطينية ثم الإسكندرية وأنطاكيا وأورشليم).
وقد انقسمت الكنيسة الأرثوذكسية في أعقاب مجمع القسطنطينية الخامس 879م إلى قسمين كبيرين (الكنيسة المصرية أو القبطية أو المرقسية، وكنيسة القسطنطينية، المسماة بالرومية أو اليونانية).
وتشكل العقيدة الأرثوذكسية امتداداً صادقاً لما جرى في مجمع نيقية، إذ تتفق معتقداتهم مع مجمل ما جاء في رسائل أثناسيوس الذي ولي البابوية في الإسكندرية بعد مجمع نيقية.
وأبرز معتقدات الكنيسة الأرثوذكسية وفروقها عن الكنائس الأخرى:
- أن الله هو الإله الواحد من جهة جوهره، المثلث من جهة أقانيمه، فالله هو الآب والابن والروح القدس.
- يرى أرثوذكس الكنيسة المرقسية المصرية أن المسيح له مشيئة واحدة وطبيعة واحدة اتحدت فيها الطبيعتان الإلهية والإنسانية في اتحاد عجيب ، لا اختلاط فيه ولا تمازج ولا تغيير. يقول القديس كيرلس الإسكندراني الذي قاد الكنيسة في مجمع أفسس 430م: "نحن نقرن الطبيعتين بالاتحاد .. نقول: طبيعة واحدة للكلمة المتجسد" ( ) بينما يرى أرثوذكس روسيا وأوربا (كنيسة القسطنطينية) أن له طبيعتان ومشيئتان كما قرر عام 451م في مجمع خلقدونية، وهو المجمع الذي رفضت الكنيسة المصرية قراراته، في حين أن الكنائس الأرثوذكسية الرومية القائلة بالطبيعتين قبلته.
- يؤمن النصارى الأرثوذكس أن روح القدس نشأ من الأب فقط.
- يؤمن النصارى الأرثوذكس بأسفار الأبوكريفا السبعة التي يؤمن بها الكاثوليك، وإن كانت الكنائس الأرثوذكسية تستخدم في طقوسها وتعليمها النسخة البرتسنتتية التي تحذف هذه الأسفار.
- يؤمن النصارى الأرثوذكس بأسرار الكنيسة السبعة (المعمودية - الميرون المقدس- القربان المقدس - الاعتراف - مسحة المرضى - الزواج - الكهنوت) ( ).
ثانياً : الكاثوليك
وهم أتباع الكنائس الغربية التي يرأسها بابا الفاتيكان في روما.
وكلمة: " الكاثوليك" كلمة لاتينية، تعريبها: "العام أو العالمي".
وينتشر أتباع هذه الكنيسة في بقاع كثيرة من العالم، ويشكلون عدداً كبيراً من سكان أوربا.
وقد وجدت هذه الكنيسة بعد تصدع الكنيسة الأم بعد صراع سياسي ديني طويل يمتد إلى القرن الخامس الميلادي، فحين قسم الامبرطور تيودواسيوس امبراطوريته عام 395م بين ابنيه، فتولى أكاديوسيوس الشطر الشرقي وعاصمته القسطنطينية، فيما تولى نوريوس الشطر الغربي وعاصمته روما.
وبدأ الصراع والتنافس بين المركزين، وفي عام 451م وعقب مجمع خلقدونية انفصلت الكنيسة المصرية (أول الكنائس الأرثوذكسية) عندما قالت بطبيعة واحدة للمسيح منكرة ما ذهب إليه المجمع من أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، ثم انفصلت بقية الكنائس الشرقية عقب مجمع القسطنطينية الرابع 869م، والخامس 879م، بسبب إصرار الغربيين على اعتبار الروح القدس منبثقاً من الأب والابن معاً ( ).
وأما أبرز ما تختلف فيه الكنيسة الكاثوليكية عن الأرثوذكسية المصرية فهو :
- قولهم بأن المسيح له طبيعتان ومشيئتان: إلهية وإنسانية، فهو عند الكاثوليك إله تام وإنسان تام، وفيه اتحد الابن بناسوت المسيح.
- الأب والابن وروح القدس هي الأقانيم الأزلية للإله، والمتحد منها بجسد المسيح الإنساني هو الابن فقط.
- روح القدس انبثق من الأب والابن معاً، وهو مساوٍ للأب والابن.
- الأرواح الخاطئة لن تدخل الجنة حتى تتطهر في جحيم صغير في مكانٍ ما من الأرض يسمى: "المطهر" تتطهر به أرواح العصاة، ثم تكون أهلاً لدخول الفردوس.
- صلوات الكهنة ترفع العذاب عن النفوس الخاطئة، ومنه نشأت فكرة صكوك الغفران التي أقرها المجمع الثاني عشر المنعقد عام 1215م.
- القول بعصمة بابا روما، وبأنه وريث سلطان بطرس الذي دفعه له المسيح (انظر متى 16/19)، وبذلك تسمى أيضاً كنائس الكاثوليك بالكنائس البطرسية.
- تقدس الكنسية الكاثوليكية مريم، وتسميها (والدة الإله) و(خطيبة الله)، وتخصها ببعض الصلوات والابتهالات.
وتعترف الكنيسة الكاثوليكية بسائر العبادات والطقوس الأرثوذكسية كالتعميد والاعتراف والعشاء الرباني ... فقد صرح بقانونيتها المجمع التريدنتيني عام 1547م، ويجيز الكاثوليك عبادة الصور والأيقونات ( ).
ثالثاً : البروتستانت
وهم في الأصل من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وكلمة "بروتستانت" كلمة إنجليزية معناها: المحتجون.
وقد انشق البروتستانت عن الكنسية الكاثوليكية في منتصف القرن السادس عشر وبعد عدة احتجاجات على ممارسات بابوات الكنيسة التي زكمت منها الأنوف.
وهنا يجدر بنا الاستطراد في الحديث عن بعض هذه الدعوات الإصلاحية التي ظهرت في أوربا والتي مهدت لقيام البرتستانت، فقد بدأت هذه الدعوات للإصلاح على يد جيرارد في كنيسة لورين في عام 914م ، وعاصرتها دعوة أخرى تسمى حركة كلوين، ثم ظهرت في جنوب فرنسا حركتا الكاتاريين والوالدنيين، وتمكنت البابوية من القضاء عليهما.
وفي القرن الثالث عشر ظهرت حركة الرهبان (الإخوان)، ودعت للبساطة وحماية الكنيسة من الهراقطة، وتدعيم البابوية عن طريق الأتباع المخلصين، لكن مع نهاية هذا القرن وقع رواد الحركة فيما حذروا منه، فأصبحوا من الأثرياء، وجر الثراء إلى ما يسوء ذكره.
وفي عام 1383م توفي داعي الإصلاح حنا بعد أن طرد وأتباعه، ثم بعده نادى حنّا هس بإيقاف صكوك الغفران التي استعان بها البابا حنا الثالث والعشرون في حربه ضد مملكة نابلي، وقد أحرق حنّا هس حياً عام 1415م.
وفي بداية القرن السادس عشر ظهر مارتن لوثر، وهو قس ألماني ذهب إلى الحج في روما طالباً بركات البابا فيها، وفي ذهنه صورة من النقاء والطهر والخشوع، لكنه فوجىء في روما بواقع آخر، فجعل يصيح بأن ليس هذا دين عيسى، وعاد لألمانيا يدعو للإصلاح، وهاجم صكوك الغفران واعتبرها دجلاً، وانضم إليه أتباع سموا بالمحتجين (البروتستانت).
ثم تأثر بلوثر الفرنسي كالفن المولود عام 1509م، ثم السويسري زونجلي، وأسس كلفن التنظيم الكنسي البروتستانتي.
وقد انتشرت أراء هذه المدرسة الإصلاحية في ألمانيا وأمريكا وكندا واسكتلندا والنرويج وهولندا، كما وجدت لها قبولاً ضعيفاً في معظم دول العالم، حيث نجد كنائس برتسنتية صغيرة.
والبرتستانت في الجملة كاثوليك، ويتميزون عنهم بأمور أهمها:
- الإيمان بأن الكتاب المقدس فقط (وليس البابوات) هو مصدر الدين والعقيدة ، لكنهم – في حقيقة الأمر - لم يطبقوه فيما سوى مسألة صكوك الغفران وعصمة البابا.
- إجازة قراءة الكتاب المقدس لكل أحد، كما له الحق بفهمه دون الاعتماد في ذلك على فهم بابوات الكنيسة.
- عدم الإيمان بأسفار الأبوكريفا السبعة، واعتماد التوراة العبرانية بدلاً من اليونانية.
- عدم الاعتراف بسلطة البابا وحق الغفران وبعض عبادات وطقوس الكنيسة الكاثوليكية كالاستحالة في العشاء الرباني وعبادة الصور وتقديس مريم، وعذاب المطهر، وعموم الأسرار الكنيسة.
- يعتبرون الأعمال الصالحة ثمرة من ثمار الإيمان، ويرونها غير ضرورية للخلاص.
- لكل كنيسة بروتستانتية استقلالها التام.
- يمنع البروتستانت الصلاة بلغة غير مفهومة كالسريانية والقبطية، ويرونها واجبة باللغة التي يفهمها المصلون.
- يمنع البروتستانت التبتل، ويوجبون زواج القسس، إذ يرونه طريقاً لازماً لإصلاح الكنيسة.
- ويوافق البروتستانت الكاثوليك في انبثاق الروح القدس من الأب والابن كما يوافقونهم في أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين ( ).
أدلة النصارى على ألوهية المسيح
تؤمن الفرق النصرانية ( ) - رغم اختلافها في طبيعة المسيح - بأن المسيح إله متجسد، وتؤيد دعواها بعشرات النصوص التي وردت في العهد الجديد - وأحياناً - القديم، ويرونها تتحدث عن إلهيته حين سمته رباً وإلهاً أو وسمتْه بـ (ابن لله)، بينما أفادت نصوص أخرى في الكتاب أن الله حل فيه، وأضافت نصوص أخرى إليه القيام بأفعال الله كغفران الذنوب وخلق المخلوقات، ثم كان من أعظم أدلة ألوهيته ما ظهر على يديه من معجزات إلهية كإخباره ببعض الغيب وإحيائه الموتى ...
مدخل إلى مناقشة أدلة النصارى على ألوهية المسيح
وقبل أن نبدأ بمناقشة أدلة النصارى، فإنا نسجل ملاحظات هامة في هذا الباب:
- أنه لا يوجد نص واحد في الكتاب المقدس يصرح فيه المسيح بألوهيته أو يطلب من الناس عبادته، كما لم يعبده أحد من معاصريه ، ولم ينظر إليه هؤلاء إلا كمدع للنبوة، آمن به بعضهم، وكفر بنبوته الأكثرون من اليهود، لكن دعوى ألوهيته لا أساس لها في الكتاب المقدس أو على الأقل في أقوال المسيح وتلاميذه، وفي هذا الصدد تحدى العلامة أحمد ديدات كبيرَ قساوسة السويد في مناظرتهما المتلفزة قائلاً: "أضع رأسي تحت مقصلة لو أطلعتموني على نص واحد قال فيه عيسى عن نفسه: أنا إله. أو قال: اعبدوني"، وهيهات أن يجدوه.
والقس فندر يقول في كتابه "مفتاح الأسرار" مبرراً عدم تصريح المسيح بألوهيته في العهد الجديد: "ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه وعروجه…فلو قال صراحة لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني ... إن كبار ملة اليهود أرادوا أن يأخذوه ويرجموه، والحال أنه ما كان بيّن ألوهيته بين أيديهم إلا عن طريق الألغاز" ( ).
ويؤكد هذا المعنى البابا شنودة حيت سئل عن سبب عدم تصريح المسيح بألوهيته، فأجاب: "لو قال عن نفسه إنه إله؛ لرجموه, ولو قال للناس: إعبدوني؛ لرجموه أيضاً وانتهت رسالته قبل أن تبدأ ... إن الناس لا يحتملون مثل هذا الأمر، بل هو نفسه قال لتلاميذه: "عندي كلام لأقوله لكم , ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن" (يوحنا 16/ 12)"( ).
والخوف من اليهود لا يقبل نسبته إلى الإله أو حتى للمسيح الذي رأيناه يواجه اليهود مرراً فيقول: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون .. أيها العميان ... لأنكم تشبهون القبور المكلسة، أيها الحيات والأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم" (متى 23/13-34)، فكيف له بعد ذلك أن يغمض على البشرية في إظهار حقيقته، ففي ذلك إضلال وتلبيس.
- أن أحداً من تلاميذ المسيح لم يكن يعتقد ألوهية المسيح، إذ لم يعبده واحد منهم، بل كلهم وجميع معاصري المسيح ما كانوا يعتقدون أكثر من نبوته، وسيمر معنا تفصيله.
- ثم إن أقوى ما يتعلق به النصارى من دليل على لاهوت المسيح المزعوم إنما نجده في إنجيل يوحنا ورسائل بولس، بينما تخلو الأناجيل الثلاثة من دليل واضح ينهض في إثبات ألوهية المسيح، بل خلو هذه الأناجيل عن هذا الدليل هو الذي دفع يوحنا – أو كاتب يوحنا - لكتابة إنجيل عن لاهوت المسيح، فكتب في آخر القرن الميلادي الأول ما لم يكتبه الآخرون قبله، وجاءت كتابته مشبعة بالغموض والفلسفة الغريبة عن بيئة المسيح البسيطة التي صحبه بها العوام من أتباعه.
- عدم الدليل الصحيح الصريح على ألوهية المسيح جعل النصارى يحرفون في طبعات الأناجيل الجديدة، بغية خلق أدلة تسند هذه المعتقدات الغريبة عن الكتاب المقدس.
ومن ذلك إضافتهم نص التثليث الصريح الوحيد في (يوحنا (1) 5/7).
ومثله وقع التحريف في قول بولس: " عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس (1) 3/16) فالفقرة كما قال المحقق كريسباخ: محرفة، إذ ليس في الأصل كلمة "الله"، بل ضمير الغائب "هو" أو "الذي".
ويقول القس جيمس أنِس مبيناً سبب وقوع هذا التحريف وتاريخه: "ومما يرجح صحة قراءة (الذي) عدم ذكر اللاهوتيين القدماء هذه الآية مع الآيات الكثيرة التي أوردوها ليثبتوا لاهوت المسيح، وهم يردون على ضلالة آريوس.
أما سبب تبديل كلمة (الذي) بكلمة (الله) في النسخ اليونانية الحديثة ، فهو ما بين اسم الجلالة (حيث كتبت على صورتها المختصرة بحرفين فقط) [C Θ]، وكلمة (الذي) [C О] من المشابهة في صورة كتابتها، فليس بينهما فرق إلا في خط صغير؛ يقرب من النقطة التي تفرق بين الجيم والحاء في الكتابة العربية .. والراجح أن النساخ زادوا ذلك الخط الصغير ليوضحوا المعنى في بعض النسخ، فتحولت كلمة (الذي) إلى (الله)، ثم شاع استعماله في كل نسخ القرون المتوسطة؛ خلافاً للنسخ القديمة التي لم يُر فيها إلا كلمة (الذي)" ( ).
ولو أعدنا قراءة قول بولس حسب القراءة الصحيحة وبعيداً عن التحريف المتعمد للنساخ؛ فإنا نجده متحدثاً عن ظهور التقوى في جسد حي، فأحالته الترجمات الحديثة إلى دليل على التجسد الإلهي في المسيح.
وفي النسخة اليسوعية الكاثوليكية والترجمة العربية المشتركة تم إزالة التحريف وتصحيح النص، ليصبح: "عظيم سر التقوى الذي تجلى في الجسد"، واختفى منها اسم الله تبارك وتعالى، وتغير المعنى، وتلاشت دلالته على ألوهية المسيح.
ومثله تلاعب المترجمون برسالة يهوذا، حيث جاء في النسخة البرتستنتية الأشهر في المسيحية - والتي اعتمدنا عليها في هذه السلسلة - ما يوهم أن المسيح هو "القادر أن يحفظكم غير عاثرين، ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج، الإله الحكيم الوحيد، مخلّصنا، له المجد والعظمة والقدرة والسلطان الآن وإلى كل الدهور" (يهوذا 1/24-25)، والصحيح أن النص يتحدث عن الله المخلص، الذي يخلص بالمسيح ، وليس عن المسيح، فالقراءة كما في نسخة الرهبانية اليسوعية الكاثوليكية : "للإلهِ الواحد مخلصِنا- بيسوع المسيح ربِنا - المجدُ والجلال والعزة والسلطان"، والنص في النسخة البرتستنتية حذف اسم المسيح، ليوهم أنه صاحب الخلاص ، وليس واسطة الخلاص، وأنه "الإله الحكيم الوحيد"، بينما النص الكاثوليكي يتحدث عن الله "الإله الواحد مخلصنا".
وثالثة الأثافي التلاعب بعبارة بولس في سفر أعمال الرسل، حيث زعموا أنه قال: " لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أعمال 20/28)، وعليه فالمسيح هو الله الذي اقتنى الكنيسة بدمه، وقد قال أغناطيوس: "دعي يسوع المسيح إلهاً، وقيل في دمه: إنه دم الله" ( ).
وهذه القراءة لا يسلم بصحتها ودقّتها، وقد أشار إلى ذلك محققو الرهبانية اليسوعية في حاشية النص إلى تعدد قراءات النص في المخطوطات، فقالوا: "قراءات مختلفة: "كنيسة الرب (يسوع)"، أو "(يسوع) المسيح"، أو "الرب"، أو "الرب (و) الله".
ويبينه القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره بقوله: "جاء تعبير (كنيسة الله) هنا في كثير من المخطوطات ، خاصة السريانية: (كنيسة الرب)" ( ).
وهكذا ترك طابعو الكتاب تلك القراءات وما في تلك المخطوطات الكثيرة، واختاروا ما يحلو لهم، وذلك في خضم تخبطهم وبحثهم عن أدلة يسندون فيها دعواهم بألوهية المسيح.
ويجدر التنبيه إلى أن بعض النسخ الإنجليزية كنسخة (Good News Bible) ونسخة (Contemporary English Version)، وغيرها يقول: " through the blood of his Son" أي اقتناها بدم ابنه. فيفرق بين صاحب الكنيسة (الله او الرب) وابنه صاحب الدم.
لقد لجؤوا إلى التحريف حين أعياهم أن يجدوا دليلاً صحيحاً في دلالته على ألوهية المسيح عليه الصلاة والسلام.
وهذي يدي ممدودة إليك - أخي الباحث عن الحقيقة - لندرس معاً بحيادية وموضوعية أدلة النصارى الكتابية التي زعموا أنها دالة على ألوهية السيد المسيح عليه الصلاة والسلام.
أولاً : نصوص نسبت إلى المسيح الألوهية والربوبية
يستمسك النصارى بالألفاظ التي أطلقت على المسيح لفظ الألوهية والربوبية، ويرونها دالة على ألوهيته، وفي أولها أنه سمي (يسوع)، وهي كلمة عبرانية أصلها: يهوه خلاص، ومعناها: (الله خلَّص) .
كما احتجوا بما اعتبروه نبوءة عن المسيح في سفر إشعيا: "لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد" (إشعيا 9/6)، فالمسيح سيدعى إلهاً.
كذا استمسكوا بقول داود في عن القادم المبشَر به بالنبوات أنه ربه أو سيده: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك، شعبك منتدب في يوم قوتك، في زينة مقدسة، من رحم الفجر لك طل حداثتك، أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (المزمور 110/ 1-4)، فسماه داود رباً.
يقول القس الدكتور إبراهيم سعيد: "كل من يلقي نظرة على المزمور 110 ولا يقتنع بلاهوت المسيح ؛ لابد أن يكون واحداً من اثنين: إما أن يكون جاهلاً قد بسطت الغباوة غشاوة على عينيه، فلا يقدر أن يرى، أو أن يكون مكابراً قد طمس العناد قلبه فلا يريد أن يرى" ( ).
كما يرى النصارى نبوءة أخرى دالة على ألوهية المسيح في قول إشعيا: "لكن يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه: عمانوئيل" (إشعيا 7/14)، فكلمة (عمانويل) تعني: الله معنا.
ويرون تحقق النبوءة بالمسيح كما في بشارة الملاك ليوسف النجار خطيب مريم "فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (متى 1/18-23)، فتسمية المسيح (الله معنا) دليل - عند النصارى - على ألوهيته.
ومثله جاء في العهد الجديد قول بولس : "المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد" (رومية 9/5)، ومثله قول توما للمسيح: "ربي وإلهي" (يوحنا 20/28).
كما قال بطرس له: "حاشاك يا رب" (متى 16/22)، وقال أيضاً: "هذا هو رب الكل" (أعمال 10/36).
وجاء في سفر الرؤيا عن المسيح: " وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب : ملك الملوك ورب الأرباب" (الرؤيا 17/14) وغير ذلك من النصوص مما أطلق على المسيح كلمة رب أو إله، فدل ذلك عندهم على ألوهيته وربوبيته.
الأسماء والألقاب لا تفيد ألوهية أصحابها
لكن هذه الإطلاقات من أسماء وألقاب ما كان لها أن تجعل من المسيح رباً وإلهاً، إذ كثير منها ورد في باب التسمية، وتسمية المخلوق إلهاً لا تجعله كذلك. فقد سمي بولس وبرنابا آلهة لما أتيا ببعض المعجزات "فالجموع لما رأوا ما فعله بولس رفعوا أصواتهم قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا" (أعمال 14/11)، فقد كان من عادة الرومان تسمية من يفعل شيئاً فيه نفع للشعب (إلهاً)، ولا تغير التسمية في الحقيقة شيئاً، ولا تجعل من المخلوق إلهاً، ولا من العبد الفاني رباً وإلهاً.
فلئن سمي المسيح (يسوع)، ومعناه (الله خلص) فإن إسماعيل عليه السلام سمي بهذا الاسم العبراني، ومعناه: (الله يسمع)، ومثله الملك يهوياقيم أي: (الله يرفع)، ويهوشع (الرب خلص)، وغيرهم … ولم تقتضِ أسماؤهم ألوهيتَهم ولا ربوبيتهم.
وجاء في سفر الرؤيا: "من يغلب فسأجعله في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي - أورشليم الجديدة - النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد" (الرؤيا 3/12).
وجاء في التوراة: "فيجعلون اسمي على بني إسرائيل" (العدد 6/27)، ومع ذلك ليسوا آلهة.
هل سمي المسيح (الرب) و(الإله)؟
بداية، لا يسلم المسلمون بصحة صدور كثير من تلك العبارات الصريحة في تسمية المسيح بالرب أو الإله، والتي يزعم العهد الجديد أنها صدرت من التلاميذ، فلقد كانت هذه المواضع محلاً للتحريف المقصود والمتعمد كما وقع في (يوحنا (1) 5/7-8)، كما قد يقع التحريف فيها بسبب سوء الترجمة وعدم دقتها، فكلمة "الرب" التي ترد كثيراً في التراجم العربية كلقب للمسيح هي في التراجم الأجنبية بمعنى: "السيد" أو "المعلم"، فالمقابل لها في الترجمة الإنجليزية هو كلمة: "lord"، ومعناها: السيد، وفي الترجمة الفرنسية: "le mait"، ومعناها: المعلم، وهكذا في سائر التراجم كالألمانية والإيطالية والأسبانية.
وما أتت به الترجمة العربية ليس بجديد، بل هو متفق مع طبيعة اللغة التي نطق بها المسيح ومعاصروه، فكلمة: "رب" عندهم تطلق على المعلم، وتفيد نوعاً من الاحترام والتقدير فحسب.
ففي إنجيل يوحنا أن تلاميذ المسيح كان يخاطبونه: "يا رب"، ومقصودهم: يا معلم، فها هي مريم المجدلية تلتفت إليه وتقول: "ربوني الذي تفسيره: يا معلم ... وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب" (يوحنا 20/16-17)، فغاية ما تعتقده فيه أنه نبي معلم، وذلك لم يمنعها من أن تسميه (ربوني) أو (الرب)، بمعنى السيد.
كما خاطبه اثنان من تلاميذه بقولهما: "رب الذي تفسيره: يا معلم" (يوحنا 1/38).
ولم يخطر ببال أحد من التلاميذ المعنى الاصطلاحي لكلمة (الرب) حين أطلقوها على المسيح، فقد كانوا يريدون: المعلم والسيد، ولذلك لم يستنكفوا عن تشبيهه بيوحنا المعمدان حين قالوا له: "يا رب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا تلاميذه" (لوقا 11/1).
واستعمال لفظة (الرب) بمعنى : (السيد)، شائع في اللغة اليونانية التي كتبت بها أسفار العهد الجديد، يقول ستيفن نيل: "إن الكلمة اليونانية الأصلية التي معناها: (رب) يمكن استعمالها كصيغة للتأدب في المخاطبة، فسجَّان فلبي يخاطب بولس وسيلة بكلمة: "(سيدي) أو (ربي)، يقول سفر الأعمال: " أخرجهما وقال: يا سيدي ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟ فقالا: آمن بالرب يسوع المسيح، فتخلص أنت وأهل بيتك" (أعمال 16/30) ... وكانت اللفظة لقباً من ألقاب الكرامة...".
ومما يؤكد صحة هذا التأويل أن بولس يصف المسيح بـ (الرب)، ولا يمنعه ذلك من جعله في مقام العبودية لله "كي يعطيكم إلهُ ربِنا يسوعَ المسيح، أبو المجد، روحَ الحكمةِ والإعلان في معرفته" (أفسس 1/17).
قول توما: "ربي وإلهي"
وأما قول توما للمسيح "ربي وإلهي" فهو لم يقع منه في مقام الخطاب للمسيح، بل لما رأى المسيح حياً، وقد كان يظنه ميتاً استغرب ذلك، فقال متعجباً: "ربي وإلهي!" (يوحنا 20/28)، بدليل علامة التعجب التي يضعها الطابعون بعد قول توما "ربي وإلهي!"، فهي تزين غالب الترجمات العربية والأجنبية للنص.
وهذا المعنى التعجبي لقول توما قد يكون غامضاً في الترجمة العربية ، لكنه واضح في الأصول اليونانية، وفيها ما يقرأ بالحروف الإنجليزية هكذا: "apok-ree’-nom-ahee" ويعني: (كانت ردة فعله)، أي قوله: "ربي وإلهي".
ومما يؤكد صحة هذا الفهم أن المسيح أخبر في نفس السياق بأنه سيصعد إلى إلهه. (انظر يوحنا 20/17)، وعليه فالألوهية هنا لو أريد بها المسيح فهي مجازية غير حقيقية.
وقد يشكل على البعض في قوله: "أجاب توما وقال له: ربي وإلهي" (يوحنا 20/28)، فيرى أن هذه الصيغة لم ترد في باب الاستغراب، بل في باب الخطاب المباشر للمسيح بلقب الألوهية، بدليل قول يوحنا: "وقال له".
والحق أن لفظة (له) لم توردها معظم تراجم النص العربية، ولو فرضنا أصالتها فإنما تعني (قال لأجله أو لأجل ما رأى منه)، ولها مثيل في الكتاب في سفر صموئيل، حيث دعا النبي يوناثان الله من أجل داود، بينما يفهم من ظاهر السياق أن الحديث موجه إلى داود، وهو في الحقيقة دعاء لله من أجل داود، يقول سفر صموئيل: "وقال يوناثان لداود: يا ربُ إله إسرائيل، متى اختبرت أبي مثل الآن غداً أو بعد غد؛ فإن كان خير لداود ولم أُرسل حينئذ فأخبره" (صموئيل (1) 20/12)، فهو نداء لله، والسياق يقول: "وقال يوناثان لداود "، أي لأجله.
ثم لو فهم المسيح من كلام توما أنه أراد ألوهيته لما سكت عليه الصلاة والسلام عن مثل هذا الكفر والتجديف، فقد رفض عليه السلام أن يدعى صالحاً، لما ناداه بعض تلاميذه: " أيها المعلم الصالح... فقال له: لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله " (متى 19/17)، فمن رفض دعاءه بـ"المعلم الصالح" كيف نتصور أن يقبل دعاءه "ربي وإلهي"؟
قول داود : "قال الرب لربي"
وأما الاستدلال بقول داود في المزامير "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك" (المزمور 110/ 1)، فهو خروج بالنص عن معناه، لأن قول داود لا يراد به المسيح بحال من الأحوال، بل المراد منه المسيح المنتظر، الذي وعد به بنو إسرائيل، وهو نبينا .
وقد أخطأ بطرس – والنصارى من بعده - حين فهم أن النص يراد به المسيح، فقال: "لأن داود لم يصعد إلى السموات. وهو نفسه يقول: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً" (أعمال 2/34-37).
ودليل الخطأ في فهم بطرس وفهم النصارى من بعده، أن عيسى عليه السلام أنكر أن يكون هو المسيح الموعود على لسان داود، وبرهن لهم ذلك حين "سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون في المسيح (أي من هو المسيح الذي تنتظره اليهود؟)، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود".
لقد كانت إجابتهم خاطئة، فالمسيح القادم ليس من ذرية داود، لذا رد عليهم المسيح، فـ "قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة، ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتة" (متى 22/41-46)، لم يستطيعوا جوابه لأن حجته مقنعة ، فالأب لا يقول عن ابنه "ربي".
فالمسيح حسب إنجيلي متى ولوقا من ذرية داود عليه السلام، وعليه فليس هو المسيح المنتظر الذي ناداه داود: "ربي"، لأن الأب لا يقول ذلك لابنه "فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه! ".
ولمزيد من الإيضاح ننقل حوار المسيح مع الفريسيين برواية مرقس، فقد سألهم المسيح: " كيف يقول الكتبة أن المسيح ابن داود؟ لأن داود نفسه قال بالروح القدس: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فداود نفسه يدعوه رباً، فمن أين هو ابنه؟! " (مرقس 12/35-36)، كان سؤالاً استنكارياً أعياهم أن يجدوا له جواباً.
والقصة ذكرها لوقا أيضاً في إنجيله، ليزيد يقيننا بصحة المعنى الذي انتهينا إليه: "وقال لهم: كيف يقولون أن المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: قال الرب لربي: اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإذا داود يدعوه رباً، فكيف يكون ابنه؟!" (لوقا 20/40-44)، فالمسيح (المنتظر) المبشر به الذي يناديه داود: "ربي" ليس عيسى عليه السلام، الذي لا يختلف النصارى في أنه كان من ذرية داود كما جاء في نسَبيه في متى ولوقا.
وبعد هذا البيان من المسيح عليه السلام، نسأل الدكتور القس إبراهيم سعيد: هل ما زال مصراً على اتهامنا بالجهل والمكابرة لأننا لا نرى النص نبوءةً عن المسيح .
البشارة بـ (عمانوئيل)
وأما ما جاء في إشعيا من التنبؤ بقدوم (عمانوئيل)، فهو نص لا علاقة له بالمسيح، الذي لم يتسم بهذا الاسم أبداً، ولم ينادَ به إطلاقاً.
ولو عدنا إلى القصة في سفر إشعيا لوجدنا أنها تتحدث عن قصة حصلت قبل المسيح بسبعة قرون، حين تآمر راصين ملك أدوم مع فقح بن رمليا ملك مملكة إسرائيل الشمالية على آحاز ملك مملكة يهوذا الجنوبية، فأعلمه الله بانتصاره على أعدائه وزوال الشر عن مملكة يهوذا ، وجعل له علامة على ذلك ، ميلاد الطفل (عمانوئيل) ليكون ذلك إيذاناً بخراب مملكتي راصين وفقح على يد الآشوريين، وموت الملكين المتآمرين على آحاز، يقول إشعيا: " ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلاً:.. ولكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل. زبداً وعسلاً يأكل.
متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير، لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير، تخلى الأرض التي أنت خاش من ملِكَيها (راصين وفقح)، يجلب الرب عليك وعلى شعبك وعلى بيت أبيك أياماً لم تأتِ منذ يوم اعتزال أفرايم عن يهوذا أي ملك أشور.
ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب الذي في أقصى ترع مصر وللنحل الذي في أرض أشور ... وقال لي الرب: خذ لنفسك لوحاً كبيراً، واكتب عليه بقلم إنسان: لمهير شلال حاش بز ... فحبلت وولدت ابناً، فقال لي الرب: ادعو اسمه: مهير شلال حاش بز، لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو: يا أبي ويا أمي تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور" (إشعياء 7/10- 8/4)، فالنص يتعلق بأحداث حصلت قبل المسيح بسبعة قرون، وذلك إبان الغزو الآشوري لفلسطين، وقد ولد هذا الغلام، وسماه أبوه (مهير شلال حاش بز)، تيمناً بانتصار الملِك آحاز، فاسمه يعني: (مُسرع إلى السلب مقدِم إلى النهب)، لأن الله معه ( ).
وقد تحققت هذه النبوءة، وتحقق النصر للملك آحاز بمجيء الملك الآشوري وتسلطه على الملِكين الغازيين المتآمرين على مملكة يهوذا" ثم عاد الرب يكلمني أيضاً قائلاً: .. هوذا السيد يصعد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة ملك أشور وكل مجده، فيصعد فوق جميع مجاريه، ويجري فوق جميع شطوطه، ويندفق إلى يهوذا، يفيض ويعبر، يبلغ العنق، ويكون بسط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل، هيجوا أيها الشعوب، وانكسروا، واصغي يا جميع أقاصي الأرض، احتزموا وانكسروا، احتزموا وانكسروا، تشاوروا مشورة فتبطل، تكلموا كلمة فلا تقوم، لأن الله معنا" (إشعيا 8/5-10).
يقول محققو قاموس الكتاب المقدس عن الملك آحاز: " وقد تحالف رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل ضد آحاز وحاصراه في أورشليم (2ملوك 16: 5، اش 7: 1) فأرسل الرب إليه النبي أشعيا قبل وصول القوات الغازية، ليحثه على وجوب الاتكال على الرب وعدم دعوة قوات أجنبية لمعونته، ولكنه لم يؤمن بقول الرب، ورفض أن يطلب آية علامة منه. عندئذ نطق النبي بنبوته المشهورة الخاصة بميلاد عمانوئيل ( اش 7: 1-16)" ( ).
ويجدر بالذكر أن النص الذي ذكره لوقا استخدم فيه ترجمة محرفة من سفر إشعيا، إذ لا ذكر لـ (العذراء) في الأصول العبرانية ولا في التراجم القديمة للتوراة مثل ترجمة أيكوئلا، وترجمة تهيودوشن، وترجمة سميكس التي تعود إلى القرن الميلادي الثاني ، فالأصول العبرانية تتحدث عن (عَلماه)، التي تعني: الصبية أو الشابة، وليس فيها أي ذكر للفظة العذراء (بتولّا)، التي ابتدعها مترجمو الترجمة السبعينية، ونقلها عنهم الإنجيليون لموافقتها لهواهم ( ).
وفي النسخة المنقحة (R.S.V) الصادرة عام 1952م استبدلت كلمة (العذراء) في إشعيا بكلمة (الصبية)، ولكن هذا التنقيح لا يسري سوى على الترجمة الإنجليزية ( ).
الإله الابن صاحب الرئاسة
وبخصوص نبوءة النبي إشعيا " يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد" (إشعيا 9/6)، فإن أياً من هذه الأسماء لم يتسم به المسيح ، فأين سمي عجيباً أو مشيراً أو قديراً أو أباً أو رئيس السلام، فليس في الكتاب المقدس نص يذكر أنه سمي بأي من هذه الأسماء.
فإن قالوا: المراد أن هذه صفات هذا الابن الموعود، فهي أيضاً لا تنطبق على المسيح بحال، فهي تتحدث عن نبي غالب منتصر يملك على قومه، ويكون وارثاً لملك داود، وكل هذا ممتنع في حق المسيح، ممتنع بدليل الواقع والنصوص.
فالمسيح لم يملك على قومه يوماً واحداً، بل كان فاراً من بني إسرائيل، خائفاً من بطشهم، كما هرب من قومه حين أرادوه أن يملك عليهم. "وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده" (يوحنا 6/15).
لقد هرب منهم، وذلك لأن مملكته ليست دنيوية زمانية، ليست على كرسي داود، بل هي مملكة روحية في الآخرة "أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يوحنا 18/36).
كما أن إشعيا يتحدث عن رئيس السلام، وهو لا ينطبق بحال على الذي نسبت إليه الأناجيل أنه قال: " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنّة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته " (متى 10/34 - 36)، فهل يسمى المسيح الإنجيلي بعد ذلك رئيس السلام؟
ثم إن النبي إشعيا يتحدث عن شخص قدير "ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً "، وليس عن بشر محدود لا يقدر أن يصنع من نفسه شيئاً كما قال عن نفسه: " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين" (يوحنا 5/30)، وفي نص آخر يقول لليهود: "الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك، فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19) ( ).
ثم إن الكتاب المقدس يمنع أن يكون المسيح ملكاً على بني إسرائيل، فقد حرم الله الملك على ذرية الملك الفاسق يهوياقيم بن يوشيا أحد أجداد المسيح، فقد ملك على مملكة يهوذا، فأفسد، فقال الله فيه: "هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً، وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم " ( إرميا 36/30 - 31 ).
والمسيح - حسب الأناجيل - من ذرية هذا الملك الفاسق، يقول متى في سياق نسب المسيح: " وآمون ولد يوشيا، ويوشيا ولد يكنيا وإخوته عند سبي بابل " (متى 1/10-11)، وقد أسقط متعمداً اسم يهوياقيم، فذكر أباه يوشيا، وابنه يكينيا.
وبيان ذلك في سفر الأيام الأول "بنو يوشيا: البكر: يوحانان، الثاني: يهوياقيم، الثالث: صدقيا، الرابع: شلّوم. وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه" (الأيام (1) 3/14-15)، فيهوياقيم أحد أجداد المسيح، وهذا يمنع تحقق نبوءة إشعيا في المسيح، فالملِك القادم لن يكون من ذرية المحروم يهوياقيم.
إطلاقات لفظ الألوهية والربوبية في الكتاب المقدس
وليس في وصف المسيح بالرب أو الإله أي دلالة على ألوهية المسيح، لأن إطلاقهما على المخلوقات معهود في الكتاب المقدس.
فمما ورد في كتب أهل الكتاب إطلاق لفظة "الرب" و "الإله" على الملائكة، فقد جاء في سفر القضاة، وهو يحكي عن ظهور ملاك الرب لمنوح وزوجه: " ولم يعد ملاك الرب يتراءى لمنوح وامرأته، حينئذ عرف منوح أنه ملاك الرب، فقال منوح لامرأته: نموت موتاً، لأننا قد رأينا الله" (القضاة 13/21-22)، ومراده ملاك الله.
وظهر ملاك الله لسارة وبشرها بإسحاق "وقال لها ملاك الرب ... فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: أنت إيل رئي" (التكوين 16/11-13) فأطلقت على الملاك اسم الرب.
ومثله تسمية الملاك الذي صحب بني إسرائيل في رحلة الخروج بالرب "وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم ... فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم " (الخروج 13/21- 14/19)، فسمى الملاك رباً.
ومما جاء في التوراة إطلاق هذه الألفاظ على الأنبياء، من غير إرادة معناها الحقيقي، فقد قال الله لموسى عن هارون: " وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً " (الخروج 4/16).
ومثله في قول الله لموسى: " فقال الرب لموسى: انظر. أنا جعلتك إلهاً لفرعون، وهارون أخوك يكون نبيّك" ( الخروج 7/1 ) أي: مسلطاً عليه.
وقد عهد تسمية الأنبياء (الله) مجازاً أي رسل الله، فقد "كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي، لأن النبي اليوم كان يدعى سابقاً الرائي" (صموئيل(1) 9/9).
وأطلقت لفظة "الله" وأريد منها القضاة، لأنهم يحكمون بشرع الله، ففي سفر الخروج "إن قال العبد ... يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب..." (الخروج21/5-6).
وفي السفر الذي يليه : "وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم هل لم يمد يده إلى ملك صاحبه ... فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه" (الخروج 22/8-9).
وفي سفر التثنية "يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة" (التثنية 19/17).
ومثله "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار" (المزمور 82/1)، والحديث كما هو ظاهر من السياق عن أشراف بني إسرائيل وقضاتهم.
بل يمتد هذا الإطلاق ليشمل كل بني إسرائيل كما في قول داود في مزاميره: " أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون" (المزمور 82/6)، وهذا الذي استشهد به عيسى عليه السلام عندما قال: " أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت: إنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدسه الآب، وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تجدف، لأني قلت: إني ابن الله " (يوحنا 10/34).
وتستمر الكتب في إطلاق هذه الألفاظ حتى على الشياطين، والآلهة الباطلة للأمم، فقد سمى بولس الشيطان إلهاً، كما سمى البطن إلهاً، وأراد المعنى المجازي، فقال عن الشيطان: "إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح" (كورنثوس (2) 4/5)، وقال عن الذين يتبعون شهواتهم ونزواتهم: "الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم .." (فيلبي 3/19). ومثله ما جاء في المزامير " لأني أنا قد عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة" (المزمور 135/5)، وألوهية البطن وسواها ألوهية مجازية غير حقيقية.
جاء في "شرح أصول الإيمان": "موسى تسمى (إلهاً) من الله ذاته، دلالة على نيابته عن الباري لدى فرعون، وليس لكونه اتصف بصفات إلهية، وكذلك القضاة تسموا (آلهة) لكونهم ينفذون مقاصد الله، وأما الأصنام والبطن والمال فقد سميت بذلك لاتخاذ بعض الناس إياها آلهة، والشيطان تسمى (إلهاً) لتسلطه على العالم الحاضر" ( ).
فهذه لغة الكتاب المقدس في التعبير، والتي يخطئ من يصر على فهم ألفاظها حرفياً كما يخطئ أولئك الذين يفرقون بين المتشابهات، فألوهية هؤلاء جميعاً مجازية، وكذا ألوهية المسيح، سواء بسواء.
وفي كتاب "مرشد الطالبين" يقول الدكتور سمعان كهلون: وأما اصطلاح الكتاب المقدس؛ فإنه ذو استعارات وافرة غامضة خاصة العهد العتيق .. واصطلاح العهد الجديد أيضاً هو استعاري جداً، وخاصة مسامرات مخلصنا، وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحاً حرفياً..." ( ).
كما أن المسيح وهو يسمع بمثل هذه الاستعارات والآلهة المجازية أوضح بأن ثمة إلهاً حقيقياً واحداَ، هو الله، فقال: "الحياة الأبدية أن يعرفوك ، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/3)، وهي ما تعني بوضوح أن الجنة وحياتها الأبدية لا تنال إلا بالشهادة لله بالتوحيد، ولنبيه وصفيه المسيح بالرسالة، وهو ما يعتقده المسلمون فيه عليه الصلاة والسلام.
ثانياً : نصوص بنوة المسيح لله
وتتحدث نصوص إنجيلية عن المسيح ، وتذكر أنه ابن الله، ويراها النصارى أدلة صريحة على ألوهية المسيح، فهل يصح هذا الاستدلال منهم؟ وما هو معنى البنوة لله؟
هل سمى المسيح نفسه ابن الله؟
أول ما يلفت المحققون النظر إليه أنه لم يرد عن المسيح - في الأناجيل- تسميته لنفسه بابن الله سوى مرة واحدة في يوحنا (10/36)، وفيما سوى ذلك فإن الأناجيل تذكر أن معاصريه وتلاميذه كانوا يقولون بأنه ابن الله، ولذلك فإن المحققين يشككون في صدور هذه الكلمات من المسيح أو تلاميذه، يقول سنجر في كتابه "قاموس الإنجيل": ليس من المتيقن أن عيسى نفسه قد استخدم ذلك التعبير".
ويقول شارل جنيبر: " والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين، هي : أن المسيح لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه ابن الله ... فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية" ( ).
وقد قال العالم كولمن بخصوص هذا اللقب: "إن الحواريين الذين تحدث عنهم أعمال الرسل تأسَوا بمعلمهم الذي تحفظ على استخدام هذا اللقب ولم يرغب به، فاستنوا بسنته".
ويرى جنيبر أن المفهوم الخاطئ وصل إلى الإنجيل عبر الفهم غير الدقيق من المتنصرين الوثنيين فيقول: "مفهوم "ابن الله" نبع من عالم الفكر اليوناني".
ويرى القس السابق سليمان مفسر - ويوافقه الدكتور شارل جنيبر - أن بولس هو أول من استعمل الكلمة، وكانت حسب لغة المسيح (عبد الله) وترجمتها اليونانية servant، فأبدلها بالكلمة اليونانية pais بمعنى طفل أو خادم تقرباً إلى المتنصرين الجدد من الوثنيين ( ).
المسيح ابن الإنسان
ثم إن هذه النصوص التي تصف المسيح (ابن الله) معارضة بثلاثة وثمانين نصاً من النصوص التي لقَّبت المسيح (ابن الإنسان)، ذلك اللقب الذي يرى الأب متى المسكين أن المسيح أعطاه لنفسه "ليخفي وراءه حقيقة ومجد بنوته لله حينما يتكلم عن نفسه" ( )، ولنا أن نتساءل: لِمَ يُخفي المسيح عنا هذه المسألة المهمة، لم لا يواجهنا بحقيقة ألوهيته؟ لماذا يستر عنا لاهوته بهذا اللقب الذي يصرخ في وجوه مدعي ألوهيته بأنه إنسان وابن الإنسان؟! فالكتاب يخبرنا: "ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن انسان فيندم" (العدد 23/19).
فلئن كانت النصوص التي أسمته ابن الله دالة على ألوهيته فإن هذه مؤكدة لبشريته، صارفة تلك الأخرى إلى المعنى المجازي، حتى لا تتصادم النصوص.
ومنها قول متى: " قال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له، أين يسند رأسه" (متى 8/20)، وأيضاً قوله: " ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه" (مرقس 14/21)، وقد جاء في التوراة: "ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم" (العدد 23/19). فالمسيح ليس الله.
أبناء كثر لله، فهل هم أيضاً آلهة؟
ولفظ البنوة الذي أطلق على المسيح أطلق كذلك في الكتاب على كثيرين غيره، ولم يقتضِ ذلك ألوهيتهم، بل حملت اليهود والنصارى بنوتهم على المعنى المجازي، أي المؤمنين والصالحين.
منهم آدم الذي قيل فيه: "آدم ابن الله" (لوقا 3/38).
ومثله داود الذي قيل له: " أنت ابني، أنا اليوم ولدتك " (المزمور 2/7).
وسليمان أيضاً قيل أنه ابن الله، فقد جاء في سفر الأيام عنه: "هو يبني لي بيتاً … أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً" (الأيام (1) 17/12-13).
كما سمى لوقا الملائكةَ (أبناء الله) لشيوع مثل هذه الاستخدام في الصدر الأول للمسيحية "مثلَ الملائكةِ وهم أبناء الله " (لوقا 20/36).
وسمت النصوص المقدسة أيضاً آخرين (أبناء الله)، أو ذكرت أن الله أبوهم، ومع ذلك لا يقول النصارى بألوهيتهم. فالحواريون أبناء الله، فقد قال المسيح عنهم: " قولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " (يوحنا 20/17).
وقال للتلاميذ أيضاً: " فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5/48).
وعلمهم المسيح أن يقولوا: "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك.." (متى 6/9)، وقال: " أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه" (متى 6/11)، فكان يوحنا يقول: " انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" (يوحنا (1) 3/1).
بل واليهود أيضاً كلهم أبناء الله كما يوضحه قول المسيح لليهود: "أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله" (يوحنا 8/41).
وفي سفر هوشع "يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعدّ، ويكون عوضاً عن أن يقال لهم: لستم شعبي، يقال لهم: أبناء الله الحي" ( هوشع 1/10).
ومن ذلك أيضاً ما جاء في سفر الخروج عن جميع شعب إسرائيل " فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. فقلت لك: أطلق ابني ليعبدني، فأبيت" (الخروج 4/22).
وخاطبهم داود قائلاً: "قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجداً وعزّاً" (المزمور 29/1).
ومثله قوله: "لأنه من في السماء يعادل الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله" ( المزمور 89/6).
وفي سفر أيوب: "كان ذات يوم أنه جاء بنو الله، ليمثلوا أمام الرب " (أيوب 1/6).
وقال الإنجيل عنهم: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (متى 5/9).
وعن المؤمنين يقول بولس : "فإذ نحن ذرية الله، لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان" (أعمال 17/29)، فوسم المؤمنين بأنهم ذرية الله، أي المحبون والمطيعون لله.
كما نرى في التوراة هذا الإطلاق على الشرفاء والأقوياء من غير أن يفهم منه النصارى أو غيرهم الألوهية الحقيقية، فقد جاء فيها: "أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا ... إذ دخل بنو الله على بنات الناس، وولدن لهم أولاداً، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" (التكوين 6/2).
وعليه فلا يمكن النصارى أن يجعلوا من النصوص المتحدثة عن بنوة المسيح لله أدلة على ألوهيته ثم يمنعوا إطلاق حقيقة ذات اللفظ على آدم وسليمان وغيرهما ، وتخصيصهم المسيح بالمعنى الحقيقي يحتاج إلى مرجح لا يملكونه ولا يقدرون عليه.
وحين أراد اليهود اختلاق تهمة وتلفيقها للمسيح قالوا بأنه قد جدف( ) لأنه يزعم أنه ابن الله على الحقيقة لا المجاز، فبكتهم المسيح، ورد عليهم مثبتاً مجازية هذه البنوة، كما هو لسان المقال دائماً في الكتاب ، فهو يجعل كل اليهود أبناء الله مجازاً ، فقال : " إن قال: آلهةً لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله .. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له: إنك تجدف، لأني قلت: إني ابن الله؟ إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي.." (يوحنا10/37)، أي كما وصفكم كتابكم بأنكم آلهة مجازاً ؛ فأنا كذلك ابن الله مجازاً ، سواء بسواء.
معنى البنوة الصحيح
والمعنى المقصود للبنوة في كل ما قيل عن المسيح وغيره إنما هو معنى مجازي بمعنى: حبيب الله، أو مطيع الله، أو المؤمن بالله.
لذلك قال مرقس وهو يحكي عبارة قائد المائة الذي شاهد المصلوب وهو يموت فقال: "حقاً كان هذا الإنسان ابن الله" (مرقس 15/39).
ولما حكى لوقا القصة نفسها أبدل العبارة بمرادفها فقال: "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارّاً" (لوقا 23/47).
ومثل هذا الاستخدام وقع من يوحنا حين تحدث عن أولاد الله المؤمنين، فقال: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. أي المؤمنون باسمه" (يوحنا 1/12)، ونحوه في قول بولس: "كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رومية 8/14).
ومثله قول يوحنا: "الذي يسمع كلام الله من الله" (يوحنا 8/47).
ومثل هذا الإطلاق المجازي للبنوة معهود في الكتب المقدسة التي تحدثت عن أبناء الشيطان، وأبناء الدهر (الدنيا) .. (انظر يوحنا 8/44، لوقا 16/8).
هل ادعى المسيح بنوة حقيقة تجعله معادلاً لله؟
ومما يحتج به النصارى على ألوهية المسيح زعمهم أنه جعل نفسه معادلاً لله، فقد قال يوحنا: "كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط؛ بل قال أيضاً أن الله أبوه، معادلاً نفسه بالله" (يوحنا 5/18)، ولا ريب أن بتر النص وعرضه بهذه الطريقة يجعله دليلاً ينطلي على البسطاء، فكلام يوحنا المبتور من سياقه يشير إلى أن المسيح جعل نفسه معادلاً لله، وهذا غير صحيح.
ولفهم النص نعود إلى السياق، حيث شفى المسيح مريضاً في يوم السبت، وهو ما اعتبره اليهود نقضاً للسبت، فـ "كان اليهود يطردون يسوع، ويطلبون أن يقتلوه، لأنه عمل هذا في سبت" (يوحنا 5/16)، لكن المسيح برر لهم عمله في السبت "فأجابهم يسوع: أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل" (يوحنا 5/17)، أي كما الله يعمل في سائر الأيام؛ أنا كذلك أصنع الخير.
لكن اليهود وهم يريدون أن يثيروا مشكلة مع المسيح؛ اعتبروا قوله: "أبي يعمل" تعظيماً لنفسه وادعاءً للبنوة الحقيقية، فهذا القول (البنوة) - المعهود على المعنى المجازي لديهم - اعتبروه من المسيح كفراً وتجديفاً، وأن معناه أنه "معادلاً نفسه بالله"، فزاد حرصهم على قتله "فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً: إن الله أبوه معادلاً نفسه بالله" (يوحنا 5/18).
فرد عليهم المسيح بخطبة طويلة (انظر يوحنا 5/19-47) أكد فيها جملة من المعاني التي تدفع فريتهم، وتكشف زيف ادعائهم، وتفند استدلال النصارى بهذا النص على ألوهيته، ولسوف نستخلص هذه المعاني من كلام المسيح، ونرتبها حسب موضوعها:
أولاً: أكد المسيح تبعيته للأب حين عمل في السبت، فإنه لا يعمل عملاً إلا وهو موافق فيه ربه "فأجاب يسوع وقال لهم: الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).
ثانياً : تحدث عن أمور عظيمة دفعها الله إليه " لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء، لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن ... لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً" (يوحنا 5/21-27)، لكن هذه العطايا جميعاً أعطيت له من الله، ولا يعني ذلك أنه إله، فالإله يصنع هذا كله من نفسه، ومن غير أن يدفع إليه أحد سلطانه.
لقد أوضح المسيح أن هذه العطايا لن تجعله إلهاً، لماذا؟ لأنها دفعت إليه مع اعتبار إنسانيته، لا ألوهيته ، يقول: " وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان" (يوحنا 5/27)، وليس لأنه ابن الله.
وأكد المسيح على أنه ليس له سلطان من نفسه، وأنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/30)، نعم لأنه ابن الإنسان، وليس لأنه ابن الله بالطبيعة أو الأقنوم الثاني المتجسد في الناسوت كما زعمت المجامع الكنسية.
وهذا السلطان العظيم دفعه الله إليه، لأمرين: أولهما: " لأن الآب يحب الابن، ويريه جميع ما هو يعمله" ، وثانيهما: ليثبت دعواه بالنبوة، فيتعجبوا ويؤمنوا به ويكرموه "وسيريه أعمالاً أعظم من هذه لتتعجبوا أنتم .... لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب، من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله ... لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها، هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها؛ هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني" (يوحنا 5/20، 23، 36).
ثالثاً: أكد المسيح شهادة الله له بالصدق، فقال: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً، الذي يشهد لي هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق ... والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي، لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته" (يوحنا 5/31-37).
وهذه الشهادة مسجلة في الكتب السابقة التي كانت تشهد له "فتشوا الكتب، لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي ... لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني" (يوحنا 5/39، 47)، ولا يوجد في شيء من كتب موسى التي تحمل شهادة الله المقبولة عند المسيح واليهود، لا يوجد في شيء منها البشارة بإله يتجسد ويصلب، بل كانت تشهد بمجيء نبي كريم، ألا يزعمون بأن موسى بشّر بالمسيح حين قال: "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك" (التثنية 18/18)؟
وممن شهد للمسيح بالحق النبيُّ العظيم يوحنا المعمدان، لكن المسيح يستغني عن هذه الشهادة الصادقة من المعمدان بشهادة الله المسجلة في كتبهم التي يؤمنون بها " أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق، وأنا لا أقبل شهادة من إنسان ... وأما أنا فلي شهادة أعظم من يوحنا" (يوحنا 5/33-36)، وليس في كلام المعمدان عن المسيح ما يشير إلى ألوهية المسيح، بل أرسل يسأل المسيح إن كان هو المسيح المنتظر الذي تنتظره اليهود أم لا؟ (انظر متى 11/3).
رابعاً: أكد المسيح المغايرة بينه وبين الله حين قال: "لأن الآب يحب الابن، ويريه جميع ما هو يعمله .. الذي يشهد لي هو آخر .. والآب نفسه الذي أرسلني يشهد .. لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب" (يوحنا 5/20، 32، 37، 45)، فكل هذا يشهد بأن المسيح غير الله، فالمحبوب غير المحِب، والشاهد غير الذي يُشهد له، والمرسِل غير المرسَل، والشاكي غير المشتكى إليه.
خامساً: أخبر المسيح اليهود أن الإيمان به والتصديق بكلامه هو سبيل الحياة الأبدية "الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة" (يوحنا 5/24).
وأما الذين لا يؤمنون به فسيصدق فيهم قول المسيح: "ولا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم حياة .. ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم، أنا قد أتيت باسم أبي، ولستم تقبلونني، إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه، كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟" (يوحنا 5/40-44).
وهكذا نرى بأن المسيح لم يجعل نفسه معادلاً للإله الواحد الحق، ولا ادعى أن ما أوتيه من سلطان من عند نفسه، بل أقر بأنه عطية الله التي أكرمه بها.
بكورية المسيح بين الأبناء
لكن النصارى يرون تميزاً مستحقاً للمسيح في بنوته عن سائر الأبناء، فهم لا ينازعون في صحة الإطلاق المجازي عندما ترد لفظ البنوة بحق سائر المخلوقات.
لكن النـزاع إنما يكمن في تلك الأوصاف التي أطلقت على المسيح ويثبتها النصارى على الحقيقة محتجين بأمور، منها: أنه قد جاء وصف المسيح بأنه الابن البكر أو الوحيد لله. (انظر عبرانيين 1/6، يوحنا 3/18) أو أنه سمي ابن الله العلي ( انظر لوقا 1/32، 76)، أو أنه ابن ليس مولوداً من هذا العالم كسائر الأبناء، بل هو مولود من السماء، أو من فوق. (انظر يوحنا 1/18).
ولكن ذلك كله تثبت النصوص أمثاله لأبناء آخرين.
فالبكورية وصف بها إسرائيل: " إسرائيل ابني البكر" (الخروج 4/22-23).
وكذا إفرايم "لأني صرت لإسرائيل أباً، وإفرايم هو بكري" (إرميا 31/9).
وكذا داود "هو يدعوني: أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أيضاً أجعله بكراً، فوق ملوك الأرض علياً" (المزمور 89/26-27).
ولئن قيل في المسيح أنه ابن الله العلي، فكذلك سائر بني إسرائيل "وبنو العلي كلكم" (المزمور 82/6).
وكذا تلاميذ المسيح فهم أيضاً بنو العلي " أحبوا أعداءكم ... فيكون أجركم عظيماً، وتكونوا بني العلي" (لوقا 6/35).
الابن النازل من السماء
وتعلق مؤلهو المسيح بما ذكرته الأناجيل عن المسيح الذي أتى من فوق أو من السماء، و"الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع" (يوحنا 3/31)، وهم يرون صورة ألوهيته مشرقة في قوله: " أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (يوحنا 8/23)، فدل ذلك - وفق رأي النصارى - على أنه كائن إلهي فريد، وهو ابن لا كسائر الأبناء.
لكن المقصود من المجيء السماوي هو إتيان المواهب والشريعة لا إتيان الذات، وهو أمر يستوي به مع سائر الأنبياء، ومنهم يوحنا المعمدان فقد سأل المسيح اليهود: "معمودية يوحنا من أين كانت من السماء؟ أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، فيقولوا لنا: فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، نخاف من الشعب..." (متى 21/25-26).
وأما النازلون على الحقيقة من السماء فهم كثر، ولا تعتبر النصارى أيا منهم آلهة، منهم الملائكة، "لأن ملاك الرب نزل من السماء" (متى 28/2).
وكذا صعد أخنوخ إلى السماء "وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد، لأن الله أخذه" (التكوين 5/24)، ومن المعلوم أن "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا 3/13)، فأخنوخ مثله، ولا يقولون بألوهيته.
وكذا إيليا صعد إلى السماء "ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء" (الملوك (2) 2/11).
كما تذكر الأناجيل أن التلاميذ، هم أيضاً مولودون من فوق أو من الله، أي هم مؤمنون به، ففي يوحنا: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" (يوحنا 1/12). فالمقصود بالولاد؛ الولاد الروحي، بحيث يتغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً، كأنه ولد ثانية، ويحدث ذلك عند توبته وإيمانه.
والمؤمنون بالمسيح جميعاً مولودون من فوق بما أعطاهم الله من الإيمان، فهم كسائر المؤمنين كما قال المسيح: "الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنا 3/3).
وكذا قال: "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1)، فكل "من يصنع البر مولود منه" (يوحنا (1) 2/29).
وقول المسيح : " أما أنا فلست من هذا العالم " ليس دليلاً على الألوهية بحال، فمراده اختلافه عن سائر البشر باستعلائه على العالم المادي، بل هو من فوق ذلك الحطام الذي يلهث وراءه سائر الناس.
وقد قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً بعد أن لمس فيهم حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، فقال: " لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، لكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم" (يوحنا 15/19).
وفي موضع آخر قال عنهم: " أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لست من العالم" ( 17/14-15)، فقال في حق تلاميذه ما قاله في حق نفسه من كونهم جميعاً ليسوا من هذا العالم، فلو كان هذا على ظاهره، وكان مستلزماً الألوهية، للزم أن يكون التلاميذ كلهم آلهة، لكن تعبيره في ذلك كله نوع من المجاز، كما يقال: فلان ليس من هذا العالم، يعني أنه لا يعيش للدنيا ولا يهتم بها، بل همُّـهُ دوماً رضا الله والدار الآخرة.
ثالثاً : نصوص الحلول الإلهي في المسيح
ويرى النصارى أن بعض النصوص المقدسة تفيد حلولاً إلهياً في عيسى ، منها قوله: "لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ، وأنا فيه" (يوحنا 10/38)، وفي موضع آخر: "الذي رآني فقد رأى الآب ... الآب الحال فيّ " (يوحنا 14/9-10)، ويبقى أقوى أدلة النصارى على ألوهية المسيح قوله: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10/30).
فهذه النصوص أفادت - حسب قول النصارى - أن المسيح هو الله، أو أن لله حلولاً حقيقياً فيه.
حلول الله المجازي على مخلوقاته
وقد تتبع المحققون هذه النصوص، فأبطلوا استدلال النصارى بها، وبينوا سوء فهمهم لها.
فأما ما جاء من ألفاظ دلت على أن المسيح قد حلّ فيه الله - على ما فهمه النصارى - فإن فهمهم لها مغلوط. ذلك أن المراد بالحلول حلول مجازي كما جاء في حق غيره بلا خلاف، ونقول مثله في مسألة الحلول في المسيح.
فالله - حسب الكتاب المقدس- يحل في كثيرين ، أي حلول المواهب الإلهية، لا حلول الذات العلية التي تتن الحلول في المخلوقات المحدودة، فقد جاء في رسالة يوحنا "من اعترف بأن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه، وهو في الله، ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه" (يوحنا (1) 4/15-16)، فحلول الله في الذين اعترفوا بالمسيح ليس بحلول ذوات، وإلا كانوا جميعاً آلهة.
ومثله فإن الله يحل مجازاً في كل من يحفظ الوصايا ولا يعني ذلك ألوهيتهم، ففي رسالة يوحنا: "ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه، وهو فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا" (يوحنا (1) 3/24)، فليس المقصود تقمص الذات الإلهية لهؤلاء الصالحين، بل حلول هداية الله وتأييده عليهم.
وكذا الذين يحبون بعضهم لله؛ فإن الله يحل فيهم برحمته، لا بذاته "إن أحب بعضنا بعضاً؛ فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكملت فينا، بهذا نعرف أننا نثبت فيه، وهو فينا" (يوحنا (1) 4/12-13).
وكما في قوله عن التلاميذ: " أنا فيهم، وأنت في" (يوحنا 17/22).
ومثله يقول بولس عن المؤمنين: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً" (كورنثوس (2) 6/16-17)، ويقول: "وأما أنتم فجسد المسيح" (كورنثوس (1) 12/27)، فالحلول في كل ذلك مجازي.
فقد أفادت هذه النصوص حلولاً إلهياً في كل المؤمنين، وهذا الحلول هو حلول مجازي بلا خلاف، أي حلول هدايته ومواهبه وتوفيقه، ومثله الحلول في المسيح، ومن زعم الفرق بين الحلولين وجب عليه إحضار الدليل.
كما تذكر التوراة حلول الله - وحاشاه - في بعض مخلوقاته على الحقيقة، ولا تقول النصارى بألوهية هذه الأشياء، ومن ذلك ما جاء في سفر الخروج "المكان الذي صنعته يا رب لسكنك" (الخروج 15/17)، فقد حل وسكن في جبل الهيكل، ولا يعبد أحد ذلك الجبل.
وفي المزامير: "لماذا أيتها الجبال المسمنة ترصدون الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد" (المزمور 68/16).
ولعل من أهم نصوص الحلول المزعوم قول المسيح: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10/30)، وقوله: "من رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14/9)، فهل يدل النصان على ألوهية المسيح؟
أ. قول المسيح: "أنا والآب واحد"
القول المنسوب إلى المسيح: "أنا والآب واحد" أهم ما يتعلق فيه أولئك الذين يقولون بألوهية المسيح، وقد فهموا منه وحدة حقيقية جهر بها المسيح أمام اليهود، وفهموا منه أنه يعني الألوهية لذاته.
ولفهم النص نعود فنقرأ السياق من أوله، فنرى بأن المسيح كان يتمشى في رواق سليمان في عيد التجديد، فأحاط به اليهود وقالوا: "إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً.
أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم: خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي، أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي، أنا والآب واحد" (يوحنا10/24-30).
فالنص من أوله يتحدث عن قضية معنوية مجازية ( )، فخراف المسيح أي تلاميذه يتبعونه، فيعطيهم الحياة الأبدية، أي الجنة، ولن يستطيع أحد أن يخطفها منه (أي يبعدها عن طريقه وهدايته) لأنها هبة الله التي أعطاه إياها، ولا يستطيع أحد أن يسلبها من الله الذي هو أعظم من الكل، فالله والمسيح يريدان لها الخير، فالوحدة وحدة الهدف لا الجوهر.
يقول الدكتور واين جردوم أستاذ علم اللاهوت مصححاً هذا المعنى للوحدة في سياق حديثه عن بدعة (المودالية أو الشكلية أو السابليانية): "الآية السابقة (يوحنا 10/30) جاءت في سياق يؤكد فيه يسوع أنه سينجز كل ما أوكله إليه الآب، ويخلص كل الذين أعطاهم إياه الآب، وتعني أن يسوع والآب واحد في القصد"( )، نعم هما واحد في القصد والهدف، لا الذات.
ومثل هذا المعنى نقله المفسر وليم باركلي عن بعض المفسرين: "إن الكلمة مرتبطة بما قبلها، ويسوع هنا يتحدث عن رغبة الهداية ورعاية الله لها وقدرته الاعجازية حول ذلك، وكأنه يقول لهم: أنا والآب واحد في القيام بكل هذه الأعمال"( ).
لكن اليهود في رواق سليمان كان فهمهم لكلام المسيح سقيماً - أشبه ما يكون بفهم النصارى له -، لذا "تناول اليهود أيضاً حجارة ليرجموه ... لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً".
فعرف المسيح خطأ فهمهم لكلامه، واستغرب منهم كيف فهموا هذا الفهم وهم يهود يعرفون لغة الكتب المقدسة في التعبير المجازي فأجابهم: " أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة؟" ومقصده ما جاء في مزامير داود: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (المزمور 82/6)، أي فكيف تستغربون بعد ذلك مثل هذه الاستعارات، وهي معهودة في كتابكم الذي جعل بني إسرائيل آلهة بالمعنى المجازي للكلمة؟! فالمسيح أولى بهذه الألوهية المجازية من سائر بني إسرائيل "إن قال: آلهةً لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله .. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له: إنك تجدف، لأني قلت: إني ابن الله؟ إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي.." (يوحنا10/37).
والنص في نسخة الرهبانية اليسوعية أكثر وضوحاً، وفيه: "أجابهم يسوع: ألم يكتب في شريعتكم: قلت: إنكم آلهة؟ فإذا كانت الشريعة تدعو آلهةً من ألقيت إليهم كلمة الله .. فكيف تقولون للذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم: أنت تجدف، لأني قلت : إني ابن الله".
يقول الأب متى المسكين تعليقاً على هذه الفقرة: "المسيح يستشهد بالمزمور الثاني والثمانين (الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي .. أنا قلت إنكم آلهة ، وبنو العلي كلكم)، فالوحي الإلهي هنا يعطي صفة الآلهة للمجمع الذي يجتمع على الحكم على أساس الحكم بكلمة الله .. يأتي رداً على ادعائهم أن كون المسيح إلهاً يعتبر تجديفاً، في حين أن كل الذين صارت إليهم كلمة الله يدعون في الناموس آلهة" ( ).
وهكذا وبهذا الشاهد من المزامير صحح المسيح لليهود ثم للنصارى الفهم السيئ والحرفي لوحدته مع الآب.
وهذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة معهود في النصوص خاصة في إنجيل يوحنا، إذ يقول عن التلاميذ على لسان المسيح: "ليكون الجميع واحداً كما أنت أيها الآب فيّ، وأنا فيك، ليكونوا (أي التلاميذ) هم أيضاً واحداً فينا .. ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد... أنا فيهم وأنت فيّ" (يوحنا 17/20-23)، فالحلول في المسيح والتلاميذ حلول معنوي فحسب، وإلا لزم تأليه التلاميذ، فالنص الإنجيلي يستخدم كلمة (كما) والتي تفيد المماثلة بين الطرفين المتقابلين، والمعنى: كما المسيح والآب واحد، فإن التلاميذ والمسيح والآب أيضاً واحد، أي وحدة الهدف والطريق، لا وحدة الذوات، فإن أحداً لا يقول باتحاد التلاميذ ببعضهم أو باتحاد المسيح فيهم بذاته.
وفي موضع آخر ذكر يوحنا نفس المعنى فقال عن التلاميذ: " أيها الأب القدوس، احفظهم في اسمك الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن" (يوحنا 17/11)، أي كما أن وحدتنا هي وحدة هدف لتكن وِحدتهم بنا كذلك.
ومثله قوله: "تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم فيّ، وأنا فيكم" (يوحنا 14/20)، فهل هذه النصوص تتحدث عن وحدة ذوات بين الله والمسيح والتلاميذ أم تتحدث عن وحدة مجازية، يشترك فيها كل المؤمنين، كمحبة المسيح أو الدعوة إلى مكارم الأخلاق، فالله والمسيح والأنبياء متحدون في محبة المسيح، وكذلك في الدعوة إلى مكارم الأخلاق؛ من غير أن يقتضي هذا حلول الذوات واتحادها.
ومثل هذه المعاني نستطيع قراءتها في قول بولس: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً" (كورنثوس (2) 6/16-17).
ومثله في قوله: "إله وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل، وفي كلكم" (أفسس 4/6).
وكذلك مثله قول المسيح لتلاميذه: " أنا الكرمة، وأنتم الأغصان، الذي يثبت في، وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير" (يوحنا 15/5)، أي من يحبني ويطيعني ويؤمن بي فهذا يأتي بثمر كثير.
وهكذا يتبين أن المعنى الصحيح لقوله: "لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ، وأنا فيه" (يوحنا 10/38) أي أن الله يكون في المسيح، أي بمحبته وقداسته وإرشاده وتسديده، لا بذاته المقدسة التي لا تحل في الهياكل "العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي" (أعمال 7/48).
وقد تكرر هذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة في نصوص كثيرة، منها قول بولس: " أنا غرست، وأبلُّوس سقى ... الغارس والساقي هما واحد .. فإننا نحن عاملان مع الله" (كورنثوس (1) 3/6-9)، فوحدة بولس مع أبلوس وحدة الهدف المشترك، لا الجوهر والذات.
ومثله جاء في التوراة في وصف الزوجين "يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكونان جسداً واحداً" (التكوين 2/24) أي كالجسد الواحد، لا أن ذاتهما قد أضحت واحدة، وعليه لا يصح الفهم الظاهري السطحي لقوله : "يكون الاثنان جسداً واحداً، إذاً ليسا بعدُ اثنين، بل جسد واحد" (متى 19/5)، ومثله أيضاً لا يصح الفهم الظاهري لقول لابان ليعقوب ابن أخته: "إنما أنت عظمي ولحمي" (التكوين 29/14)، بل المراد بيان المحبة والوحدة المجازية فحسب.
ومن النصوص التي تفيد وحدة الهدف والغاية بين التلاميذ ؛ مع استعارتها للفظ يدل ظاهره على وحدة الجسد، وليس هذا الظاهر مقصوداً ولا صحيحاً، وذلك في قوله: " هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض" (رومية 12/5)، ونحوه في قوله : "ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح" (كورنثوس (1) 6/15)، (وانظر صموئيل (2) 19/12، كورنثوس (1) 12/27)، (أفسس 2/14). وغير ذلك من أمثلة وحدة المشيئة والهدف والمحبة ، لا الذات، التي تماثل قول المسيح: "أنا والآب واحد".
ومثل هذا الاستخدام للوحدة المجازية، وحدة الهدف والمشيئة ورد في القرآن عن النبي من غير أن يفهم منه أحد من المسلمين الوحدة الحقيقية، وحدة الذات، وذلك في قوله تعالى، وهو يخاطب نبيه: ﴿إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه﴾ ( الفتح: 10)، فلم يقل أحد من المسلمين أن الله ونبيه ذات واحدة كما صنع النصارى في قول المسيح: "أنا والآب واحد".
ب. قول المسيح: "الذي رآني فقد رأى الآب"
ومن أهم ما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح قوله: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14/9)، إذ فهموا منه أن الله الآب هو المسيح، وأن رؤية المسيح هي بالحقيقة رؤية لله عز وجل.
إن هذه الطريقة السطحية في الفهم سقيمة كلاء، وتعرضنا لعدد من الصعوبات المشينة التي ترقى لاعتبارها تجديفاً صارخاً على الله وإساءة إلى مقام الألوهية المنزه عن النقائص والمعايب البشرية، فلئن كان رؤية اليهود للمسيح تعتبر رؤية للآب؛ فإنه - بالضرورة – يعتبر صفع اليهود للمسيح وبصقهم عليه (انظر متى 27/30) صفعاً وبصقاً على الآب خالق السماوات والأرض.
وكذلك فإن جهل المسيح بموعد الساعة (انظر مرقس 13/32-33) يعتبر جهلاً للآب، وكذلك فإن تناول المسيح الطعام والشراب (انظر لوقا 24/42-43) يكون – وفق هذا المنطق السطحي – طعاماً وشراباً لله الآب، فهل الله العظيم خالق السماوات والأرض يأكل ويشرب ويخرج فضلات هذا الطعام والشراب، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وهذا القول الشنيع يتطابق مع بدعة المودالية أو الشكلية، لذا يقول الدكتور واين جردوم أستاذ علم اللاهوت في تفسير هذا النص: "الآية الأخيرة (يوحنا 14/9) تعني ببساطة أن يسوع يكشف طبيعة الله الآب بشكل كامل"( ).
ولفهم النص الفهم الصحيح نعود إلى سياقه، فالسياق من أوله يخبر أن المسيح قال لتلاميذه: "أنا أمضي لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددتُ لكم مكاناً؛ آتي أيضاً وآخذكم " وقصده بالمكان الملكوت.
فلم يفهم عليه توما قوله، وقال: " يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق"، لقد فهم - خطأً- أن المسيح يتحدث عن طريق حقيقي وعن رحلة حقيقية، فقال له المسيح مصححاً ومبيناً أن الرحلة معنوية وليست حقيقية مكانية: "أنا هو الطريق والحق والحياة " (يوحنا14/1-6)، أي أن اتباع شرعه ودينه هو وحده الموصل إلى رضوان الله وجنته.
ثم طلب فيلبُّس من المسيح أن يريهم الله، فنهره المسيح وقال له: " ألست تعلم أني أنا في الأب، والأب فيّ، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال فيّ هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10) أي كيف تسأل ذلك يا فيلبس، وأنت يهودي تعلم أن الله لا يرى، فالذي رآني رأى الآب، حين رأى أعمال الله (المعجزات) التي أجراها على يد المسيح.
يشبه هذا النص تماماً ما جاء متى " ثم يقول الملَك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم، لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني .. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك أو عطشاناً فسقيناك، ومتى رأيناك غريباً فآويناك .. فيجيب الملَك، ويقول لهم: الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم" (متى 25/34-40)، ومن المعلوم أن أحداً في الدنيا لا يقول بأن الجائع المطعم هو الملَك رغم قوله: "فبي فعلتم"، إذ هذا على سبيل تقريب المعاني ، لا الحلول والتماهي بين الذوات.
فمثله كمثل قول الشاعر:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنـي أبصرتـه وإذا أبصرتَه كنـتُ أنا
ويشبهه أيضاً ما جاء في إنجيل مرقس "فأخذ ولداً، وأقامه في وسطهم، ثم احتضنه، وقال لهم: من قبِل واحداً من أولاد مثل هذا باسمي يقبَلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا، بل الذي أرسلني" (مرقس 9/37)، فالنص لا يعني أن الطفل الذي رفعه المسيح هو ذات المسيح، ولا أن المسيح هو ذات الله، ولكنه يخبر - عليه الصلاة والسلام - أن الذي يصنع براً بحق هذا الطفل، فإنما يصنعه طاعة ومحبة للمسيح، لا بل طاعة لله وامتثالاً لأمره.
وكما أن من يرى المسيح فكأنه يرى الله، فإنه من قبِل المسيح وتلاميذه فكأنما قبِل الله عز وجل، ومن كفر بهم ورفض دعوتهم فإنما رفض في الحقيقة دعوة الله ، لذا يقول المسيح: "الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني" (لوقا 10/16).
ويؤكده مرة أخرى فيقول: "من يَقَْبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني" (متى 10/40)، وكذا من رأى المسيح فكأنه رأى الآب الذي أرسله، لأن "الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10).
ولما كان بولس يضطهد التلاميذ قال له المسيح في رؤيته المزعومة: "شاول شاول، لماذا تضطهدني .. أنا يسوع الذي أنت تضطهده" (أعمال 26/14-15)، وهو لم يضطهد المسيح حقيقة، بل لم يره ، لكن من اضطهد تلاميذ المسيح فقد اضطهد المسيح، ومن قبِلهم فقد قبِل معلمهم، وقبِل الرب الذي أرسله.
ومثله قول بطرس لحنانيا الكاهن مبكتاً إياه على إخفاء بعض ثمن الحقل على التلاميذ "أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر، أنت لم تكذب على الناس، بل على الله" (أعمال 5/4-5)، فالكذب الذي صنعه حنانيا خداع لله، وإن كان في ظاهره مخادعة للناس (التلاميذ)، ولا يعني هذا النص أبداً أن الناس والله ذات واحدة.
وهذا السياق "الذي رآني فقد رأى الآب" الذي يفيد الاشتراك في الحكم بين المسيح والله، والذي عبر عنه هنا بالرؤية معهود في العهد القديم أيضاً، إذ لما رفض بنو إسرائيل تولية ابني النبي صموئيل على بني إسرائيل بعد أبيهما "وقالوا له: هوذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل ... فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا " (صموئيل (1) 8/4-7)، إذ رفضهم طاعة النبي صموئيل هو عصيان لله في الحقيقة.
والرؤية في قوله: "الذي رآني فقد رأى الآب" معنوية مجازية، أي رؤية البصيرة، لا البصر، وهي متحققة لكل المؤمنين الذين هم من الله كما قال المسيح : "ليس أن أحداً رأى الآب إلا الذي من الله، هذا قد رأى الآب" (يوحنا 6/46)، ومن المعلوم أن كل المؤمنين هم من الله " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1)، فكلهم رأى الله ببصيرته رؤية المعرفة والإيمان.
ومما يؤكد أن الرؤيا معنوية أنه قال في تمام النص الذي نحن بصدده: " بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، أما أنتم فترونني" (يوحنا 14 /19)، فهو لا يتحدث عن رؤية حقيقية، إذ يتحدث عن رفعه للسماء، فحينذاك لن يراه العالم ولا التلاميذ، لكنه يتحدث عن رؤية معرفية إيمانية يراها التلاميذ، وتعشى عنها وجوه العالم الكافر.
ويشهد له ما جاء في متى: " ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن " (متى 11/27)، فهو المقصود من الرؤية المذكورة في النصوص السابقة.
ونحوه قوله: "فنادى يسوع وقال: الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني، والذي يراني يرى الذي أرسلني ... لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية، ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية. فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" (يوحنا 12/ 44-51)، فالمقصود بكل ذلك رؤية المعرفة بالبصيرة، لا البصر.
وقوله: " والذي يراني يرى الذي أرسلني" ولا يمكن أن يراد منه أن الذي رأى الابن المرسَل قد رأى الآب المرسِل ، إلا إذا كان المرسِل هو المرسَل، وهو محال للمغايرة التي بينهما كما قال المسيح: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/28)، وقال: "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل" (يوحنا 10/29).
وليس من أحد من النصارى يرضى بالقول بأن الآب هو الابن، فإنهم يقولون بتمايز الأقانيم ، وإن زعموا أنها متوحدة في جوهرها، يقول الأب متى المسكين: " الإيمان المسيحي يقول: إن الأقانيم في الله متميزة، فالآب ليس هو الابن، ولا الابن هو الآب، وكل أقنوم له اختصاصه الإلهي" ( ) ، وعليه فمن رأى الابن لم يرَ الآب.
وأما قول المسيح: "أنا هو الطريق والحق والحياة" فيقصد فيه المسيح الدعوة إلى التزام تعليمه ودينه الذي أنزله الله عليه، فهو وإخوانه الأنبياء - بتعاليمهم وهديهم - الطريق الموصل إلى الجنة دار الخلود، كما قال في موطن آخر: "ليس كل من يقول لي: يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي" (متى 7 /21)، فالخلاص يكون بالعمل الصالح والبر " أقول لكم: إنكم إن لم يزد بِرّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات.. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم" (متى 5/20-23).
ويتأكد ضعف الاستدلال بهذا الدليل المزعوم "الذي رآني فقد رأى الآب" إذا آمنا أن رؤية الله الآب ممتنعة في الدنيا، كما قال يوحنا: " الله لم يره أحد قط" (يوحنا 1/18)، وكما قال بولس: "لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية " (تيموثاوس (1) 6/16)، فيصير النص لزاماً إلى رؤية المعرفة والبصيرة كما تقدم بيانه.
ج. معية المسيح الأبدية
ويتعلق الزاعمون بألوهية المسيح بما جاء في أقوال المسيح من نصوص تتحدث عن معية المسيح للتلاميذ ومن بعدهم من المسيحيين، وأنها معية دائمة إلى الأبد، فقد قال وهو يصعد إلى السماء: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28/20)، وقال: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم" (متى 18/20)، ففهم منه الواهمون حضوراً ومعية حقيقيين ، واعتبروا هذه المعية دليلاً على الألوهية، فالمسيح موجود في كل زمان ومكان، كما الله موجود في كل زمان ومكان ( ).
وهنا نلحظ خطأين متراكبين: أولهما: في فهم معية الله لخلقه على الحقيقة، والثاني: في فهم معية المسيح.
فالكتاب المقدس لم يتحدث عن معية حقيقية لله أو للمسيح، فالله تعالى لا يحل في مخلوقاته، ولا يخالطهم، ومعيته لخلقه - تبارك وتعالى - أمر مجازي، معية النصر والتأييد والهداية، ومعية المسيح للتلاميذ هي كذلك معية إرشاد ومعية تعاليم، وقد قال الأنبا غريغوريوس في موسوعته تعليقاً على خاتمة إنجيل متى: "وهذه المعية ليست معية ظاهرة مادية، بل معنوية، بمعنى أنه أعطاهم المواهب والقدرات" ( ).
وهذا النوع من المعية المجازية لا تكاد تحصى نصوصها - في الكتاب - لكثرتها، ومنها قول يحزيئيل بن زكريا مثبتاً اليهود في حربهم " قفوا اثبتوا، وانظروا خلاص الرب معكم، يا يهوذا وأورشليم لا تخافوا ولا ترتاعوا، غداً اخرجوا للقائهم، والرب معكم" (الأيام (2) 20/17)، ومثله قول موسى: "لأن الرب إلهكم سائر معكم، لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلصكم" (التثنية 20/4)، فالرب معهم بخلاصه وتأييده، لا أنه نزل من السماء فوقف بينهم يقاتل معهم.
ومعية الرب لبني إسرائيل تستلزم معية مقابلة من بني إسرائيل لربهم، وهي معية الإقبال على الله والتذلل بين يديه، فقد قال لهم عزريا بن عوديد : "الرب معكم ما كنتم معه، وإن طلبتموه يوجد لكم، وإن تركتموه يترككم" (الأيام (2) 15/2)، وكل هذا يثبت مجازية هذه المعية ( ).
وبخصوص المعية الحقيقية المزعومة للمسيح، فإن المسيح قد نفاها عن نفسه حين أخبر تلاميذه بأنه سيغادر الأرض ولن يبقى معهم، فقد قال لهم: "الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين" (متى 26/11)، وقال: "أنا معكم زماناً يسيراً بعدُ، ثم أمضي إلى الذي أرسلني" (يوحنا 7/33)، وقال: "ولستُ أنا بعدُ في العالم" (يوحنا 17/11)، فحضوره معهم حضور روحي معنوي، كما في قول بولس لأهل كولوسي: "فإني وإن كنت غائباً في الجسد، لكني معكم في الروح فرحاً وناظراً ترتيبكم ومتانة إيمانكم في المسيح" (كولوسي 2/5)، ومثله في (كورنثوس (1) 5/3).
د. المسيح صورة الله
ومن أدلة النصارى على ألوهية المسيح ما قاله بولس عنه: "مجد المسيح الذي هو صورة الله" (كورنثوس (2) 4/4)، وفي فيلبي يقول: "المسيح يسوع أيضاً الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائر في صورة الناس" (فيلبي 2/6-7)، ويقول عنه أيضاً: "الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
لكن هذه الأقوال صدرت عن بولس الذي لم يشرف برؤية المسيح ولا التلمذة على يديه، ولا نرى مثل هذه العبارات عند أحد من تلاميذ المسيح وحوارييه، وهذا كاف لإضفاء ظلال الشك والارتياب عليها.
ثم إن الصورة تغاير الذات، وصورة الله هنا تعني نائبه في إبلاغ شريعته أو في القيام بشريعته، كما قال بولس في موضع آخر عن الرجل: " فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه، لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل" (كورنثوس (1) 11/7)، ومعناه أن الله أناب الرجل في سلطانه على المرأة.
كما أن كون المسيح على صورة الله لا يمكن أن يستدل به على ألوهيته، فإن آدم - وفق الكتاب المقدس - يشارك الله في هذه الصورة، فقد جاء في سفر التكوين عن خلقه: "قال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ... فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه" (التكوين 1/26-27).
فإن أصر النصارى على الجمع بين الصورة وألوهية المسيح فإن في الأسفار ما يخطئهم، فقد جاء في إشعيا "اجتمعوا يا كل الأمم ... لكي تعرفوا وتؤمنوا بي ... قبلي لم يصور إله، وبعدي لا يكون، أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص" (إشعيا 43/9-11).
هـ. السجود للمسيح
وتتحدث الأناجيل عن سجود بعض معاصري المسيح له، ويرون في سجودهم له دليل ألوهيته واستحقاقه للعبادة، فقد سجد له أب الفتاة النازفة "فيما هو يكلمهم بهذا إذا رئيس قد جاء، فسجد له " (متى 9/18)، كما سجد له الأبرص "إذا أبرص قد جاء وسجد له " (متى 8/2)، وسجد له المجوس في طفولته " فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم " ( متى 2/11).
فيما رفض بطرس سجود كرنيليوس له، وقال له : "قم أنا أيضاً إنسان" (أعمال 10/25)، فقد اعتبر السجود نوعاً من العبادة لا ينبغي إلا لله، وعليه يرى النصارى في رضا المسيح بالسجود له دليلاً على أنه كان إلهاً.
ولا ريب أن السجود مظهر من مظاهر العبادة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن كل سجود عبادة، فمن السجود ما هو للتبجيل والتعظيم فحسب، فقد سجد إبراهيم إكراماً لبني حث "فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبني حثّ" (التكوين 23/7).
كما سجد يعقوب وأزواجه وبنيه لعيسو بن إسحاق حين لقائه " وأما هو فاجتاز قدامهم، وسجد إلى الأرض سبع مرات، حتى اقترب إلى أخيه.. فاقتربت الجاريتان هما وأولادهما وسجدتا، ثم اقتربت ليئة أيضاً وأولادها وسجدوا، وبعد ذلك اقترب يوسف وراحيل، وسجدا " (التكوين 33/3-7).
كما سجد موسى لحماه (والد زوجته) حين جاء من مديان لزيارته "فخرج موسى لاستقبال حميه، وسجد، وقبّله" (الخروج 18/7)، وسجد إخوة يوسف تبجيلاً؛ لا عبادة لأخيهم يوسف "أتى إخوة يوسف، وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض" (التكوين 42/6)، واستمرت هذه العادة عند بني إسرائيل " وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا، وسجدوا للملك " (الأيام (2) 24/7).
وكل هذه الصور وغيرها كثير لا تفيد أكثر من الاحترام، وعليه يحمل سجود من سجد للمسيح .
وأما رفض بولس وبطرس لسجود الوثنيين لهما، فكان بسبب أن مثل هؤلاء يكون سجودهم من باب العبادة، لا التعظيم، خاصة أنهم يرون معجزات التلاميذ، فقد يظنونهم آلهة لما يرونه من أعاجيبهم.
رابعاً: نصوص نسبت صفات الله إلى المسيح
أ. أزلية المسيح
ويتحدث النصارى عن المسيح الإله الذي كان موجوداً في الأزل قبل الخليقة، ويستدلون لذلك بأمور، منها ما أورده يوحنا على لسان المسيح أنه قال: " إن إبراهيم تشوق إلى أن يرى يومي هذا، فقد رآني وابتهج بي، من قبل أن يكون إبراهيم؛ كنتُ أنا " (يوحنا 8/56-58)، ففهموا منه - باطلاً - أن للمسيح وجوداً قبل إبراهيم، مما يعني - وفق فهمهم - أنه كائن أزلي.
وأيدوا استشهادهم بما ذكره يوحنا عن المسيح: "هوذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين، والذين طعنوه .. أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية" (الرؤيا 1/7-8). أي الأول والآخر.
كما جاء في مقدمة يوحنا ما يفيد وجوداً أزلياً للمسيح قبل خلق العالم " في البدء كانت الكلمة، الكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله" (يوحنا 1/1-2). فهذه النصوص مصرحة - حسب رأي النصارى - بأزلية المسيح وأبديته، وعليه فهي دليل ألوهيته.
ويخالف المحققون في النتيجة التي توصل إليها النصارى، إذ ليس المقصود من الوجود قبل إبراهيم الوجود الحقيقي للمسيح كشخص، بل المقصود الوجود القدري والاصطفائي، أي أن اختيار الله للمسيح واصطفاؤه له قديم، كما في قول بولس عنه - حسب الرهبانية اليسوعية -: "وكان قبل اصطفي قبل إنشاء العالم" (بطرس (1) 1/20)، ومثله قال بولس عن نفسه وأتباعه: "كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين" (أفسس 1/4) أي اختارنا بقَدَره القديم كما اختار المسيح واصطفاه، ولا يفيد أنهم وجدوا أو أنه وُجِد حينذاك.
وهذا الوجود القديم للمسيح بمعنى الاصطفاء الإلهي والمحبة الإلهية له هو المجد الذي منحه الله المسيح، كما في قوله: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يوحنا 17/5)، وهو المجد الذي أعطاه لتلاميذه حين اصطفاهم واختارهم للتلمذة كما الله اختاره للرسالة " أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يوحنا 17/24)، ومحبة الشيء لا تستلزم وجوده، فقد يحب المرء المعدوم أو المستحيل، الذي لم ولن يوجد.
وقبل أن نفسر معنى الرؤية الإبراهيمية للمسيح ننبه إلى أن الرؤية تكون على نوعين : رؤية البصر المعروفة، ورؤية البصيرة بمعنى المعرفة، كما يقول القائل: رأيت الإسلام أعظم الأديان. أو رأيت عنترة أشجع الفرسان، فهذه رؤية المعرفة.
ورؤية إبراهيم للمسيح رؤية معرفة ، وهو لم ير المسيح قبل خلقه ووجوده الأرضي، لأنه لم يره قطعاً، لذا فقوله: "فقد رآني وابتهج بي"، هو رؤية مجازية معرفية، بمعنى أنه عرف خبري وابتهج لذلك، ومن أنكر ذلك لزمه أن يذكر دليلاً على رؤية إبراهيم للابن الذي هو الأقنوم الثاني، أو أن يثبتوا لجسد المسيح وجوداً زمن إبراهيم .
وقول المسيح: "من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا" (يوحنا 8/56-58)، لا يدل على وجوده في الأزل، وغاية ما يفيده النص - إذا حمل على ظاهره - أن للمسيح وجوداً أرضياً يعود إلى زمن إبراهيم، وزمن إبراهيم لا يعني الأزل.
ثم لو فرضنا - جدلاً - أن المسيح أقدم من إبراهيم وسائر المخلوقات، فإن له من يشاركه في هذه الأقدمية، وهو النبي إرمياء، والذي عرفه الله منذ القدم وقدسه قبل أن يخرج من رحم أمه، إذ يقول عن نفسه: "فكانت كلمة الرب إليّ قائلاً: قبلما صورتكَ في البطن عرفتُك، وقبلما خرجتَ من الرحم قدستُك، جعلتك نبياً للشعوب" (إرمياء 1/4-5)، وقال عنه ابن سيراخ في حكمته: "وهو الذي قُدِّس في جوف أمه" (ابن سيراخ 49/7)، وهذه المعرفة الإلهية لإرمياء - بلا ريب - أشرف من معرفة إبراهيم للمسيح وأقدم، ولا تستلزم وجوداً حقيقياً له على الأرض.
وممن شارك المسيح في هذه الأزلية المدعاة، ملكيصادق كاهن ساليم الذي تنقل الترجمة العربية المشتركة في حاشيتها أن "بعض التقاليد اليهودية تعتبره كائناً إلهياً ومخلصاً سماوياً ، ومن هنا قال النص [أي عبرانيين 7/3 الذي يأتي بعد قليل] على مثال ابن الله"، فما قصة هذا الملكيصادق؟
تجيبنا مخطوطات قمران أن ملكيصادق وُلِد بطريقة عجيبة، فقد حملت به أمه العجوز صوفونيم من غير زرع بشر، لأن "الكاهن نير لم يكن قد نام معها منذ اليوم الذي كان الرب قد أقامه أمام الشعب، فشعرت بالعار، واختبأت الأيام كلها" ثم أخبرت صوفونيم زوجها بخبرحملها ، وماتت فجأة بين يديه، فظهر جبريل لزوجها مبشراً "هذا الطفل الذي ولد منها هو ثمرة حقة، وسأستقبله في الجنة، حتى لا تكون أباً لهبة الله" فلما أراد دفنها نير بمعاونة أخيه نوح "خرج الطفل (ملكيصادق) من صوفونيم الميتة".
وتنقل المخطوطات القمرانية أن الطفل "كان يتكلم بفمه ويبارك الرب"، ففرح نير به، وشكر الله "مبارك الرب إله آبائنا الذي لم يعاقب كهنوتي لأن كلمتك خلقت كاهناً عظيماً في رحم صوفونيم امرأتي" ثم لما بلغ الطفل الأربعين يوماً اختطف من الأرض "وقال الرب لميخائيل: انزل على الأرض، وخذ الطفل ملكيصادق الذي معه، وضعه محفوظاً في جنة عدن، لأن الوقت يقترب [وقت طوفان نوح]، وأنا سأفلت المياه كلها على الأرض .. وسأعيده في سلالة أخرى، وسيكون ملكيصادق رأس الكهنة في هذه السلالة"، وهكذا رفع الطفل إلى السماء، فلم تكن له نهاية على الأرض ( ).
هذا المخلوق العجيب (ملكيصادق) يصفه بولس بالأزلية والأبدية: "ملكيصادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي .. بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين 7/1-3)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكيصادق الذي يشبه بابن الله، لكثرة صور التشابه بينهما، بل هو متفوق على المسيح الذي يذكر النصارى أنه صلب ومات، وله أم بل وأب - حسب ما أورده متى ولوقا -، في حين أن ملكي صادق قد تنـزه عن ذلك كله، ورفع إلى الجنة!
والسؤال: لمَ لا يقول النصارى بمساواة المسيح لملكيصادق ، فقد وضعهما الكتاب في منزلة واحدة "أقسم الرب ولن يندم: أنت [أيها المسيح] كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (المزمور 110/ 4)، فالمسيح وملكيصادق في مرتبة واحدة.
ومن هؤلاء الذين كانوا قبل إبراهيم ويستحقون الأزلية - لو فهمت النصوص على ظاهرها - حكمة البشر أو النبي سليمان الحكيم حين قال عن نفسه وعن حكمة الله التي تجسدت فيه وفي غيره من البشر: "أنا الحكمة أسكن الذكاء، وأجد معرفة التدابير .. الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القديم، منذ الأزل مسحتُ، منذ البدء، منذ أوائل الأرض، إذ لم يكن ينابيع كثيرة المياه، ومن قبل أن تقرر الجبال أُبدئتُ، قبل التلال أُبدئتُ " (الأمثال 8/12-25)، فقد أضحى سليمان أو الحكمة البشرية - وفقاً للفهم الظاهري الحرفي - مسيحاً للرب منذ الأزل.
وقول بعض النصارى أن سفر الأمثال كان يتحدث عن المسيح لا دليل عليه، فسفر الأمثال قد كتبه سليمان كما في مقدمته "أمثال سليمان بن داود" (الأمثال 1/1)، وقد تكرر في مواضع متفرقة منه استمرار سليمان الحكيم في الحديث، وهو يقول: "يا ابني أصغ إلى حكمتي" (الأمثال 5/1)، وانظر (الأمثال 1/8، 3/1، 3/21، 7/1 وغيرها)، فالمتحدث في السفر هو سليمان عليه السلام والحكمة المتجسدة فيه.
وسليمان هو الموصوف بالحكمة في الكتاب المقدس، وأي حكمة؟ حكمة الله، فقد رأى معاصروه فيه حكمة الله "ولما سمع جميع إسرائيل بالحكم الذي حكم به الملك، خافوا الملك، لأنهم رأوا حكمة الله فيه " (الملوك (1) 3/28).
ويمضي السفر ليبين لنا عِظَم حكمة الله التي حلت وتجسدت في سليمان الحكيم، فيقول: "وأعطى الله سليمان حكمة وفهماً كثيراً جداً ... وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر، وكان أحكم من جميع الناس ... وكان صيته في جميع الأمم حواليه ... وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان، من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته" (الملوك (1) 4/29-34).
وفي سفر الأيام "مبارك الرب إله إسرائيل الذي صنع السماء والأرض، الذي أعطى داود الملك ابناً حكيماً صاحب معرفة وفهم، الذي يبني بيتاً للرب وبيتاً لملكه" (الأيام (2) 2/12)، فالحكيم هو سليمان الذي شرفه الله ببناء بيته.
وكلمة "منذ الأزل مسحتُ" لا تدل على المسيح عيسى ابن مريم، إذ "المسيح" لقب أطلق على كثيرين غير المسيح عيسى، ممن مسحهم الله ببركته من الأنبياء كداود وإشعيا. (انظر المزمور 45/7، وإشعيا 61/1)، فلا وجه لتخصيص المسيح بالمسح دون غيره ممن الممسوحين.
وأمام الحرج الذي يسببه نص سفر الأمثال فإن البعض من النصارى يقولون: إن المتحدث في سفر الأمثال هو حكمة الله التي هي صفته الذاتية القائمة به في الأزل، وليس فعله الذي منحه لنبي الله سليمان، وهذا المعنى مرفوض بدلالة النص الذي يتحدث عن نبي ممسوح بزيت البركة "منذ الأزل مسحت"، وصفة الله القائمة به لا يمكن أن تمسح، ولماذا تمسح؟
كما أن النص يتحدث عن حكمة مخلوقة، وإن كانت قديمة، فقد قالت الحكمة: "الرب قناني أول طريقه.. ومن قبل أن تقرر الجبال أُبدئت، قبل التلال أبدئت "، وفي الترجمة الإنجليزية المسماة(THE GOOD NEWS BIBLE) :، والصادرة عام 1978 – 1997، تستخدم كلمة (خلقني)، فتقول: The lord created me" " بدلاً من قوله: (الرب قناني).
وهو ذات الصنيع الذي صنعته نسخة الرهبانية اليسوعية، ففيها: "الرب خلقني أول طرقه، قبل أعماله"، وهكذا فهذه الحكمة مخلوقة قديماً، وهي مُبدأة من قبل الجبال والتلال.
وفي حكمة ابن سيراخ "قبل كل شيء خُلقت الحكمة" (ابن سيراخ 1/4)، وتحديداً "قبل الدهور، ومنذ البدء خلقني، وإلى الدهور لا أزول" (سيراخ 24/9)، فهي ليست حكمة الله الأزلية، بل حكمته التي أعطاها الحكماء فتجسدت فيهم، وفي مقدمتهم سليمان الحكيم، والذي "رأوا حكمة الله فيه " (الملوك (1) 3/28).
والمتأمل بتجرد للنص؛ لن يجد صعوبة لفهم نوع الحكمة التي تتحدث في النص السالف، فهي ثمينة " لأن الحكمة خير من اللآلئ، وكل الجواهر لا تساويها" (الأمثال 8/11).
وهي بشرية "فم الصديق ينبت الحكمة" (الأمثال 10/31).
وأول درجات هذه الحكمة البشرية مخافة الله "بدء الحكمة مخافة الله" (الأمثال 9/10).
وأيضاً هذه الحكمة البشرية هي هبة الله للإنسان "الرب يعطي حكمة من فمه: المعرفة والفم" (الأمثال 2/6).
وبهذه الحكمة البشرية التي وهبها الله للإنسان ساد السادة من الملوك والقضاة والأغنياء على غيرهم "أنا الحكمة أسكن الذكاء .. لي المشورة والرأي، أنا الفهم لي القدرة، بي تملك الملوك، وتقضي العظماء عدلاً، بي تترأس الرؤساء والشرفاء، كل قضاة الأرض، أنا أحب الذين يحبونني، والذين يبكرون إليّ يجدونني، عندي الغنى والكرامة، قنية فاخرة فاخرة وحظ، ثمري خير من الذهب ومن الإبريز، وغلّتي خير من الفضة المختارة، في طريق العدل أتمشى، في وسط سبل الحق، فأورّث محبيّ رزقاً، وأملأ خزائنهم، الرب قناني أول طريقه ..." (الأمثال 8/12-22).
فالمتأمل لهذا وغيره - لا ريب - يجزم بأن هذه الحكمة ليست صفة الله الأزلية القائمة به، إذ تلك لا تثمن بالجواهر واللآلئ، ولا تثمر الغنى والمال والملك والسلطان، كما لا تنبت من فم البشر، ولا تشمل بالطبع مخافة الله لأنها صفة الله ( ).
الألف والياء
أما نصوص سفر الرؤيا والتي ذكرت أن المسيح الألف والياء، وأنه الأول والآخر، فلا تصلح للدلالة في مثل هذه المسائل التي يتعلق بها مصير المليارات من البشر، فهي كما أشار العلامة ديدات وجميع ما في هذا السفر مجرد رؤيا منامية غريبة رآها يوحنا، ولا يمكن أن يعول عليها، فهي منام مخلط كسائر المنامات التي يراها الناس، فقد رأى يوحنا حيوانات لها أجنحة وعيون من أمام، وعيون من وراء، وحيوانات لها قرون بداخل قرون .. (انظر الرؤيا 4/8)، فهي تشبه إلى حد بعيد ما يراه في نومه من أتخم في الطعام والشراب، وعليه فلا يصح به الاستدلال ( ).
ثم في آخر هذا السفر مثل هذه العبارات المتحدثة عن المسيح، صدرت عن أحد الملائكة كما يظهر من سياقها، وهو قوله: "أنا يوحنا الذي كان ينظر ويسمع هذا، وحين سمعت ونظرت خررت لأسجد أمام رجلي الملاك الذي كان يريني هذا. فقال لي: انظر لا تفعل، لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب. اسجد للّه.
وقال لي (أي الملاك): لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب لأن الوقت قريب.. وها أنا آتي سريعاً، وأجرتي معي. أنا الألف والياء. البداية والنهاية. الأول والآخر" (الرؤيا 22/8-13) وليس في ظاهر النص ما يدل على انتقال الكلام من الملاك إلى المسيح أو غيره، فقد قال الملاك عن نفسه ما قاله يوحنا عن المسيح، فهل يقول النصارى بألوهيته أم يرون للنصوص تأويلاً كما نراه في تلك التي تتحدث عن المسيح .
ب. مقدمة إنجيل يوحنا
وأما الاستدلال على ألوهية المسيح بمقدمة يوحنا: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يوحنا 1/1-3) فقد كان للمحققين معه وقفات عديدة ومهمة، منها :
- تنبيه العلماء إلى أن هذا النص قد انتحله كاتب الإنجيل من فيلون الإسكندراني (ت40م)، يقول فيلسيان شالي: "فكرة الكلمة التي جاءت من فلاسفة رواقيين ومن فلسفة يهودي (فيلون) ، ومستعارة من هذه العقائد أو النظريات على يد القديس جوستين ويد مؤلف الأسطر الأولى من الإنجيل الذي يعزى إلى القديس يوحنا" ( ).
ويرى العلماء أن مصطلح "الكلمة" بتركيباته الفلسفية غريب عن بيئة المسيح وبساطة أقواله وعامية تلاميذه، وخاصة يوحنا الذي يصفه سفر أعمال الرسل بأنه عامي عديم العلم، فيقول: "فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا" (أعمال 4/13).
- كما ينبه ديدات إلى أن ثمة تلاعباً في الترجمة الإنجليزية، وهي الأصل الذي عنه ترجم الكتاب المقدس إلى لغات العالم.
ولفهم قول المسيح على حقيقته نعود إلى الأصل اليوناني، حيث النص في الترجمة اليونانية يستخدم كلمة (الله) بصيغة التعريف (τον θεον) في قوله: "والكلمة كانت عند الله" ، وتترجم إلى كلمة (God) في الترجمات الإنجليزية، وكتابتها بحرف كبير (G) للدلالة على أن الألوهية حقيقة، هذا في المقطع الأول.
ثم يمضي النص اليوناني، فيقول "وكان الكلمة (الله)" (και θεος ην ο λογος)، ويستخدم النص اليوناني كلمة (الله) بصيغة تنكيرθεος) ) بمعنى إله ، وكان ينبغي أن يستخدم في الترجمة الإنجليزية كلمة (god) بحرف صغير للدلالة على أن الألوهية مجازية، كما وقع في نص سفر الخروج "جعلتك إلهاً لفرعون" (Ἰδοὺ δέδωκά σε θεὸν Φαραω καὶ) (الخروج 7/1)، فكلمة (الله) في هذا المقطع من قول يوحنا جاءت نكرة، فهيد لا تفيد العَلَمية التي هي اسم الله عز وجل.
لكن المفاجأة أن هذه الصيغة التعريفية لاسم الألوهية (ο θεος) لم تعط في الكتاب المقدس للمسيح عليه السلام، لكنها منحت للشيطان حين أسماه بولس "إله الدهر الذي أعمى أذهان غير المؤمنين" (كورنثوس (2) 4/4) فاستخدمت التراجم العربية صيغة تنكير "إله"، وكذلك التراجم الإنجليزية (a god)؛ مع أن النص اليوناني جاء معرفاً (εν οις ο θεος του αιωνος).
وهكذا فاستخدام التراجم العربية والعالمية اسم (الله) في قول يوحنا: "وكان الكلمة الله" ، نوع من التلبيس والتحريف في النص ( ).
وقد استدركت بعض الترجمات العربية والعالمية الخطأ، فغيرت النص، منها نسخة ترجمة العالم الجديد في ترجماتها العالمية المختلفة، وقد جاء في نسختها العربية: "وكان الكلمة إلهاً".
كما أفردت ملحقاً خاصاً بتبيان التحريف الذي وقعت فيه النسخ المخالفة في قراءة هذه الكلمة، ومما جاء فيه: "إن عبارة يوحنا أن الكلمة أو لوغوس كان (إلهاً) أو (إلهياً) أو (كإله)، لا تعني أنه كان (الله) الذي كان هو معه، إنها تعبر فقط عن صفة معينة للكلمة أو لوغوس، ولكنها لا تحدد هويته أنه الله نفسه".
ونقلت عن فيليب هارنر الكاتب في مجلة أدب الكتاب المقدس (المجلد 92/87) قوله: "أنا أرى أن القوة الوصفية للمُسند في (يوحنا 1:1) بارزة جداً بحيث إنه لا يمكن اعتبار الاسم معرفة".
ويقول الأب متى المسكين في شرحه لإنجيل يوحنا : "هنا كلمة (الله) جاءت في الأصل اليوناني غير معرفة بـ (الـ) ...، وحيث (الله) المعرف بـ (الـ) يحمل معنى الذات الكلية، أما الجملة الثانية فالقصد من قوله: "وكان الكلمة الله" هو تعيين الجوهر أي طبيعة (الكلمة)، أنها إلهية، ولا يقصد تعريف الكلمة أنه هو الله من جهة الذات.
وهنا يُحذَّر أن تقرأ (الله) معرفاً بـ (الـ) في "وكان الكلمة الله"، وإلا لا يكون فرق بين الكلمة والله، وبالتالي لا فرق بين الآب والابن، وهذه هي بدعة سابيليوس الذي قال أنها مجرد أسماء، في حين أن الإيمان المسيحي يقول: إن الأقانيم في الله متميزة، فالآب ليس هو الابن، ولا الابن هو الآب، وكل أقنوم له اختصاصه الإلهي، كذلك فالله ليس هو الكلمة، والكلمة ليس هو الله الكلي" ( ).
ونوافق الأب المسكين في كثير مما قاله عن تنكير الكلمة المستخدمة، ولا نوافقه على قوله : "وهنا يقابلنا قصور مكشوف في اللغة العربية فلا توجد كلمة (الله) بدون تعريف (الـ) .." إذ كلامه يوهم القارئ اضطرارهم إلى استخدام اللفظة المعرّفة (الله) في غير معناها بسبب قصور اللغة العربية، وهو غير صحيح، فذكرها إلباس وتحريف، بدليل وقوعه في سائر التراجم العالمية، وفي مقدمتها الترجمة الإنجليزية التي تعرض عن استخدام اللفظ النكرة (god a)، وتصر على تعريف الكلمة (God).
- ولو غض المحققون طرفهم عن ذلك كله، فإن في النص أموراً مُلبِسة تمنع استدلال النصارى به على ألوهية المسيح:
أولها: ما معنى كلمة "البدء"؟ ويجيب النصارى: أي الأزل.
لكن ذلك لا يسلم لهم، فإن الكلمة وردت في الكتاب على معانٍ منها:
- وقت بداية الخلق والتكوين كما جاء في " في البدء خلق الله السموات والأرض" (التكوين 1/1)، فوقت الخلق قديم لكنه في لحظة مخلوقة، وليس في الأزل، ومثله قول المسيح عن إبليس أنه كان منذ البدء: " أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذاك كان قتالاً للناس من البدء، ولم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق" (يوحنا 8/44)، فإبليس قتال للناس منذ البدء أي بداية الخليقة، ولا يعني النص أنه كان في الأزل ، فالشيطان ليس أزلياً.
ومثله قاله متى على لسان المسيح ، وهو يحاجج اليهود "قالوا له: فلماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلّق، قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلّقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا" (متى 19/7-8)، ومعناه أن ذلك لم يكن مأذوناً به عند بداية الخليقة، وبداية الخلق لحظة مخلوقة، وليست الأزل الذي يسبق كل زمان.
- وترد كلمة البدء أيضاً ، ويراد منها فترة معهودة من الزمن كما في قول لوقا: "كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء" (لوقا 1/2)، فالبدء هنا يعني أول رسالة المسيح.
ومثله قول يوحنا: "أيها الإخوة لست أكتب إليكم وصية جديدة، بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء" ( يوحنا (1) 2/7).
ومثله قوله في جواب اليهود لما سألوه: "فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع: أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به" (يوحنا 8/25)، فكل هذه الاستعمالات لكلمة البدء لا يراد منها الأزل، بل أوقات معينة حادثة.
وعليه فلا يقبل قول النصارى بأن الأزل هو المراد في قوله "في البدء كان الكلمة"، فهذه اللفظة استخدمت في مواضع أخرى بمعان أخرى، فلا يصار إلى المعنى الذي ارادوه إلا بدليل مرجح.
ويرجح الشيخ العلمي في كتابه الفريد "سلاسل المناظرات" بأن معنى النص يتحدث عن بدء تنـزل الوحي على الأنبياء، أي أنه عليه السلام كان بشارة صالحة عرفها الأنبياء كما في (إرميا 33/14) ( ).
ثانيها: ما المقصود بـ (الكلمة)؟ هل هو المسيح ؟ أم أن اللفظ يحتمل أموراً أخرى، وهو الصحيح. فلفظة (الكلمة) لها إطلاقات في الكتاب المقدس:
منها: كتاب الله أو وحيه "وكانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا" (لوقا 3/2)، " أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لوقا 8/21) "لكن ليس هكذا حتى إن كلمة الله قد سقطت، لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون" (رومية 9/6).
ومنها: الأمر الإلهي الذي به صنعت المخلوقات، كما جاء في المزامير "بكلمة الرب صنعت السموات، وبنسمة فيه كل جنودها .. لأنه قال فكان، هو أمر فصار" (المزمور 33/6-9)، ولهذا المعنى سمي المسيح كلمة، لأنه خلق بأمر الله، من غير سبب بشري قريب (أي من غير أب) ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون ﴾ (آل عمران: 59)، أو لأنه – حسب المعنى الأول - أظهر كلمة الله ، أي وحيه وكتابه.
كما قد يسمى وعد الله كلمته ؛ كما حكى النبي إرمياء استعجال بني إسرائيل ليوم البلاء والعذاب الذي أوعدهم الله إياه: "ها هم يقولون لي: أين هي كلمة الرب؟ لتأت. أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعياً وراءك، ولا اشتهيت يوم البلية " (إرمياء 17/15-16)، والمسيح يعتبر وفق هذا المعنى أيضاً (كلمة الله)؛ أي أنه الكلمة الموعودة المبشر بها على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأما المعنى الذي يزعمون النصارى للكلمة (اللوغس)، وأنها الأقنوم الثاني للثالوث الأقدس، فلم يرد في كتب الأنبياء البتة، لذلك يقول الدكتور جردوم عن (الرؤيا 19/13) وعن مقدمة يوحنا: "تشكلان الموضعين الوحيدين في الكتاب المقدس اللذين يشيران إلى ابن لله بصفته الكلمة أو كلمة الله" ( ).
ثالثها: "وكان الكلمة الله" غاية ما يمكن أن يستدل به من هذه الفقرة أن المسيح أطلق عليه: (الله)، كما أطلق على القضاة في التوراة "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار" (المزمور 82/1)، وكما سمي به أشراف اليهود في قول داود: " أحمدك من كل قلبي، قدام الآلهة أرنم لك" (المزمور 138/1)، وقد قال الله لموسى عن هارون: " وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً " (الخروج 4 /16). وغيرهم كما سبق بيانه
رابعها: قوله: "والكلمة كان عند الله"، والعندية لا تعني المثلية ولا المساواة. إنما تعني أن الكلمة خلقت من الله كما في قول حواء: "اقتنيت رجلاً من عند الرب" (التكوين 4/1)، فقايين ليس مساوياً للرب، ولا مثله، وإن جاءها من عنده، وجاء في موضع آخر " وأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب" (التكوين 19/24)، فالكبريت والنار أتيا من عند الله أي بأمره، وليسا مساويين لله عز وجل.
وهكذا يتبين فساد الاستدلال بمقدمة يوحنا على ألوهية المسيح عليه السلام.
خامساً: نسبة أفعال الله إلى المسيح
أ. إسناد الخالقية لله بالمسيح
كما أسندت بعض النصوص الخالقية لله بالمسيح، فتعلق النصارى بها، ورأوها دالة على ألوهيته ومنها قول بولس عن المسيح: "فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء أن كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كولوسي 1/16-17)، وفي موضع آخر يقول: "الله خالق الجميع بيسوع المسيح" (أفسس 3/9)، ومثله ما جاء في مقدمة يوحنا "كان في العالم، وكوِّن العالم به، ولم يعرفه العالم" (يوحنا 1/10)، ومثله في (عبرانيين 1/2) وغيرها.
ونلحظ ابتداءً أن الخلق في كافة النصوص الكتابية مسند لله تعالى فقط، فقد قال سفر التكوين "في البدء خلق الله السماوات والأرض" (التكوين 1/1)، ولم يذكر خالقاً شارك الله بالخلق أو كان واسطة تم الخلق من خلاله، وفي سفر إشعياء "هكذا يقول الله الرب خالق السموات" (إشعيا 42/5)، كما وقد قال بولس وبرنابا لأهل مدينة لسترة: "نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" (أعمال 14/15)، فلم يذكر الكتاب خالقاً سوى الله العظيم.
وما بين أيدينا من أقوال بولس ويوحنا فإنها إنما تتحدث عن الله الذي خلق بيسوع كما صنع المعجزات بيد يسوع (انظر أعمال 2/22)، ولا تذكر أنه هو الخالق أبداً، فغاية ما تحتمله هذه النصوص - لو سلم بصحتها - أن يقال بأن الله خلق بالمسيح ما خلق من الكائنات والمخلوقات.
يقول القس جيمس أنِس متحدثاً عن الأقانيم وأعمالها المختلفة: "ومن أمثلة التميز في الأعمال أن الآب خلق العالم بواسطة الابن" ( ).
وهذا المعنى للخلق جدُّ غريب لم تنطق به أنبياء العهد القديم، ولا ذكره المسيح عليه السلام، إنما ورد من كلام بولس ومقدمة يوحنا الفلسفية المستمدة من الفكر الأفلوطيني والفلسفات الغنوصية التي تعتقد أن الله أشرف من يخلق الخلق بنفسه، لذا ينيط هذا الفعل بمخلوق أول بكر الخلائق ، ويسمونه العقل الكلي أو الملائكة.
ولا يمكن أن يكون المسيح خالقاً للسماوات والأرض وما بينهما، إذ هو ذاته مخلوق، وإن زعمت النصارى أنه أول المخلوقين، لكنه على كل حال مخلوق، والمخلوق غير الخالق، إنه فحسب " صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
ثم إن الذي عجز عن رد الحياة لنفسه عندما مات لهو أعجز من أن يكون خالقاً للسماوات والأرض، أو أن تخلق به "فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ولو لم يقمه الله لما عاد من الموتى، وفي موضع آخر: "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15)، ومثله قول بولس: "والله الآب الذي أقامه من الأموات" (غلاطية 1/1).
ويرى المحقق في هذه النصوص أن المقصود منها أن المسيح خُلقت به الخلائق خِلقة الهداية والإرشاد، لا الإيجاد والتكوين، فخلقة الإيجاد والتكوين الله فحسب، والخلقة التي خلقها الله بالمسيح عليه السلام هي الخِلقة الجديدة، خِلقة الهداية، التي تحدث عنها داود، وهو يدعو الله: "قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (المزمور 51/10).
ومثله قال بولس عن المؤمنين بالمسيح: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (كورنثوس (2) 5/17)، وقال: "لأنه في المسيح ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغُرلة، بل الخليقة الجديدة" (غلاطية 6/15).
وفي موضع آخر يقول: "تلبسوا الإنسان المخلوق الجديد بحسب الله في البر" (أفسس 4/24).
وعلى هذا الأساس اعتبر يعقوب التلاميذ باكورة المخلوقات فقال: "شاء فولدنا بكلمة الحق، لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب 1/18) أي أوائل المهتدين الذين تلبسوا بالخليقة الجديدة.
وعليه فإن المقصود من خلق المسيح للبشر هو الخلق الروحي، إذ جعله الله محيياً لموات القلوب وقاسيها.
لكن قائلاً قد يورد على استدلالنا وتأولنا للنصوص، فيحتج بما يجده في الكتاب من حديث عن خلق السماوات والأرض وما فيهما بالمسيح"فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء أن كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كولوسي 1/16-17)، فيرى أن نصوص الخالقية بالمسيح لا تتعلق بالبشر فقط، إذ فيها أن الله خلق به ما في السماوات والأرض، وهذا قد يراه البعض - ممن لم يعتد طريقة الأسفار في التعبير - مانعاً من صرف النص عن الخلق التكويني إلى الخليقة الجديدة.
أما الذين اعتادوا على طريقة الأسفار في التعبير، فإنهم يرون في هذه النصوص مبالغة معهودة، حملتها مراراً الأسفار التوراتية والإنجيلية، ومن ذلك وصف العهد الجديد المسيحَ والتلاميذ أنهم نور العالم، يقول يوحنا: "ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً: أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة" (يوحنا 8/12)، وقال لتلاميذه: "أنتم نور العالم" (متى 5/14).
ومن المعلوم أنهم جميعاً كانوا نوراً استنار به المؤمنون، وأعرض عنه غيرهم، فأظلمت قلوبهم، ولا يمكن أن يدعى ظهور النور في الجماد والحيوان الموجودين في العالم، فكما وصف النص يوحنا الإنجيلي المسيحَ وتلاميذَه بنور العالم من غير أن يكون لهم أثر في إنارة غير قلوب المؤمنين من الكافرين أو الجمادات، فإنه وصف المسيح بأنه كان واسطة الخليقة الجديدة للعالم، والمقصود المؤمنون في العالم فحسب.
ومثله أيضاً قول بولس ( ) عن المصالحة التي تمت بدم المسيح فإنه يقول: " وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته، سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات" (كولوسي 1/20)، مع أن المصالحة خاصة بشعبه المفديين دون الجمادات والكائنات الكافرة التي في السماوات والأرض، فهؤلاء لاحظَّ لهم في المصالحة، التي قد يفهم من النص شمولها إياهم، كما قد يفهم من نصوص الخلق شموله غير المؤمنين.
ومثله أيضاً قول بولس عن الذين أرسل الله المسيح لفدائهم، فقد أرسله: " لتدبير ملء الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات، وما على الأرض " (أفسس 1/10)، وكما يقول القس جيمس أنِس: "لا يمكن أن يكون معنى (كل شيء) العالمين، حيُّها وجمادها، كالشمس والقمر والنجوم، لأنها ليست قابلة للمصالحة مع الله، ولهذا السبب عينه لا يمكن أن يقصد بها كل الحيوان، ولا يمكن أن يقصد بها كل الخلائق العاقلة الساقطة ، لأن المسيح لم يأت ليفتدي الملائكة الساقطين (عبرانيين 2/16) ولا يقصد بها جميع البشر، لأن الكتاب يعلم أن ليس كل البشر يتصالحون مع الله" ( ).
ومثله أيضاً قوله: "لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (كورنثوس (1) 15/22)، فلئن كان الموت يشمل جميع البشر بسبب خطية آدم، فإن الذين يحيون بالمسيح الجميع من المؤمنين فحسب، لا جميع البشر الأموات الذين ماتوا بسبب خطيئة آدم.
وهكذا رأينا في هذه النصوص عموماً غير مقصود من جهة المعنى؛ فظاهر المعنى – الذي يفيد العموم - غير مراد في جميعها، ومثله هداية الله بالمسيح (الخليقة الجديدة) كل ما في السماوات والأرض ، فهو عموم يراد به الخصوص فحسب، أي أن الله خلق المؤمنين بالمسيح؛ الخلقة الجديدة، خلقة الإيمان والتجديد، لا خلقة الإيجاد والتكوين.
كما يمكننا اعتبار قوله: "فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى" نوعاً من المبالغة في التعبير ، وهو أسلوب معهود ومألوف في الكتاب، إذ يقول موسى لبني إسرائيل: "هوذا أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة، الرب إلهكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة" (التثنية 1/10-11).
ومثله من المبالغة قوله: " وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالّين في الوادي كالجراد في الكثرة، وجمالهم لا عدد لها، كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة" (القضاة 7/12).
وتصل المبالغة عند يوحنا أقصاها حين قال: "وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة؛ فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يوحنا 21/25)، فهذه المبالغة في الحديث عن خلقة الكون بالمسيح إنما هي بعض ما تعودناه من كُتّاب الكتاب المقدس.
ب. إسناد الدينونة إلى المسيح
وتتحدث الأسفار عن المسيح ، وأنه ديان الخلائق يوم القيامة، يقول بولس: "أنا أناشدك إذاً أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته" (تيموثاوس (2) 4/1)، فيرى المسيحيون فيه دليلاً على ألوهيته، لأن التوراة تقول: "الله هو الديان" (المزامير 50/6).
لكن ثمة نصوص تمنع أن يكون المسيح هو الديان "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم، الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يوحنا 3/17)، فالمسيح لن يدين أحداً.
وهو ما أكده يوحنا: "وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم، من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه [أي الله وشرعه]؛ الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير" (يوحنا 12/47-48).
ولا نستطيع ان نغفل أن المسيح - الذي يزعمون أنه ديان الجميع - لم يستطع أن يضمن الجنة لابني خالته وتلميذيه، ابني زبدي، لأن الله لم يأذن له بذلك، ومن كان هذا حاله فإنه عن الدينونة المطلقة أعجز، فقد جاءته أم ابني زبدي "فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع ... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي" (متى 20/20-22).
وإن أصر النصارى على أن الدينونة من أعمال المسيح ، فإن الكتاب يخبرنا أن آخرين يشاركونه فيها، وهم تلاميذه الاثنا عشر، بما فيهم الخائن يهوذا الأسخريوطي " فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده؛ تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً، تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (متى 19/28)، (وانظر لوقا 22/30).
وبولس أيضاً وغيره من القديسين سيدينون، لكن دينونتهم ليست قاصرة على البشر فقط، بل تشمل العالم كله بما فيه حتى من الملائكة، حيث يقول: "ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم؟ ... ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة" (كورنثوس (1) 6/2-3). فبولس وغيره من القديسين سيدينون الملائكة والعالم، وهم ليسوا آلهة، فدل ذلك على أن الدينونة لا تصلح دليلاً على الألوهية، إلا إذا قيل بأن الجميع (المسيح وبولس والقديسين) آلهة.
ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن دينونة المسيح للبشر - إن صحت - قد دفعها الله للمسيح الإنسان، فهو يصنعها بمقتضى إنسانيته " وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان " ( يوحنا 5/27 ).
ج. غفران المسيح الذنوب
ومما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح ما نقلته الأناجيل من غفران ذنب المفلوج والخاطئة على يديه، والمغفرة - كما يرون - من خصائص الألوهية، وعليه فالمسيح إله يغفر الذنوب، فقد قال للخاطئة مريم المجدلية: "مغفورة لك خطاياك " (لوقا 7/48)، كما قال للمفلوج: " ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك "، وقد اتهمه اليهود لما سمعوا ذلك منه بالتجديف فقالوا: " قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف " (متى 9/3)، أي أنه يدعي الإلهية حين يغفر للناس.
لكنا إذا رجعنا إلى قصتي الخاطئة والمفلوج فإنا سنرى وبوضوح أن المسيح ليس هو من غفر ذنبيهما، ففي قصة المرأة لما شكّ الناس بالمسيح وكيف قال لها: "مغفورة خطاياك"، وهو مجرد بشر، أزال المسيح اللبس، وأخبر المرأة أن إيمانها هو الذي خلصها، ويجدر أن ننبه إلى أن المسيح لم يدع أنه هو الذي غفر ذنبها، بل أخبر أن ذنبها قد غُفر، والذي غفره – بالطبع - هو الله تعالى.
والقصة بتمامها كما أوردها لوقا: "وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليّ، من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيراً، والذي يغفر له قليل يحب قليلاً، ثم قال لها: مغفورة لك خطاياك، فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟! فقال للمرأة: إيمانك قد خلّصك، اذهبي بسلام" (لوقا 7/46-50)، فقد غفر الله لها بإيمانها، والمسيح أخبرها برحمة الله التي وسعتها، وأفهم الحاضرين بوضوح أنه لم يجدف ولم يدعِّ لنفسه مغفرة الخطايا.
وكذلك لم يدع المسيح في قصة المفلوج أنه غفار الذنوب، فقد قال للمفلوج: "ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك" فأخبر بتحقق الغفران، ولم يقل : إنه هو الغافر لذنوب المفلوج، لم يقل: "غفرتُ لك ذنوبك".
ولما أخطأ فهم اليهود، ودار في خلدهم أنه يجدف حين قال: "مغفورة لك خطاياك"، وبخهم المسيح على الشر الذي في أفكارهم، وصحح لهم الأمر، وشرح لهم أن هذا الغفران ليس من فعل نفسه، بل هو من سلطان الله، لكن الله أذن له بذلك، كما سائر المعجزات والعجائب التي كان يصنعها، وقد فهموا منه المراد، وزال اللبس من صدورهم، "فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا "، لقد تيقنوا أنه إنسان فحسب.
والقصة بتمامها كما أوردها متى تقول: " قال للمفلوج: ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك، وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف، فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم؟ أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك، واذهب إلى بيتك، فقام ومضى إلى بيته، فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا" (متى 9/3-8).
وهذا السلطان ليس خصيصة ذاتية من خصائص المسيح، بل هو سلطان دُفع إليه من الله الذي خصه بهذه المزية: "التفت إلى تلاميذه وقال: كل شيء قد دفع إليّ من أبي" (لوقا 10/22)، وإلا فهو لا حول له ولا قوة، قد قال في موضع آخر: "دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28/18).
فهذا ليس سلطانه الشخصي، بل قد دُفع إليه من الله، ولو كان إلهاً لكان هذا من خصائصه وقدراته الذاتية، لكنه يعجز عنه عليه الصلاة والسلام إلا بعون الله ومدده، لأنه عبد الله الذي يقول عن نفسه: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يوحنا 5/30)، فلولا دفع الله بهذا السلطان إليه لما قدر على غفران ذنب أو خطيئة.
وسأل اليهود المسيح "وكلموه قائلين: قل لنا: بأي سلطان تفعل هذا؟ أو من هو الذي أعطاك هذا السلطان؟" فلم يزعم المسيح عليه السلام أن سلطان ذاتي امتلكه بموجب لاهوته الأزلي، بل سألهم عن السلطان الذي كان ليوحنا المعمدان في معمودية غفران الذنوب، من أين هو؟ فقال: "قولوا لي: معمودية يوحنا المعمدان، من السماء كانت أم من الناس؟" (لوقا 20/2-4)، أي أنه يصنع الغفران وغيره بذات السلطان الذي كان للمعمدان، إنه سلطان النبوة فحسب.
وسلطان غفران الخطايا دُفع أيضاً إلى غير المسيح ، فقد دُفع إلى التلاميذ من غير أن يصيروا آلهة، على الرغم من أنه أصبح بمقدورهم غفران الذنوب التي تتعلق بحقوقهم الشخصية، بل وكل الذنوب والخطايا، فأما مغفرتهم للذنوب المتعلقة بحقوقهم الشخصية فيقول عنه المسيح: "إن غفرتم للناس زلاتهم؛ يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم؛ لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم" (متى 6/14-15).
لكن يوحنا يعطي التلاميذ صكاً مفتوحاً في غفران أي ذنب وخطيئة: "من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت " (يوحنا 20/23)، فهُم يغفرون الذنوب كالمسيح عليه السلام، ومع ذلك فإن أحداً من النصارى لا يقول بألوهيتهم!
وقد ورَّثت الكنيسة نفسها مجد بطرس والتلاميذ، وادعت نوال هذا السلطان، فأصبح القسس يغفرون للخاطئين عن طريق الاعتراف أو صكوك الغفران، واعتمدوا في إقرار ذلك على وراثتهم للسلطان الذي دفع لبطرس "أنت بطرس ... وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات .." (متى 16/19)، فلو غفر بطرس أو البابا - وارث كرسيه ومجده – لإنسان؛ غفرت خطيئته ؛ من غير أن يقتضي ذلك ألوهية بطرس أو البابا أو القسيس.
وهذا السلطان ليس خاصاً ببطرس وورثته، بل دفع لكل التلاميذ " الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء، وأقول لكم أيضاً: إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه؛ فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السموات" (متى 18/18-20)، وهو - كما لا يخفى - لا يعني ألوهيتهم، لأن هذا السلطان ليس حقاً شخصياً لهم، بل هبة إلهية وهبت لهم ولمعلمهم المسيح، هذا ما يذكره الكتاب المقدس.
ولما كان المسيح لا يملك هذا السلطان من تلقاء نفسه فقد طلب من الله أن يغفر لليهود، ولو كان يملكه لغفر لهم ولما طلبه من الله "فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23/34).
سادساً : دلالة معجزات المسيح على ألوهيته
وتذكر الأناجيل خمساً وثلاثين معجزة من معجزات المسيح ، وتستدل بها على ألوهيته ومن هذه المعجزات ولادته من غير أب وإحياؤه للموتى وشفاؤه للمرضى وإخباره بالغيوب ...
المعجزات هبة إلهية
ذكر القرآن وأكد صدور المعجزات العظيمة عن المسيح ، وأخبر أنه يصنعها بتأييد من الله، فقال: ﴿ أنّي قد جئتكم بآيةٍ من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطّين كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه وأُبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن اللّه وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم﴾ (آل عمران: 49).
وهو ما أكدته النصوص الإنجيلية، ونقلته عن المسيح، فعندما أتى المسيح بما أتى به من المعجزات كان يؤكد أنها من الله عز وجل، ولم ينسبها إلى نفسه فقال: "أنا بروح الله أخرج الشياطين" (متى 12/28).
وقال: "كنت بإصبع الله أخرج الشياطين " (لوقا 11/20).
وعندما جاء لإحياء لعازر " رفع يسوع عينيه إلى فوق، وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمتُ أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني" ( يوحنا 11/40-41 )، لقد شكر الله أن قبِل منه تضرعه ودعاءه حين رفع عينيه إليه متوسلاً ضارعاً، فاستجاب الله له، وأحيا على يديه لعازر.
وأيضاً استلهم من الله القدير العونَ لما أراد إطعام الجمع من الأرغفة الخمس "رفع نظره نحو السماء، وبارك وكسر" (متى 14/19).
ولما جيء له بالأصم "رفع نظره نحو السماء وأنَّ، وقال: افثأ، أي انفتح، وفي الوقت انفتحت أذناه، وانحل رباط لسانه، وتكلم مستقيماً" (مرقس 7/34-35)، فأنينه تضرع واستغاثة بالله لم يخيبه الله فيهما.
وقال متحدثاً عن سائر معجزاته وأعاجيبه: "دُفع إليَّ (أي من الله) كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28/18)، فكل ما يؤتاه هبة الله، ولو كان إلهاً لكانت معجزاته ذاتية تنبع من طبيعته الإلهية، ولا يحتاج إلى من يهبها له أو يمنعه إياها.
ويجدر بالذكر هنا أن مثل هذا السلطان دفع للشيطان من غير أن يقتضي ألوهيته، فقد قال للمسيح وهو يغويه بجميع ممالك الأرض: "لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ، لأنه إليّ قد دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد" (لوقا 4/6).
وأكد المسيح أيضاً أنه لا حول له ولا قوة بغير تأييد الله له، فقال: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يوحنا 5/30)، وأن هذه المعجزات عطية الله التي تدل على رسالته فحسب: "الأعمال التي أعطاني الآب لأكمّلها، هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها؛ هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني" (يوحنا 5/36-37).
وأما الذين رأوا معجزات المسيح فقد عرفوا أنما يصنعه عليه السلام هو من المعجزات التي يعطيها الله لأنبيائه، ولم يفهم أحد منهم ألوهية صاحب هذه المعجزات، فعندما شفي الصبي من الروح النجس "بهت الجميع من عظمة الله" (لوقا 9/34).
ولما شفى المرأة المقوسة الظهر " استقامت (أي المرأة بظهرها) ومجدت الله" (لوقا 13/13).
ولما أقام المفلوج ورأت الجموع ذلك "تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا" (متى 9/8)، فاعتبروا المسيح من الناس لا الآلهة، وأن سلطان الشفاء قد أوتيه من قبل الله الشافي.
وهو ما قاله عنه الأعمى الذي شفاه المسيح ورد له بصره "فقالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له يسوع" (يوحنا 9/ 10-11)، فهل المستدلون لألوهية المسيح برده بصر الأعمى أكثرة معرفة وغَيرة ومحبة للمسيح من ذلك الأعمى؟!
وحين انتهر البحر والرياح وأطاعته؛ لم يفهم الراؤون لهذا ألوهيته رغم عظم هذه المعجزة، بل عجبوا لقدرة المسيح الإنسان، يقول متى: " فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا؟ فإن الرياح والبحر جميعاً تطيعه" (متى 8/27).
ولما أرادت مرثا أخت لعازر منه أن يحيي أخيها أكدت معرفتها بأن هذه المعجزات هي من الله، وأنه يؤيد بها المسيح ، فقالت له : " أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه" (يوحنا 11/22).
وهذا تلميذه بطرس كبير الحواريين يخاطب الجموع مؤكداً هذا المفهوم: "يسوع الناصري رجل قد تبرهن من قبل الله بقوات وعجائب صنعها الله بيده" (أعمال 2/22).
وأيضاً نيقوديموس معلم الناموس أدرك سر هذه المعجزات العظيمة التي يصنعها المسيح، وأنها من قِبل الله، وبسبب عونه وتأييده، فقال للمسيح : " يا معلّم، نعلم أنك قد أتيت من الله معلّماً، لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل؛ إن لم يكن الله معه" (يوحنا 3/2).
وتحكي الأناجيل ما يؤكد أن هذه المعجزات لم تكن إلا هبة من الله، وكان المسيح يحذر أن لا يؤتاها في بعض المواطن، لذلك لما تقدم إلى لعازر الميت خاف أن لا يتمكن من صنع معجزة "قال بعض منهم: ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت؟ فانزعج يسوع أيضاً في نفسه" (يوحنا 11/37-38).
وفي مرات أخر طلب منه الفريسيون آيات، فلم يقدر على صنعها، أو لم يصنعها "فتنهد بروحه، وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم: لن يعطى هذا الجيل آية، ثم تركهم ودخل السفينة ومضى" (مرقس 8/11-13).
ولما تكاثرت جموع اليهود عليه تطلب آية لم يجبهم إلى طلبهم، بل قال: "جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية" (متى 12/38-39)، فلم يظهر لهم في ذلك الموطن معجزة.
ثم لو كان ما يصدر من المسيح من آيات تدل على ألوهيته فلِمَ يأمر بإخفائها، وهي السبيل الذي يدل الناس على حقيقته؟ فقد قال المسيح للأبرص لما شفاه "انظر، لا تقل لأحد شيئاً" (مرقس1/44). ولما شفى الأعميان قال: "انظرا، لا يعلم أحد" (متى 9/31).
وقال للأعمى الثالث لما شفاه: "لا تدخل القرية، ولا تقل لأحد في القرية" (مرقس 8/26).
وتكرر منه ذلك "فعلم يسوع وانصرف من هناك، وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعاً، وأوصاهم أن لا يظهروه" (متى 12/15-16)، فالمسيح بإخفائه للمعجزات يريد أن لا ينشغل الناس بالمعجزات عن دعوته وجوهرها، ولو كانت دليل ألوهيته لوجب أن ينبههم إلى ذلك.
المعجزات لا تدل – حسب الكتاب المقدس- على النبوة فضلاً عن الألوهية
والعجب - كل العجب - أن يعتبر النصارى معجزات المسيح دالة على ألوهيته، والكتاب مصرح بقدرة غيره من البشر على صنع مثل هذه المعجزات العظيمة، من غير أن يكون ذلك دالاً على ألوهية هؤلاء.
فقد أثبت الكتاب هذه المعجزات وما هو أعظم منها لكل المؤمنين بالمسيح، فقال: "الحق أقول لكم: من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها" (يوحنا 14/12)، أي يستطيع المؤمنون شفاء المرضى بل ويستطيعون إحياء الموتى، بل ويقدرون صنع ما هو أعظم من ذلك، وعليه لا تصلح في الدلالة على الألوهية.
وفعل العجائب - حسب الكتاب المقدس - لا يصح في الدلالة على صدق أو حتى على صحة إيمان أصحابها، فضلاً عن النبوة أو الألوهية، فإن المسيح ذكر بأن كذبة سيفعلون المعجزات، ويزعمون أنهم يصنعونها باسم المسيح، فقد ذكر متى أن المسيح قال: "ليس كل من يقول لي : يا رب يا رب، يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرّح لهم: إني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (متى 7/21-23)، فهؤلاء المنافقون الكذبة قدروا على فعل المعجزات، ولم تدل على صلاحهم وإيمانهم، فضلاً عن نبوتهم وألوهيتهم.
وأيضاً إنسان الخطيئة يصنع الكثير من المعجزات والعجائب، من غير أن يعني ذلك صدقه أو ألوهيته، إذ يصنعها بعون الشيطان وقوته، يقول عنه بولس: "الذي مجيئه بعمل الشيطان، بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة" (تسالونيكي (2) 2/9).
اشتراك غير المسيح مع المسيح في معجزاته
ولاحظ المحققون - من قراء الكتاب المقدس - أن الكثير مما صنعه المسيح من عجائب ومعجزات قد شاركه فيه غيره من الأنبياء، وسواهم، ولم يقل أحد من النصارى بألوهيتهم، فدل ذلك على أن غاية ما تدل عليه المعجزات نبوة أصحابها، وإلا لزم القول ألوهية كل من شارك المسيح في الأعاجيب التي صنعها الله على يديه.
أ . الميلاد العذراوي
لقد كانت ولادة المسيح من غير أب بشري إحدى أعظم معجزاته ، وقد تعلق بها القائلون بألوهيته، يقول البابا أثناسيوس: "من ذا الذي يرى جسداً يأتي من عذراء وحدها بدون رجل، ولا يدرك أن من ظهر في الجسد لابد أن يكون هو صانع ورب باقي الأجساد؟" ( ).
ويقول يسّى منصور: "لو لم يولد المسيح من عذراء لكان مجرد إنسان" ( )، وهو بحق كذلك، بدليل أن بعض المخلوقات شارك المسيح في صورة هذه المعجزة الباهرة، أي ولادته من عذراء، من غير أب، فأصول سائر المخلوقات - ومنهم البشر - لا أب لهم ولا أم، ووجود آدم خلقاً سوياً أكبر وأكمل من خلقة المسيح الذي خلق جنيناً في بطن أمه، ثم كبر بعد ذلك ونما.
والميلاد من غير أب أعجوبة ولا ريب، لكنها لا تقتضي الألوهية بحال، ولو اقتضاها لاقتضى ألوهية أصول جميع الحيوانات، وألوهية أبوينا آدم وحواء، فقد ولد آدم من غير أب ولا أم، وولدت حواء من آدم، ولا أم لها.
وذلك المعنى هو ما أرشدنا إليه الله بقوله: ﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ (آل عمران: 59).
ورغم المثلية القائمة بين آدم وعيسى من جهة ميلادهما من غير أب، إلا أن آدم يتميز عن عيسى بـأمور، منها أن آدم عليه السلام لم يخرج من بين نجو وطمث، وأيضاً فإن الله أسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء من علمه تعالى، كما كانت الجنة منـزله، وقد تولى الله مناجاته بنفسه دون أن يرسل إليه رسولاً، إلى غير ذلك مما لم يكن لعيسى ولا غيره. فإذا تميز آدم بكل هذه المميزات، فلم لا تقول النصارى بألوهيته؟!
وممن فاق المسيح في هذه المعجزة - حسب الكتاب المقدس - ملكي صادق كاهن ساليم في عهد إبراهيم، فقد ولد من غير زرع رجل، وينقل بولس أن لا أب له ولا أم، ولا بداية ولا نهاية: "ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي ... بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين 7/1-3)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكي صادق( )، وهو الذي لا أب له ولا أم ، لأنه ولد بعد وفاتها؟
وكذلك الملائكة خُلِقوا من غير أب ولا أم، ولا تعتبرهم النصارى آلهة.
وهكذا فالميلاد العذراوي لا يصلح دليلاً على الألوهية، وإن كان حدثاً فريداً - نسبياً - في تاريخ البشرية.
ب. معجزة إحياء الموتى
لا ريب أن معجزة إحياء الموتى معجزة عظيمة من معجزات المسيح ، وقد أثبتها القرآن له، وأخبر بأنها من عند الله وأحيي الموتى بإذن الله (آل عمران: 49).
لكن النصارى يرفضون تعليق قدرات المسيح بمشيئة الله وإذنه، ويرون أنه صنع هذه المعجزات بقدرته ومشيئته الخاصة، لأنه "كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء ... لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته" (يوحنا 5/21، 27).
ولو تأملنا النص في سياقه لرأيناه يتحدث عن مواهب المسيح التي أعطاه الله إياها "كذلك أعطى الابن"، فكل مواهب المسيح هي عطية الله التي ما كان له حول ولا طول فيها لولا هبة الله إياها له.
ولو أكملوا النص لوجدوا جواب المسيح على شبهتهم واضحاً، فقد قال: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يوحنا 5/30).
وأكمل حديثه فذكر لهم أن مشيئته التي بها يحيي من يشاء مقيدة بمشيئة الله: " لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/30).
لكن النصارى يصرون على أن إحياء الموتى يدل على ربوبية المسيح وألوهيته، ويتجاهلون نصوصاً كتابية أسندت ذات الفعل لغير المسيح. فلِم لا تقول النصارى بألوهيتهم ؟!
إن إعراض النصارى عن القول بألوهية هؤلاء إنما هو دليل على بطلان الاستدلال لألوهية المسيح بمعجزة الخلق، فلئن كان المسيح أحيا لعازر (انظر يوحنا 11/41-44)، فإن النبي إلياس أحيا ابن الأرملة "وقال: أيها الرب إلهي، أيضاً إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأتَ بإماتتك ابنها [وحاشا لله أن يسيء]، فتمدد على الولد ثلاث مرات، وصرخ إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه. فسمع الرب لصوت إيليا، فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش" (الملوك (1) 17/19-24)، لذا خاطبه يشوع بن سيراخ: "أنت الذي أقمت ميتاً من الموت" (ابن سيراخ 48/5).
واليسع أيضاً أحيا - بإذن الله – ميتين، أحدهما أحياه حال حياته، والآخر بعد وفاته، فقد أحيا ابن الإسرائيلية التي جاءته "دخل أليشع البيت، وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره، فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما، وصلّى إلى الرب، ثم صعد واضطجع فوق الصبي، ووضع فمه على فمه، وعينيه على عينيه، ويديه على يديه، وتمدّد عليه، فسخن جسد الولد، ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك، وصعد وتمدّد عليه، فعطس الصبي سبع مرّات، ثم فتح الصبي عينيه" (الملوك (2) 4/32-36).
كما أحيا اليسع بقدرة الله بعد موته ميتاً وضعه أهله على قبر اليسع، فعاد حياً " فيما كانوا يدفنون رجلاً إذا بهم قد رأوا الغزاة، فطرحوا الرجل في قبر أليشع، فلما نزل الرجل ومس عظام أليشع؛ عاش وقام على رجليه" (الملوك (2) 13/21).
والعجب من استدلال النصارى بإحياء الموتى لإثبات ألوهية المسيح مع أنهم أثبتوا هذه القدرة للحواريين، والمقصود ما جاء قصة إحياء بطرس لطابيثا. فقد جاء في أعمال الرسل أن بطرس أحيا طابيثا بعد أن ماتت وغسلها أهلها "وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثا الذي ترجمته غزالة ... وحدث في تلك الأيام أنها مرضت وماتت، فغسلوها ووضعوها في عليّة ... فأخرج بطرس الجميع خارجاً وجثا على ركبتيه وصلّى، ثم التفت إلى الجسد وقال: يا طابيثا قومي، ففتحت عينيها، ولما أبصرت بطرس جلست" ( أعمال 9/36-41)، فأي فرق بين ما فعله المسيح وما فعله بطرس، فكل ذلك بإذن الله وقدرته.
وكل التلاميذ - حسب الكتاب المقدس - يقدرون على إحياء الموتى، فقد قال لهم المسيح : "فيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات، اشفوا مرضى، طهروا برصاً، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين" (متى 10/7-8)، فهل كل هؤلاء آلهة؟
كما يغفل النصارى المتحدثون عن ألوهية المسيح الذي أحيا الموتى، يغفلون عن تلك النصوص التي تتحدث عن موت المسيح، وعجزه عن دفع الموت عن نفسه، كما عجز عن ردها إلى الحياة من جديد، حتى أعاده الله وأقامه من الأموات.
وقد تكاثرت النصوص على إيراد هذه الحقيقة حتى بلغت خمسة عشر نصاً، منها "فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ومنها "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15)، وكذا "المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله" (أعمال 4/10).
وهكذا بطل الاستدلال بهذه العجيبة على ألوهية المسيح، ولكنها بحق أعجوبة عظيمة دفعها الله للمسيح ليقيم بها الحجة على نبوة هذا النبي العظيم، عليه صلوات الله وسلامه.
ج. معجزة شفاء المرضى
ويستدل النصارى على ألوهية المسيح بقدرته على شفاء المرضى، فيقول البابا أثناسيوس: "من ذا الذي يراه وهو يشفي الأمراض التي يخضع لها الجنس البشري ويستمر في ظنه عنه بأنه إنسان وليس إلهاً؟ فقد طهر البرص، وجعل العرج يمشون" ( ).
لكن أثناسيوس ومن وافقه من النصارى المؤلهين للمسيح يعرضون عن ذكر الحقيقة التي ذكرها الكتاب، وهي أن المسيح كان يشفي المرضى بتأييد الله؛ لا بقوته الذاتية "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيراً، ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه" (أعمال 10/38)، فالله كان مع المسيح، ولم يكن المسيح (الله).
ولئن كان عيسى عليه السلام قد شفى الأبرص (انظر متى 8/3) فإن اليسع شفى أبرصاً، وأمرض آخر وذريته من بعده بالبرص "فأرسل إليه أليشع رسولاً يقول: اذهب واغتسل سبع مرّات في الأردن، فيرجع لحمك إليك، وتطهر ... فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد، وخرج من أمامه أبرص كالثلج" (الملوك (2) 5/10-27).
د. التنبؤ بالغيوب
وقد تنبأ المسيح بكثير من الغيوب، فكانت كما قال، فقد أخبر التلميذان اللذان أرسلهما لذبح فصح العيد بما سيكون لهما (انظر مرقس 14/12-16)، وقد قال له بطرس: "يا رب أنت تعلم كل شيء" (يوحنا 21/17)، كما علم بأن الجحش المربوط في قرية بيت فاجي لم يركب عليه أحد، وهو كما يقول القس إبراهيم سعيد : "دليل جديد على أن المسيح يعلم بالغيب علماً دقيقاً مفصلاً، لا يقبل شكاً ولا تأويلاً، وفي هذا برهان آخر على المجد الوضيع [هكذا] الذي كان يحف بالمسيح" ( ).
لكن ليس المسيح وحده من قد تنبأ بالمغيبات، فقد تنبأ قبله يعقوب فقال لأبنائه: "اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام..." (انظر التكوين 49/1-27).
ومثله تنبأ صموئيل وإيليا (انظر صموئيل (1)10/2-9، الملوك (1)21/21-24)، وقد تحققت نبوءتهما في (الملوك (2)10/1-17، 9/30-37).
ومثل هذا كثير في الأسفار المقدسة. (انظر صموئيل (1) 19/23-24، الملوك (2) 4/8-18، 8/12-13، يوحنا 11/49-52).
وقد جاء في وصف بلعام بن بعور المتنبئ الكافر الذي قتله موسى بأنه " الذي يسمع أقوال الله، ويعرف معرفة العلي، الذي يرى رؤيا القدير" (العدد 24/16)، وذكرت الأسفار التوراتية عدداً من تنبؤاته التي تحققت.
ثم إن المسيح كما تنبأ بالغيوب فإنه عجز عن أُخر، وجهلها، إذ لم يعرف بالخبز وعدده (انظر متى 15/34)، كما جهل موعد الساعة (انظر مرقس 13/32-33).
وينبه العلامة ديدات أنه لا يجوز للنصارى أن يذكروا شيئاً عن مغيبات أخبر عنها المسيح وهم ينسبون إليه الكذب - وحاشاه - عندما تنبأ بعودته السريعة قبل انقضاء جيله. (انظر مرقس 13/26، 30، متى 10/23) وهو ما لم يحدث حتى يومنا هذا.
هـ . التسلط على الشياطين
وكذلك أوتي المسيح سلطاناً على الشياطين (انظر متى 12/27-28)، ولكنها معجزة قام بها غيره، فعندما اتهمه اليهود بأنه يخرج الشياطين بمعونة رئيسهم قال: "إن كنت أنا أخرج الشياطين ببعلزبول، فأبناؤكم بمن يخرجونهم؟" (متى 12/27)، فأثبت لأبناء اليهود مثل قدرته.
كما وقد حذر عليه السلام من الكذبة الذين سينجحون في إخراج الشياطين فقال: " كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ " (متى 7/22-23)، فالأنبياء الكذبة يخرجون الشياطين، من غير أن يدل ذلك على نبوتهم أو صلاحهم، فضلاً عن القول بألوهيتهم.
و . عجائب مختلفة
وتذكر الأناجيل عجائب متفرقة للمسيح ، كتحويله الماء إلى خمر (انظر يوحنا 2/7-9)، وإطعامه الجمع كبير من خمسة أرغفة (انظر متى 14/19-21)، ويباس شجرة التين بقوله. ( انظر متى 21/18-19)، يقول البابا أثناسيوس: "من ذا الذي يرى تغيير طبيعة المياه وتحولها إلى خمر ولا يدرك أن من فعل هذا هو سيد طبيعة هذه المياه وخالقها؟ .. وعندما أشبع جمعاً غفيراً من طعام قليل، وقدم لهم الكثير من لا شيء، فأطعم خمسة آلاف من خمسة أرغفة، وشبعوا، وفضل عنهم الكثير ، ألم يظهر ذاته أنه لم يكن آخر سوى الرب نفسه المعتني بالجميع؟" ( ).
كما لا يفوت النصارى التنبيه إلى الظلمة العظيمة التي أعتمت الأرض عند موته المزعوم على الصليب (انظر متى 27/45)، فدلت هذه العجائب المختلفة على ألوهيته وأنه ابن الله.
وأيضاً يستدل القائلون بألوهيته عليه السلام بإطاعة الرياح والبحر له، فقد أوتي سلطاناً على العناصر الطبيعية، فالرياح والبحر يطيعه "وإذ اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطت الأمواج السفينة، وكان هو نائماً. فتقدم تلاميذه وأيقظوه قائلين: يا سيد نجنا فإننا نهلك. فقال لهم: ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟ ثم قام وانتهر الرياح والبحر، فصار هدوء عظيم. فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا؟ فإن الرياح والبحر جميعا تطيعه" (متى 8/23-28)، فمن ذا الذي تطيعه الرياح والبحار، ولا يجد القائلون بألوهية المسيح من إجابة - حسب فهمهم البسيط - إلا أن يقولوا : إنه الله المسيح.
وكذا فإن المسيح صام أربعين يوماً لم يجع خلالها، وهو ما لا يطيقه بشر، فدل ذلك على أنه الله. (انظر متى 4/1-2).
كما صعد المسيح إلى السماء، وجلس عن يمين الله. (انظر مرقس 16/19)، وهو كما يرى النصارى منزل لم يصل إليه أحد من العالمين إلا المسيح بما له من خواص الألوهية.
ولكن أمثال هذه المعجزات بل وأعظم منها جرت على يدي غيره، ولم تقتض ألوهيتهم.
فلئن كان المسيح قد حول الماء إلى خمر (انظر يوحنا 2/7-9)، فإن موسى حول الماء إلى دم كما في سفر الخروج "تأخذ من ماء النهر، وتسكب على اليابسة، فيصير الماء الذي تأخذه من النهر دماً على اليابسة" (الخروج 4/9).
وأما أليشع فقد صنع أعظم من ذلك، إذ ملأ قدور العجوز الفارغة زيتاً، من غير أن يكون فيها شيء "قال: اذهبي استعيري لنفسك أوعية من خارج من عند جميع جيرانك أوعية فارغة، لا تقللي، ثم ادخلي وأغلقي الباب على نفسك وعلى بنيك، وصبّي في جميع هذه الأوعية، وما امتلأ انقليه، فذهبت من عنده وأغلقت الباب على نفسها وعلى بنيها، فكانوا هم يقدمون لها الأوعية وهي تصب. ولما امتلأت الأوعية قالت لابنها: قدم لي أيضاً وعاء. فقال لها: لا يوجد بعد وعاء، فوقف الزيت، فأتت وأخبرت رجل الله فقال: اذهبي بيعي الزيت، وأوف دينك، وعيشي أنت وبنوك بما بقي" (الملوك (2) 4/3-7).
وإن طعم ببركة المسيح خمسمائة شخص من خمسة أرغفة (انظر متى 14/19-21)، فقد أطعم الله عز وجل بني إسرائيل - وهم زهاء ستمائة ألف - المن والسلوى أربعين سنة، وكل ذلك ببركة موسى عليه السلام. (انظر الخروج 16/35-36).
ولئن كان المسيح قد حول شجرة التين إلى يابس. (انظر متى 21/18-19)، فإن موسى حول العصا اليابسة إلى حية. (انظر الخروج 7/9)، وهو أعظم، إذ قد يدخل يبس الشجرة في قانون الطبيعة، لكن تحويل العصا إلى حية معجز بكل حال.
وأما الظلمة التي يدعي النصارى حصولها عند صلب المسيح، فهي ليست - بأي حال - بأكبر من الظلمة التي استمرت على أرض مصر ثلاثة أيام بسبب كفرهم بموسى، "فمدّ موسى يده نحو السماء، فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام، لم يبصر أحد أخاه، ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام" (الخروج 10/22-23).
وأيضاً فإن يشوع لما حارب الأموريين وكادت ليلة السبت أن تدخل ناجى ربه فقال: "أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر دوم على وادي أيلون، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب ... فوقفت الشمس في كبد السماء، ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل" (يشوع 10/12-13)، وهذا الذي حصل ليشوع لا يقتضي ألوهيته، وهو أعظم من غياب الشمس ثلاث ساعات، فإنها قد تغيب بالغيوم، وهو داخل في السنن المعهودة، أما توقف دوران الكرة الأرضية فهو أعظم من ذلك بكثير.
وأعظم منهما ما صنعه النبي إشعيا، فقد أعاد الله بدعائه الشمس إلى الوراء، ليبرهن للملك حزقيا على صدق مواعيد الرب. (انظر: الملوك (2) 20/10-11)، وقال عنه ابن سيراخ: "في أيامه رجعت الشمس إلى الوراء" (ابن سيراخ 48/23)، ورغم هذا كله فإن أحداً لا يقول بألوهية النبي إشعيا.
ثم لئن كانت الطبيعة تطيع المسيح فإن ذلك قد حصل مع الأنبياء أيضاً، فإيليا أطاعته النار حتى قال: " إن كنت أنا رجل الله فلتنـزل نار من السماء تأكلك أنت والخمسين الذين لك، فنزلت نار الله من السماء وأكلته هو والخمسين الذين له" (الملوك (2) 1/9-11).
وكذا أطاع البحر إيليا "و أخذ إيليا رداءه، ولفّه، وضرب الماء، فانفلق إلى هنا وهناك، فعبر كلاهما (أليشع وإيليا) في اليبس" (الملوك (2) 2/7-8)، وقد رأينا كيف أطاعت الشمس والقمر يشوع.
وأيضاً يحكي لنا سفر الرؤيا عن منارتين عظيمتين يزعم الشراح أنهما ترمزان لموسى وإيليا، "هذان هما الزيتونتان والمنارتان القائمتان أمام رب الأرض، وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما تخرج نار من فمهما وتأكل أعداءهما، وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما فهكذا لا بد أن يقتل، هذان لهما السلطان أن يغلقا السماء حتى لا تمطر مطراً في أيام نبوّتهما، ولهما سلطان على المياه أن يحوّلاها إلى دم، وأن يضربا الأرض بكل ضربة كلما أرادا" (الرؤيا 11/4-6).
وأما صيام المسيح أربعين يوماً فلا يدل على ألوهيته إذ أنه "جاع أخيراً" (متى 4/2)، فلئن كان صومه وصبره يدل على ألوهيته، فإن جوعه يكذب هذه الدعوى، ويدل على بشريته.
وقد كان مثله لموسى ، حيث يقول: "أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة لا آكل خبزاً ولا أشرب ماء" (التثنية 9/9).
ومثله حصل مع النبي إيليا حين أكل أكلة ثم "سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل الله" (الملوك (1) 19/7-8).
ولئن قال النصارى برفع المسيح للسماء وجلوسه عن يمين الله، فإن مثل ذلك حصل مع إيليا الذي رفع من غير أن يصلب أو أن يصفع أو أن يصاب بسوء. (انظر الملوك (2) 2/11-12)، ومثله حصل مع أخنوخ. (انظر التكوين 5/24).
وأما الجلوس عن يمين الله فقد ألحقته الكنيسة بإنجيل مرقس (انظر مرقس 16/19)، فلا يمكن حمله على الحقيقة، بل غايته أن يقال بأنه جلوس معنوي أي برفع مكانته، كما جاء في كلام ميخا "لقد رأيت الرب جالساً على كرسيه، وكل جند السماء وقوف عن يمينه ويساره" (الأيام (2) 18/18).
النصوص المناقضة لألوهية المسيح
رأى المحققون أن الأحوال البشرية المختلفة التي رافقت المسيح طوال حياته تمنع قول النصارى أن المسيح هو الله أو ابنه، إذ لا يليق بالإله أن يولد ويأكل ويشرب ويختن ويضرب و ... ثم يموت.
ولا يشفع للنصارى قولهم بأن هذه الأفعال صدرت من الناسوت لا اللاهوت، لأنهم لا يقولون بأن تجسد الإله في المسيح كان كالجبة أو العمامة يلبسها المسيح أحياناً، وينزعها أخرى، فما صدر منه إنما صدر من الإله المتجسد كما زعموا، وإلا لزمهم الاعتراف ببشريته، وهو الصحيح.
يقول أغناطيوس في رساله إلى أهل رومية: "اسمحوا لي أن أتشبه بأوجاع إلهي":
يقول القديس أوريجانوس الذي خصى نفسه لأجل الملكوت (ت 253م) في تفسيره لرسالة رومية: "بسبب الاتحاد الذي لا ينفك بين الكلمة والجسد، كل شيء يختص بالجسد ينسب أيضاً إلى الكلمة، وكل ما يختص بالكلمة يحمل على الجسد"( )، وعليه نستطيع القول بأن الكلمة أو اللاهوت الحال في الجسد كان يأكل ويشرب وينام ويتعب، ويخطئ من نسب هذا للجسد دون اللاهوت المزعوم، لذلك يقول المطرانان يوسف ريا وكيرلس بسترس: "يمكننا القول حقاً: إن الله تجسد ، وإن الله ولد وعطش وجاع ، وإن الله تألم ومات وقام، وإن الله صعد إلى السماوات"( ).
وممن يقول بالطبيعة الواحدة ورفض بدعة الطبيعتين التي لا نكاد نسمع غيرها اليوم البابا أثناسيوس (ت 373م) الذي صاغ قانون الإيمان في مجمع نيقية: "هذا الواحد الإله هو ابن الله بالروح، وهو ابن الإنسان بالجسد، ليس أن الابن الواحد له طبيعتان، إحداهما مسجود لها (إلهية)، والأخرى غير مسجود لها (ناسوتية)، بل طبيعة واحدة لكلمة الله المتجسد الذي نسجد له مع جسده سجوداً واحداً"، وكان يقول: "ابن الله هو بعينه ابن الإنسان، وابن الإنسان هو بعينه ابن الله"( ).
ويقول القديس أغريغوريوس أسقف نيصص (ت 395م) في سياق تفسيره لقوله: "هذا هو ابني الحبيب" : " لا تطلبوا لتجسده على الأرض أباً ، ولا تطلبوا له في السماء أماً ، لا تفرقوا بين لاهوته وناسوته، لأنه بعد اتحاده غير منفصل، وغير مختلط .. إذا رأيت ابني قد جاع أو عطش أو نام أو تعب ... فلا تحسب ذلك لجسده دون لاهوته، وإذا رأيت ابني يشفي المرضى ويطهر البرص بالقول ويصنع أعيناً من طين .. فلا تحسب ذلك للاهوته دون ناسوته، لأن الأفعال العالية ليست لواحد والمتواضعة لآخر" ( ).
وكذلك قال القديس يوحنا فم الذهب (ت 407م): "اللاهوت والناسوت اتحدا معاً اتحاداً تاماً في المسيح، حتى أنك تستطيع أن تقول عنه: إن هذا الإنسان هو الله "( ).
أما القديس كيرلس بابا الإسكندرية (ت 444م) قائد الكنيسة في مجمع أفسس (430م)، فيكتب في رسالته للقيصر ثودوسيوس : "إننا لا نعري الناسوت من اللاهوت، ولا نعري الكلمة من الناسوت، بعد ذلك الاتحاد الغامض الذي لا يمكن تفسيره، بل نعترف بأن المسيح الواحد هو من مشيئتين قد اجتمعتا إلى واحد مؤلف من كليهما، لا بهدم الطبيعتين ولا باختلاطهما، بل باتحاد شريف للغاية، بوجه عجيب"( ).
وقال: ": ربنا يسوع المسيح هو أقنوم واحد، لأن ناسوته متحد مع لاهوته باتحاد إلهي، لا مجال فيه للتفكك أو الانفصال على الاطلاق".
وكان كيرلس من أشهر المنادين بعقيدة "تألم الإله" (Theopaschites) ، وقال في الحرمانات الشهيرة التي أصدرها ؛ في الحرمان الثاني عشر: "فليكن محروماً كل من ينكر أن الكلمة الله تألم في جسده، وصلب في جسده، وذاق الموت في جسده، وأصبح باكورة الراقدين"، فهو يرى اشتراك اللاهوت والناسوت في الصفات والخواص، ويؤكد على أن "اللاهوت يشعر بما يشعر به الناسوت، ويشترك في أعماله وكذلك الناسوت، فإن كان الناسوت تألم فإن اللاهوت تألم أيضاً؛ بسبب الوحدة القوية بين الجوهرين"، ولذلك يؤكد كيرلس على استحقاق جسد المسيح للعبادة: "المسيح يسوع، الإبن الوحيد، الذي يكرم بسجدة واحدة مع جسده الخاص"( ).
وأما خليفته البابا ديسقورس الأول ، البطريرك الخامس والعشرون من باباوات كنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية (ت 457م) ؛ فينقل الأنبا غريغوريوس عنه قوله: " فلا اللاهوت امتزج بالناسوت ولا اختلط به ، ولا استحال أحدهما إلى الآخر . إنما اللاهوت والناسوت قد اتحدا. ليس من قبيل الإجتماع أو المصاحبة ، ولكنه اتحاد بالمعنى الحقيقي لكلمة اتحاد ، وإذا كان اللاهوت والناسوت قد اتحدا فقد صارا واحداً ، ولا مجال للقول بعد ذلك أن هناك طبيعتين ، وإلا فلا يكون الاتحاد صحيحاً أو حقيقياً"( ).
وكتب بروكلوس أسقف القسطنطينية (عام 435م) رسالته الشهيرة التي أجاب فيها على تساؤلات القادة والأساقفة في كنيسة أرمينيا: "إن اللاهوت اشترك في ضعف الناسوت، أي إنه تألم وعرف بطريقة فعلية حقيقية تألم الجسد والحزن والموت، فإن الذي تألم وعطش وجاع، وفي نهاية المطاف مات وقام من بين الأموات هو يسوع المسيح، هو الكلمة المتجسد، أي الأقنوم الثاني من اللاهوت"( ).
ووفق هذا المفهوم نستطيع القول: إن التفريق بين الطبيعتين في المسيح تفريق ذهني غير حقيقي لا يصح ان يتعلق به الذين أذهلتهم الصور الإنسانية الكثيرة للمسيح، فالاتحاد بين الناسوت واللاهوت يمنع الاحتجاج بالطبيعتين، وقد شبهه البابا كيرلس الملقب بعمود الدين باتحاد الروح والجسد، وقال: "إننا لا نجيز الفصل بين الطبيعتين، ونعلِّم فقط بالتمييز بينهما تمييزاً ذهنياً" ( ).
وهكذا فإن عقيدة التي عبر عنها في الفكر المسيحي بالمقولة المشهورة: "واحد من الثالوث تألم في الجسد"( ) ليست بدعة هرطوقية، بل عقيدة نادى بها آباء الكنيسة قبل الانشقاق الكنسي الكبير الذي أعقب مجمع خليقدونية 451م (من لدن أوريجانوس مروراً بأثناسيوس ثم كيرلس)، واستمرت بعدهم، فنادى بها الرهبان السكيثيين، والعالم الأفريقي فولجنس، ثم اعترف فيها مجمع القسطنطينية الكاثوليكي سنة 553م ، وكتب بذلك البابا يوحنا الثاني إلى الامبرطور يوستيتيانوس وإلى مجلس الشيوخ الروماني ( ).
والأرثوذكس الشرقيون (أقباط مصر، والحبشة) يقولون اليوم بالطبيعة الواحدة ليسوع، وهم يرفضون القول بالطبيعتين، ويرونه مخلاً بإحدى أهم العقائد المسيحية، وهي عقيدة صلب المسيح كفارة عن خطايا البشر، إذ لا يقبلون قول الكاثوليك والبرتستانت بأن المصلوب هو ناسوت المسيح دون لاهوته، فـ "إذا كان للسيد المسيح طبيعتان بعد الاتحاد، فمن المنطقي أن عمل الفداء قام به جسد السيد المسيح، لأنه هو الذي وقع عليه الصلب، وعلى ذلك ففداء المسيح ليست له أي قوة على خلاص الجنس البشري، إذ يكون الذي مات من أجل العالم هو إنسان فقط" ( )، والناسوت فقط لا يكفي للفداء عن الجنس البشري، لأن ناسوت المسيح محدود، ولا يكفر الخطيئة غير المحدودة، والتي تحتاج لكفارة مكافئة لها ، أي صلب شخص غير محدود، ليتم الخلاص، وهذا يستدعي أن يكون المصلوب هو اللاهوت والناسوت المتحدين في طبيعة واحدة.
ويمكننا فهم هذه العلاقة - المدعاة - لامتزاج الناسوت باللاهوت بتأمل لحظة واحدة صدر فيها عن المسيح فعلين متغايرين، أولهما عبر عن ناسوته، والآخر عبر عن لاهوته، وذلك في قصة المرأة النازفة "جاءت من ورائه، ولمست هدب ثوبه، ففي الحال وقف نزف دمها، فقال يسوع: من الذي لمسني؟ وإذ كان الجميع ينكرون، قال بطرس والذين معه: يا معلّم، الجموع يضيّقون عليك، ويزحمونك، وتقول: من الذي لمسني؟ فقال يسوع: قد لمسني واحد، لأني علمتُ أن قوة قد خرجت مني.." (لوقا 8/44-47)، ففي لحظة واحدة يجمع له النصارى بين الألوهية الكاملة والناسوتية التامة، فقد جهل المسيح لامسه بناسوته ، وشفاه من مرضه بلاهوته، وذلك في لحظة واحدة.
وما نقلناه في هذا الصدد لا يعني تصديقنا بدعوى الاتحاد الذي أنتج مسيحاً يملك طبيعة واحدة تجتمع فيه الناسوتية واللاهوتية، فهذه الدعوى عجيبة كالقول بالطبيعتين، ويكفي لإبطالهما أن نتخيل اتحاد عنصرين من عناصر المادة اتحاداً كاملاً ، فهو لا يبقي لأي منهما خصائصه، كما لو اتحد حامض بحلو، فإن الناتج غلبة أحدهما أو تعادلهما، لكن الاتحاد - وفق المفهوم النصراني – يحتم أن يكون المتحد حلواً حامضاً في نفس اللحظة، ليحقق الناسوتية والألوهية في شخص المسيح طوال حياته على الأرض.
إن عشرات النصوص الإنجيلية تتحدث عن ضعف المسيح البشري، وتحكي قعوده عن مرتبة الألوهية، وترد على أولئك الزاعمين ألوهيته ، وهي على ضروب أربعة:
الضرب الأول: هو تلك النصوص التي تبين عجز المسيح، وقعوده عن مقام الألوهية والربوبية، وعليه فهو ليس بإنسان تام وإله تام كما يقول النصارى، إنما كان فقط إنساناً تاماً. وفي ذلك نصوص كثيرة:
منها جهل المسيح بأشياء كثيرة، أهمها جهله بيوم القيامة، فقد قال: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب" (مرقس 13/32)، فكيف تدعي النصارى بعد ذلك ألوهيته، فالجهل بالغيب مبطل لها.
وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فحسب، بل كل ما غاب عنه فهو غيب يجهله إلا ما أطلعه الله عليه، ولذلك نجده عندما أراد إحياء لعازر يسأله " فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ " (يوحنا 11/33-34).
ولما جاءه رجل يريد منه شفاء ابنه من الجنون " فسأل أباه: كم من الزمان منذ أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه" (مرقس 9/21).
والمسيح أيضاً وهو يظهر معجزاته الباهرة كان يشير إلى افتقاره لله وعجزه عن هذه المعجزات لولا معية الله ونصرته فيقول: " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/30).
ويؤكد هذا المعنى فيقول: " قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي، والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " (يوحنا 8/28).
وفي نص آخر يقول لليهود: " الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).
والمسيح أيضاً لا يملك لنفسه - فضلاً عن غيره - نفعاً ولا ضراً إلا أن يتغمده الله برحمته، وقد كان، إذ لما جاءته أم ابني زبدي وكانا من تلاميذه " فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع ... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي " (متى 20/20-22).
كما وقد وصف الكتاب المسيح بصفة العبودية في مواضع عدة، ومن ذلك ما جاء في متى في وصف المسيح "هو ذا عبدي" (متى 12/18)، وفي سفر أعمال الرسل "قد مجد عبده يسوع .. القدوس البار" (أعمال 3/13-14)، "فإليكم أولاً أرسل الله عبده" (أعمال 3/26)، وفي موضع آخر: "عبدك القديس يسوع " (أعمال 4/30).
وقد استبدلت لفظة (عبد) في بعض التراجم العربية الحديثة بكلمة "فتى" الموهمة للعبودية أو البنوة، وذلك في ترجمة الفانديك المشهورة، بينما استخدم الآباء اليسوعيون كلمة "عبد"، وهو كذلك في اللغات العالمية، فالتراجم الإنجليزية تستخدم كلمة (servant).
وكتوضيح لهذا الصنيع الموهم ننقل قول متى: "لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرّت به نفسي، أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق" (متى 12/17-18)، فاستخدم كلمة (فتى)، فيما استخدم سفر إشعيا الذي نقل منه متى كلمة (عبد)، فيقول: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم" (إشعيا 42/1).
الضرب الثاني: هو النصوص التي تحدثت عن أحوال المسيح البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس من طعام وشراب وعبادة لله وتذلل و....
درس المحققون سيرة المسيح - كما عرضتها الأناجيل - منذ بشارة أمه إلى حمله، وولادته في المزود، ثم لفّه بالخرق، ثم ختانه، ومن ثم نشأته وتعليمه مع الصبيان، ثم تعميده على يد المعمدان إلى أن ذكروا نهايته المزعومة على الصليب بعد أن جزع وتذلل لله ليصرف عنه هذا الأمر ... فوجدوا أن المسيح لا يفرق في شيء عن سائر الناس، فقد ولد وكبر، وأكل وشرب، ومات. فما الذي يميزه بالألوهية عن غيره ؟
فقد ولد من فرج امرأة متلبطاً بدمها "وبينما هما هناك تمّت أيامها لتلد" (لوقا 2/6).
ورضع من ثدييها "وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك، والثديين اللذين رضعتهما" (لوقا 11/17)، فهل علمت مريم أن طفلها الخارج من رحمها والذي كانت تتولى كافة شئونه من نظافة وتربية ورضاع، هل كانت تعلم ألوهيته، أم جهلت ما علمه النصارى بعد ذلك؟( ).
وقد ختن المسيح في ثامن أيام ولادته "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمـي يسوع" (لوقا 2/21) فهل دار في خلد الذي كان الذي يختنه أنه يختن إلهاً؟ وماذا عن القطعة التي بانت منه؟ هل غادرتها الإلهية بانفصالها عن الإله المتجسد؟ أم بقيت فيها الإلهية حيث ضاعت أو دفنت؟
وقد عمده يوحنا المعمدان في نهر الأردن " جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 3/13)، أفجهل المعمدان أنه يعمد الإله؟ ومن المعلوم أن معمودية المعمدان غفران الذنوب، كما في متى: " واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.. أنا أعمدكم بماء للتوبة... حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 3/6-14)،
فهل كان الإله مذنباً يبحث عمن يغفر له ذنوبه؟!
وأصاب المسيح ما يصيب كل البشر من أحوال وعوارض بشرية فقد نام " وكان هو نائماً" (متى 8/24)، وتعب كسائر البشر " كان يسوع قد تعب من السفر" (يوحنا 4/6)، واحتاج إلى حمار يركبه، فأرسل تلاميذه طالباً منهم إحضار الحمار لأن "الرب محتاج إليه" (مرقس 11/3).
واكتئب المسيح لما أصابه "وابتدأ يدهش ويكتئب" (مرقس 14/33)، وأحياناً كان يجتمع عليه الحزن والاكتئاب "وابتدأ يحزن ويكتئب" (متى 26/37).
ولما كان البكاء من عادة البشر إذا ما اعتراهم الضعف والأسى فإنه أحياناً كان يبكي كسائر البشر "بكى يسوع" (يوحنا 11/35) ( ).
كما تعرض لمكايد أعدائه فقد حاول الشيطان أن يغويه، فلم يقدر، لقد صعد بالمسيح إلى جبل عال، وأراه جميع الممالك الإنسانية، وقال له "لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ، لأنه إليّ قد دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع، فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (لوقا 4/6-8).
وتعرض للطم والشتم "ولما قال هذا، لطم يسوعَ واحد من الخدام كان واقفاً" (يوحنا 18/22)، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه إلا بالكلام، لأنه كان موثقاً "قبضوا على يسوع وأوثقوه" (يوحنا 8/12).
والمسيح قد جاع أيضاً، وبحث عن طعام يأكله "وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع" (متى 21/18).
كما عطش " قال: أنا عطشان" (يوحنا 19/28).
وقد أكل وشرب، فسد جوعته، وروى ظمأه " فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل، فأخذ وأكل قدامهم" (لوقا 24/42-43).
والطعام والشراب الذي كان يتقوى به، وينمو به جسمه طولاً وعرضاً " وكان الصبي ينمو " (لوقا 2/40)، ونموه كان بالجسد والعقل " وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لوقا 2/52)، فالطعام ينميه جسدياً، والتعلم في الهيكل من الشيوخ والمعلمين ينميه عقلياً " وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم" (لوقا 2/46).
كما ويقتضي الطعام خسيسة أخرى لا يليق أن تذكر في سياق الحديث عن مقام الألوهية وعظمته، ألا وهي التبول والتغوط، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهو ما نبه الله تعالى إليه أذهان العقلاء بقوله: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام فكل من طعم وشرب احتاج لإخراج ما طعم، ولا يليق نسبة هذه المنقصة ولا غيرها إلى الله عز وجل الذي لا يشارك الناس هذه الدنايا.
وتذكر الأناجيل حزن المسيح ليلة الصلب وغيرها " إن نفسي حزينة حتى الموت " (مرقس 14/32-36).
ثم لما جزع ظهر له ملك من السماء ليقويه. (انظر لوقا 22/43).
ثم لما وضع - حسب الأناجيل - على الصليب جزع وقال: " إلهي إلهي، لم تركتني " (مرقس 15/34).
بل وتزعم الأناجيل أنه مات، فهل رب يموت؟ "فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح" (مرقس 15/37)، وقبل أن يجيبنا أحدهم – ببرود - بأن الذي مات هو الناسوت، وأن اللاهوت لا يموت؛ فإني أذكر القارئ بأن الذي مات على الصليب هو ابن الله، وليس ابن الإنسان، "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به" (يوحنا 3/16).
ولا يجد الأسقف ترتليان في القرن الميلادي الثالث ما يدفع به هذه القاصمة إلا أن يقول: " لقد مات ابن الله! ذلك شيء غير معقول، لا لشيء، إلا لأنه مما لا يقبله العقل، وقد دفن من بين الموتى، وذلك أمر محقق، لأنه مستحيل " ( )، ومع ذلك يؤمن به ترتليان والنصارى من بعده.
وذكرت الأناجيل أيضاً تذلَله وخضوعه لله عز وجل وتضرعه بين يديه " وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن أن تعبر عني هذا الكأس، ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (متى 26/39). "وكان يصلّي هناك" (مرقس 1/35).
ويصور لوقا صلاته ، فيقول: " جثا على ركبتيه وصلى" (لوقا 22/41). وذات يوم وقبل اختياره للتلاميذ " خرج إلى الجبل ليصلّي، وقضى الليل كله في الصلاة لله، ولما كان النهار دعا تلاميذه" (لوقا 6/12) فلمن كان الإله يصلي طوال الليل منفرداً؟ هل كان يصلي لنفسه؟ أم للآب الحال فيه؟ وهل تجوز عبادته وهو على هذه الحال؟ لِم نترك عبادة المعبود ونعبد العابد؟!
وكان يصلي متوارياً وصار عرقه كعبيط الدم، يقول لوقا: "وإذ كان في جهاد كان يصلّي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه" (لوقا 22/44)، يقول يوحنا فم الذهب: "من ذا لا يتعجب عندما يرى الله جاثياً ومصلياً" ( ).
ومن تضرعه واستغاثته بربه ما ذكره يوحنا عن حال المسيح عندما أحيا لعازر " ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني" ( يوحنا 11/40-41 ).
والتضرع والعبادة نوع من دلائل العبودية لا يجوز نسبته إلى الله أو للمتحد معه.
ويتحدث بولس عن انتصار المسيح على الكل بما فيهم الموت، ثم يذكر خضوعه بعد ذلك لله، فيقول: "متى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل (لله)، كي يكون الله الكل في الكل" (كورنثوس (1) 15/28).
وأخيراً، فإن مما يؤكد بشرية المسيح ما أخبر من أنه عليه السلام سيدخل الجنة التي وعدها الله عباده المؤمنين، ومنهم المسيح وتلاميذه، وأنه سيشرب في اليوم الآخر ويأكل معهم، حيث قال: "في بيت أبي منازل كثيرة ... أنا أمضي لأعد لكم مكاناً ... حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً " (يوحنا 14/2 – 3)، وقال: " إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (متى 26/29).
ومن المعلوم أن ملكوت الله يراد به هنا الجنة، حيث يلقى التلاميذ من جديد، فيشرب معهم في جنة الله، فهل سيتجسد الابن ثانية يوم القيامة؟ وما الحكمة من التجسد حينذاك؟ أم أن المسيح سيعود ككائن بشري عادي يأكل في جنة الله كسائر المؤمنين.
وجماع هذا كله قوله عن نفسه: "وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8/40)، أفلا نقبل شهادته عليه الصلاة والسلام عن نفسه؟!
فلو كان إلهاً لما صح منه أن يعمي علينا هذه الحقيقة بمثل هذا القول الصريح الدال على إنسانيته.
وحين يصر النصارى على القول بألوهيته فإنهم يضربون بعرض الحائط قول المسيح وتلاميذه، ويتنكرون بذلك لكل هذه النصوص التي لم تتحدث أبداًَ عن إله متجسد، ولا عن ناسوت حل به الله.
وبذا يكون النصارى قد وقعوا فيما حذر منه مقدسهم بولس الذي ألبسهم هذه العقيدة ثم تبرأ منهم ومن صنيعهم، حيث قال: "إنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم، وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى، بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم، الذين استبدلوا حق الله بالكذب، واتقوا، وعبدوا المخلوق دون الخالق، الذي هو مبارك إلى الأبد " (رومية 1/21-25).
الضرب الثالث: هو النصوص التي بينت ذهول معاصريه من حوارييه وأعدائه عن فكرة ألوهيته وربوبيته، مما يدل على أن الفكرة لا علاقة لها بالمسيح ولا أتباعه. بل هي من مخترعات لاحقة لذلك العهد، وذلك يكفي للإعلان عن بطلانها.
وفي ذلك نصوص كثيرة منها:
- جهل أمه العذراء البتول بألوهيته، إذ لما كان المسيح راجعاً مع والدته ويوسف النجار حصل ما يدل على جهل والدته بمقامه، فإن جهلت والدته الطاهرة ألوهيته، فمن ذا الذي يعلمها، فقد جاء في لوقا: "وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما، إذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم، وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف، ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل بين المعلمين يسمعهم ويسألهم … يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين " (لوقا 2/41-48)، فلو كانت مريم تعلم أن ابنها هو الله أو ابنه لما كان لهذا الخوف على المسيح أي معنى.
ويجيب المسيح سؤال أمه ويوسف النجار بقوله: " لماذا كنتما تطلبانني! ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي"، فهل فهمت البتول وزوجها من جوابه بأنه يتحدث عن ألوهيته وبنوته الحقيقية للآب؟ بالطبع: لا، فهما لا يعرفان شيئاً عن هذا المعتقد الغريب. يقول لوقا: " فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما" (لوقا 2/50).
وفي مرة أخرى سمعت مريم البتول ورأت فرح سمعان الأورشليمي وهو يحمل وليدها، ويحمد الله على أن عينيه قد اكتحلتا برؤية المعزي المخلص، لكنها والنجار لم تفهمان ما يقوله، فاكتفيا بعلامات العجب وأمارات الاستغراب، يقول لوقا: "وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه" (لوقا 2/33).
ويذكر يوحنا أن المسيح لما صلب ذهبت والدته لتذرف عليه الدمع. (انظر يوحنا 19/25)، أفلم تكن تعلم حين ذاك أن ولدها هو الله أو ابنه، وأن الموت لا يضيره؟
- وسمعان الصفا (بطرس)، أقرب التلاميذ إلى المسيح يقول وهو ممتلئ من الروح القدس: "أيها الرجال الإسرائيليون، اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون، هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه" (أعمال الرسل 2/22)، فلم يشر في خطبته المهمة - التي كان فيها مؤيداً من الروح القدس - إلى شيء من الألوهية للمسيح، ولم يتحدث عن الناسوت المتأله ولا الإله المتجسد.
ولما عرض المسيح - متنكراً بعد الصلب المزعوم - لرجلين من أصحابه قد حزنا بسبب ما تردد عن صلبه، سألهما عن سبب حزنهما فقالا: " يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت، وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل" (لوقا 24/19-21)، فليس في قولهما حديث عن ناسوت مقتول، ولا عن لاهوت متجسد نجا من الموت، إن غاية ما كانوا يرقبونه فيه، أن يكون مخلص إسرائيل، أي المسيح المنتظر الذي بشرت به الأنبياء، فإن "الإيمان الشائع بين اليهود كان يقتصر على أن المسيح يكون فقط إنساناً مشهوراً وممتازاً في فضائله ووظيفته" ( ).
ويقول القس إبراهيم سعيد عن هذين التلميذين: "إلى الآن لم يؤمنا بلاهوته .. لكننا لا ننكر عليهما أنهما كانا مؤمنين بنبوته" ( ).
وأيضاً عجب منه تلاميذه لما رأوا بعض معجزاته، ولو كانوا يرونه إلهاً لما كان في معجزاته أي عجب، فقد مرّ يسوع بالشجرة وقد جاع، فقصدها، فلم يجد فيها سوى الورق. فقال: لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد، فيبست الشجرة لوقتها، فتعجب التلاميذ "قال لها: لا يكون منك ثمر بعد إلى الأبد، فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين: كيف يبست التينة في الحال..." (متى 21/18-22). فدل عجبهم على أنهم كانوا لا يدركون شيئاً مما تعتقده النصارى اليوم من ألوهية المسيح، وإلا فإن إيباس الإله للشجرة ليس فيه ما يدعو لأي عجب.
إن غاية ما اعتقده التلاميذ في المسيح أنه المسيا النبي العظيم المنتظر، ولم يدر بخلدهم ألوهيته أو بنوته لله، يقول الأب متى المسكين: "التلاميذ وقف تفكيرهم عند اعتقادهم فيه أنه نبي، ولكن يعمل أعمالاً لم يعملها نبي .. رفع تقديرهم للمسيح عن ما هو أكثر فعلاً من نبي، ولكن ماذا يكون .. فالتلاميذ جمعوا من الأدلة في حياة المسيح ما يؤكد لهم أنه المسيا".( )
وهذا يوحنا المعمدان ( يحيى ) الذي لم تقم النساء عن مثله. (انظر متى 11/11)، يرسل إلى المسيح رسلاً بعد أن عمده ليسألوه " أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح؛ أرسل اثنين من تلاميذه. وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون. وطوبى لمن لا يعثر في" (متى 11/3-6).
فيحيى المعمداني مع جلالة أمره لم يظن في المسيح أنه أكثر من النبي المنتظر الذي كانت تنتظره بنو إسرائيل.
وإجابة المسيح لا تدل بحال على ألوهيته، فقد أخبر بمعجزات نبوته، ثم عقب بالتحذير من الغلو فيه - كفعل النصارى -، أو التفريط كفعل اليهود الذين كذبوه وآذوه وهموا بقتله.
ولما جاءته المرأة السامرية ورأت قدراته وأعاجيبه: "قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي" (يوحنا 4/19)، وما زادت على ذلك، فما وبخها ولا صحح لها معتقدها، فكان هذا معتقداً يعتقده عامة الناس كما اعتقده تلاميذ المسيح وحواريوه.
وهو ما قاله عنه الأعمى الذي شفاه المسيح ورأى برهان الله على نبوة هذا المبارك "فقالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له: يسوع" (يوحنا 9/10-11)، لكن النصارى اعتقدوا في هذه الحادثة ما لم يعتقده ذاك الذي شفاه المسيح، والذي شهد له بالإنسانية فحسب.
وكذا الجموع التي رأته كثيراً في أورشليم، وخرجت لاستقباله لما دخل أورشليم دخول الأبطال، هذه الجموع كانت تعتقد بشريته ونبوته " فقالت الجموع: هذا يسوع النبي" (متى 21/11).
وفي موقف آخر حدَّث المسيح اليهود عن الكرامين الأردياء الذين ينقل الله عنهم ملكوته القادم، فانزعجوا منه، وأرادوا الإمساك به، لكنهم "خافوا من الجموع، لأنه كان عندهم مثل نبي" (متى 21/45) ( ).
وهاهم أعداؤه من اليهود يلاحقونه، ويطلبون منه آية، فأخبرهم بأنه لن تأتيهم سوى آية يونان النبي ( يونس ) "أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلّم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي" (متى 12/38-39).
واليهود ولا ريب يبحثون عن آية تدل على نبوته التي يدعوهم إلى الإيمان بها، ولو كان ما يدعو إليه الألوهية لما رضوا منه بمثل آية يونان، بل ولطالبوه بآيات أعظم من آية يونان، وغيره من الأنبياء.
وفيما أحد الفريسيين يرقب المسيح متشككاً بنبوته تقدمت إليه امرأة خاطئة باكية تمسح رجليه بشعرها، تقبلهما وتدهنهما بالطيب، "فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك، تكلم في نفسه قائلاً: لو كان هذا نبياً لعلم من هذه المرأة التي تلمسه؟ وما هي؟ إنها خاطئة" (لوقا 7/39). لقد استنكر في نفسه نبوة - لا ألوهية – هذا الذي يجهل حال الخاطئة، مما يؤكد أن دعواه بينهم إنما كانت النبوة فحسب، يقول الأب متى المسكين: "فالفريسي إذ رأى المسيح يتقبل من المرأة ما صنعته به أخذها شهادة ضد المسيح أنه ليس نبياً كما كان يذاع عنه".( )
ولما أراد اليهود قتله، كانت جريمته عندهم دعواه النبوة، لا الربوبية، فقد قالوا لنيقوديموس: "ألعلك أنت أيضاً من الجليل؟ فتّش وانظر. إنه لم يقم نبي من الجليل" (يوحنا 7/52)، إنهم يكذبونه في دعواه النبوة، وهو من الجليل التي لم يسبق أن أتى منها نبي.
والشيطان أيضاً لم ير في المسيح أكثر من كونه بشراً، فاجترأ عليه محاولاً غوايته، لذلك فقد حصره في الجبل أربعين يوماً من غير طعام ولا شراب، وهو في ذلك يمتحنه ويمنيه بإعطائه الدنيا في مقابل سجدة واحدة له "أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها. وقال له: أعطيك هذه جميعها، إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (متى 4/9-10)، فهل كان الشيطان يعِد الرب العظيم - مالك كل شيء وواهبه - بالدنيا؟!!.
وينقل القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره لإنجيل متى عن القديس جيروم قوله: "يقصد إبليس بكل هذه التجارب أن يعرف إن كان هو الحق ابن الله، ولكن المخلص كان موفقاً في إجاباته تاركاً إياه في شك"، فالشيطان كان وبقي جاهلاً بألوهية المسيح المدعاة.
ثم إن كان المسيح إلهاً متجسداً فكيف نفهم تبريراً لخيانة يهوذا؟ وهل يخان الإله؟ وكيف نفهم بطرس إنكار بطرس له ثلاث مرات ولعنه في الليلة التي أراد اليهود القبض فيها على المسيح؟
بل إن كل ما قيل في سيرة المسيح يصعب فهمه مع القول بألوهيته، ويترك علامات استفهام لا إجابة عنها.
ثم إن بشرية المسيح موجودة ليس في أقوال معاصريه بل حتى في النبوءات السابقة التي يؤمن النصارى بها، ويقولون أنها تحققت فيه ، فهذه النبوءات لم تتـنبأ بقيام رب أو إله، وإنما تنبأت بنبي ورسول صالح.
من ذلك ما جاء في كلام عاموس النبي "قال الرب: من أجل ذنوب إسرائيل الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه، لأنهم باعوا البار بالفضة..." (عاموس 2/6)، فهو لم يقل: في بيعهم إياي، ولا بيع إله متساو معي، بل سماه باراً، وهو وصف يقتضي كمال العبودية لله.
الضرب الرابع: النصوص التي شهدت للمسيح بالنبوة، وإثبات النبوة والرسالة له مبطل للألوهية.
فقد شهد له معاصروه بالنبوة والرسالة، والتي هي صفة البشر، لا الإله، ومن هذه النصوص قوله: " أنتم تدعونني معلّماً وسيّداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك" (يوحنا 13/13)، فقد أكد المسيح صحة اعتقاد التلاميذ به، إنهم يرونه معلماً وسيداً لهم، وقد شاع تسميته عندهم بالمعلم، "وقال له: يا معلم " (مرقس 10/20)، أفكان من حسن الأدب أن يترك التلاميذ نداءه بالألوهية وأن ينادوه بهذا النداء المتواضع: معلم.
وقد بدأت نبوته، وهو في سن الثلاثين "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة " (لوقا 3/23)، وقد كان ثمة وقت لم ينزل عليه الروح القدس "لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مجّد بعد" (يوحنا 7/39).
وشهد المسيح لربه بالوحدانية، ولنفسه بالرسالة، فقال: " أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته " (يوحنا 17/3).
ونحوه قوله عن نفسه: " فكانوا يعثرون به، وأما يسوع فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته" (متى 13/57)، فاعتبر نفسه كسائر الأنبياء، لا يعرف أقوامهم لهم قدرهم ومنزلتهم.
ولما خوفه الفريسيون من هيرودس قال لهم: " ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم. يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين" (لوقا 13/33-34)، فشهد لنفسه بالنبوة، وخاف من مصرعه في أورشليم كما صرع فيها غيره من الأنبياء، فغادر أورشليم، وناداها: " يا قاتلة الأنبياء" ولم يقل لها: يا قاتلة الإله. فذلك أبلغ لو صح.
ولما أظهر المعجزات لقومه قرنها بدعوى نبوته قائلاً وهو يناجي الله: " ولكن أسألك من أجل هذه الجماعة، ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني " (يوحنا 11/42).
ولما أرادوا قتله قال: "تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8/40)، فهو إنسان رسول، وهذا نص صريح بإنسانيته أنه رسول من الله.
ولما بعث تلاميذه للدعوة قال لهم: " فقال لهم يسوع أيضاً: سلام لكم، كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" (يوحنا 20/21).
وأكد رسالته بقوله: " الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول، وبماذا أتكلم " (يوحنا 12/49).
وهو في كل ما يقوله عن الله معصوم لأنه ينطق بالوحي، فقد قال: "الكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني" (يوحنا 14/24)، وفي موضع آخر: "تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني" (يوحنا 7/16). وقال: " ولا رسول أعظم من مرسله " (يوحنا 13/16).
ومما يبطل قول النصارى بألوهية المسيح النصوص التي جعلته رسولاً خاصاً إلى بني إسرائيل، والإله لا يكون خاصاً بأمة دون أمة.
ومن ذلك قوله: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (متى10/6).
ومثله قصة المرأة الكنعانية التي رفض شفاء ابنتها أول مرة، لأنها ليست من شعبه. (انظر متى 15/21-28).
ومثله الوعد الذي وعِِده كما جاء في لوقا "وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على آل يعقوب إلى الأبد" (لوقا 1/32-33)، فهل هو إله خاص ببني إسرائيل أم رسول خاص بهم؟ فلو كان إلهاً لما صح اختصاصه بشعب دون شعب، فهذا شأن الأنبياء.
ونبوته عليه الصلاة والسلام هي معتقد الناس عامة فيه، وقد صرحوا بذلك أمامه فلم يخطئهم، فعندما أحيا المسيح ابن الأرملة في نايين " أخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه" (لوقا 7/16).
ولما أطعم الخمسة آلاف إنسان من خمسة أرغفة قالوا: " فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" (يوحنا 6/14).
وقد قال بولس معترفاً برسالته وبشريته: "لأنه يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس (1) 2/5).
وقد صدق السير آرثر فندلاي في قوله في كتابه "الكون المنشور" : "لا يعتبر عيسى إلهاً أو مخلصاً، إنما هو رسول من اللّه خدم في حياته القصيرة في علاج المرضى وبشر بالحياة الأخرى، وعلم بأن الحياة الدنيا ما هي إلا إعداد للملكوت الإلهي بحياة أفضل لكل من عمل صالحاً".
وهكذا رأينا من الضروب الأربعة ما قام فيه دليل وبرهان واضح على عبودية المسيح لله، وأنه رسول عظيم من لدن ربه جل وعلا، وهذا موافق بل مطابق لما يؤمن به المسلمون إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل (الزخرف: 59).
القول بتدرج إعلان ألوهيته
ولما عدِم النصارى الدليل على ألوهية المسيح، ورأوا أن أحداً من معاصريه لم يدرك تلك الألوهية التي يتحدثون عنها صدر بعضهم بقول جديد، مفاده أن المسيح لم يعلن ألوهيته لتلاميذه في بدء دعوته، بل تدرج بهم حتى كشف لهم عنها بعد قيامته، أي لم يدركوا هذا السر إلا بعد موته.
ومن القائلين بهذا الرأي بتر سمث في كتابه الشهير "سيرة المسيح الشعبية"، فيقول عن مريم وموقفها من ابنها: "هل حسبته إلهاً ابن الآب الأزلي… إن رواية الإنجيل تجعل هذه الفكرة محالة، كما أن العقل لا يسلم بها، وإلا كيف استطاعت أن تؤنبه على توانيه في الهيكل مع أحبار وعلماء اليهود؟ وكيف عالجت شؤونه كلها كطفلها الخاضع لها…
كلا إن العذراء لم تفكر في ولدها كإله … لم تدرك سر ألوهيته الهائل الذي لم تفطن إليه ولم تعرفه إلا مؤخراً، وحتى التلاميذ أنفسهم لم يدركوا هذا السر الهائل إلا قبيل نهاية حياته … لكنهم لم يفطنوا إليه ويدركوه تماماً إلا بعد موته وقيامته وصعوده بمجد وإرساله الروح القدس.
عندئذ أخذوا يرجعون بذكرياتهم إلى الوراء خلال ثلاث سنوات تقضت في صحبته، ويتعجبون كيف أمسكت عيونهم عن معرفة ما عرفوه الآن".
إذاً كانت ألوهية المسيح استنتاجاً عقلياً توصل إليه التلاميذ بعد رفع المسيح، وكل ما ينقل من أدلة كتابية على ألوهيته لم تكن كافية ليصلوا إلى هذا المعتقد أو يدينوا به.
وهذه الدعوى من النصارى تثور في وجهها تساؤلات عدة منها: لمَ أخفى المسيح هذه الحقيقة عن تلاميذه؟ ولم َلم ْيعلنها منذ اليوم الأول؟ إن إخفاءه المزعوم لها جعل الكثيرين – من معاصريه ومن بعدهم من الذين تسميهم الكنيسة بالهراقطة - يقولون ببشريته، وحُقّ لهم ذلك، إذ لم يقل المسيح عن نفسه أنه إله، ولم يعتقد ذلك أحد من تلاميذه زمن كرازته.
ونتساءل هل كان إخفاؤه لحقيقته خوفاً من اليهود؟ كيف وهو الرب الذي نزل ليصلب كما زعموا؟
والحق أن المتتبع لآخر أحاديث المسيح لا يجد أي مفارقة بين أقوال المسيح أول بعثته وبين أقواله قبل وبعد حادثة الصلب المزعوم، كما لا يجد في أحوال التلاميذ ما يدل على أنهم اكتشفوا ما لم يدروه من قبل، فلوقا يذكر أن المسيح على الصليب قال: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون" (لوقا 23/34)، وكان ينبغي أن يجهر بألوهيته فيقول: سأغفر لكم. لكنه بشر يعجز عن ذلك، فطلب من الله أن يغفر لهم.
وأيضاً قال للص المصلوب: "تكون معي في الفردوس" (لوقا 23/43)، ولو كان إلهاً لقال: أنعمت عليك بالفردوس.
وها هو المسيح بعد القيامة المزعومة يقول: "إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20/17).
وها هم تلاميذه بعد قيامته يعتبروه إنساناً فقط، فيقول اثنان منهم : "الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وأمام الناس" (لوقا 24/19).
وكذلك قال عنه بطرس بعد رفعه وهو ممتلئ من الروح القدس: "يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من الله بقوات وعجائب" (أعمال 2/22).
وقال في مرة أخرى: "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة…" (أعمال 10/38).
إن مجرد الحديث عن تدرج إعلان ألوهية المسيح يطعن في كل ما تورده النصارى من أدلة على ألوهية المسيح من التوراة والأناجيل، إذ هذه الأدلة كلها وغيرها لم تجعل تلاميذه يقولون بألوهيته، فهم عندما أسموه ابن الله أو الرب أو الله ما كانوا يقصدون الحقيقة، إنما كانوا يريدون المجاز، وهكذا الحال في جميع ما يتعلق به النصارى في موضوع ألوهية المسيح من أدلة.
مبررات تجسد الابن
يعتقد النصارى أن الله تجسد في المسيح، ويحتجون لذلك بقول يوحنا: "والكلمة صار جسداً، وحل بيننا" (يوحنا 1/14).
ولفهم هذا النص نقرأ ما يقوله محققو الرهبانية اليسوعية تعليقاً على الحكمة المتجسدة المذكورة في (الأمثال 8/22): "إن فكرة الحكمة المجسدة، وهو مجرد فن أدبي في مثل (الأمثال 14/1)، قد تطورت في إسرائيل ابتداء من زمن الجلاء، حين لم يبق تعدد الآلهة مهدداً الدين القويم .. ففي جميع هذه النصوص التي تجسد فيها الحكمة أو الكلمة أو الروح؛ يصعب علينا أن نميز بين ما هو فن شعري، وما هو تعبير عن مفاهيم دينية قديمة، وما هو شعور بوحي جديد".
وهكذا، فنص تجسد الكلمة يحتمل أن يكون مجرد استعارة فنية أدبية ، لا تختلف عن تجسيد الحكمة، حين خرجت "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها، تدعو في رؤوس الأسواق" (الأمثال 1/20-21)، ومثله تجسيد الجهل بامرأة صخابة خادعة (الأمثال 9/13-18) ( ).
وقد تساءل المحققون - في هذا الصدد - عن سبب تجسد الابن دون الآب أو روح القدس؟ وتساءلوا لم كان التجسد الإلهي على صورة بشر؟ ما ضرورته؟ لماذا نزل الابن من عليائه ليدخل جوف امرأة ثم يخرج من فرجها؟ لم كان هذا كله؟
اجتهد رجال الكهنوت في الإجابة عن هذه الأسئلة، ولما لم يجدوا لها إجابة في ثنايا كتابهم أعملوا عقولهم، فصدرت عنهم أقوال مختلفة، كلٌ بحسب ما أداه إليه عقله، إذ كما لم يجدوا في العهد الجديد ما يؤكد قول بولس بأن الإله قد تجسد، أيضاً لم يجدوا في هذه الأسفار تبريراً له.
وقد انحصرت إجاباتهم في أقوال، أهمها:
أولها: أن هذا السر لا نفهمه، وينبغي أن نؤمن به.
ثانيها: أن التجسد كان لردم الهوة بين الله والبشرية وإيناسها برؤية الإله – كما سيمر معنا في كلام البابا أثناسيوس-.
ثالثها: أن التجسد كان طريقة لرد الناس لعبادة الله بعد أن عبدوا المخلوقات والمصنوعات، وتركوا الخالق وهجروا عبادته، فتجسد الله ليعبده الناس، يقول القديس أفرام: "إن الله رأى أننا (أي البشر) عبدنا المصنوعات، ولذلك لبس جسداً مصنوعاً ، ليقتنصنا به ونتعبد له" ( ).
رابعها: أن التجسد كان ضرورة للتوفيق بين عدل الله ورحمته، حيث اقتضى عدل الله موت البشرية وتسلط الموت عليها واقتضت رحمته حياتها، فكان المسيح كبش الفداء.
وفي ذلك يقول البابا أثناسيوس وهو أحد أهم رجال مجمع نيقية : "لهذا كان أمام كلمة الله أن يأتي بالإنسان الفاسد إلى عدم فساد، وفي نفس الوقت أن يؤمن مطالب الأب العادل المطالب به الجميع، وحيث إنه هو كلمة الأب ويفوق الكل، فكان هو وحده الذي يليق بطبيعته أن يجدد خلقه كل شيء وأن يتحمل الآلام عن الجميع لدى الآب .. لأجل ذلك نزل إلى عالمنا كلمة الله الخالي من الجسد، العديم الفساد وغير المادي .. وإذ لم يتحمل أن يرى الموت تصير له السيادة لئلا تفنى به الخليقة، وتذهب صنعه أبيه في البشر هباء، فقد أخذ لنفسه جسداً لا يختلف عن جسدنا .. لأنه لو لم يكن الرب مخلص الجميع ابن الله قد جاء إلينا وحل بيننا ليوفي غاية الموت، لكان الجنس البشري قد هلك".
ثم ماذا بعد موت المسيح هل تغير حال البشر فلم يعد الموت متسلطاً عليهم؟
فيجيب أثناسيوس: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم .. وعندما تم ذلك بدأ البشر يموتون، وصار عليهم من الفساد في ذلك الوقت فصاعداً، وصار له سلطان على الجنس البشري أكثر من سلطانه الطبيعي، لأنه أتى نتيجة تهديد الله في حال العصيان".
لكنا لم نعرف ما هو السلطان الطبيعي للموت؟ ولا ندري ما الفرق بين موت الناس قبل المسيح وبعده .. كما يحق لنا أن نتساءل هنا عن سر تسلط الموت على غيرنا كأنواع الحيوانات المختلفة.
كما يذكر أثناسيوس سبباً آخر للتجسد - وهو الإيناس الذي ذكرناه قبلُ - فيقول: "عندما خلق الله الضابط للكل الجنس البشري بكلمته، ورأى ضعف طبيعتهم، وأنها لا تستطيع من نفسها أن تعرف خالقها، أو أن تكون فكرة عن الله على الإطلاق .. لهذا تحنن الله على الجنس البشري على قدر صلاحه ولم يتركهم خالين من معرفته، لئلا يروا أن لا منفعة على الإطلاق من وجودهم في الحياة" ( ).
لقد كان الهدف من التجسد إذاً أن تأنس البشرية برؤية ومعرفة ربها وأن تنهدم الهوة الواسعة بين الخالق والمخلوق، وهو ما عبر عنه سنوت في كتابه "المسيحية الأصلية" حيث يقول: "توجد فقط هوة واسعة لا حد لها … ولو لم يكن الله بادر وتدراك الأمر لبقيت الحالة على ما هي عليه، ولظل الإنسان بلا رجاء يتخبط في دياجير اللا إرداية، ولكن الله تكلم، ولقد بادر وأعلن عن نفسه" ( ).
وهنا يتساءل الدكتور عبد الكريم الخطيب: كيف كانت صلة الأنبياء بربهم مع هذه الهوة؟ هل عرفوا ربهم المعرفة التي تدفعهم لعبادته وطاعته؟ أم كان إيمانهم باهتاً؟ وماذا تغير في حياة البشرية بعد تجسد الإله؟ هل آمن الناس وعرفوا ربهم؟ وهل زال الإلحاد من البشرية؟
ثم أين الإيناس للبشرية في رؤيتها للرب وهو يصفع ويضرب ويجلد. إن هذا من شأنه أن يقلل من مقام الألوهية عندهم، فالنفس البشرية طلعة تتوقد أشواقها إلى المجهول، وتتحرك نزعاتها إلى عالم الغيب، فإذا انكشف لهم المجهول أو ظهر لهم ما وراء الغيب سكنت نزعاتها وبردت أشواقها نحو هذا الشيء الذي كانت تسعى إليه وتجدُّ في البحث عنه.
ثم ماذا عن باقي أجيال البشرية التي لم تأنس بمعرفة هذا المتجسد.هل من العدل أن تحرم منه؟ وكيف لها أن تعرف ربها ولم تراه ؟!
ثم لم كان أنسنا بالإله حال طفولته وشبابه فقط، ولم نأنس به أيضاً حال كهولته وهرمه. فلماذا؟!
وهكذا يرفض المسلمون هذه التبريرات المتهافتة التي تسيء إلى عظمة الله، وتجعله عاجزاً عن العفو والغفران، حائراً بين عدله ورحمته، ومثل هذا لا يقع به الحكماء من الناس فضلاً عن رب العالمين، أو تظهره عاجزاً عن هداية خلقه إلى عبادته إلا بموافقتهم على ما ألفوه من صور الشرك.
ويشاركنا شارل جنيبر الرأي في ضعف هذه التبريرات، ويقرر أن بولس هو الذي قرر تجسد الإله، ويوضح الأسباب التي دعته لذلك، لقد ابتكر عقيدة التجسد بعد أن أدرك " أن الأتباع الجدد من المشركين لم يكونوا ليتقبلوا كل القبول فضيحة الصلب، وأنه يجب تفسير ميتة عيسى المشينة - و التي لم يكف الأعداء بطبيعة الحال عن الرجوع إليها - تفسيراً مرضياً، يجعل منها واقعة ذات مغزى ديني عميق.
وأعمل الحواري (بولس) فكره في هذه المشكلة ... ووضع حلاً كان له صدى بالغ المدى قد تجاهل فكرة عيسى الناصري التي أغرم بها الاثنا عشر، ولم يتجه إلا إلى عيسى المصلوب، فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود، وتمثل نوعاً من التشخيص … وقد عثر الحواري على العناصر الجوهرية في الأسرار، عثر عليها في غالب الظن دون أن يبحث عنها…" ( ).
لكن حرجاً آخر واجهه بولس وهو يضع لمساته النهائية على الإله المتجسد المصلوب، وهو كيف يقول بنهاية حياة المسيح على الصليب، والتوراة تنص على لعن كل مصلوب. (انظر التثنية 21/23)، فهذا يزري بالمسيح ويجعله ملعوناً حسب شرائع اليهود.
لحل هذه القاصمة، رأى بولس أن يجعل من الملعون مثلاً أعلى في التضحية، وأن يجعل منه إلهاً نزل وتجسد ليفدي البشرية من خطاياها، فصار لعنة ليفتديهم من لعنة الناموس، وكما قال بولس: "ولكن الله من محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا، فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه، نخلص به من الغضب، إنه وإن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه.." (رومية 5/8-10)، لقد صار لعنة لأنه حررنا من لعنة الناموس! ( ).
وأخيراً، فإن هذا الذي تقوله النصارى في الرب جل وعلا من تعدد وتجسد نوع من العبث الإنساني وجرأة صارخة على مقام الرب جل وعلا وتطاول مستغرب، فإن المثّال كما يقول الأستاذ المهتدي محمد مجدي مرجان "حين يصنع تمثالاً فإنه يستطيع أن يهدمه، ولا يتصور أحد أن يدعي التمثال أنه من جِبلة صانعه، أو أنه جزء أو عنصر من هذا الصانع.
ولكن الإنسان الضعيف - أحد مخلوقات الله - تطاول على صانعه، ثم أخذه الغي، ولعبت برأسه نشوة الضلال، فقلب الوضع وعكس الآية، فقام بإعادة تكوين وتشكيل صانعه، ثم راح يعيد تقسيم خالقه إلى أقسام ثلاثة ابتدعها خياله، جاعلاً كل قسم منها إلهاً قائماً بذاته، محولاً الإله الواحد إلى ثلاثة ... ثم قام بتقسيم الأعمال والأعباء والوظائف بين آلهته الثلاثة التي صنعها عطفاً وإشفاقاً من أن يتحمل كل تلك الأعمال والأعباء والوظائف إله واحد. حقاً ما أشقى الإنسان"( ).
والحق أن فكرة التجسد النصرانية كانت أحد أهم أسباب انتشار الإلحاد بين المسيحيين، فإن الإنسان يميل بفطرته وعقله إلى تعظيم الخالق وتنـزيهه عن الشبيه والمثيل، فيما تجعله النصرانية إنساناً خرج من فرج امرأة من بني إسرائيل.
يقول كيرانس ايرسولد: "أما من وجهة نظر العلم فإنني لا أستطيع أن أتصور الله تصوراً مادياً، بحيث تستطيع أن تدركه الأبصار أو أن يحل في مكان.." ( ).
وعندئذ يخيَر الناس بين المعتقد الخاطئ والفطرة الصحيحة المؤيدة بسلطان العقل، فلا يجد كثير منهم مفراً من الكفر بإله الكنيسة المصفوع والمصلوب، فيكثر الإلحاد. تعالى الله عما يقول هؤلاء علواً كبيراً.
ومن الآثار السيئة التي تتركها عقيدة التجسد إضعاف المثُل والقيم التي جاء بها المسيح ودعا إليها، ثم كان بسبقهم إليها قدوة صالحة لأتباعه، لكن أثر هذا الخلق يضيع مع القول بالألوهية، إذ لن يتصور البشر إمكانية تطبيق هذه المُثُل التي سبقهم إليها إله.
هذا ما يراه كُتاب دائرة المعارف الأمريكية في قولهم: "لو كان إلهاً فإن المثُل التي ضربها لنا بعيشته الفاضلة يفقد كل ذرة من القيمة، حيث إنه يمتلك قوى لا نملكها. إن الإنسان لا يستطيع تقليد الإله".
ويقول توماس أكمبسفي كتابه "على خطى المسيح": "إذا كان المسيح إلهاً فإن المرء لا يستطيع اقتفاء أثره والسير على منهجه".
هل المسيح هو الله؟
وقد اهتم المحققون بمناقشة الطبيعة الواحدة للمسيح والتي تقول بها الكنيسة الأرثوذكسية المصرية (المرقسية).
وفي بيان معتقد الكنيسة المصرية يقول حبيب جرجس عميد الكلية الإكليريكية بمصر موضحاً عقيدة الأرثوذكس الشرقيين في مسألة الطبيعة الواحدة : "إن فادينا العظيم قد تنزل عن سماء مجده، وقبِل أن يتحد بالإنسان باتخاذه جسداً حقيقياً بنفس عاقلة ناطقة، فحبل به بقوة الروح القدس ... واتحادهما بدون اختلاط ولا امتزاج، يصيران شخصاً واحداً، ذا طبيعة واحدة ... صار المسيح ذاتاً واحدة جوهراً واحداً طبيعة واحدة، مشيئة واحدة".
ولعل هذا المذهب أشد مذاهب النصارى كفراً، إذ أنه جعل الله هو المسيح كما قال الله عنهم: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم (المائدة: 17).
ويعجب المسلمون كيف جعل أتباع هذا المذهب الله بشراً؟ فالقديم الأزلي لا يصير محدثاً، ولا يجري عليه ما يجري على البشر من عوارض كالنوم والنسيان والأكل والشرب وكونه يرى…
لكن النصوص المقدسة تثبت أن المسيح ليس الله، فثمة مفارقات واضحة بينهما، فالمسيح بشر، أصابته العوارض التي تصيب سائر البشر، وهي عوارض تنزه النصوص التوراتية، بل والإنجيلية الله عز وجل عنها.
فالمسيح مولود امرأة، وهيهات لمولود المرأة، ابن آدم الدود، أن يكون إلهاً، فقد جاء في التوراة "فكيف يتبرر الإنسان عند الله؟ وكيف يزكو مولود المرأة. هوذا نفس القمر لا يضيء، والكواكب غير نقية في عينيه. فكم بالحري الإنسان الرمّة وابن آدم الدود!" (أيوب 25/4-5).
والمسيح إنسان ، وهو ابن الإنسان "وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8/40)، بينما الله "ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم" (العدد 23/19).
والمسيح نام في السفينة. (انظر مرقس 4/35-38)، أما الله فهو " لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل" (المزمور 121/4).
والمسيح كان جسداً مرئياً، والله لا يرى "الذي لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه الذي له الكرامة والقدرة الأبدية" (تيموثاوس (1) 6/16). وهو ما يقوله يوحنا: " الله لم يره أحد قط " (يوحنا 1/18).
يمضي يوحنا فيقول: " الله روح" (يوحنا 4/24)، أي ليس جسماً محسوساً، في حين كان المسيح جسماً محسوساً باللمس، والمسيح عن نفسه يقول: " انظروا يديّ ورجليّ، إني أنا هو، جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا، أراهم يديه ورجليه" (لوقا 24/37-41).
بل لا تقدر الأجسام أن ترى الله، ومن رآه يموت. (انظر الخروج 10/28) فكيف يزعم الزاعمون بأن البشر رأوه؟
والمسيح كان صوته مسموعاً، أما الآب فالأسفار تخبر أن أحداً لم يسمع صوته، ولم يره "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي. لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته" (يوحنا 5/37).
وكيف يقول النصارى: إن جسداً بشرياً قد اكتنفه في بطنه إلى حين ولادته، والله يستحيل عليه ذلك،كما تخبرنا التوراة الكاثوليكية حين تقول: " فقال الرب: لا تحل روحي على إنسان أبداً، لأنه جسد" (التكوين 6/3)، فروح الله لا تحل في الأجساد، فضلاً عن حلول ذاته العلية، لأن "العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي" (أعمال 7/48).
ومن المحال أن يكتنفه جسد أرضي مهما عظم، فالسماوات والأرض لا تسعه " هل يسكن الله حقاً على الأرض؟ هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك، فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت" (الملوك (1) 8/27).
والمسيح صلب - كما ذكرت الأناجيل - ومات، والله عن نفسه يقول: "حي أنا إلى الأبد" (التثنية 32/40)، ويقول: "أقسم بالحي إلى أبد الآبدين" (الرؤيا 10/6)، وهو "الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور، لا يدنى" (تيموثاوس (1) 6/16).
كما أفادت نصوص أخرى عجزاً للمسيح وقعوداً عن مرتبة الألوهية، فدل ذلك على أنه ليس الله، فقد جهل موعد الساعة " وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السماوات، إلا أبي وحده " (متى 24/36).
وقال عن نفسه: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً " (يوحنا 5/30).
لذا عجز أن يعد ابني زبدي بالملكوت (انظر متى 20/23)، ولما سماه أحدهم صالحاً قال: "لم تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله" (لوقا 18/18-20).
وذكر بولس أن للمسيح شركاء "من أجل ذلك مسحك الله بزيت الابتهاج أكثر من شركائك" (عبرانيين 1/8-10). فهل هؤلاء شركاء له حتى في الألوهية؟
كما ثمة نصوص أفادت بأن المسيح عبد إلهاً غيره، وهو الله، يقول لوقا: "وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلّي، وقضى الليل كله في الصلاة لله" (لوقا 6/12)، وقد ذكر الإنجيليون أنه صرخ إلى ربه مستغيثاً وناداه وهو على الصليب: " إلهي إلهي لماذا تركتني" (متى 27/46).
وقال للتلاميذ عن الله: " أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20/17).
كما كان المسيح يعبد ربه ويصلي له، ومن ذلك صلاته ليلة أن جاء الجند للقبض عليه. (انظر متى 26/39)، فإذا كان هو الله فلمن كان يصلي؟ هل الله يصلي لله؟ وهل الله يدعو الله؟ ثم هل يستجيب الله لدعاء الله؟!
وقال للشيطان لما طلبه أن يسجد له: "مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (متى 4/10)، فهل كان يتحدث عن نفسه؟
كما تثبت النصوص تغايراً بين المسيح والله، وتذكر عشرات النصوص أن المسيح مرسل من الله والمرسَل غير المرسِل، منها "الكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني" (يوحنا 14/24)، ويقول المسيح أخرى: "أرسلتني إلى العالم … ليؤمن العالم أنك أرسلتني …" (يوحنا 17/21-24)، وفي رسالة يوحنا: " الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به" (يوحنا (1) 4/9).
وأكد يوحنا المغايرة بين الآب والابن، وأنهما ليسا واحداً في قوله على لسان المسيح : "لم أتكلم من نفسي، لكن الأب الذي أرسلني، هو أعطاني وصية ماذا أقول، وبماذا أتكلم" (يوحنا 12/49)، فإذا كان الابن مساوياً للآب في كل شيء أو هو الآب نفسه، فلم كان الابن لا يتكلم من تلقاء نفسه، بل لابد له من موافقة الآب الذي أرسله وأعطاه وأوصاه بالكلام الذي ينبغي أن يقوله.
ومن النصوص التي أفادت المغايرة قول بولس عن المسيح: "الذي أقامه من الأموات" (كولوسي 2/12)، فالقائم من الموت غير الذي أقامه.
ويقول بولس: "نشكر الله أبا ربنا يسوع المسيح" (كولوسي 1/3)، فالأب ليس الابن، بل أبوه.
ويقول المسيح: "كما أحبني الأب" (يوحنا 15/9)، ويقول: " ليفهم العالم أني أحب الآب وكما أوصاني الآب " (يوحنا 14/31)، فالمحب غير المحبوب، والموصي غير الموصى.
ويقول: "ما سمعته من أبي" (يوحنا 1/15)، فالسامع ليس القائل.
ويؤكد الفرق بينه وبين الله، فيقول: "أبغضوني أنا وأبي" (يوحنا 15/24).
ومما يفيد أيضاً المغايرة بين الأقانيم الثلاثة قول بطرس: "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً" (أعمال 10/38)، فالله مسح عيسى بالروح القدس، فهم ثلاث شخصيات متمايزة منفصلة.
وجاءت نصوص تقول بأن المسيح بعد القيامة "ارتفع وجلس عن يمين الله" (مرقس 16/19). ويقول بولس: "المسيح جالس عن يمين الله" (كولوسي 3/1)، فالذي عن اليمين غير للذي عن شماله.
وقد قال لمريم المجدلية: " وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20/17)، فالصاعد غير الذي يصعد إليه.
كما أن هذه الغيرية تنطوي على عدم تساوٍ بين الله والمسيح، فقد قال المسيح: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/28)، وقال: "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل" (يوحنا 10/29)، وقال: "الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبد أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مرسله" (يوحنا 13/26)، وقال: "الحق أقول لكم، لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل" (يوحنا 5/19).
وأكد بولس خضوع المسيح في النهاية لله فقال: " ومتى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل، (أي لله) كي يكون الله الكل في الكل " (كورنثوس (1) 15/28)، فهو ولاشك دون الآب، خاضع له، وليس هو الآب، فهل هذان أقنومان متساويان أم شخصان متغايران؟
وأخيراً: الله ليس له شبيه ولا نظير، لا في السماء ولا في الأرض، لا المسيح ولا غيره "قال: أيها الرب إله إسرائيل، لا إله مثلك في السماء والأرض" (الأيام (2) 6/14)، وقال: " لأنه مَن في السماء يعادل الرب؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟" (المزامير 89/6).
استدلال النصارى بآيات من القرآن على ألوهية المسيح
يورد النصارى ويثيرون في وجه المسلمين شبهات زعموا فيها أن القرآن يصدق عقيدتهم وقولهم في المسيح، وأنه ابن الله. واستندوا في ذلك إلى متشابه الآيات التي فهموها وفق مرادهم، وإلى ما في الآيات الكريمة من ثناء على المسيح وأمه والحواريين والمؤمنين من النصارى.
وفي مواجهة شبهات النصارى واستدلالهم نذكر أنه ثمة آيات كثيرة تكفر النصارى، وتبين فساد عقيدتهم، منها قوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم (المائدة: 17)، وقوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصارٍ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثةٍ وما من إلهٍ إلا إلهٌ واحدٌ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ (المائدة :72-73)، ومثله قوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ( التوبة: 29).
وقد أنكر القرآن أشد النكير وأغلظه على أهل الكتاب من النصارى ادعاءهم أن المسيح ابن مريم ولد الله وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إداً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً (مريم: 88-93) وقال: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون (مريم: 35-36).
وذكر القرآن عبودية المسيح في آيات كثيرة، ومنه قوله تعالى: إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل (الزخرف: 59)، ولما نطق في مهده عليه السلام صرح بهذه الحقيقة، فقال: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً (مريم: 20)، ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ (الزخرف: 63-64).
وقال القرآن مصرحاً برسالته : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( المائدة: 75).
وكان أهم ما تمسك النصارى وتعلقوا به في شبهتهم قول الله تعالى: فنفخنا فيه من روحنا (التحريم: 12). وقوله: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه (النساء: 171).
فلقد فهموا من هذين النصين أن عيسى هو روح الله القائمة به، وهو كلمته، أي عقله الناطق (اللوغس)، وهو تعلق غريق أعياه أن يجد في كتابه دليلاً يصرح بألوهية المسيح، فعمد إلى كتب غيره يحرف معانيها ويتنكب حقائقها.
وهذه الشبهة ألقاها نصارى نجران بين يدي النبي فقالوا: " ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ فقال: بلى. قالوا: فحسبنا. فأنزل الله عز وجل: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله (آل عمران : 7) ( ).
والآية - التي اجتزؤوا منها ما تعلقوا به - تظهر بطلان استدلالهم بتمامها يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً (النساء: 171-172)، فتلحظ أن أول الآية وآخرها يكذب النصارى في استدلالهم، ويصرح بعبودية المسيح لله تبارك وتعالى.
والمسيح كلمة الله لأنه خلق بكلمة الله، فهو كلمة الله المخلوقة، وليس كلمة الله الخالقة، التي هي أمر التكوين (كن)، وهذا ما ذكره وبيَّنه القرآن الكريم، حين شبه خلق المسيح ووجوده بخلق آدم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون (آل عمران: 59).
ومما يؤكد أن مقصود القرآن بالكلمة؛ كلمة الله التي كانت سبباً بوجوده، لا المعنى الفلسفي الذي يزعمه النصارى (اللوغس) قوله تعالى في الآية السابقة: إن الله يبشرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم (آل عمران: 45)، فهو كلمة من الله، وليس صفة الله الأزلية.
ولذلك لما بشر الله زكريا عليه السلام بمجيء يحيى وصفه بأنه يصدق بكلمة من الله، وهو المسيح عليه السلام فنادته الملائكة وهو قائمٌ يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمةٍ من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين (آل عمران: 39).
وفي آيات أخر وصف المسيح بأنه كلمة مخلوقة : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون (آل عمران:45-47 ) فصرحت الآيات أنه كلمة من الله وأنه مخلوق، فهل ينطبق هذا على عقل الله الناطق الذي يسمونه بالكلمة (اللوغس).
وسبب اختصاص المسيح بهذا الاسم الكريم أنه ليس للمسيح سبب بشري قريب من جهة أبيه ينسب إليه كما الناس، لذا نسب إلى سببه القريب، وهو تخليقه بكلمة الله، التي تخلّق وفق أمرها.
وقد يكون المقصود أنه يحمل كلمة الله ، كما في العهد الجديد: " وكانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جداً " (أعمال 6/7)، ومثله قوله: "وإذ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله " (لوقا 5/1).
وأما قوله فنفخنا فيه من روحنا فالمراد بالروح منه جبريل ، كما سماه الله عز وجل في آية أخرى: قل نزله روح القدس من ربك بالحق (النحل: 102).
وقد تمثل جبريل (روح الله) للعذراء البتول في صورة رجل فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً (مريم: 17) ، فنفخ في درعها، فسرى المسيح في أحشائها، فالمسيح خلق بنفحة منه فنفحنا فيها من روحنا (الأنبياء: 91).
وهذا المعنى هو ما ورد في حق آدم أيضاً ونفخت فيه من روحي (الحجر: 29) فهي إضافة تشريف وتكريم، ولو أوجبت هذه الإضافة معنىً خارجاً عن الإنسانية لكان آدم أولى بذلك.
وقوله: وروح منه ليست تبعيضية، بل هي لابتداء الغاية، كقوله تعالى: وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه (الجاثية: 13)، أي خلقت منه.
وتستعمل لفظة الروح بمعنى الملائكة كما في قول موسى : " قال له موسى: هل تغار أنت لي، يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء، إذا جعل الرب روحه عليهم" (العدد 11/29)، ويقول: "يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماًً" (أعمال 2/17).
وهكذا فإن القرآن كما العهد الجديد متفقان على أن المسيح عبد الله ورسوله المجتبى إلى بني إسرائيل، وهو عليه الصلاة والسلام النبي المؤيد بالمعجزات الباهرات الدالة على نبوته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ألوهية الروح القدس
الروح القدس عند المسلمين اسم شريف يطلق على الملاك جبريل ، كما يطلق على وحي الله وعلى تأييده الذي يؤيد به أنبياءه وأولياءه.
وقد سمى القرآن الكريم الملاك جبريل روحاً في قوله تعالى: ﴿قل نزله روح القدس من ربك بالحق﴾ (النحل: 102)، ومثله قوله تعالى: ﴿إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس﴾ (المائدة: 110).
وكذا سمّى القرآن الكريم وحي الله على أنبيائه روحاً في قوله : ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾ (الشورى: 52)، ومثله قوله تعالى: ﴿ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده﴾ (غافر: 15).
ومن المهم أن نقرر أن روح القدس (πνεύματος ἁγίου) أو روح الله في الكتاب المقدس لا يبعد كثيراً عما ذكرناه في المفهوم القرآني، لكنه على أية حال لا يتفق مع المعنى الذي قدمه مجمع القسطنطينية، فقد ورد هذا الإطلاق (الروح) في الكتاب المقدس على معان متعددة:
1- الروح الإنسانية التي يخلقها الله في الأحياء، فهي روح الله المخلوقة فيهم، يقول بولس: "وإلى أرواح أبرار مكملين " (عبرانيين 12/ 23) ، ونحوه دعاء المترنم: " تنزع أرواحها فتموت، وإلى تراب تعود، ترسِل روحك (أي يا الله) فتُخلق (أي الكائنات) وتجدد وجه الأرض" ( المزمور 104/29-30)، وهذه الروح التي من الله هي النفخة التي أحيت هيكل آدم "ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حياً" (التكوين 2/7)، وقد دعيت هذه الروح بـ(روح من الله) لأنها صدرت عن الله، وإليه تعود "ترجع الروح إلى الله الذي أعطاها" (الجامعة 12/7).
2- الوحي الذي تأتي به الملائكة إلى الأنبياء ومنه: "داود قال بالروح القدس" (مرقس 12/36)، ومثله "وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس" (لوقا 1/67)، وقال بطرس: " أيها الرجال الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود " (أعمال 1/16)، وقد سمى الله الأنبياء وما يأتون به من الوحي روح القدس فقال موبخاً لبني إسرائيل: " يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائماً تقاومون الروح القدس، كما كان آباؤكم كذلك أنتم، أيُّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟!" (أعمال 7/51)، وسمى يوحنا الأنبياء أرواحاً، وهذه الأرواح من الله: "أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله، لأن انبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم" (يوحنا (1) 4/1).
3- كما يطلق هذا اللفظ (الروح القدس، روح الله) على ما يعطيه الله من قوة وتأييد وفهم وحكمة للأنبياء وغيرهم، ومنه قول المسيح : "كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين" (متى 12/28) أي بقوة الله، ومثله قول فرعون لعبيده، وهو يبحث عن رجل حكيم: "هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله" (التكوين 41/38)، أي حكمة إلهية أعطاه الله إياها كما أعطي سليمان الحكيم، ومثله كذلك ما جاء في سفر النبي حجي: "روحي قائم في وسطكم. لا تخافوا" (حجي 2/5)، أي قوتي وتأييدي.
وقريباً من هذا المعنى يطلق لفظ (الروح القدس)، ويراد به الخيرات الإلهية التي يسديها الله لعباده كما في قول المسيح: "فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه" (متى 7/11)، وقد سمى لوقا هذه الخيرات (الروح القدس) وهو ينقل ذلك القول الذي قاله المسيح "فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه" (لوقا 11/13)، فالروح القدس هو الخيرات التي يهبها الله للذين يسألونه.
ومثل هذا المعنى ورد في قول لوقا: "كان الرجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه" (لوقا 2/25) أي خيرات الله، وكذلك أيد روح القدس أي خير الله وتأييده التلاميذ في اليوم الخمسين "فامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدؤوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا" (أعمال 2/4)، وقدا فسر القديس الشهير يوحنا ذهبي الفم هذا النص في مقالته الثانية والسبعين في تفسير إنجيل يوحنا بقوله: " إن الروح القدس من الآب ينبثق والروح الذي أعطاه المسيح للرسل عندما نفخ فيهم والذي حل عليهم يوم العنصرة لم يكن جوهر الروح ولا أقنومه بل مواهبه"( )، والذهبي الفم يؤمن – كسائر المسيحيين - بتميز بألوهية أقنوم الروح القدس، وتميزه عن الآب والابن، لكنه يفسر لفظة الروح القدس الواردة في (أعمال 2/4) بالمواهب التي ينسبها إليه.
4- الرياح الشديدة، ومنه قول التوراة وهي تصف الريح المدمرة: "يبس العشب، ذبل الزهر، لأن روح الرب هب عليه" (إشعيا 40/7)، وهو ينطبق على ما جاء في مقدمة سفر التكوين "وروح الله يرف على وجه الماء" (التكوين 1/1-2)، فإن في ترجمته لبساً أوهم هذا الخلط، فالنص كما ينقل الناقد الكبير اسبينوزا عن مفسري اليهود، يقصد منه رياح عظيمة أتت من عند الله، فبددت ظلمات الغمر.
ونسبة الروح إلى الله في هذين النصين وأمثالهما نسبة تعظيم وتشريف، لا نسبة تأليه، وهي كقوله: "جبال الله" (المزمور 36/6).
لكن جميع المعاني التي ذكرناها قبلُ للروح القدس غير مرادة عند مؤلهي روح القدس، الذين لا يوافقون على كونه مجرد قوة أو تأثير أو ملاك من الله، فالروح القدس وفق المفهوم النصراني إله ، إنه ثالث أطراف الثالوث الأقدس ، فمن هو الروح القدس وفق مفهومهم؟ وما أدلة النصارى على تأليهه؟ ومتى تمّ ذلك؟
في عام 381م وبأمر الامبرطور تاؤديوس انعقد مجمع القسطنطينية للنظر في قول الأسقف مكدونيوس أسقف القسطنطينية الأريوسي، والذي كان ينكر ألوهية الروح القدس ويقول بما تقوله الأسفار عن الروح القدس: "إن الروح القدس عمل إلهي منتشر في الكون، وليس أقنوماً متميزاً عن الأب و الابن"، وكان يقول عنه: إنه كسائر المخلوقات، ويراه خـادماً للابن كأحد الملائكة.
وقد حضر المجمع مائة وخمسون أسقفاً، وقرروا حرمان مكدونيوس وتجريده من وظائفه الكنسية، واتخذوا أحد أهم قرارات المجامع الكنسية، وهو تأليه الروح القدس ، واعتبروه مكملاً للثالوث الأقدس، وقالوا: "ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، و ليس الله شيئاً غير حياته، فإذا قلنا أن روح القدس مخلوق فقد قلنا: إن الله مخلوق" ( ).
ويقول القس يسّى منصور: " إن الروح القدس هو الله الأزلي ، فهو الكائن منذ البدء قبل الخليقة، وهو الخالق لكل شيء، والقادر على كل شـيء، والحاضر في كل مكان، وهو السرمدي غير المحدود ".
ويقـول في موضع آخـر راداً على الأسقف مكدونيوس: "إن الروح القدس هو الأقنوم الثالث في اللاهوت، وهو ليس مجرد تأثير أو صفة أو قوة، بل هو ذات حقيقي، وشخص حي، وأقنوم متميز، ولكنه غير منفصل، وهو وحدة أقنومية غير أقنوم الآب، وغـير أقنوم الابن ، ومسـاوٍ لهما في السـلطان والمقـام، ومشترك وإياهما في جوهر واحد ولاهوت واحد" ( ).
يتعلق النصارى في تأليه الروح القدس بما جاء في إنجيل يوحنا: "إن الله روح" (يوحنا 4/24)، كما يرونه الروح الموجودة منذ بدء الخليقة "في البدء خلق الله السماوات والأرض ... روح الله يرف على وجه الماء" (التكوين 1/1-2)، وكذا كثير من النصوص يتحدث عن الروح أو روح الله أو الروح القدس.
نقض أدلة النصارى على ألوهية الروح القدس
لقد كان يكفينا ما ذكرنا من معاني الروح القدس في الكتاب المقدس لدفع هذا المعتقد الغريب عن الكتاب، فالمعنى الذي يريده النصارى للروح القدس معدوم في كتابهم، ويتأكد غرابته عند تأملنا لعدد من الشواهد التي تحدثت عن الروح القدس.
فالروح القدس كائن متجسد على صور مختلفة، منها نزوله على شكل حمامة على المسيح وهو يصلي " نزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة" (لوقا 3/22)، فهل كانت تلك الحمامة إلهاً مستحقاً للعبادة؟ وهل نستطيع أن ننسب إلى تلك الحمامة ما ننسبه إلى الله من صفات العزة والجلال؟
وفي مرة أخرى أتى الروح القدس على شكل ألسنة نارية، وذلك حين حل على التلاميذ يوم الخمسين "وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت في كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أعمال 2/1-4).
ولم لا يكون الروح القدس جبريل أو ملاك الله كما جاء كتابهم، فقد جاء الروح إلى كرنيليوس وبطرس، وهو ملاك من ملائكة الله " قال له الروح: هوذا ثلاثة رجال يطلبونك. لكن قم وانزل، واذهب معهم غير مرتاب في شيء، لأني أنا قد أرسلتهم. فنزل بطرس إلى الرجال الذين أرسلوا إليه من قبل كرنيليوس .. فقالوا: إن كرنيليوس.. أوحي إليه بملاك مقدس أن يستدعيك إلى بيته، ويسمع منك كلاماً" (أعمال10/20-22)، فالملاك المقدس هو الروح الذي كلم بطرس، وهو الذي طلب من كرنيليوس أن يرسل رجاله إلى بطرس.
وعدو بني إسرائيل من الملائكة جبريل عليه السلام، فهو الروح القدس الذي خلص بني إسرائيل مراراً، ثم لما أصروا على كفرهم عذبهم وغضب عليهم، وتحول إلى عدو لهم، يقول إشعيا: "وملاك حضرته خلصهم، بمحبته ورأفته هو فكّهم، ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة، ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم عدواً، وهو حاربهم" (إشعيا 63/8-10) فقد أحزنوا ملاك حضرته، الروح القدس فتحولت محبته لهم إلى عداوة.
والروح القدس كان مع بني إسرائيل حين خرجوا من أرض مصر "ثم ذكر الأيام القديمة، موسى وشعبه. أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه؟ أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه .. الذي شق المياه قدامهم ليصنع لنفسه اسماً أبدياً" (إشعيا 63/11)، لكنه ملاك الله، وليس أقنوماً له، فقد جاء في سفر الخروج "ها أنا مرسل ملاكاً أمام وجهك، ليحفظك في الطريق، وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته" (الخروج 23/20-21)، فروح القدس هو الملاك الذي كان معهم.
وروح الله ليس اسماً خاصاً بجبريل، بل يطلق على غيره من الملائكة "ورأيت فإذا في وسط العرش والحيوانات الأربعة، وفي وسط الشيوخ خروف قائم كأنه مذبوح، له سبعة قرون وسبع أعين هي سبعة أرواح الله، المرسلة إلى كل الأرض" (الرؤيا 5/6)، فالأرواح التي رآها يوحنا ليست آلهة، وإلا تحول الثالوث النصراني إلى عاشور!!
وقد تكرر الحديث عن أرواح الله السبعة في سفر الرؤيا في موضعين آخرين، حيث قال: "ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات، وأمام العرش سبعة مصابيح نار متّقدة، هي سبعة أرواح الله " (الرؤيا 4/5)، ويقول: "واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في ساردس. هذا يقوله الذي له سبعة أرواح الله، والسبعة الكواكب.. " (الرؤيا 3/1).
لكن أياً كان الروح القدس فإنه ليس بإله،فإن مما يدفع ألوهيته جهله - كغيره - بموعد الساعة ، الذي لا يعلمه إلا الآب وحده " أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب" (مرقس 13/32).
ومما يدفع ألوهيته أن النصوص تجعله هبة من الله يعطيها لأوليائه، كما قال المسيح : "فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء، يعطي الروح القدس للذين يسألونه " (لوقا 11/13)، إذ لا يعقل أن يكون الله العظيم ممثلاً بأقنومه الثالث هدية تهدى ويمتلكها بعض البشر.
ولو كان الروح القدس إلهاً لوجب القول بألوهية أولئك الذين يحل عليهم، فقد حل على كثيرين، منهم داود حيث "استوت روح الرب على داود" (الملوك (1) 6/13)، وأيضاً "سمعان عليه روح القدس" (لوقا 2/25)، وحل الروح القدس على مريم " وقال لها الروح القدس: يحل عليكِ، وقوة العلي تظلِّلك" (لوقا 1/35)، وأحبلها عيسى، فقد " وجدت حبلى من الروح القدس" (متى 1/18).
وكذا حل على التلاميذ " لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً" (أعمال 1/8)، فصاروا يتكلمون بالروح القدس "فمتى ساقوكم ليسلموكم، فلا تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا، بل مهما أعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلموا، لأن لستم أنتم المتكلمين، بل الروح القدس " (مرقس 13/11).
وأخيراً، فقد حل على أهل كورنثوس المؤمنين ببولس، لذا يخاطبهم " أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم" (كورنثوس (1) 6/19)، فهؤلاء جميعاً يستحقون العبادة لو كان الإله قد حل فيهم، وامتلأوا منه.
ومما يدل على أن الروح القدس ليس إلهاً أن الكتاب المقدس يعتبر بعضاً ممن لم يسمعوا بالروح القدس - فضلاً عن الإيمان به - مؤمنين، بل ويعتبرهم تلاميذاً رغم جهلهم بهذا الإله المزعوم، "فحدث فيما كان أبلوس في كورنثوس أن بولس بعد ما اجتاز في النواحي العالية جاء إلى أفسس، فإذ وجد تلاميذ، قال لهم: هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟ قالوا له: ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس" (أعمال 19/1-2).
وأما ما يتعلق به النصارى على ألوهية روح القدس في قوله: "إن الله روح" (يوحنا 4/24)، فهو استدلال خاطئ، لأن النص ليس إخباراً عن ذات الله وطبيعته، بل هو إخبار عن صفة من صفاته فحسب، كقوله: "الله محبة" (يوحنا (1) 4/16) و"الله نور" (يوحنا (1) 1/5).
و مقصود يوحنا أن الله لا يُرى، إذ ليس هو جسداً مادياً مكوناً من لحم وعظم، وقد ورد عن لوقا ما يؤكد صحة هذا الفهم: "والروح ليس له لحم أو عظام" (لوقا 24/39)، وهذا المعنى يؤكده صاحبا كتاب شرح أصول الإيمان في إجابتهما على السؤال التالي: "لماذا يقال إنه تعالى روح؟"، حيث يجيبان: "يقال: إنه روح، لتنـزهه عن الهيولية، وعدم قابليته للفساد"؟( )
ويؤكد هذا الفهم عوض سمعان بقوله: "(الله روح) لا يقصد به أنه روح مثل الأرواح المخلوقة، بل يقصد به فقط أنه ليس مادياً أو مركباً أو محدوداً"( ).
وهكذا يرى المحققون أن الروح القدس هو الآخر ليس بإله، وأن التثليث صياغة بشرية قامت بها المجامع بأهواء البابوات والأباطرة، من غير أن تستند إلى دليل يؤكد أصالة هذا المعتقد، الذي لم يسمع به الأنبياء ولم يذكره المسيح ولم يعرفه الحواريون.
وقد صدقت الموسوعة الكاثوليكية الحديثة حين قالت: "إن صياغة الإله الواحد في ثلاثة أشخاص لم تنشأ موطدة وممكنة في حياة المسيحيين وعقيدة إيمانهم قبل نهاية القرن الرابع" ( ).
عقيدة التثليث
تؤمن سائر الفرق المسيحية الكبرى بأن الله واحد من حيث جوهره، لكنه ثالوث من حيث أقانيمه، فلكل أقنوم وظيفته واختصاصه، فالآب خلق العالم، والابن يفدي البشر ويكفر الذنوب ، وأما الروح القدس فيتولى تثبيت قلب الإنسان على الحق وتحقيق الولادة الروحية الجديدة.
وأول من أدخل تعبير (الثالوث) إلى النصرانية ترتليان (200م تقريباً)، كما ذكر ذلك قاموس الكتاب المقدس، وقد لقيت هذه العقيدة معارضة كبيرة من الذين تسميهم اليوم الكنيسة بالهراطقة، وكانت موضع سجال عنيف بينهم، انعقدت لأجله المجامع ، وصدرت فيه الحرمانات الكنسية، وحكم بالهرطقة على كثيرين من آباء الكنيسة "وكان معظم الذين حُكِم عليهم بالهرطقة من أفاضل وأعظم المعلمين"( )، هؤلاء الأفاضل الذين قد يعتبرهم البعض اليوم في عداد الهراطقة رفضوا بعض الأفكار والفلسفات التي بدأت تسري في الكنيسة ، وهم بالطبع لم يخالفوا الكتب المقدسة، إذ تخلو هذه الكتب من تقرير هذه العقائد، بل قد تدل على ضدها، وهذا في الحقيقة ما دفع المسيحيين الأوائل إلى التنكر لأفكار مسيحية مهمة كالتجسد وأزلية الابن وتساوي الأقانيم.
لكن هذه المعارضت تلاشت وتهاوت تبين مطارق الحرمانات الكنسية وسندان وعصا الامبرطورية الرومانية؛ التي دعت أو سهلت انعقاد العديد من المجامع الكنسية التي قررت أهم المسائل العقدية كألوهية المسيح والتثليث، فقد أصبح التثليث عقيدة رسمية في أعقاب مجمعين مهمين؛ قرر في الأول منهما (مجمع نيقية) تأليه المسيح، وفي الثاني (مجمع القسطنطينية) تم تأليه روح القدس.
أولاً: مجمع نيقية:
انعقد مجمع نيقية عام 325م بأمر من الامبرطور الوثني قسطنطين الذي كان قد أعلن قبل بضع سنوات قانون التسامح الديني في الامبرطورية، ورأى قسطنطين النزاعات بين الكنائس النصرانية تفتت شعب الامبرطورية وترهق كيان الدولة، فقرر الدعوة إلى مجمع عام تحضره الطوائف النصرانية المختلفة، وقد عقد المجمع بإشرافه الشخصي، وقام بافتتاحه، وحضره 318 أسقفاً من مختلف الكنائس المسيحية الشرقية، ولم يحضره من الغربيين إلا ثمانية فقط، واستمرت المداولات ثلاثة أشهر من غير أن يصل المجتمعون إلى رأي موحد.
وقد كان المجتمعون على ثلاثة محاور رئيسة:
أ- موحدون منكرون لألوهية المسيح يتزعمهم آريوس الاسكندراني ومعه زهاء ألف من الأساقفة.
ب- القائلون بأن للمسيح وجوداً أزلياً مع الأب وأنه من ذات جوهره وإن مثّل أقنوماً مستقلاً عنه، وذكر هؤلاء بأن المسيح لو لم يكن كذلك لما صح أن يكون مخلصاً، ومن القائلين بهذا الرأي بابا روما الاسكندروس، والشاب الوثني المتنصر أثناسيوس الذي يقول عنه كتاب التربية الدينية المسيحية: "كلنا يعلم ما للقديس أثناسيوس الرسول من مكانة ممتازة في الكنيسة المقدسة على مر العصور… لقد حضر هذا القديس مع البابا الاسكندروس مجمع نيقية … فكان القديس أثناسيوس هو الجندي الصالح ليسوع المسيح، وكان للقديس أثناسيوس أيضاً الفضل في صياغة قانون الإيمان … وفي أواخر سنة 329م بطريركاً خليفة للبابا الكسندروس".
ج- وأراد بعضهم التوفيق بين الرأيين ومنهم أوسايبوس أسقف قيسارية، حيث قال بأن المسيح لم يخلق من العدم، بل هو مولود من الآب منذ الأزل، وعليه ففيه عناصر مشابهة لطبيعة الآب.
ولا يخفى أن هذا الرأي - الذي زعم التوفيق - لا يكاد يختلف عن رأي أثناسيوس، وقد مال الملك إلى هذا الرأي الذي مثله ثلاثمائة وثمانية عشر قساً، وخالف بقية المجتمعين الذين كانوا يشايعون آريوس أو مجموعات تتبنى آراء أضعف في المجمع، كالقائلين بألوهية مريم أو أن الآلهة ثلاثة صالح وطالح وعدل أو غير ذلك.
وقد أصدر القسس الثلاثمائة والثمانية عشر قرارات مجمع نيقية والتي كان من أهمها إعلان الأمانة التي تقرر ألوهية المسيح، كما أمر المجمع بحرق وإتلاف كل الكتب والأناجيل التي تعارض قراره، وأصدر قراراً بحرمان آريوس والقائلون برأيه، وقراراً آخر بكسر الأصنام وقتل من يعبدها، وأن لا يثبت في الديوان إلا أبناء النصارى ( ).
وحصل لآريوس وأتباعه ما كان المسيح قد تنبأ به: "سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله، وسيفعلون هذا لكم، لأنهم لم يعرفوا الآب ولم يعرفوني" (يوحنا 16/2-3)، فلو عرفوا الله حق معرفته وقدروه حق قدره لما جرؤوا على نسبة الولد إليه، ولما قالوا بألوهية المصفوع المولود من امرأة.
وقد أغفل مجمع نيقية الحديث عن الروح القدس ولم يبحث ألوهيته، فاستمر الجدل حوله بين منكر ومثبت حتى حسم أمره في مجمع القسطنطينية، فأضحى ثالث أقانيم اللاهوت الأقدس.
ثانياً: مجمع القسطنطينية:
انعقد المجمع عام 381م للنظر في قول مكدونيوس أسقف القسطنطينية الأريوسي والذي كان ينكر ألوهية الروح القدس ويقول: "إن الروح القدس عمل إلهي منتشر في الكون، وليس أُقنوماً متميزاً عن الأب والابن".
وقد أمر بعقد المجمع الامبرطور تاؤديوس (ت 395م)، وحضره مائة وخمسون أسقفاً قرروا فيه:
1- عدم شرعية المذهب الأريوسي، وفرضوا عقوبات مشددة على أتباعه.
2- أن روح القدس هو روح الله وحياته، وزادوا في قانون الإيمان فقرة تؤكد ذلك، وبذلك أصبح التثليث ديناً رسمياً في النصرانية، و قد ذكر القائلون بألوهية روح القدس في المجمع بأنه "ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، وليس الله شيئاً غير حياته، فإذا قلنا أن روح القدس مخلوق، فقد قلنا أن الله مخلوق".
3- لعن مكدونيوس وأشياعه.
4- وضعت بعض القوانين المتعلقة بنظام الكنيسة وسياساتها ( ).
قراءة في أقوال الآباء في مسألة الأقانيم
وتساءل المحققون عن سبب تسمية الأقانيم بهذه الأسماء، فكلمة (الابن والولادة) تلقي بظلال الحدوث والخلق في أذهان السامعين الذين يشغلهم سؤال: هل كان الأب أباً في الازل، أم صار أباً بعد أن ولد ابناً؟ فالكتاب المقدس لا يذكر شيئاً في إزالة هذا الإشكال، وعن سبب تسمية الآب والابن بهذين الاسمين( ).
وكان ترتليانوس يرى في أسماء الأقانيم ما يدول على حدوث فعل الولادة في وقت قديم ، لكنه ليس في الأزل، ولذلك فهو يرفض أزلية الابن ، فالآب: "كونه إلهاً على الدوام مجرداً، لا يجعله أباً ودياناً دائماً، لأنه لم يكن بمقدوره أن يكون أباً قبل أن يولد الابن، ولا بمقدوره أن يكون حكماً قبل أن تقع الخطيئة، لقد كان هناك زمان لم يكن للخطية وجود معه، ولا كان معه ابن، فالخطية جعلت الرب دياناً، والابن جعله أباً"( ).
وأما الأسقف سابليوس فقد تخلص من المشكلة حين جعل الأسماء دالة على مراحل زمنية لنفس الإله، فالله "ظهر في العهد القديم بصفته آب، وفي العهد الجديد بصفته ابن، وفي تأسيس الكنيسة بصفته روح القدس".
ورفضت الكنيسة هذا وغيره وفضلت الهروب إلى عالم الأسرار ، فالقس توفيق جيد يصور رأيها: "تسمية الثالوث باسم الآب والابن والروح القدس تعتبر أعماقاً إلهية وأسراراً سماوية لا يجوز لنا أن نفلسف في تفكيكها وتحليلها، أو نلحق بها أفكاراً من عندياتنا.."، وبذلك يكون قد تخلص من هذا الكرب الكبير الذي ضاع في لجته الآباء الأوائل.
لكن الشامل لن تنتهي بهذه السهولة، فقد حار فلاسفة المسيحية في تعريف كلمة (أقنوم)، التي ابتدعوها ولم يتوصلوا إلى معنى دقيق لها إلا في أواسط القرن الرابع( )، فهذه اللفظة (أقنوم) غريبة عن الكتاب المقدس لم يعلم عنها الكتاب شيئاً ، فالتثليث وفلسفته وكافة مصطلحاته من ابتداعات الكنيسة، وهو نتاج سجال فكري طويل بين الآباء في القرون الثلاثة بعد المسيح عليه السلام، ولو شئت أن أبرهن ذلك فإنه يمكنني أن أدرج كافة المصطلحات الواردة في قانون الإيمان (الأقانيم – التثليث – الطبيعتين – الناسوت – اللاهوت – الجوهر)، فكل هذه الكلمات مجهولة عند المسيح وعند غيره من كتبة أسفار الكتاب المقدس، إذ لم يعرف الأنبياء ولا المسيح ولا تلاميذه عنها شيئاً.
لكن الأغرب من هذا والأعجب أن نعلم أن أسماء الأقانيم (الآب، الابن، الروح القدس) لم ترد أبداً في العهد القديم الذي يمثل رسالة الله إلى بني إسرائيل طوال 1500 سنة قبل المسيح، ولو جهدنا في البحث في الكتاب المقدس كله عن المفردات التي تطرحها الكنيسة (الله الابن، الله الروح القدس، الله الكلمة) لما وجدنا لها أثراً في الكتاب كله.
تساوي الأقانيم
أشرعت المسيحية منذ رفع المسيح وضياع كتابه بعيداً عن هدي الله، واستحسن فلاسفتها ما عند الوثنيات من عقائد أشربوها، فسرت بينهم أفكار لا علاقة للكتاب المقدس بها، وكان من أهمها فكرة الأقانيم ذات الجوهر الواحد ، من غير أن يدور بخلدهم أن تكون هذه الأقانيم الإلهية متساوية في قدرها وسلطانها.
ولو شئنا أن نذكر القارئ ببعض هؤلاء الآباء فإنه يحسن بنا أن نبدأ بالأب يوستينوس (الشهيد) المقتول في روما سنة 165، فهذا (الأب) يقول في كتابه الذي يحاور فيه اليهودي تريفون: "اللوغوس أصبح ابناً إلهياً، ولكنه خاضع للآب"( )، فهو يقول بمذهب (التبني) الذي يرى بأن المسيح صار إلهاً، وقد ربطه بعض العلماء بحادثة العماد خصوصاً حين كلمه الله: "أنت ابني الحبيب بك سررت" (لوقا 3/22)، وما يهمنا هنا قوله: "ولكنه خاضع للآب "، وحجته في ذلك - ولا ريب - قول بولس: "متى أخضع له [أي للابن] الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل (لله)، كي يكون الله الكل في الكل" (كورنثوس (1) 15/28) ( ).
وهكذا فإن "يوستينوس يعتقد بأن الابن أدنى من الآب، وأن الروح القدس أقل من الابن، فقد كتب يقول: (إن الله اللوغوس هو إله وسيد أقل من الله الخالق للكون)، وعندما يتكلم عن الثالوث يضع الله السامي في المرتبة الأولى، والمسيح في المرتبة الثانية، والروح القدس في المرتبة الثالثة"( )، ويقول: "يسوع المسيح الذي صلب في عهد بيلاطس البنطي .. نرى فيه ابن الله، ونضعه في المنزلة الثانية ، وفي الثالثة الروح النبوي [الروح القدس]".
ثم يرد على سخرية الرافضين لوضع المصلوب المهان في مرتبة بعد مرتبة الله العظيم واعتبارهم ذلك من ضرباً من الجنون، ويقول: "هذا سر لا تفهمونه ، سنشرحه لكم، فتفصلوا فاتبعونا"( ).
وعلى خطى يوستينوس مشى (القديس) الشهير ترتليانوس (225م) الذي أوجد مصطلح "التثليث" في المسيحية، فهذا "المعلم الأفريقي (ترتليانوس) قد أعطى المكانة الأولى في الثالوث للآب، والمكانة الثانية للابن، والمكانة الثالثة للروح القدس؛ إلا أنه أكد كثيراً وبشدة على حقيقة أن هؤلاء الثلاثة من جوهر واحد"، وكان يشبه الثالوث بنهر فيه ثلاث مجاري صغيرة، فالمجرى الصغير لا يساوي الكبير، مع أن الماء في الجميع واحد ( ).
وأما المعلم الروماني هيبوليتوس (ت 235م) الذي أمر البابا فابيوس بإحضار جثته إلى روما تكريماً له عام من مقتله؛ فكان أيضاً يؤمن بفكرة (التابعية)، ويعتقد "أن اللوجوس ليس فقط أقنوماً متميزاً عن الآب، ولكنه أقل منه، لأنه ما هو إلا صوت الآب، وما هو إلا انعكاس النور السماوي .. ومع أنه لا يوجد انقسام في اللاهوت فهو يختلف عن الآب"( ).
وكذلك اعتقد المعلم الروماني نوفاتيانوس (ت 258) عقيدة التبعية في كتابه "عن الثالوث"، واستدل له بدليل الانبثاق ، فـ "الابن يستمد أصله ووجوده من الآب .. وهذا الابن أو الكلمة هو أقل من الله، إنه يحتل الدرجة الثانية من الثالوث، لأن الآب موجود من ذاته وبذاته، وأما الابن فمنبثق من الآب الذي هو مصدره ومنبعه".
كما استدل نوفاتيانوس على عدم التساوي بين الأقانيم بدليل آخر، وهو الإرسالية، فالمرسَل دون المرسِل، و"البراقليطوس [أي الروح القدس] أخذ رسالته من المسيح، فإذا كان قد استلمها من المسيح، فيكون هذا الأخير (المسيح) أعظم منه، فلو لم يكن أعظم منه لما استلم رسالته .. الروح القدس خاضع أيضاً للابن وأقل منه، ومرسل من الابن، ومأمور بأمره"( ).
وأما المعلم أوريجانوس (ت 254م) الذي وصفه الخضري بـ "المعلم العظيم ..المؤلفات التي كتبها هذا العبقري حوالي ألفي كتاب [حسب جيروم]، وأما إبيفانوس أسقف قبرص، فقد قال: إن عدد كتبه يزيد على ستة ألاف كتاب؛ على أن المعروف لدينا من هذه الكتب ثمانمائة فقط"( )، فاستدل لمعتقده بتفاوت أقدار الأقانيم (التابعية - الدونية) بنصوص الكتاب المصرحة بأن الآب أعظم منه، وقال في رده على كلوس: "فنحن الذين نقول: إن العالم المنظور هو تحت إرادة من خلق كل شيء؛ نعلن أن الابن ليس أقوى من الآب"، ثم يعلق على نص يوحنا: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/28)، بقوله: "أما نحن الذين نصدق المخلص حين قال: إن الآب الذي أرسلني هو أعظم منه، والذي لا يسمح بأن يلقب بالصالح ناسباً هذا اللقب للآب .. فإنه بهذا يدين الذين يمجدون الآب بإفراط، فنحن نؤمن بأن المخلص والروح القدس يفوقان كل الأشياء المخلوقة ، في العظمة والسمو بلا وجه للمقارنة. كذلك الآب يفوقهما في العظمة والسمو بدرجة سموهما وتفوقهما على كل الخلائق الأخرى"( ).
وكذلك استدل في تفسيره لإنجيل يوحنا بالنصوص التي تعتبر الابن خالق كل شيء (انظر أفسس 3/9)، "وإذا كان الأمر كذلك فلابد أن الابن خلق الروح القدس ..."، وكان يعتقد أن "الآب خلق الابن، والابن خلق الروح القدس"، ويضيف ابن المقفع "ولم يقل: إن الآب والابن والروح القدس إله واحد "( ).
ومن القائلين بعدم تساوي الأقانيم الآب أسقف لاوديكيا (اللاذقية) في القرن الرابع أبوليناريوس (ت 390م) الذي كان صديقاً حميماً للبابا أثناسيوس، وقد استدل أبوليناريوس لقوله بتمايز أقدار الأقانيم بتباين الأقانيم في جوهرها وصفاتها؛ وبالحري أقدارها، فمع أن أبوليناريوس دافع بحرارة عن ألوهية المسيح ورفض بدعة الأريوسية؛ إلا أنه كان يعلِّم أن "الأقانيم الثلاثة الموجودة في الله متفاوتة القدر، فالروح عظيم، والابن أعظم منه، والآب هو الأعظم ... ذلك أن الآب ليس محدود القدرة والجوهر، وأما الابن فهو محدود القدرة لا الجوهر، والروح القدس محدود القوة والجوهر"( ).
لكن الكنيسة التي تملك المجامع التي يحرسها الامبرطور وبيدها الحرمانات والصكوك التي تصدرها بحق مخالفيها؛ استطاعت أن تهدم هذه الآراء التي رأت فيها خطراً على فكرة ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس، فكان في تمام الأمر أن تغلَّب البابا أثناسيوس وموافقوه القائلين بتساوي الأقانيم الثلاثة ، فقد كان أثناسيوس يعلِّم بخصوص الأقانيم أن : "لا أكبر ولا أصغر، ولا أول ولا آخر، فهم متساوون في الذات الإلهية والقوة والعظمة"، وكما يقول محررو قاموس الكتاب المقدس: "الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص الله … شخصيات متميزة الواحدة عن الأخرى .. التثليث في طبيعة الله ليس مؤقتاً أو ظاهرياً، بل أبدي وحقيقي .. التثليث لا يعني ثلاثة آلهة، بل إن هذه الشخصيات الثلاث جوهر واحد … الشخصيات الثلاث متساوون" ( ).
ويلخص القس القبطي الأنبا غريغورس معتقد الأرثوذكس بالثالوث وأقانيمه : "المسيحيون يؤمنون بإله واحد، أحدي الذات، مثلث الأقانيم والخاصيات، فالتوحيد للذات الإلهية، وأما التثليث فللأقانيم، وللأقانيم خاصيات وصفات ذاتية، أي بها تقوم الذات الإلهية، فالله الواحد هو أصل الوجود، لذلك فهو الآب - والآب كلمة ساميّة بمعنى الأصل -.. والله الواحد هو العقل الأعظم .. تجلى في المسيح .. لذلك كان المسيح هو الكلمة .. والكلمة تجسيد العقل، فإن العقل غير منظور، ولكنه ظهر في الكلمة، وهو أيضاً الابن- لا بمعنى الولادة في عالم الإنسان -، بل لأنه صورة الله غير المنظور، والله هو الروح الأعظم، وهو آب جميع الأرواح، ولهذا فهو الروح القدس، لأن الله قدوس"( ).
أما وقد تبين لنا أقوال الأقدمين في قصة الأقانيم والمصطلحات التي دارت حولها، فالسؤال الذي نود الإجابة عنه : ماذا يقول الكتاب عن التثليث؟ ماذا يقول عن الأقانيم المثلثة ذات الجوهر الواحد؟
أدلة النصارى على عقيدة التثليث
إن من الطبيعي والمتوقع ونحن نتحدث عن أهم عقائد النصرانية، أي التثليث أن نجد ما يؤصله في عشرات النصوص الواردة على لسان الأنبياء ثم المسيح ثم تلاميذه من بعده.
لكن التصفح الدقيق لما بين دفتي الكتاب المقدس يكشف لنا غياب الدليل الصريح الذي نبحث عنه، في العهد القديم، وأيضاً في الجديد، ولم العجلة في إصدار الأحكام، هلم نتأمل ما جاء في الكتاب المقدس من تأصيل لهذا المعتقد الهام.
أولاً : النصوص التوراتية وعقيدة التثليث
لم يرد في العهد القديم نص واحد يتحدث عن الثالوث الذي يشكل جوهراً واحداً، بل نستطيع القول بأن (الابن والروح القدس) اسمان لم يردا أبداً في العهد القديم ؛ فضلاً عن الحديث عن الثالوث الجامع الذي تنادي به الكنيسة، فكيف يمكن الإيمان بعقيدة لم يعرفها الأنبياء خلال 1500 سنة من الوحي الإلهي؟.
هذه الحقيقة المذهلة لن تمنع الغريق من التعلق بقشة ، فقد تعلق النصارى ببعض النصوص التوراتية، وزعموا أنها إشارات ورموز إلهية إلى التثليث، منها استخدام بعض النصوص التوراتية صيغة الجمع العبري (ألوهيم) عند الحديث عن الله كما في مقدمة سفر التكوين "في البدء خلق الله السماء والأرض" (التكوين 1/1)، وفي النص العبري "إلوهيم" أي: (الآلهة)، ومثله في استخدام ما يدل على الجمع في أفعال منسوبة لله، كقول التوراة أن الله قال: "هلم ننزل ونبلبل" (التكوين 11/7).
ومن الإشارات التوراتية أيضاً لتثليث الأقانيم قول الملائكة: "قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود" (إشعيا6/3)، فقد كرر ذكر كلمة (قدوس) ثلاث مرات، ومثله قالت الحيوانات التي رآها يوحنا في رؤياه: "قدوس، قدوس، قدوس، الرب الإله القادر على كل شيء" (الرؤيا 4/8)، فزعموا أنها تعني: (قدوس الآب، قدوس الابن، قدوس الروح القدس).
نقد الاستدلال بالنصوص التوراتية
بداية يعترف النصارى بأن ليس في هذه النصوص ما نستطيع أن نعتبره دليلاً صريحاً على التثليث الذي تنقضه النصوص التوحيدية الصريحة، كما لم يفهم سائر قراء العهد القديم - من لدن الأنبياء الأوائل لبني إسرائيل - شيئاً عن تلك التي يعتبرها النصارى إشارات على التثليث، ويعترف بذلك القس بوطر: "بعدما خلق الله العالم، وتوج خليقته بالإنسان لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بالوحدانية، كما تبين ذلك من التوراة، على أنه لا يزال المدقق يرى بين سطورها إشارات وراء الوحدانية، لأنك إذ قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات "كلمة الله" أو "حكمة الله" أو "روح الله" ولم يعلم من نزلت إليهم التوراة إلا في ضوء الإنجيل المعنى المراد ... فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل"( ).
ويقول الدكتور واين جردوم: "أما في العهد القديم فالطبيعة الثالوثية لم تكن قد أعلنت بوضوح بعد، فإنه من غير المستغرب أن لا نجد أدلة على أن الصلاة كانت ترفع مباشرة إلى الله الابن أو الروح القدس قبل زمن المسيح"( ).
ويبرر عوض سمعان عدم وجود التثليث صراحة في العهد القديم: "نظراً لانتشار الوثنية في الأزمنة الغابرة، واحتمال إساءة اليهود فهم حقيقة التثليث وقتئذ، وجواز اتخاذهم إياها أساساً للاعتقاد بصدق عقيدة تعدد الآلهة التي كان الوثنيون يؤمنون بها؛ كان من البديهي ألا يقوم الله بإعلان حقيقة كونه ثلاثة أقانيم دفعة واحدة"( ).
وهنا يتساءل المرء: هل كان هذا السبب كافياً لإلغاز الله تثليث أقانيمه عن نوح وموسى وبني إسرائيل، فقد كان سبب ضلالهم وتيههم عن التثليث؛ فقد لبَّسه عليهم ما يقرؤونه في الكتاب من نصوص موحدة، جعلتهم يحاربون عقيدة التثليث ويرفضونها، فهل سيغفر لهم ولغيرهم أنهم لم يهتدوا إلى حقيقة المراد من هذه الألغاز؟.
ونظر المحققون فيما أسمته النصارى إشارات التوراة، فوجدوها محض تمحل لا تقبله الأذواق السليمة، ولا ترتضيه دلالات الكلام وتناسق السياق.
ثم إن غاية ما يمكن أن تدل عليه هذه النصوص تعدد الآلهة، من غير تحديد لها بالتثليث أو التربيع أو غيره، فالجمع الوارد في مثل قوله: (إلوهيم، هلم، ننزل، ونبلبل) لو أفاد جمع العدد فإنه يحتمل التربيع والتخميس وغيرهما، ولا يفيد التثليث بالضرورة.
لكن هذه الألفاظ يراد منها جمع التعظيم لا التكثير والتعدد، وقد اعتادت الأمم التعبير عن عظمائها باستخدام جمع التعظيم، فيقول الواحد: نحن، ورأينا، وأمرنا، ومقصده نفسه، ولا يفهم منه مستمع أنه يتحدث عن ذاته وأقانيمه الأخرى.
واستخدام صيغة الجمع للتعظيم لا العدد معروف عند اليهود، ويسمونه ( رِيبُويْ هَكَبود)، أي جمع التعظيم أو الشرف، ويستعملونه في لغتهم؛ وبخاصة فيما يتعلق باسم الجلالة (إلوهيم אלהים)، يقول البروفيسور الرابي مناحيم كوهين الأستاذ في جامعة بار إيلان في كتابه : (مِكرأوت جدولوت)، ومعناه (القراءات الكبيرة): "لقد فسر (الرابي إبراهام بن عزرا 1089- 1166) سبب تكلم الله بصيغة الجمع في عدة أماكن في التوراة , وأكثر الرابيين على طول الأجيال تبنوا رأيه , إن رأيهم بأن استعمال كلمة (إلوهيم) بصيغة الجمع هي لسان جمع لجلالة الملك, كما هي العادة في خطاب الملوك وأرباب المناصب. وببساطة إلوهيم يتكلم عن نفسه بلسان الجمع حتى يُفخم نفسه".
ويقول الرابي اليهودي توفيا سينجر في موقعه على شبكة الإنترنت (Outreach Judaism): "من الخطأ الفادح للمبشرين أن يترجموا اسم (إلوهيم אלהים) على أنه يمثل نوعاً من المجموع بالنسبة للربوبية، وإلا فكيف يمكن للمبشرين أن يفسروا لنا الكلمة المقابلة لإلوهيم الواردة في (سفر الخروج 7 : 1) وهي تشير إلى موسى؟ "فقال الرب لموسى: انظر. أنا جعلتك إلهاً (إلوهيم) لفرعون".
ويقول الدكتور جرهاردوس فوس: "وأما لقب (إلوهيم אלהים) فهو صيغة جمع تدل على الجلال والعظمة والغنى والسمو والكمال"( ).
ويقول المطران كرلس سليم بسترس رئيس أساقفة بعلبك: "في العهد القديم استعمل الشعب اليهودي كلمتين للإشارة إلى الله، كلمة (إلوهيم) وهي اسم جمع أو تفخيم لكلمة (إيل) التي استعملتها مختلف الشعوب الساميّة للدلالة على الله"( ).
ونختم بالأب متى المسكين حيث يقول: "و(إلوهيم) تأتي بالجمع في تكوينها، ولكن على مدى الكتاب تأتي بالمعنى المفرد لتدلّ على الله الحقيقي الفعّال، ليظهر الجمع أنه جمع المجد والجلال والعظمة، ولا دخل له بتعدد الآلهة على وجه الإطلاق"( ).
وصيغة جمع التعظيم معروفة أيضاً في الكتاب المقدس، ولها صور عديدة، منها قصة المرأة العرافة التي رأت روح صموئيل بعد وفاته، فعبرت عنه باستخدام صيغة الجمع، تقول التوراة: "فلما رأت المرأة صموئيل صرخت بصوت عظيم .. فقالت المرأة لشاول: رأيت آلهة (אלהים) يصعدون من الأرض، فقال لها: ما هي صورته؟ فقالت: رجل شيخ صاعد، وهو مغطي بجبّة. فعلم شاول أنه صموئيل" (صموئيل (1) 28/12-14)، فقد كانت تتحدث عن صموئيل، لقد رأته على هيئة رجل شيخ، وتستخدم مع ذلك صيغة الجمع (آلهة אלהים)، فالجمع لا يفيد العدد بالضرورة، بل هو جمع التعظيم.
وعندما عبد بنو إسرائيل العجل، وهو واحد سمته التوراة آلهة مستخدمة صيغة الجمع في ثلاثة مواضع، تقول: "فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل، وصنعه عجلاً مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ... صنعوا لهم عجلاً مسبوكاً، وسجدوا له، وذبحوا له، وقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (الخروج 32/4-8).
ويمضي السفر ليؤكد ثالثة أصالة استعمال الجمع الذي يراد منه الواحد، فيقول: "رجع موسى إلى الرب، وقال: آه قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة، وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب" (الخروج 32/31).
ومثله تجد هذا الاستخدام شائعاً في لغة العرب، كما في قول الله: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ (الحِجر: 9)، فالمقصود هو الله الواحد العظيم.
وأما التكرار ثلاث مرات في قول الملائكة أو حيوانات رؤيا يوحنا وأمثال ذلك، فلا يصلح في الدلالة في شيء. فلو اطرد الاستدلال على هذه الكيفية فلسوف نرى تربيعاً وتخميساً وغير ذلك من التعداد للآلهة، فلئن وردت كلمة (قدوس) مثلثة مرتين في الكتاب المقدس، فإنها وردت مفردة نحو أربعين مرة، وإنما يراد من التكرار التأكيد فحسب، كما في نصوص إنجيلية وتوراتية كثيرة( )، منها قول اليهود: "فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه" (لوقا 23/21).
ونحوه في سؤال المسيح لبطرس، فقد كرره ثلاث مرات " فبعدما تغدوا قال يسوع لسمعان بطرس: يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟ قال له: نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك ... قال له أيضاً ثانية: يا سمعان بن يونا أتحبني؟... قال له ثالثة: يا سمعان بن يونا أتحبني؟ فحزن بطرس لأنه قال له ثالثة: أتحبني" (يوحنا 21/15-17).
وهكذا تبين للقارئ الباحث عن الحق بطلان الاستدلال بالتوراة على عقيدة التثليث.
ثانياً : النصوص الإنجيلية وعقيدة التثليث
ويعتقد النصارى أن القول بالتثليث "حق سماوي أعلنه لنا الكتاب في العهد القديم بصورة غير واضحة المعالم، لكنه قدمه في العهد الجديد واضحاً"( )، فهم يعتقدون أن ثمة أدلة في أسفار العهد الجديد أصرح وأوضح في دلالتها على التثليث من تلك التي وردت ملغزة في التوراة، منها أنه " لما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة، وآتياً عليه، وصوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب والروح الذي سررت به" (متى 3/16-17)، فقد جمع النص الآب والابن الحبيب والروح النازل مثل الحمامة في سياق واحد.
ومثله قول بولس: "بنعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين" (كورنثوس (2) 13/14).
لقد أرست التوراة والإنجيل رفض الشرك والتنديد به، واعتباره من أعظم الآثام، فهل تختلف الوحدة الجامعة للتثليث عن صور الشرك الذي حذر منها الكتاب في مواضع لا تحصى لكثرتها؟
إنه حين يسمع المؤمنون في الكنيسة أسماء (الآب، الابن، الروح القدس) ينقدح في ذهن كل منهم تصور ذهني لثلاث هيئات مختلفة، ولن تخطئه عيوننا حين نرى الصور المسيحية التي تصور لنا المسيح على هيئة شاب وسيم بشعر ناعم طويل، وتصور لنا الآب على هيئة رجل عجوز بلحية بيضاء وشعر أبيض، وأما الروح القدس فتصوره على شكل حمامة بيضاء، فيجزم كل منا أن الأقانيم ثلاثة أشخاص متمايزون في كل شيء.
والمتأمل في نص متى في قصة عماد المسيح (انظر متى 3/16-17) يستطيع رؤية ثلاث ذوات تمايزت بالأسماء والأعمال والمكان، فلكل منها وجود ذاتي يختلف عن الباقين، فأحدها الشاب الخارج من الماء بعد التعميد، وثانيها النازل على شبه هيئة حمامة، وثالثها الذي في السماء يقول : "هذا هو ابني الحبيب "، فكيف بعد ذلك يقال عنها بأنها وحدة واحدة.
هذا ولم يرد في الكتاب المقدس ذكر عناصر التثليث الثلاث جنباً إلى جنب إلا في نصين فقط، وهما نص الشهود الثلاثة في رسالة يوحنا الأولى، وخاتمة إنجيل متى، فماذا نرى في هذين النصين؟
أ. الاستدلال بنص الشهود الثلاثة على التثليث
يعتبر نص الشهود الثلاثة أهم النصين وأصرحهما، وهو ما جاء في رسالة يوحنا الأولى في قول يوحنا: "فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم الواحد" (يوحنا (1) 5/7)، فهذا النص صريح في جعل الثلاثة إلهاً واحداً، غير أنه غير موجود في سائر المخطوطات القديمة للكتاب المقدس، بل ومفقود حتى في أول نص مطبوع، فقد أضيف لاحقاً، ومن أراد دليل إلحاقية هذا النص، فليخرجه من السياق وليقرأ ما قبله وما بعده فلن يجد أي خلل في السياق، لأن النص مقحم فيه "هذا هو الذي أتى بماء ودم يسوع المسيح، لا بالماء فقط بل بالماء والدم، والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق [نص الشهادة المقحم]. والذين يشهدون هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد" (يوحنا (1) 5/6، 8)، فقد أقحمت شهادة الشهود السماويين المزعومة بطريقة فجَّة وسط النص الذي يتحدث عن شهادة الماء والدم والروح.
وقد اعترف بإضافة هذه الفقرة في رسالة يوحنا علماء النصرانية ومحققوها ومنهم هورن، وجامعو تفسير هنري واسكات، وآدم كلارك، وفندر، وغيرهم، وخلت ردود القديس أكستاين (ق4) من هذا النص على الرغم من مناظرته لفرقة ايرين المنكرة للتثليث، كما قد كتب عشر رسائل في شرح رسالة يوحنا لم يذكر في أيها هذا النص.
وقد حذفته النسخة القياسية المنقحة ( R S V ) من نسختها الإنجليزية، كما حذفته بعض التراجم العالمية، وما يزال موجوداً في غالب التراجم، ومنها التراجم العربية سوى نسخة الرهبانية اليسوعية والترجمة العربية المشتركة؛ فإنهما حذفتاه، والنص في الأولى : "لأن الروح هو الحق، والذين يشهدون ثلاثة: الروح والدم والماء، وهؤلاء الثلاثة متفقون" (يوحنا (1) 5/6-8)، وقد ذكرت في مدخلها سبب حذفها لهذا النص فقالت: "لم يرد هذا النص في المخطوطات فيما قبل القرن الخامس عشر، ولا في الترجمات القديمة، ولا في أحسن أصول الترجمة اللاتينية، والراجح أنه ليس سوى تعليق كتب في الهامش، ثم أقحم في النص أثناء تناقله في الغرب".
ومثله ما قوله بنيامين ولسن مترجم المخطوطات اليونانية: "إن هذه الآية التي تشمل على الشهادة بالألوهية غير موجودة في أي مخطوط إغريقي مكتوب قبل القرن الخامس عشر، إنها لم تذكر بواسطة أي كاتب إكليركي (إغريقي) أو أي من الآباء اللاتينيين الأولين حينما يكون الموضوع الذي يتناولونه يتطلب بطبيعته الرجوع إليها، لذلك فهي بصراحة مختلقة" ( ).
ويقول الدكتور واين جردوم: "تكمن المشكلة المتعلقة بهذه الترجمة في كونها مبنية على عدد قليل جداً من المخطوطات اليونانية غير الموثوقة، والتي يعود أقدمها إلى القرن الرابع عشر الميلادي، ولا توجد نرجمة إنجليزية حديثة تتضمن هذه الآية، بل تحذفها جميع الترجمات الحديثة .. خلت منها اقتباسات آباء الكنيسة مثل إيريناوس 202م وكليمنت 212م وترتليانوس 220م وأثناسيوس المدافع العظيم عن عقيدة الثالوث 373م"( ).
ب. نقد الاستدلال بخاتمة متى على التثليث
وأما النص الثاني فهو ما جاء في خاتمة متى من أن المسيح قبيل صعوده إلى السماء "كلمهم قائلاً: دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن وروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. آمين" (متى 28/ 18-20).
وأول نقد يتوجه لهذه الفقرة أنها رغم أهميتها لم ترد في الأناجيل الثلاثة الأخرى التي اتفقت على إيراد قصة دخول المسيح أورشليم راكباً على جحش. فهل كان ركوبه على جحش أهم من ذكر التثليث، فلم يذكره سوى متى؟
بل إن خاتمة إنجيل مرقس نقلت ذات الوصية التي أوصاها للتلاميذ فلم تذكر صيغة التثليث التي انفرد بذكرها متى، حيث يقول مرقس: "وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن" (مرقس 16/15)، وهذا دال على إلحاقية نص التثليث وعدم أصالتها.
وهذه الفقرة دخيلة بدليل قول علماء الغرب أيضاً، يقول ويلز: "ليس دليلاً على أن حواريي المسيح اعتنقوا التثليث".
ويقول أدولف هرنك في كتابه "تاريخ العقيدة": "صيغة التثليث هذه التي تتكلم عن الآب والابن والروح القدس، غريب ذكرها على لسان المسيح، ولم يكن لها وجود في عصر الرسل …كذلك لم يرد إلا في الأطوار المتأخرة من التعاليم النصرانية ما يتكلم به المسيح وهو يلقي مواعظ ويعطي تعليمات بعد أن أقيم من الأموات، إن بولس لا يعلم شيئاً عن هذا "( )، إذ هو لم يستشهد بقول ينسبه إلى المسيح يحض على نشر النصرانية بين الأمم.
ويؤكد عدم أصالة هذه الفقرة مفسرو الكتاب المقدس ومؤرخو المسيحية كما نقل ذلك المطران كيرلس سليم بسترس - رئيس أساقفة بعلبك وتوابعها للروم الكاثوليك - بقوله: "يرجّح مفسرو الكتاب المقدس أنّ هذه الوصية التي وضعها الإنجيل على لسان يسوع ليست من يسوع نفسه، بل هي موجز الكرازة التي كانت تُعِدُّ الموعوظين للمعمودية، في الأوساط اليونانية. فالمعمودية في السنوات الاولى للمسيحية كانت تعطى (باسم يسوع المسيح) (أع 2/38 ؛ 10/48) أو (باسم الرب يسوع) (أع 8/16؛ 19/5) .. من هنا يرجّح المؤرخون أن صيغة المعمودية الثالوثية هي موجز للكرازة التي كانت تُعِدُّ للمعمودية. وهكذا توسّع استدعاء اسم يسوع ليشمل أبّوة الله وموهبة الروح القدس" ( ).
وحين نقل المؤرخ يوسابيوس القيصري هذه الفقرة من إنجيل متى لم يذكر فيها الآب ولا الروح القدس، بل قال: "فقد ذهبوا إلى كل الأمم ليكرزوا بالإنجيل معتمدين على قوة المسيح الذي قال لهم: (اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم باسمي)" ( ).
ومما يؤكد هذا أن المخطوطات العبرية المكتشفة حديثاً لإنجيل متى – الذي كتب أصلاً بالعبرانية – ليس فيها هذا النص، وهذا الأمر اعتبره الدكتور ج ريكارت - أستاذ اللاهوت في الكلية الإرسالية الإنجيلية (Kaufman, Texas) في كوفمان في ولاية تكساس – دليلاً قاطعاً على إلحاقية هذا النص بإنجيل متى، وقال: "إن الكنيسة الكاثوليكية بالإضافة إلى أرثوذكس المشرق قد كذبوا على العالم فيما يخص هذا النص من متى، وذلك لأن كل من عمد بهذه الطريقة قد عُمد كذباً ومات من غير خلاص" ( ).
ويذكرنا الدكتور ريكارت بالعديد من النصوص الإنجيلية التي تتحدث عن التعميد بيسوع المسيح فقط، كما في قول بطرس في خطبته الشهيرة: "توبوا، وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس" (أعمال 2/38)، والسامريون اعتمدوا بمعمودية يوحنا المعمدان، فلما سمعوا بطرس " اعتمدوا باسم الرب يسوع " (أعمال 19/5)، فلم يطالبهم بطرس بالتعميد باسم الآب والروح القدس، واكتفى بالتعميد باسم يسوع ( ).
ويؤكد تاريخ التلاميذ عدم معرفتهم بهذا النص، إذ لم يخرجوا لدعوة الناس كما أمر المسيح في هذا النص المزعوم ، بل إنه أمرهم باجتناب دعوة غير اليهود "هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع، وأوصاهم قائلاً: إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متى 10/5-6).
ويتطابق هذا مع شهادة تاريخية تعود للقرن الثاني تناقض الأمر المزعوم بدعوة الأمم وتعميدها باسم الثالوث، إذ يقول المؤرخ الكنسي أبولونيوس : "إني تسلمت من الأقدمين أن المسيح قبل صعوده إلى السماء كان قد أوصى رسله أن لا يبتعدوا كثيراً عن أورشليم لمدة اثنتي عشرة سنة"( ).
وقد التزم التلاميذ بأمر المسيح ، ولم يخرجوا من فلسطين إلا حين أجبرتهم الظروف على الخروج "وأما الذين تشتتوا من جراء الضيق الذي حصل بسبب استفانوس، فاجتازوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكيا، وهم لا يكلمون أحداً بالكلمة إلا اليهود فقط" (أعمال 11/19)، ولو كانوا سمعوا المسيح يأمرهم بدعوة الأمم باسم الآب والابن والروح القدس، لخرجوا امتثالاً لقوله، من غير إكراه، ولبشروا الأمم بدعوته.
ولما حدث أن بطرس استدعي من قبل كرنيليوس الوثني ليعرف منه دين النصرانية، ثم تنصر على يديه. لما حصل ذلك لامه التلاميذ فقال لهم: "أنتم تعلمون كيف هو محرم على رجل يهودي أن يلتصق بأحد أجنبي أو يأتي إليه، وأما أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما أنه دنس أو نجس" (أعمال 10/28)، لكنه لم يذكر أن المسيح أمرهم بذلك، بل قال: "نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات، وأوصانا أن نكرز للشعب" (أعمال10/42)، أي لليهود فقط.
ولما رجع إلى أورشليم تعرض لمزيد من اللوم فقد " خاصمه الذين من أهل الختان، قائلين: إنك دخلت إلى رجال ذوي غلفة، وأكلت معهم!" (أعمال 11/2-3)، فبدأ بطرس يحكي لهم عن رؤيا منامية رآها سوغت له الأكل مع الأمميين (أعمال 11/4-10)، ثم حكى لهم كيف جاءه الروح القدس، وأمره بالذهاب "قال لي الروح أن أذهب معهم غير مرتاب في شيء، وذهب معي أيضاً" (أعمال 11/12).
وبعد هذا العرض الإقناعي المسهب من بطرس رضي التلاميذ عن ذهابه إلى الغلف "فلما سمعوا ذلك سكتوا، وكانوا يمجدون الله قائلين: إذا أعطى الله الأمم أيضاً التوبة للحياة" (أعمال 11/18).
وعليه فهؤلاء جميعاً بما فيهم بطرس لا يعلمون شيئاً عن نص متى الذي يأمر بتعميد الأمم باسم الآب والابن والروح القدس، لماذا؟ لأن المسيح لم يقله ، وهم لم يسمعوه، ولو كان المسيح قاله لما احتاج الأمر إلى عتاب وملامة.
وأيضاً اتفق التلاميذ مع بولس على أن يدعو الأمميين، وهم يدعون الختان أي اليهود، يقول بولس: "رأوا أني أؤتمنت على إنجيل الغرلة (الأمم)كما بطرس على إنجيل الختان … أعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم، وأما هم فللختان" (غلاطية 2/7-9)، فكيف لهم أن يخالفوا أمر المسيح - لو كان صحيحاً نص متى - ويقعدوا عن دعوة الأمم، ثم يتركوا ذلك لبولس وبرنابا فقط؟
فكل هذه الشواهد تكذب نص متى، وتؤكد أنه نص مختلق لا تصح نسبته إلى المسيح.
ثم عند غض الطرف عن ذلك كله، فإنه ليس في النص ما يسلم بأنه حديث عن ثالوث أقدس اجتمع في ذات واحدة، فهو يتحدث عن ثلاث ذوات متغايرة، قرن بينها بواو عاطفة دلت على المغايرة، والمعنى الصحيح لخاتمة متى : "اذهبوا باسم الله ورسوله عيسى والوحي المنزل عليه بتعاليم الله عز وجل".
ولهذه الصيغة الواردة في متى مثل لا يصرفه النصارى للتثليث، فقد جاء في بعض رسالة بولس إلى تيموثاوس: "أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين…" (تيموثاوس (1) 5/21) فإن أحداً لم يفهم من النص ألوهية الملائكة أو أنهم الأقنوم الثالث، ويقال في نص متى ما يقال في نص بولس.
ويشبهه ما جاء سفر الخروج من دعوة بني إسرائيل للإيمان بالله وبموسى من غير أن يفهم تساوي المعطوفين في قوله: "فخاف الشعب الرب، وآمنوا بالرب وبعبده موسى" (الخروج 14/31).
وهذا الأسلوب في التعبير معهود في اللغات والكتب، وقد نزل في القرآن مثله يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل (النساء: 136) وغير ذلك من الآيات القرآنية.
التوحيد في الكتاب المقدس
وإذا لم نجد للتثليث دليلاً صريحاً واحداً ينهض للاستدلال، فهل ترانا نجد لنقيضه، وهو التوحيد دليلاً في ثنايا الكتاب المقدس؟
إن المتأمل في الأسفار المقدسة يرى بوضوح غرابة دعوة التثليث وتسطع أمامه أصالة التوحيد في النصرانية وبهاؤه، فقد دلت عليه عشرات النصوص الصريحة الناصعة في وضوحها، والتي تؤكد بأن معتقد المسيح وتلاميذه، ومن قبلهم أنبياء الله هو توحيد الله عز وجل.
أولاً : النصوص الموحدة في العهد القديم
تتلألأ دعوة التوحيد في العهد القديم، وتنطق بها النبوات، وتكثر حولها وصاياهم، وتتسابق النصوص، وهي تؤكد أصالة هذا المعتقد، منها:
- ما جاء في سفر التثنية من وصايا موسى التي كتبها الله لموسى على لوحي الحجر، وأمر بني إسرائيل بحفظها، وجاء المسيح بعده فأكد عليها "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك، ولتكن هذا الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك، وقُصّها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامة على يديك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك" (التثنية 6/4-9).
- " أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي" (التثنية 5/6).
- ومنها وصية الله لموسى وبني إسرائيل: " أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما، مّما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض" (الخروج 20/2-4).
- وفي سفر الملوك: "ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله، وليس آخر" (الملوك (1) 8/60).
- وجاء في مزامير داود: "كل الأمم الذين صنعتهم يأتون ويسجدون أمامك يا رب، ويمجدون اسمك، لأنك عظيم أنت، وصانع العجائب، أنت الله وحدك" (المزمور 86/9-10) هو وحده الله، وليس يشاركه في اسمه أو ألوهيته أحد، بما في ذلك المسيح عليه السلام.
- وجاء في إشعيا: "يقول الرب: ..قبلي لم يصور إله، وبعدي لا يكون، أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص، أنا أخبرت وخلصت .." (إشعيا 43/10-12).
- "أيها الرب إلهنا، خلصنا من يده، فتعلم ممالك الأرض كلها أنك أنت الرب وحدك" (إشعيا 37/20).
- "أنا الرب صانع كل شيء، ناشر السماوات وحدي باسط الأرض، من معي؟!" (إشعيا 44/ 24)، فأين هذا ممن جعل الواحد ثلاثة، وأوكل الخلق إلى غيره؟
- "أنا الرب وليس آخر، لا إله سواي" (إشعيا 45/5).
- وجاء في نبوة إشعيا أيضاً " يقول الرب ملك إسرائيل وفاديه رب الجنود: أنا الأول وأنا الآخر، ولا إله غيري. ومن مثلي ينادي، فليخبر به ويعرضه لي.. هل يوجد إله غيري، ولا صخرة لا أعلم به" (إشعيا 44/6-9).
- ومثله كثير في أسفار العهد القديم. (انظر ملاخي 2/10، الملوك (1) 8/27 ...).
ثانياً : النصوص الموحدة في العهد الجديد
وكذا جاءت أسفار العهد الحديد تؤكد تفرد الخالق بالألوهية والربوبية، وتذكر ذلك على لسان المسيح وحواريه، فمما ورد على لسان المسيح:
- " ولا تدعوا لكم أباً على الأرض، لأن أباكم واحد، الذي في السماوات. ولا تدعوا معلمين، لأن معلمكم واحد، المسيح" (متى 23/9-10).
- ومن ذلك أيضاً ما جاء في متى: " وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له: لماذا تدعوني صالحاً، ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله" (متى 19/17).
- وكذا قول يوحنا " كلم يسوع بهذا، ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد أتت الساعة، مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً، إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد، ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته، وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/2-3)، فليس من إله على الحقيقة إلا واحد، وهو الآب الذي كان المسيح يخاطبه في أول الفقرة "أيها الآب"، وأما سائر الأقانيم فقد أنكر المسيح ألوهيتها، حين قال بأن الآب وحده هو الإله الحقيقي "لكن لنا إله واحد؛ الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له" (كورنثوس (1) 8/6)، وثبت بطلان ألوهية الابن والروح القدس.
- ولما جرب الشيطان يسوع وقال له: " أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (متى 4/10، ومثله في لوقا 4/8).
- وقال المسيح لليهود: "أنتم تعملون أعمال أبيكم.فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله. فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني، لأني خرجت من قبل الله وأتيت، لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني" (يوحنا 8/41-42).
والتوحيد معتقد تلاميذ المسيح وتلاميذهم، كما نقل عنهم ذلك العهد الجديد مراراً:
- ومنه ما جاء على لسان التلميذ يعقوب: "أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل" (يعقوب 2/19)، وأما القول بألوهية غير الله فليس من الحُسن في شيء.
- ويقول: "واحد هو واضع الناموس القادر أن يخلص ويهلك" (يعقوب 4/12).
- ويقول يهوذا: "الإله الحكيم الوحيد مخلصنا" (يهوذا 25).
- بل وحتى بولس نجد له بعض النصوص التي تعترف لله بالوحدانية، ومن ذلك قوله: "يوجد إله واحد ووسيط بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس (1) 2/5) إله واحد، له رسول واحد يبلغ الله من خلاله وحيه وهديه، هذا الرسول هو الإنسان يسوع.
ويقول واصفاً الله بالوحدانية وغيرها من صفات الجلال والكمال: "المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب، الذي وحده له عدم الموت، ساكناً في نور، لا يدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس، ولا يُقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية" (تيموثاوس (1) 6/15-16).
- ويقول: "لكن الله واحد" (غلاطية 3/20).
فهذه النصوص وكثير مثلها تتحدث عن الإله الواحد، وليس في واحد منها أو غيرها حديث عن الإله المتعدد الأقانيم المتوحد في الجوهر الذي يدعيه النصارى.
التثليث سر لا يطيقه العقل
وإزاء هذا التناقض بين قرارات المجامع المثلثة والنصوص الموحدة كان لابد أن يعمل النصارى عقولهم على جمع هذه المتناقضات التي يستحيل تصورها معاً، وعلى تفهيم البشر قضية الثلاثة الذين هم واحد، والواحد الذي هو ثلاثة.
وأمام ضعف هذه العقيدة وعجز العقل البشري عن تصورها، بل رفضه لها لا يجد النصارى من سبيل إلا القول بأن تثليثهم سر من الأسرار التي لا يمكن للعقل أن يقف على كنهها، بل يعترف البعض منهم بتعارض المسيحية والعقل فيقول القديس سان أوغسطين : "أنا مؤمن، لأن ذلك لا يتفق والعقل".
ويقول كير كجارد: "إن كل محاولة يراد بها جعل المسيحية ديانة معقولة لابد أن تؤدي إلى القضاء عليها".
و قد جاء في "التعليم المسيحي" : لا يجوز التدخل في أسرار الله، لأننا لا نستطيع إدراك أسرار الإيمان".
ويقول القس دي جروت في كتابه "التعاليم الكاثوليكية" : "إن الثالوث الاقدس هو لغز بمعنى الكلمة، والعقل لا يستطيع أن يهضم وجود إله مثلث، ولكن هذا ما علمنا إياه الوحي".
ويقول زكي شنودة: "وهذا سر من أسرار اللاهوت الغامضة التي لا يمكن إدراك كنهها بالعقل البشري".
ويقول الأب جيمس تد: "العقيدة المسيحية تعلو على فهم العقل".
ويقول القس أنيس شروش: " واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد، سر ليس عليكم أن تفهموه، بل عليكم أن تتقبلوه".
أما القس توفيق جيد في كتابه "سر الأزل" فإنه يجعل فهم سر التثليث من المستحيلات، التي لا طائل من محاولة فهمها، لأن "من يحاول إدراك سر الثالوث تمام الإدراك كمن يحاول وضع مياه المحيط كلها في كفة" ( ).
ووراء هذه الحجب تختفي الحقيقة، وهي أن التثليث عقيدة يستحيل على العقل البشري فهمها، لا لضعف العقل البشري، لا بل لتناقضها مع أبسط المسلَمات الفطرية والمعارف الإنسانية.
التوحيد في التاريخ النصراني
رأينا فيما سبق شهادة أسفار العهد القديم والجديد على أن التوحيد هو دين الله الذي نادت به الرسل، وأن عيسى هو عبد الله ورسوله.
وإذا كان الأصل في ديانة عيسى كذلك، فأين أتباع المسيح؟ ومتى انضوى التوحيد عن الوجود في حياة الملة المسيحية؟ وهل من الممكن أن لا يكون لكل تلك الدلائل الموحدة أثر في النصرانية على مر العصور؟
للإجابة عن هذه الأسئلة قلَّب المحققون صفحات التاريخ القديم والجديد وهم يبحثون عن عقيدة التوحيد وتاريخها خلال عشرين قرناً من الصراع مع وثنية بولس، فماذا هم واجدون؟.
أولاً : التوحيد فيما قبل مجمع نيقية
نشأ الجيل الأول بعد المسيح مؤمناً بتوحيد الله وعبودية المسيح، وأنه كان نبياً رسولاً، ورأينا ذلك في ما سطره الإنجيليون والقديسون بما فيهم بولس من نصوص موحدة.
كما نستطيع القول بأن الجيل الأول من تاريخ النصرانية كان موحداً بشهادة التاريخ حيث يقول بطرس قرماج في كتابه " مروج الأخبار في تراجم الأبرار " عن بطرس ومرقس: "كانا ينكران ألوهية المسيح"، فهذا معتقد تلاميذ المسيح المقربين.
وتقول دائرة المعارف الأمريكية: "لقد بدأت عقيدة التوحيد كحركة لاهوتية بداية مبكرة جداً في التاريخ أو في حقيقة الأمر فإنها تسبق عقيدة التثليث بالكثير من عشرات السنين"، وذلك لأنها بدأت مع بدء النبوات، واستنارت وتلألأت ببعثة عيسى عليه السلام وتعاليمه الموحدة لله.
وتقول دائرة معارف لاوس الفرنسية : "عقيدة التثليث وإن لم تكن موجودة في كتب العهد الجديد ولا في عمل الآباء الرسوليين ولا عند تلاميذهم المقربين إلا أن الكنيسة الكاثوليكية والمذهب البروتستنتي يدعيان أن عقيدة التثليث كانت مقبولة عند المسيحيين في كل زمان…
إن عقيدة إنسانية عيسى كانت غالبة طيلة مدة تكون الكنيسة الأولى من اليهود المتنصرين، فإن الناصريين سكان مدينة الناصرة وجميع الفرق النصرانية التي تكونت عن اليهودية اعتقدت بأن عيسى إنسان بحت مؤيد بالروح القدس، وما كان أحد يتهمهم إذ ذاك بأنهم مبتدعون وملحدون، فكان في القرن الثاني مبتدعون وملحدون، فكان في القرن الثاني مؤمنون يعتقدون أن عيسى هو المسيح، ويعتبرونه إنساناً بحتاً..
وحدث بعد ذلك أنه كلما نما عدد من تنصر من الوثنيين ظهرت عقائد لم تكن موجودة من قبل".
ويقول عوض سمعان مؤكداً براءة أصحاب المسيح من الشرك والوثنية زمن المسيح: " إذا رجعنا إلى تاريخ علاقة الرسل بالمسيح، وجدنا أنهم لم يجرؤوا في أول الأمر على الاعتراف بأنه هو الله … لأنهم كيهود كانوا يستبعدون أن يظهر الله في هيئة إنسان. نعم كانوا ينتظرون المسيّا، لكن المسيا بالنسبة إلى أفكارهم التي توارثوها عن أجدادهم لم يكن سوى رسول ممتاز يأتي من عند الله، وليس هو بذات الله"( ).
وتؤكد دائرة المعارف الأمريكية بأن الطريق بين مجمع أروشليم الأول الذي عقده تلاميذ المسيح ومجمع نيقية لم يكن مستقيماً، ويتحدث الكاردينال دانيلو عن انتشار التوحيد حتى في المواطن التي بشر بولس بها كأنطاكية وغلاطية حيث واجهته مقاومة عاتية.
وكشف مؤخراً عن وثيقة مسيحية قديمة نشرت في جريدة "التايمز" في 15 يوليو 1966م وتقول: إن مؤرخي الكنيسة يسلمون أن أكثر أتباع المسيح في السنوات التالية لوفاته اعتبروه مجرد نبي آخر لبني إسرائيل.
ويقول برتراند رسل الفيلسوف الإنجليزي: "تسألني لماذا برتراند رسل لست مسيحياً ؟ وأقول رداً على سؤالك: لأنني أعتقد أن أول وآخر مسيحي قد مات منذ تسعة عشر قرناً، وقد ماتت بموته المسيحية الحقة التي بشر بها هذا النبي العظيم" ( ).
لكن أصالة التوحيد في الجيل الأول وقوته لم تمنع من انتشار دعوة بولس الوثنية في أوساط المتنصرين من الوثنين الذين وجدوا في دعوته مبادئ الوثنية التي اعتادوها، إضافة إلى بعض المُثل والآداب التي تفتقرها الوثنيات الرومانية واليونانية.
وقد عورضت دعوة بولس من لدن أتباع المسيح، واستمر الموحدون يواجهون أتباع بولس، وظهر ما تسميه الكنسية في تاريخها بفرق الهراقطة، وهم الخارجون عن أراء الكنيسة الدينية، ومنهم الفرق التي كانت تنكر ألوهية المسيح.
ومن أهم هذه الفرق: الأبيونية وتنسب إلى قس اسمه أبيون، وقيل: الأبيونية هم: الفقراء إلى الله، فسموا بذلك لفقرهم وزهدهم.
وقد ظهرت هذه الفرقة في القرن الأول الميلادي من أصل يهودي، وقد نشطت هذه الفرقة بعد عام 70م.
وقد ذكر معتقدات هذه الفرقة المؤرخون الأوائل خلال نقدهم لعقائد فرقة الأريوسية المتأخرة، فيقول بطريرك الإسكندرية (عام 326م) عن عقيدة آريوس: "فهذا التعليم الثائر على تقوى الكنيسة هو تعليم أبيون وأرطيماس، وهو نظير تعليم بولس السمياطي".
ويقول كيرلس الأورشليمي (388م) عن الهراقطة: "فكرنثوس صنع خراباً في الكنسية، وأيضاً ميناندر وكربو قراط وأبيون".
ويقول ايريناوس في كتابه "ضد الهرطقات" (188م): "والذين يدعون باسم الأبيونية يوافقون على أن الله هو الذي خلق العالم، ولكن مبادئهم عن الرب مثل كرنثوس ومثل كربو قراط .. و هم يستخدمون إنجيل متى فقط، ويرفضون بولس الرسول، ويقولون عنه: إنه مرتد عن الناموس، يحفظون الختان، وكل العوائد المذكورة في الشريعة".
ويقول أوسابيوس القيصري (ت240م) في تاريخه: "قد كان الأقدمون محقين إذ دعوا هؤلاء القوم (أبيونيين)، لأنهم اعتقدوا في المسيح اعتقادات فقيرة ووضيعة، فهم اعتبروه إنساناً بسيطاً عادياً قد تبرر فقط بسبب فضيلته السامية"( ) كما كان الأبيونيون يقولون بردة بولس وكانوا يتهمونه بالتحريف.
وتذكر المصادر أن هؤلاء استخدموا إنجيل متى أو إنجيل العبرانيين - ولعل الاسمين لمسمى واحد، فلعلهم استخدموا الأصل العبراني لمتى - ولم يبالوا بغيره، ويرى بعض المؤرخين أنه بسبب هذه الفرقة دعي يوحنا لكتابة إنجيله الذي يقرر فيه لاهوتية المسيح.
وقد كان لهذه الفرقة شأن، إذ كثروا حتى شمل نفوذها- باعتراف أعدائهم - فلسطين وسوريا وآسيا الصغرى ووصل إلى روما، واستمر وجودهم إلى القرن الرابع الميلادي حيث يفهم من كلام القديس جيروم في القرن الرابع أنهم كانوا في حالة من الضعف والاضطهاد، وذلك بعد مخالفتهم لأوامر قسطنطين ومجمع نيقية ( ).
ويرى بعض المحققين المسلمين أن هذه الفرقة هي التي عناها الله بقوله فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (الصف: 14)، ويرون أنهم من عناهم المسيح بقوله: "طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض، طوبى للحزانى فإنهم يتعزون، طوبى للجياع والعطاش فإنهم يشبعون…" (متى 5/3-9).
وفي فترة نشأة هذه الفرقة (73م) ظهر الداعية - الذي سبق ذكره - كرنثوس، ويسميه المؤرخ أوسابيوس: زعيم الهراقطة، وقد كان يعتقد أن المسيح كان مجرد إنسان بارز، كما رفض الأناجيل عدا متى (أي النص العبراني المفقود).
وفي أواخر القرن الثاني ظهر أمونيوس ، فادعى بأن المسيح إنسان خارق للعادة حبيب لله، عارف بعمل الله بنوع مدهش، وأن تلاميذه أفسدوا دعوته، وبمثل هذا نادى كربو قراط، ويعرف أتباعه بالمعلمين أو المستنيرين، لكنهم بالغوا في إثبات بشرية المسيح حتى قالوا كان كسائر الحكماء، ويقدر جميع الناس أن يفعلوا مثله، ويسلكوا سلوكه، فكانت ردة فعلهم على قول القائلين بألوهيته غير صحيحة، ففي زحمة إنكارهم لألوهيته هضموه وأنقصوه عن حقه عليه الصلاة والسلام ( ).
وفي أواسط القرن الميلادي الثالث ظهرت فرقة البولينية وهم أتباع بولس الشنشاطي، والذي تولى أسقفية إنطاكية عام 260م كما كان يشغل منصباً كبيراً في مملكة تدمر.
ويلخص القس كيرد (ت 1324م) عقيدة الشنشاطي، فيقول في كتابه "مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة": "ملة تدعى البولية أو البوليانيون، وهي ملة بولس السميساطي بطريك إنطاكية، وهم الذين يؤمنون بأن الله إله واحد، جوهر واحد، أقنوم واحد، ولا يسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمون بالكلمة أنها مخلصة، ولا أنها من جوهر الأب، ولا يؤمنون بروح القدس المحيي، ويقولون: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت مثل خلق آدم، وكمثل واحد منا في جوهره، وأن الابن ابتداؤه من مريم … ونظروا إلى كل موضع من الكتب فيه ذكر أزلية الابن ولاهوته وأقانيم ثالوثه، فغيروا وكتبوا مكانه غيره كما يحبون، وعلى ما يوافق ديانتهم، ولم يغيروا أسماء الكتب ولا أسماء الرسل ولا حديثهم".
وقد عقدت الكنسية ثلاث مجامع خلال خمس سنوات لإقناعه بالعدول عن مذهبه، آخرها مجمع في إنطاكية عام 268م، وحضره بولس، ودافع فيه عن مذهبه، فطرد وعزل من جميع مناصبه، لكن أتباعه استمر وجودهم إلى القرن الميلادي السابع ( ).
كما ظهر في بداية القرن الميلادي الرابع عالم مترهب يدعى لوسيان، وكان يرى أن المسيح كائن سماوي أخرجه الله من العدم إلى الوجود، وتجلى فيه العقل الإلهي في كيفيته الشخصية، فكانت روحه غير بشرية، لكنه لم يكن الإله على الإطلاق ( ).
ويظهر في هذه الفرقة أثر العقائد المنحرفة الطاغية حينذاك، إذ لا يخلو قولهم في المسيح من شيء من الغلو في المسيح عليه السلام.
ثانياً : التوحيد فيما بعد مجمع نيقية
أ. الأريوسية
في عام 325م صدر أول قرار رسمي يؤله المسيح بعد تبني الامبرطور الوثني قسطنطين لهذا الرأي، ورفض ما سواه، واعتبر آريوس- الذي عقد المجمع من أجله - هرطوقياً.
وآريوس من رهبان الكنيسة، وكان يقول كما نقل عنه منسي يوحنا في كتابه "تاريخ الكنيسة القبطية": "إن الابن ليس مساوياً للأب في الأزلية، وليس من جوهره، وقد كان الأب في الصل( ) وحيداً، فأخرج الابن من العدم بإرادته، والآب لا يمكن أن يراه أو يكيفه أحد، ولا حتى الابن، لأن الذي له بداية لا يعرف الأزلي، والابن إله بحصوله على لاهوت مكتسب".
وقد توفي آريوس 336م، لكن دعوته انتشرت بعد وفاته، وأصبحت كما يقول الأستاذ حسني الأطير في كتابه الماتع "عقائد الفرق الموحدة في النصرانية": "أوشك العالم أن يكون كله أريوسياً - حسب قول الخصوم - لولا تدخل الأباطرة في العمل على ضرب تلك العقيدة واستئصال تبعيتها".
ويقول أسد رستم في كتابه "كنيسة مدينة الله العظمى": "كان آريوس فيما يظهر عالماً زاهداً متقشفاً يجيد الوعظ والإرشاد، فالتف حوله عدد من المؤمنين، وانضم إليه عدد كبير من رجال الاكليروس".
ويؤكد كثرة الأريوسيين المؤرخ ابن البطريق، وينقل أن أكثر أهل مصر كانوا أريوسيين، بل يقول القس جيمس أنِس: "فإن التاريخ يروي كيف أن الكنيسة المنظورة وقادتها أخطأوا وانحرفوا عن الحق، منها قبول أغلب الأساقفة ضلالة آريوس" ( ).
ومما يؤكد قوة مذهب آريوس إبان حياته وبعد موته، أن الكنيسة عقدت مجامع عدة لبحث عقيدته، كما كان لآريوس وأتباعه مجامع منها، مجمع قيسارية 334م، وصور 335م، وقد قرر المجتمعون في مجمع صور عزل أثناسيوس البابا – الداعي لألوهية المسيح والذي كتبت أمانة النصارى بإشرافه في مجمع نيقية-كما نفوه إلى فرنسا، ثم عقدوا مجمعاً آخر في إنطاكية عام 341م حضره سبع وتسعون أسقفاً أريوسياً، قرروا فيه مجموعة من القوانين التي تتفق مع مبادئهم ومعتقداتهم.
إن كثرة الأريوسيين وقوتهم جعلت البابا أثناسيوس - داعية تاليه المسيح - يبدو وحيداً، حتى "قيل له مرة: العالم كله أصبح ضدك يا أثناسيوس ... ثم عرف في الغرب بهذا اللقب Athanasius contra mundum أثناسيوس المضاد للعالم" ( ).
ويقول الأنبا غريغوريوس: "كاد الإيمان في لاهوت المسيح أن يفنى لو لم يهب الله للكنيسة القديس أثناسيوس الرسولي، فقد كان له من صفات الثبات والصمود والعناد في الحق ما كفل له الانتصار الحاسم على أكبر بدعة كادت أن تمحو كيان الكنيسة المسيحية من كل الأرض .. وقد أنصف من دعاه من المؤرخين بمؤسس المسيحية الثاني" ( ).
ثم أعاد الامبرطور الروماني الأسقف أثناسيوس إلى كرسي البابوية، فاحتج الأريوسيون لذلك، وأثاروا اضطرابات عدة، ثم عقدوا مجمعاً في آرلس بفرنسا عام 353م، وقرروا فيه بالإجماع – عدا واحداً - عزل أثناسيوس.
ثم أكدوا ذلك في مجمع ميلانو 355م فعزل، وتولى الأسقف الآريوسي جاورسيوس كرسي الإسكندرية، وفي عام 359م عقد الامبرطور مجمعين أحدهما للغربيين في "ريمني"، والآخر للشرقيين في "سلوفيا"، وقرر المجمعان صحة عقائد الأريوسية، وباتت الكنائس الغربية آريوسية.
ويذكر المؤرخ ناسيليف أن الامبرطور قسطنطين نفسه قد تحول إلى المذهب الأريوسي ممالأة لأفراد شعبه، وذلك بعد نقل عاصمته إلى القسطنطينية، وقد تعلق بذلك الأنبا شنودة وهو يبرر كثرة أتباع المذهب الأريوسي، فذكر بأنه بسبب معاضدة الامبرطور له.
وفي مجمع إنطاكية 361م وضع الأريوسيون صيغة جديدة للأمانة، ومما جاء فيها: "الابن غريب عن أبيه، ومختلف عنه في الجوهر والمشيئة"، وفي نفس العام عقدوا مجمعاً في القسطنطينية وضعوا فيه سبعة عشر قانوناً مخالفاً لما صدر عن مجمع نيقية.
وفي هذا العام أيضاً تولى الامبرطورية يوليانوس الوثني، فأعاد أثناسيوس وأساقفته إلى أعمالهم، وجاهر بعبادة الأصنام، وسلم الكنائس للنصارى الوثنيين، ثم خلفه الامبرطور يوبيانوس 363م، فأكمل ما بدأه سلفه، وعادى الأريوسيين، وفرض عقيدة النصرانية الوثنية، ومما قاله مخاطباً شعبه وأركان دولته: " إذا أردتم أن أكون امبراطوركم كونوا مسيحيين مثلي"، ثم حرم مذهب الأريوسيين، وتبنى قرارات نيقية، وطلب من الأسقف أثناسيوس أن يكتب له عن حقيقة الدين المسيحي الذي كان قد أجبر الناس عليه قبل أن يقف على حقيقته ( ).
وقد تم القضاء على الأريوسية بقوة السيف إبان حكم الامبرطور جستيان، حيث "فقدت أفريقيا خمسة ملايين من سكانها، إذ قضى على الأريوسية في تلك الأرجاء" ( ).
ب. النسطورية
وامتداداً لآريوس وفرقته، وفي القرن الخامس ظهرت فرقة النسطورية على يد أسقف القسطنطينية نسطور الذي شايعه بعض الأساقفة والفلاسفة، وكان نسطور يقول: إن في المسيح جزء لاهوتياً، لكنه ليس من طبيعة المسيح البشرية، فلم يولد هذا الجزء من العذراء التي لا يصح أن تسمى أم الله.
ويعتقد نسطور أن اتحاد اللاهوت بعيسى الإنسان ليس اتحاداً حقيقياً، بل ساعده فقط، وفسر الحلول الإلهي بعيسى على المجاز أي حلول الأخلاق والتأييد والنصرة.
وقال في إحدى خطبه: "كيف أسجد لطفل ابن ثلاثة أشهر؟" وقال: "كيف يكون لله أم؟ إنما يولد من الجسد ليس إلا جسداً، وما يولد من الروح فهو روح. إن الخليقة لم تلد الخالق، بل ولدت إنساناً هو إله اللاهوت".
وقد عقد في أفسس 431م مجمع قرر عزله ونفيه، فمات في صحراء ليبيا، يقول المؤرخ سايرس ابن المقفع في كتابه "تاريخ البطاركة": " إن نسطور كان شديد الإصرار على تجريد المسيح من الألوهية إذ قال: إن المسيح إنسان فقط. إنه نبي لا غير".
وذكر ابن المقفع أنه عند نفيه أرسل له البطارقة أن إذا اعترف بأن المصلوب إله متجسد فسوف يعفون عنه، فيقول ابن المقفع: "فقسا قلبه مثل فرعون، ولم يجبهم بشيء".
وقد تغير مذهب النسطورية بعد نسطور فأشبه مذاهب التثليث، إذ يقول النسطورية: إن المسيح شخصية لها حقيقتان: بشرية وإلهية، فهو إنسان حقاً، إله حقاً، ولكنه ليس شخصية قد جمعت الحقيقتين، بل ذات المسيح كانت تجمع شخصيتين!! ( ).
ثالثاً : الطوائف النصرانية الموحدة بعد ثورة الإصلاح الديني
وطوال قرون تعاقبت على النصرانية في ظل سيطرة الكنيسة لم ينقطع تواجد الموحدين، وإن ضعف نشاطهم وتواجدهم بسبب محاكم التفتيش وقوة الكنيسة وسلطانها.
وعندما ضعف سلطان الكنسية واضمحل، عادت الفرق الموحدة للظهور، وبدأت عقيدة التثليث بالاهتزاز، وهو ما عبر عنه لوثر بقوله: "إنه تعبير يفتقد إلى القوة، وإنه لم يوجد في الأسفار".
فيما قال عنه فالبر في كتابه "تاريخ الموحدين": "إن كالفن قد أعلن قانون الإيمان الذي صدر عن مجمع نيقية كان يناسبه أن يغنى كأغنية بدلاً من أن يحفظ كبيان عن العقيدة".
وعندما ألف كالفن كتابه "خلاصة العقيدة" (1541م) لم يذكر فيه التثليث إلا نادراً.
وشيئاً فشيئاً عادت الفرق الموحدة للظهور وازدهر نشاط الموحدين في أوربا، حتى إن ملك المجر هوجون سيجسموند (ت1571م) كان موحداً.
وفي ترانسلفانيا ازدهر التوحيد كما تذكر دائرة المعارف الأمريكية، وكان من الموحدين المشهورين فرانسس داود الذي أدخل السجن بعد وفاة الملك جون وتولي الملك ستيفن باثوري الكاثوليكي، وتوفي سنة 1579م، وكان الملك الجديد قد منع الموحدين من نشر كتبهم دون إذن منه ( ).
كما ظهر في هذا القرن سوسنس الموحد في بولندا (ت 1604م)، وكان له أتباع يعرفون بالسوسنيون أنكروا التثليث، ونادوا بالتوحيد، وفر بعضهم من الكنسية إلى سويسرا.
ونادى سرفيتوس بالتوحيد في أسبانيا فأحرق حياً عام 1553م، وكان يقول في كتابه "أخطاء التثليث": "إن أفكاراً مثل الثالوث والجوهر وما إلى ذلك إنما هي اختراعات فلسفي، لا تعرف عنها الأسفار شيئاً" ( ).
كما ظهر في ألمانيا مذهب الأناباست الموحد، واستطاعت الكنيسة سحقه.
ثم ظهرت جمعيات تحارب التثليث منها "الحركة المضادة للتثليث"، وأنشأت في شمال إيطاليا في أواسط القرن السادس عشر، تلتها" الحركة المعادية للتثليث" والتي ترأسها الطبيب المشهور جورجيو بندراثا عام 1558م، وفي عام 1562م عقد مجمع بيزو، وكان القسس يتكلمون عن التثليث فيما كان غالبية الحضور من المنكرين له ( ).
وفي القرن السابع عشر قويت بعض الكنائس الموحدة على قلة في أتباعها، و أصدر الموحدون عام 1605م مطبوعاً مهماً جاء فيه "الله واحد في ذاته، والمسيح إنسان حقيقي، ولكنه ليس مجرد إنسان، والروح القدس ليس أقنوماً، لكنه قدرة الله".
وفي عام 1658م صدر مرسوم طردت بمقتضاه جماعة موحدة في إيطاليا. وكان من رواد التوحيد يومذاك جون بيدل (ت 1662م)، وسمي: "أبو التوحيد الإنجليزي". وكان قد توصل من خلال دراسته إلى الشك في عقيدة التثليث، فجهر بذلك وسجن مرتين، ثم نفي إلى صقلية.
وفي عام 1689م استثنى مرسوم ملكي الموحدين من قانون التسامح الديني. وذلك لا ريب يعود لكثرة هؤلاء وتعاظم أثرهم، و هو ما يعبر عنه بردنوفسكي في كتابه "ارتقاء الإنسان"، فيقول: "كان العلماء في القرن السابع عشر يشعرون بالحرج من مبدأ التثليث" ( ).
وفي القرن الثامن عشر سمي هؤلاء الموحدون بالأريوسيين، ومنهم الدكتور تشارلز شاونسي (ت 1787م) راعي كنيسة بوسطن، وكان يراسل الأريوسيين الإنجليز.
وكذا ناضل الدكتور يوناثان ميهيو بشجاعة ضد التثليث، ونشر الدكتور صموئيل كتابه "عقيدة التثليث من الأسفار" ووصل فيه إلى نتيجة: "أن الآب وحده هو الإله الأسمى، وأن المسيح أقل منه رتبة"، ورغم إنكاره بأنه آريوسي، فإنه يصعب التميز بين أقواله وتعليم آريوس، ومثله العالم الطبيعي جون بربستلي (ت 1768م)، وقد طبع رسالته "التماس إلى أساتذة المسيحية المخلصين الموقرين" ووزع منها ثلاثين ألف نسخة في إنجلترا، فأرغم على مغادرتها، فقضى في بنسلفانيا.
واعتزل ثيوفليس ليندساي (ت 1818م) الخدمة الكنيسة، ثم ما لبث أن تحول إلى كنيسة موحدة، كما عين زميله الموحد توماس بلشام في منصب كبير في كلية هاكني اللاهوتية، ثم أسسا معاً "الجمعية التوحيدية لترقي المعرفة المسيحية وممارسة الفضيلة عن طريق توزيع الكتب".
ثم بعد إقرار الحقوق المدينة كون الموحدون اتحاداً أسموه "الاتحاد البريطاني الأجنبي للتوحيد" ( ).
وفي القرن التاسع عشر الميلادي أسس في مناطق متعددة عدد من الكنائس الموحدة التي اجتذبت شخصيات مهمة مثل وليم شاننج (ت 1842) راعي كنيسة بوسطن، و كان يقول :بأن الثلاثة أقانيم تتطلب ثلاثة جواهر، وبالتالي ثلاثة آلهة. وكان يقول: "إن نظام الكون يتطلب مصدراً واحداً للشرح والتعليل، لا ثلاثة، لذلك فإن عقيدة التثليث تفتقد أي قيمة دينية أو علمية".
ومثله قال القس جارد سباركس راعي كنيسة الموحدين في ليتمور والذي صار فيما بعد رئيساً لجامعة هارفرد.
وتكونت عام 1825م جمعية التوحيد الأمريكي، وفي منتصف هذا القرن أضحت مدينة ليدن الهولندية وجامعتها مركزاً للتوحيد، وكثر عدد الموحدين الذين عرفوا باللوثريين أو الإصلاحيين.
ومع مطلع القرن العشرين تزايد الموحدون، وزادوا نشاطهم، وأثمر بوجود ما يقرب من أربع مائة كنيسة في بريطانيا ومستعمراتها، ومثلها في الولايات المتحدة إضافة إلى كليتين لاهوتيتين تعلمان التوحيد هما مانشستر وأكسفورد في بريطانيا، وكليتين في أمريكا، إحداهما في شيكاغو، والأخرى في بركلي في كاليفورنيا، وما يقرب من مائة وستين كنيسة أو كلية في المجر، وغير ذلك في كافة دول أوربا النصرانية ( ).
وفي عام 1921م عقد مؤتمر حضره عدد كبير من رجال الدين في أكسفورد برئاسة أسقف كارليل الدكتور راشدل الذي ذكر في خطاب ألقاه فيه: أن قراءته للكتاب المقدس لا تجعله يعتقد أن عيسى إله، وأما ما جاء في يوحنا مما لم تذكره الأناجيل الثلاثة فلا يمكن النظر إليه على أنه تاريخي، ورأى أن كل ما قيل في ميلاد المسيح من عذراء أو شفائه الأمراض أو القول أن روحه سابقة للأجساد، كل ذلك لا يدعو للقول بألوهيته. وقد شاركه في آرائه عدد من المؤتمرين.
ويقول إيميل لورد فيج: "لم يفكر يسوع أنه أكثر من نبي، وليس بقليل أن يرى نفسه في بعض الأحيان دون النبي، ولم يحدث أبداً من يسوع ما يخيل به إلى السامع أن له خواطر وآمال فوق خواطر البشر وآمالهم … يجد يسوع كلمة جديدة صالحة للتعبير عن تواضعه بقوله: إنه ابن الإنسان، وقديماً أراد الأنبياء أن يلفتوا الأنظار إلى الهوة الواسعة التي تفصلهم عن الله، فكانوا يسمون أنفسهم بأبناء الإنسان …".
وفي عام 1977م اشترك سبعة من علماء اللاهوت في كتاب مشهور عنونوا له "أسطورة الإله المتجسد" ومما فيه عن هذه المجموعة "أنها قبلت التسليم بأن أسفار الكتاب المقدس كتبها مجموعة من البشر في ظروف متنوعة، ولا يمكن الموافقة على اعتبار ألفاظها تنزيلاً إلهياً … إن المشتركين في هذا الكتاب مقتنعون أن تطوراً لاهوتياً آخر لا بد منه في آخر هذا الجزء الأخير من القرن العشرين".
ثم أصدر ثمانية من علماء اللاهوت في بريطانيا كتابا أسموه "المسيح ليس ابن الله"، أكدوا فيه ما جاء في الكتاب الأول، وقالوا : "إن إمكانية تحول الإنسان إلى إله لم تعد بالشيء المعقول والمصدق به هذه الأيام".( )
وفي مقابلة تلفزيونية جرت في إبريل 1984م في محطة تلفزيون "لندن لنهاية الأسبوع" (London`s Weekend Television) ذكر الأسقف ديفيد جنكنز - الذي يحتل المرتبة الرابعة بين تسعة وثلاثين أسقفاً يمثلون رأس هرم الكنيسة الأنجليكانية - أن ألوهية المسيح ليست حقيقة مسلماً بها، وقال: إنه لا يعتقد أن الولادة العذراوية وقيامة المسيح من الموت أحداث تاريخية (أي حقيقية).
وكان لكلماته صدى كبير بين أتباع الكنيسة البرتستانتية، فقامت صحيفة "ديلي نيوز" باستطلاع رأي واحد وثلاثين أسقفاً - من الأساقفة التسعة والثلاثين- حول ما قاله الأسقف ديفيد، ثم نشرت نتيجة الاستطلاع في عددها الصادر في 25/6/1984م، وكانت نتيجته أن "أصر 11 فقط من الأساقفة على القول بأنه يجب على المسيحيين أن يعتبروا المسيح إلهاً وإنساناً معاً، بينما قال 19 منهم بأنه كان كافياً أن ينظر إلى المسيح باعتباره الوكيل الأعلى لله"، وتشكك 9 أساقفة من فكرة قيامة المسيح من الموت، وقالوا بأنها سلسلة من التجارب أو المشاعر التي أقنعت أتباعه أنه كان حياً في وسطهم، وأكد 15 أسقفاً منهم "أن المعجزات المذكورة في العهد الجديد كانت إضافات ألحقت بقصة يسوع فيما بعد". أي أنها لا تصلح في الدلالة على الألوهية ( ).
وهكذا تشكك الكنيسة ممثلة بأساقفتها في مسألة ألوهية المسيح، وترفضها، وتقر أنها عقيدة دخيلة على النصرانية، لم يعرفها المسيح ولا تلاميذه، إذ هي من مبتدعات بولس والذين تأثروا به ممن كتبوا الأناجيل والرسائل ثم المجامع الكنسية.
ومن كل ما ذكرنا يتبين لنا أن التوحيد حركة أصيلة في المجتمع النصراني، تتجدد كلما نظر المخلصون منهم في أسفارهم المقدسة، فتنجلي عن الفطرة غشاوتها، و تعلن الحقيقة الناصعة أن لا إله إلا الله.
مصادر القول بألوهية المسيح
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (المائدة: 116-117).
وإذا لم يكن المسيح قد قال بألوهية نفسه، ولم يقل بها معاصروه، فمن أين وفدت هذه العقائد على النصرانية؟
وفي الجواب نقول: إنه بولس عدو النصرانية، اليهودي الذي ادعى رؤية المسيح في السماء بعد رفعه، وقد نحل ذلك من الوثنيات المختلفة التي كانت تقدس بعض البشر وتعتبرهم أبناء الله. وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (التوبة: 30).
أهمية بولس في الفكر النصراني
بولس أشهر كتبة العهد الجديد، وأهم الإنجيليين على الإطلاق، فقد كتب أربع عشرة رسالة، تشكل ما يقارب النصف من العهد الجديد، وفيها فقط تجد العديد من العقائد النصرانية، إنه مؤسس النصرانية وواضع عقائدها، وهو الوحيد الذي ادعى النبوة، دون سائر الإنجيليين.
فالنصرانية المحرفة عمادها الرئيس رسائل بولس، التي كانت رسائله أول ما خط من سطور العهد الجديد الذي جاء متناسقاً إلى حد ما مع رسائل بولس، لا سيما إنجيل يوحنا، فيما رفضت الكنيسة النصرانية تلك الرسائل التي تتعارض مع نصرانية بولس التي طغت على النصرانية الأصلية التي نادى بها المسيح وتلاميذه من بعده.
وهذا الأثر الذي تركه بولس في النصرانية لا يغفل ولا ينكر، مما حد بالكاتب مايكل هارت في كتابه "الخالدون المائة" أن يجعل بولس أحد أهم رجال التاريخ أثراً، إذ وضعه في المرتبة السادسة بينما كان المسيح في المرتبة الثالثة.
وقد برر هارت وجود النبي في المرتبة الأولى من قائمته، وتقدمه على المسيح الذي يعد المنتسبون لدينه الأكثر على وجه الأرض، فقال: "فالمسيحية لم يؤسسها شخص واحد، وإنما أقامها اثنان: المسيح عليه السلام والقديس بولس، ولذلك يجب أن يتقاسم شرف إنشائها هذان الرجلان.
فالمسيح عليه السلام قد أرسى المبادئ الأخلاقية للمسيحية، وكذلك نظراتها الروحية وكل ما يتعلق بالسلوك الإنساني.وأما مبادئ اللاهوت فهي من صنع القديس بولس".
ويقول هارت: "المسيح لم يبشر بشيء من هذا الذي قاله بولس، الذي يعتبر المسئول الأول عن تأليه المسيح". وينبه هارت إلى أن بولس لم يستخدم لقب "ابن الإنسان" الذي كان كثيراً ما يطلقه المسيح على نفسه.
يقول السير آرثر فندلاي في كتابه "الكون المنشور": "إن بولس هو الذي وضع أساس الدين الذي يسمى بالدين المسيحي ".
وقد خلت قائمة مايكل هارت من تلاميذ المسيح الذين غلبتهم دعوة بولس مؤسس المسيحية الحقيقي، فيما كان الامبرطور قسطنطين صاحب مجمع نيقية (325م) في المرتبة الثامنة والعشرين( ).
وقد تعرض المحققون بالذكر للعديد من البدع التي أحدثها بولس في عقائد النصرانية وشرائعها، وبينوا اعتماداً على كتب العهد الجديد براءة المسيح من هذه البدع.
بولس وألوهية المسيح
وإذا خلت الأناجيل- سوى ما قد يقال عن إنجيل يوحنا - من تقرير عقيدة ألوهية المسيح فإن رسائل بولس تمتلئ بالغلو في المسيح، والنصوص التي تعتبر المسيح كائناً فريداً عن البشر.
فماذا في أقوال بولس عن المسيح؟ وهل يعتبره رسولاً أم إلهاً متجسداً أم …
عند التأمل في رسائل بولس نجد إجابة متناقضة بين رسالة وأخرى، إذ ثمة نصوص تصرح ببشرية المسيح، وثمة أخرى تقول بألوهيته، فهل هذا التناقض يرجع إلى تلون بولس حسب حالة مدعويه أم أنه متوافق مع تطوير بولس لمعتقده في المسيح؟ أم أن التناقض يرجع إلى ما تعرضت له الرسائل من تغير وتبديل … هذا كله يبقى محتملاً من غير ترجيح.
فمن النصوص التي تحدثت عن المسيح كعبد من البشر يتميز عنهم بمحبة الله له واصطفائه قول بولس: "يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس (1) 2/5).
ومثله يقول معترفاً بوحدانية رب الأرباب "أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح، الذي سيبينه في أوقاته، المبارك، العزيز، الوحيد، ملك الملوك، ورب الأرباب، الذي وحده له عدم الموت.." (تيموثاوس (1) 6/14-16)، فالمسيح رب، لكن الله وحده رب الأرباب.
والمسيح بشر متميز بتقديم الله له يقول عنه بولس: "مدعو من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق" (عبرانيين 5/10)، وهو أي المسيح "الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات، وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه" (عبرانيين 5/7).
ويقارن بولس بين منـزلته ومنـزلة مخلوقات مثله يفضلها عليه تارة، ويفضله عليها أخرى فيقول: "لكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة: يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت" (عبرانيين 2/9).
وفي مواضع آخر يقارن بينه وبين موسى فيقول: "لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع حال كونه أميناً للذي أقامه كما كان موسى .. موسى كان في كل بيته كخادم ... وأما المسيح فكابن على بيته، وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء.." (عبرانيين 3/1-6).
فهذه النصوص وغيرها تحدث بها بولس عن المسيح كبشر متميز بمحبة الله له واختياره ليكون وسيلة في إبلاغ وحيه.
لكن لبولس نصوص أخرى تبالغ في وصف المسيح حتى تكاد تجعله ابناً حقيقياً لله لكثرة ما فيها من الغلو والتأكيد على خصوصية المسيح، مما قد يفهم منه أن البنوة هنا تختلف عن سائر ما ورد في الكتاب المقدس، ويتضح ذلك من مواضع أخرى يعتبره فيها صورة لله، أو الجسد الذي تجسد فيه الإله.
يقول بولس: "فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطيئة" (رومية 8/3).
ويقول: "الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله .." (رومية 8/32).
ويقول: "أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة" (غلاطية 4/4)، ويفهم من النص بنوة حقيقية يراها بولس للمسيح، وإلا فجميع المؤمنين أبناء الله (على المجاز) مولودون من جنس النساء.
ويقول: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرقٍ كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عبرانيين 1/1-4). فهو كما يرى بولس نوع مختلف عما سبق من الأنبياء السابقين، والذين هم جميعاً أبناء الله بالمعنى الكتابي المجازي للكلمة.
ويقول بولس عن المسيح : " هو صورة الله الغير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
ويقول: "إذ كان في صورة الله لن يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبده، صائراً في شبه الناس" (فيلبي2/6-7).
ويقول : "أظهر كلمته في أوقاتها الخاصة بالكرازة التي أؤتمنت أنا عليها بحسب أمر مخلصنا: الله" (تيطس 1/3).
وتحدث المحققون أيضاً عن البيئة التي جعلت بولس يندفع للقول بألوهية المسيح، وتحدثوا عن المصادر التي استقى منها بولس هذه العقيدة.
أما البيئة التي بشر بها بولس فقد كانت بيئةً مليئة بالخرافات التي تنتشر بين البسطاء والسذج الذين هم غالب أفراد مجتمع ذلك الزمان، يضاف إليه أن تلك المجتمعات وثنية تؤمن بتعدد الآلهة وتجسدها وموتها، ففي رحلة بولس وبرنابا إلى لستر، صنعا بعض الأعاجيب "فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا أصواتهم بلغة ليكاونية قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس، ونزلوا إلينا، فكانوا يدعون برنابا: زفس، وبولس: هرمس" (أعمال 14/11-12)، وزفس وهرمس كما أوضح محررو قاموس الكتاب المقدس: اسمان لإلهين من آلهة الرومان: أولهما: كبير الآلهة. والثاني: إله الفصاحة.
وهكذا اعتقد هؤلاء البسطاء الوثنيون أن بولس وبرنابا إلهان، بمجرد أن فعلا بعض الأعاجيب، بل ويحكي سفر الأعمال أيضاً أن الكهنة قربوا إليهما الذبائح، وهموا بذبحها، لولا إنكار بولس وبرنابا عليهم. (انظر أعمال 14/13-18).
فماذا يكون قول هؤلاء في الذي كان يحيي الموتى، وأشيع أنه قام من الموتى، وأتى بالأعاجيب والمعجزات.
وفكرة تجسد الآلهة مقبولة عند الوثنين الذين حددوا مواسم وأعياد معروفة لولادة الآلهة المتجسدة وموتها، وبعثتها، لذلك فإن بولس أنزل الإله للأرض ليراه الرومان، ويكون قريباً منهم.
ويرى الأستاذ حسني الأطير في كتابه القيم " عقائد النصارى الموحدين بين الإسلام والمسيحية " أن الذي دفع بولس لإظهار ألوهية المسيح هو الامبرطور الروماني طيباروس قيصر (37م).
ويستدل لذلك بما أورده المؤرخ أوسابيوس القيصري (340م)، عن طيباروس حيث بلغته أخبار المسيح، فأراد إضافته إلى الآلهة، ولكن وحسب المتبع لا بد أن يحال الأمر إلى مجلس الأعيان للمصادقة عليه، إذ لا يجوز للامبرطور أن يضيف إلهاً إلا بواسطتهم، لكن المجلس رفض ذلك، وبقي طيباروس متمسكاً برأيه.
ويوافق أوسابيوس بذلك ما جاء عن المؤرخ ترتليانوس (ق3م) إذ يقول : "وطيباروس نفسه لو أمكن أن يكون قيصراً ومسيحياً معاً لكان آمن به".
ويفترض الأطير أن بولس ربما كان أحد أهم أدوات اتخذها الامبرطور لنشر فكرته الجديدة عن المسيح كإله، وبقي هذا الوضع قائماً بعد طيباروس حتى تولى القيصرية نيرون، فكان - كما يقول أوسابيوس - "أول امبرطور أعلن العداء للديانة الإلهية" ( ).
وأما استخدام مصطلح "ابن الله" من قبل بولس فيراه شارل جنيبر غير كاف للحكم بأنه أراد الإلهية منه، فقد "بدا تصور بولس له مشوباً بالكثير من التردد والنقص بحيث لم يقدر له مقاومة الزمن، واتجهت تقوى المؤمنين في قوة - دونما إدراك للعقبات – إلى تنشيط الإيمان بالوحدة بين السيد والله".
وفسر شارل جنيبر ذلك بأن لفظ البنوة معروف في الفكر اليهودي، وقد أطلق على كثيرين أنهم أبناء الله، لكن ظهر للكلمة مفهوم البنوة الحقيقية في مرابع الفكر اليوناني في طرسوس التي كانت مركزاً للثقافات المختلفة، ومنها نقل بولس كثيراً مما أدخله في النصرانية ( ).
ويحاول النصارى تأصيل فكرة ألوهية المسيح وردها إلى المسيح وتلاميذه، وتبرئة بولس منها، مستدلين بما جاء في (متى 16/16)، والذي يقضي بأن بطرس أول من قال بتأليه المسيح، ولم ينكر عليه المسيح إذ لما سألهم المسيح: " أنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا..." (متى 16/15-16).
لكن الأطير يعتبر ما جاء في متى محرفاً بدلالة ما جاء في وصف الحدث نفسه عند غيره من الإنجيليين، ففي مرقس "فأجاب بطرس، وقال له: أنت المسيح" (مرقس 8/29)، ولم يذكر البنوة، وفي لوقا: "فأجاب بطرس، وقال: مسيح الله" (لوقا 9/20).
وبذلك يكون متى قد خالف مرقس وهو ينقل عنه، كما لا يمكن قبول ما جاء في متى لفقد أصله العبراني، فلا نعلم مدى الدقة التي التزمها المترجم في ترجمة العبارة ( ).
وبالعموم فإنا لو افترضنا أن إجابة بطرس هي ما ذكره متى أي " أنت هو المسيح ابن الله الحي"، فإن هذا ليس فيه أي دعوى للألوهية ، بل هو مطابق لقول سفر هوشع عن بني إسرائيل: "يكون عدد بني اسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعدّ، ويكون عوضاً عن أن يقال لهم: لستم شعبي؛ يقال لهم: أبناء الله الحي" (هوشع 1/10)، فكما دعي شعب إسرائيل في التوراة بأنهم أبناء الله الحي؛ فإن بطرس يدعو المسيح ابن الله الحي، سواء بسواء.
بولس والتثليث
دأب الكثير من الكُتاب على اتهام بولس بوضع التثليث في النصرانية من غير أن يقدموا على ذلك دليلاً من أقوال بولس، مكتفين بما عرف عن دور بولس في صياغة سائر المعتقدات النصرانية، وهذا الاتهام لا أراه محقاً، إذ خلت رسائل بولس من تأليه الروح القدس، كما خلت من ذكر عناصر التثليث مجتمعة إلا في نص واحد، لا يفهم منه خالي الذهن ما يعتقده النصارى من التثليث، وقد جاء ذلك في قوله: "نعمة ربنا يسوع ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم" (كورنثوس (2) 13/14)، فليس في النص ما يفيد ألوهية الروح القدس، ولا أن الثلاثة المذكوين هم واحد.
ومما يؤكد غفلة بولس عن التثليث التأمل في ترتيب عناصر التثليث المذكورين في النص، إذ يقدم المسيح على الأب، وهو ما تعتبره الفرق النصرانية هرطقة.
ويضاف إلى ذلك أنه سمى الأقنوم الأول: الله. فيما تسميه صيغة التثليث: الآب، كما سمى الأقنوم الثاني : المسيح، فيما هو عندهم : الابن أو الكلمة.
والصحيح أن التثليث لا علاقة له ببولس، فقد كان ظهوره في مرحلة متأخرة جداً عن بولس، وأول من ذكره هو ترتليان (200م)، وأصبح عقيدة رسمية عام (381م) في مجمع القسطنطينية، ولم يرد له ذكر حتى في قرارات مجمع نيقية (325م).
ألوهية المسيح والتثليث عقيدتان منحولتان من الوثنيات القديمة
تكاملت عقائد النصارى في القرن الرابع الميلادي بتأليه المسيح ثم روح القدس وإقرار الكتاب المقدس، ونشأت مسيحية جديدة صنعها بولس ومن بعده، فمن أين استقى بولس ثم المجامع الكنسية المتأخرة هذه المعتقدات الجديدة؟
في الإجابة عن هذا السؤال ننقل ما قاله شارل جنيير في كتابه "المسيحية نشأتها وتطورها": "والدراسة المفصلة لرسائل بولس الكبرى تكشف لنا النقاب عن مزيج من الأفكار الغريبة جداً، فهي مزيج من الأفكار اليهودية والمفاهيم الوثنية اليونانية".
ولمزيد من البيان نستعرض بعضاً من آثار الديانات السابقة للمسيحية، لنقف على التشابه الكبير بين هذه الوثنيات القديمة والوثنية المسيحية، وهذا التشابه طال الأصول والفروع، وبهذا نعرف الأصل والمصدر الذي نقلت عنه المسيحية معتقداتها وشرائعها.
أولاً : تجسد الإله في الوثنيات القديمة
القول بإله متجسد يمثل الأقنوم الثاني من الإله، وأنه تجسد من أجل غفران خطايا العالمين قول قديم ومعروف في كافة الوثنيات البدائية، ومنها وثنيات الهنود حيث يقول المؤرخ ألن في كتابه "الهند": "أما كرشنا فهو أعظم من كافة الآلهة التي تجسدت، ويمتاز عنها كثيراً، لأنه لم يكن في أولئك إلا جزء قليل من الألوهية، أما هو (كرشنا) فإنه الإله فشنوَ ظهر بالناسوت".
وجاء في كتاب "بهاكافات بورون" الهندي أن كرشنا قال: "سأتجسد في متوار بيت يادوا، وأخرج من رحم ديفاكي، أولد وأموت، قد حان الوقت لإظهار قوتي، وتخليص الأرض من حملها".
وكذلك فإن الهندوس اعتبروا أوتار تجسداً إلهياً يجعله أهلاً للعبادة.
أما بوذا فيقول عنه المؤرخ دوان في كتابه " خرافات التوراة والإنجيل وما يماثلها من الديانات الأخرى": "الإله بوذا المولود من العذراء مايا الذي يعبده بوذيو الهند وغيرهم ويقولون عنه: إنه ترك الفردوس، ونزل وظهر بالناسوت رحمة بالناس كي ينقذهم من الآثام، ويرشدهم صراطاً مستقيماً".
ويذكر المؤرخ دوان أن الأوربيين اندهشوا عندما ذهبوا إلى رأس كومورين جنوب الهند من رؤية السكان يعبدون إلهاً مخلصاً يدعونه سليفاهانا المولود من عذراء.
ومن البشر الذين قيل بتجسدهم الإله فوهي في الصين، وكذا وستين نونك وهوانكتي وغيرهم، وأما الإله برومسيوس فقد قيل عنه:كان إنساناً حقيقياً وإلهاً حقيقياً ( ).
وهكذا نستطيع القول بأن القول بإله متجسد أمر تكاثرت على الإيمان به الوثنيات القديمة السابقة للمسيحية، وعنه نقل بولس والمجامع بعده معتقدهم في المسيح.
ثانياً : التجسد من أجل الخلاص والغفران
وكذا يوافق النصارى في الهدف والغرض من التجسد ما جاء في الوثنيات القديمة، فالنصارى يقولون: إن التجسد كان ليموت المسيح ويفدي خطايا البشرية.
ومثله ينقل العلامة هوك عن آلهة الهنود المتجسدة، فيقول: "يعتقد الهنود بتجسد أحد الآلهة وتقديم نفسه ذبيحة فداء عن الناس من الخطيئة".
وينقل قريباً منه عن بوذا الذي يقول عنه المؤرخ موريس وليمس في كتابه "ديانة الهنود": "و من رحمته (أي بوذا) تركه للفردوس ومجيئه إلى الدنيا من أجل خطايا بني الإنسان وشقائهم كي يبرئهم من ذنوبهم، ويزيل عنهم القصاص الذي يستحقونه".
وينقل دوان في كتابه " خرافات التوراة والإنجيل وما يماثلها من الديانات الأخرى" تسمية الهنود لبوخص ابن المشتري بفادي الأمم.
ومثله قيل في هيركلوس، ومترا فادي الفرس، وباكوب إله المكسيكيين المصلوب، وسواهم من البشر الذين اعتقد أتباعهم أنهم آلهة تجسدت لمغفرة الخطايا ( ).
ثالثاً : الإله المتجسد والخالقية
وكما اعتقد النصارى بأن المسيح الابن هو الخالق كانت الوثنيات قد اعتقدت من قبل في آلهتها المتجسدة فقد جاء في كتب الهنود "كرشنا ابن الإله من العذراء ديفاكي، وهو الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس، خلق السماوات والأرض بما فيها، وهو عندهم الأول والآخر".
وفي كتاب "بهكوات جيتا" المقدس أن كرشنا قال لتلميذه أرجون: "أنا رب كل المخلوقات ومبدعها، خلقت الإنسان…فاعرفني، أنا المصور والخالق للإنسان".
ويعتقد الصينيون أن الأب لم يخلق شيئاً، وأن الابن لاتوثو المولود من عذراء خلق كل شيء.
وفي صلوات الفرس لادرمزد يقولون: "إلى أدرمزد أقدم صلواتي، فهو خالق كل شيء مما هو كان وما سيكون إلى الأبد، وهو الحكيم القوي خالق السماء والشمس والقمر والنجوم…".
ومثله يعتقد الآشوريون في الابن البكر"نرودك"، وكذا مؤلهو"أدوني"، و "لاؤكيون" وغيرهما.
ومثله في التراث المصري القديم أن الإله "أتوم" خلق كل شيء حي بواسطة الكلمة التي خلقت كل قوى الحياة، وكلما يؤكل، وكل ما يحبه أو يكرهه الإنسان ( ).
رابعاً : الأزلية والأبدية للآلهة المتجسدة
ووصف يوحنا في رؤياه المسيح بأنه الأول والآخر والألف والياء. وهذا وصف يتطابق تماماً مع وصف الوثنيين آلهتهم المتجسدة التي يعتقدون أزليتها وأبديتها، ففي كتاب "كيتا" الهندي أن كرشنا قال: "لم يأت زمان لم أكن فيه موجوداً، أنا صنعت كل شيء، أنا الباقي والأبدي، والمبدئ والكائن قبل كل شيء، أنا الحاكم القوي على الكون، أنا الأزل ووسط وآخر كل شيء".
ومن توسلات أرجون لكرشنا: "أنت الباقي العظيم، الواجبة معرفتك، أنت القابض على الكائنات… أنت الإله الكائن قبل الآلهة".
ويصفه كتاب "فشنو بوراني": "إنه بغير ابتداء ووسط وانتهاء".
وجاء في كتابات الهنود عن بوذا: " هو الألف والياء، ليس لوجوده ابتداء ولا انتهاء، وهو الرب المالك القادر الأبدي".
ومثله قيل في لاؤكين ولاوتز وارمزد وزوس المدعو "الألف والياء"، وغيرهم كثير ( ).
خامساً : تاريخ ميلاد الآلهة والعبادات والطقوس
وكما تشابهت عقائد النصارى الوثنية هنا وهناك، تشابهت عباداتها وتواريخها، إذ يعتقد الوثنيون على اختلاف في آلهتهم أن آلهتهم المتجسدة ولدت في 25 ديسمبر، منهم الإله الفارسي مثرا وغيره.
وهو ما يقوله النصارى الأرثوذكس في تورايخهم أيضاً، وقد جرى تحديده بهذا اليوم الموافق لأعياد الوثنين عام 530م على يد الراهب ديونيسيوس اكسيجوس، وأراد منه إبعاد المتنصرين عن احتفالات الوثنيين، وشغلهم باحتفال مسيحي، وهو ما تكرر فعله في عدة أعياد وثنية أخرى استعار النصارى منها التواريخ والطقوس...
وينقل الراهب بيد في كتابه "تاريخ الكنيسة الإنجيلية" خطاباً للبابا جريجوري الأول (601م) يستشهد فيه بنصيحة المستشار البابوي مليتس الذي كان ينهى عن هدم المعابد الوثنية، ويرى تحويلها من عبادة الشيطان إلى عبادة الإله الحق، كي يهجر الشعب خطايا قلبه، ويسهل عليه غشيان المعاهد التي تعود ارتيادها ( ).
وهكذا لا يجد المتنصر كبير فرق في المكان والمضمون بين النصرانية وبين ما كان يعتقده من قبل، ويكون ذلك ادعى في انتشار النصرانية.
سادساً: التثليث في الوثنيات القديمة
وكما نقل النصارى عن الوثنيات ما يقولونه عن ألوهية المسيح وتجسد الإله فإنهم نقلوا معتقداتهم في التثليث.
ولإثباته نقلب صفحات الأمم الوثنية قبل المسيحية لنجد أن الكثيرين من الوثنيين قد سبقوا المسيحيين إلى القول بالتثليث، وما قول النصارى بالتثليث إلا قول منحول عن هذه الأمم مع تعديل بسيط في صيغ الثالوث الوثنية، وذلك بإبدال أسماء الثالوث الوثني بالثالوث النصراني.
فالقول بإله مثلث يعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، فقد قال به البابليون، حين قسموا الآلهة إلى ثلاثة مجموعات (إله السماء، إله الأرض، إله البحر).
ثم تبلور التثليث على نحو ما اتخذته النصرانية في القرن العاشر قبل الميلاد حين قال الهنود بثالوثهم (براهما- فشنو- سيفا)، وهؤلاء الثلاثة هم إله واحد.
جاء في ابتهالات التقي أتنيس: "أيها الأرباب الثلاثة. اعلموا أني اعترف بوجود إله واحد، فأخبروني أيكم الإله الحقيقي لأقرب له نذري وصلاتي؟ فظهرت الآلهة الثلاثة وقالوا له: اعلم يا أيها العابد أنه لا يوجد فرق حقيقي بيننا، وأما ما تراه من ثلاثة فما هو إلا بالشبه أو الشكل، والكائن الواحد الظاهر بالأقانيم الثلاثة هو واحد بالذات".
وقد وجد في آثار الهنود صنم له ثلاثة رؤوس على جسد واحد تعبيراً منهم عن الثالوث.
وسرت عقيدة التثليث في الوثنيات القديمة كالمصرية المتمثلة في الثالوث (أوزيريس، ايزيس، حورس)، وكذا عند الفرس (أورمزد، متراس، أهرمان)، والاسكندنافيين (أووين، تورا، فري) والمكسييكيين (تزكتلبيوكا، اهوتزليبوشتكي، تلاكوكا)، ثم فلاسفة الإغريق الذين كانت وثنية النصارى أشبه بهم من سائر الوثنيات الأخرى، فقالوا بثالوثهم المكون من (الوجود، العلم، الحياة).
عدا ذلك يوجد كثيرون يطول المقام بذكرهم ( ).
وحتى صيغة الأمانة التي انتهى إليها مجمع نيقية هي صيغة منحولة عن الوثنيات السابقة، فقد نقل المؤرخ مالفير عن كتب الهنود أنهم يقولون: "نؤمن بسافستري (الشمس) إله ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، وبابنه الوحيد آني (النار)، نور من نور، مولود غير مخلوق، مساوٍ للأب في الجوهر، تجسد من فايو (الروح) في بطن مايا العذراء، ونؤمن بفايو الروح المنبثق من الأب والابن الذي هو الأب، والابن يسجد له ويمجد" ( ).
وتذهب دائرة المعارف البريطانية إلى أن "القالب الفكري لعقيدة التثليث هو يوناني الأصل، وصيغت فيه تعليمات يهودية، فهي من ناحية التركيب مركب عجيب للمسيحيين، لأن التصورات الدينية فيها مأخوذة من الكتاب المقدس، ولكنها مغموسة في فلسفات أجنبية.
واصطلاحات (الأب والابن والروح القدس) تسربت من اليهود، والاصطلاح الأخير (الروح القدس) لم يستعمله المسيح إلا نادراً".
ويقول ليون جوتيه: "إن المسيحية تشربت كثيراً من الآراء والأفكار في الفلسفة اليونانية، فاللاهوت المسيحي مقتبس من نفس المعين الذي صبت فيه نظرية أفلاطون الحديثة، ولذا نجد بينهما متشابهات كثيرة".
وقد انتقلت فلسفة اليونان عن طريق الاسكندرية حيث ظهر أفلوطين الإسكندري (ت 207م) وكان يقول بالثالوث (الله، العقل، الروح)، ولذا كان أساقفتها (الإسكندرية) من أوائل المؤمنين بالتثليث والمدافعين عنه.
ويقال أيضاً أن الوثنيات قد تسربت إلى النصرانية عبر روما، وممن يقوله ول ديورانت حيث يقول: "لما فتحت المسيحية روما انتقل إلى الدين الجديد دماء الدين الوثني القديم: لقب الحبر الأعظم، عبادة الأم العظمى…".
ويؤيد هذا الأستاذ روبرتسون في كتابه "وثنية المسيحيين" ويرى أن هذه المعتقدات وصلت إلى روما من الفرس عام 70 ق.م.
ويرى آخرون أن هذه المعتقدات انتقلت عن طريق الفكر الفرعوني القديم والذي انتقل إلى النصرانية بسبب ظروف الجوار.
فيما يرى آخرون من المحققين بأن التسرب لهذه الأفكار كان عن طريق طرسوس والتي كانت مدرسة كبرى للأدب الإغريقي، ونشأ فيها بولس، وانعكست تعاليمها فيه ( ).
ولما كان تسرب المعتقدات الوثنية إلى النصرانية حقيقة ساطعة كالشمس كان لا بد أن تعترف بها بعض الأقلام الجريئة المنصفة.
فمن هؤلاء المهتدية إلى الإسلام مريم جميلة التي تقول: "لقد تتبعت أصول المسيحية القائمة، فوجدتها مطابقة لمعظم الديانات الوثنية القديمة، ولا يكاد يوجد فرق بين هذه الديانات وبين المسيحية سوى فروق شكلية بسيطة في الاسم أو الصورة ".
ويقول أستاذ الحفريات جارسلاف كريني في كتابه "ديانة قدماء المصريين": "إن التثليث دخيل على النصرانية الحقة، وإنه مستورد من الوثنية الفرعونية".
ويقول العلامة روبرتسون في كتابه "وثنية المسيحيين"، الذي تحدث فيه ملياً عن اقتباس عقائد النصرانية من الوثنيات فيقول: "يسرني أن أسجل أن من بين المسيحيين الذين تعرضوا لكتابي هذا بالنقد والمناقشة لا يوجد واحد عارض الحقائق التي ذكرتها به، تلك التي قادتني إلى أن أقرر أن أكثر تعاليم المسيحية الحالية مستعار من الوثنية".
ويقول كُتّاب "أسطورة تجسد الإله" بمثل ذلك فيقولون: "إن الاعتقاد بأن المسيح هو الله أو هو ابن الله أو تجسد فيه الله ليست سوى خرافة من خرافات الوثنيين وأساطيرهم الأولى" ( ).
من ذلك كله لا يسعنا إلا القول أن التثليث عقيدة منحولة من تلك الديانات الوثنية التي ضلت عن الفطرة، وابتعدت عن هدي النبوات وعبدت غير الله العظيم.
وصدق الله العظيم وهو يخبرنا عن مصدر الكفر الذي وقع به النصارى فيقول: ﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون﴾ (التوبة: 30).
العبادات الوثنية الكاثوليكية
لم تكن عبادة المسيح الصورة الوحيدة للشرك والوثنية في النصرانية، فقد عبد إلى جانب المسيح والروح القدس الصليب ومريم العذراء والصور التي نصبت في الكنائس للقديسين.
أولاً : تأليه مريم عند الكاثوليك
يعتبر الكاثوليك مريم - عليها السلام - إلهاً مستحقاَ للعبادة، وإن لم يعتبروها أحد أطراف الثالوث الأقدس، ويعتمدون في تقديسها على ما جاء في النص الكاثوليكي لإنجيل لوقا، وفيه: "فلما دخل إليها الملاك قال: السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء" (لوقا 1/28).
وقد تمثلت عبادة الكاثوليك لمريم في عدد من الصلوات التي تؤدى لها، ومنها "صلاة مريم" وفيها يقولون: "يا خطيبة مختارة من الله، يا أيتها المستحقة الاحترام من الجميع … يا باب السماء … يا ملكة السماء التي جميع الملائكة يسجدون لها، وكل شيء يسبحها ويكرمها … فاستمعينا يا أم الله، يا ابنة، يا خطيبة الله، يا سيدتنا ارحمينا وأعطينا السلام الدائم … لك نسجد ولك نرتل".
ويقول القس توما اللاهوتي: "أما العذراء الطاهرة المجيدة، وهي الممتلئة من الاستحقاقات فلها أن تخلص جميع البشر".
ويقول القديس لويس ماريدي: " التكريم أن نهب ذواتنا بكليتها إليها، كأسرى لمريم وليسوع بواسطتها على أن تقوم جميع أعمالنا مع مريم، وبواسطة مريم، وفي مريم، ولأجل مريم".
وينقل الأب يعقوب ملطي في تفسيره عن الأب ثيودسيوس أسقف أنقرة قوله عن مريم: "التحفت بالنعمة الإلهية كثوب، امتلأت نفسها بالحكمة الإلهية، في القلب تنعمت بالزيجة مع الله، وتسلمت الله في أحشائها"، فهي – حسب رأيه - زوجة الله بقلبها، وتحمل الله في أحشائها، كما امتلأت بحكمة الله والتحفت بنعمه.
وفي مجمع أفسس 431م سميت مريم " والدة الإله"، وزيد في أمانة نيقية فقرة تخصها، فيها "نعظمك يا أم النور الحقيقي، ونمجدك أيتها العذراء القديسة، والدة الإله…".
وفي هذا القرن أيضاً ظهرت جماعة وثنية - تعبد الزهرة - اعتنقت النصرانية، واعتقدوا أن مريم ملكة السماء أو آلهة السماء بدلاً عن الزهرة، وأصبح تثليثهم (الله، مريم، المسيح)، وقد حاربت الكنيسة هذه البدعة، فاندثرت في القرن السابع الميلادي.
يقول الأنبا غريغوريوس الأرثوذكسي عن مريم: " إننا لن نرفعها إلى مقام الألوهية كما فعل الكاثوليك … وكما أخطأ الكاثوليك فرفعوها إلى مقام الألوهية والعصمة، كذلك ضل البروتستانت ضلالاً شنيعاً حين احتقروها، وجهلوا وتجاهلوا نعمة الله عليها وفيها، ولكن الكنيسة الأرثوذكسية قد علمت العذراء تعليماً مستقيماً، فلا نؤلهها ولا نحتقرها" ( ).
وهذا الذي ذكرناه مصدق لما جاء في القرآن عن اتخاذ النصارى مريم إلهاً، ومكذب لجحد بعض النصارى له، وصدق الله إذ يقول: ﴿وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق﴾ (المائدة: 116).
ثانياً : عبادة الصليب والصور والتماثيل
كما سرت في القرن الميلادي الرابع عبادة الصليب، وكان أول من أوجدها الملك قسطنطين حين زعم أنه رأى في المنام صليباً في السماء مكتوباً عليه أو حوله: "بهذا تغلب"، فجعل الصليب شعاراً لجيشه في معركة ملتيوس التي انتصر فيها على خصمه مكنتيوس، ثم بدأت والدته هيلانة في البحث عن صليب المسيح، وادعت أنها وجدته، ومن ثم بدأ تعظيم الصليب، وعظموا جنس الصليب، وعللوا ذلك بأنه كان وسيلة خلاصهم.
وتعظم الكنائس النصرانية - عدا البروتستانت - الصليب، وتعتبر منكر عبادته مرتداً، وتصنع لذلك الصلبان الذهبية والمعدنية والخشبية، ويسجدون لها، ومن صلواتهم قولهم في ترنيمة السبت (بعد جمعة الآلام): "للثالوث الأقدس، ولصليب ناسوت ربنا يسوع المسيح، وللعذراء المباركة الدايمة البتولية، ولجميع القديسين ليكن الحمد الدائم والكرامة والثناء والمجد في كل الخليقة، ولنا مغفرة جميع خطايانا إلى أبد الآبدين".
وينقل كرنيلوس فانديك في كتابه "كشف أباطيل عن عبادة الصور والتماثيل" ينقل ترنيمة أخرى تقال في السبت الذي يلي جمعة الآلام "السلام لك أيها الصليب والرجاء الوحيد، زد نعمة الأتقياء، وهب للمذنبين مغفرة الخطايا".
يقول فانديك: "لكن كهنة الرومانيين يقولون هذا باللاتينية الميتة، وعامة الشعب لا يفهمون ما يبربرون به"، ويقول: "إن ثلثي النصارى في عصرنا هذا هم عبدة أصنام".
وفي القرن الرابع أيضاً كان الشرارة التي عنها نشأت عبادة الصور والتماثيل، فقد أمرت أم الامبرطور - هيلانة - بإحضار جثة النبي دانيال، وبعدها أحضرت جثث لوقا واندرواس وتيموثاوس في عهد الامبرطور قسطنس.
وفي عهد أركاديوس أحضروا جثة صموئيل، ثم إشعيا في عهد ثيودوسيوس، وأحضرت جثة مريم المجدلية ولعازر في عهد لادن السادس، ثم نعلي المسيح ورداء إيليا و…
وقد وضعت هذه الجثث والمتعلقات الشخصية للأنبياء في الكنائس، وتسابق الناس إليها طلباً للشفاء والبركة، واختص بعض هذه الأضرحة بعلاج بعض الآفات، فالقديس أوتيميوس اختص ضريحه بالرجال الذين لديهم مشكلات جنسية، فيما يذهب النساء إلى قبر القديسة ميزونيا، وسادت الامبرطورية قصص الخرافات والتنبؤ بالغيب، وغير ذلك مما يظهر في مثل تلك الأجواء الوثنية.
وفي مجمع قسطنطينية 754م حضرت وفود شرقية وغربية تفاوضت لمدة ستة أشهر، ثم قررت أن استعمال الصور والتماثيل في العبادة مطلقاً رجوع للوثنية ومناقض للنصرانية.
وفي مجمع نيقية الثاني 787م وبأمر من الملكة إيرينا انعقد المجمع، وقرر 350 أسقفاً غربياً وجوب استعمال الصور والتماثيل في الكنائس، ثم قرر البابا جريجوري الثاني والثالث حرمان ومروق الجماعات التي تناهض وجود التماثيل والصور في الكنائس، وهو ما أكده مجمع القسطنطينية عام 842م.
وهكذا تلاعبت الأهواء بالمجامع النصرانية في هذه المسألة، فأحدها يوجب، والآخر يكفر، ولا ندري كيف يستقيم هذا مع قول النصارى بعصمة المجامع، لاعتقادهم بحلول الروح القدس على أصحابها.
وقد نقل عن المسيحيين الأوائل إنكار هذه المظاهر الوثنية، فقد مر أسقف قبرص ايفانيوس بمكان في فلسطين، ورأى سترة عليها صورة للمسيح، فمزقه قائلاً: "إن مثل هذا عيب على الشعب المسيحي" ( ).
ويذكر المعلم ميخائيل مشاقه صوراً مزرية لهذه الوثنية في كتابه "أجوبة الإنجيليين على أباطيل التقليدين" فيقول: "وربما صوروا بعض قديسين على صورة لم يخلق الله مثلها، كتصويرهم رأس كلب على جسم إنسان يسمونه القديس خريسطفورس، ويقدمون له أنواع العبادة، ويطلقون البخور، ويتلمسون شفاعته.
فهل يليق بالمسيحيين الاعتقاد بوجود العقل المنطقي والقداسة في أدمغة الكلاب؟ أين هي عصمة كنائسهم من الغلط".
كما ذكر المعلم ميخائيل تصويرهم الآب والابن والروح القدس في صور وتماثيل يقومون بعبادتها.
واستنكاراً من العلامة رحمة الله الهندي لعبادة الصليب، فإنه يتساءل: لم لا يعبد النصارى جنس الحمير، فقد ركب المسيح على حمار وهو يدخل أورشليم، وليس الخشب (في حادثة الصلب) بأولى بالعبادة والتقديس من الحمار، إذ هو حيوان، بينما الخشب جماد لا حياة فيه.
فإن كان عبادتهم للصليب لأنه كان سبيل نجاتهم، فكذلك كان يهوذا الاسخريوطي، فلولا تسليمه المسيح لما أمكن صلبه وحصول الفداء، ثم هو مساوٍ للمسيح في الإنسانية، وممتلئ من روح القدس قبل خيانته. فلم كانت هذه الواسطة (يهوذا) ملعونة وتلكم مباركة؟!.
وإن قيل: سال دمه على الصليب، فكذلك الشوك الموضوع على رأسه، فلم لا يعبد؟ ( )
وهكذا نرى أن الوثنية في النصرانية والشرك في عباداتها وتصوراتها لم يكن محصوراً في عبادة المسيح والروح القدس، بل انضاف إليه الكثير من ضروب الوثنية والشرك، والتي تتوعد الأسفار المقدسة فاعلها بأليم العقاب الذي لم تبال فيه الكنيسة حين عمدت بقراراتها إلى مخالفة ما جاء في الناموس من وصايا، ففي التوراة: " لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما، مّما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض" (الخروج 20/4).
كما قد توعدت التوراة باللعن أولئك الذين يصنعون التماثيل " فيصرخ اللاويون، ويقولون لجميع قوم إسرائيل بصوت عال: ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالاً منحوتاً أو مسبوكاً رجساً لدى الرب عمل يدي نحات، ويضعه في الخفاء. ويجيب جميع الشعب ويقولون: آمين" (التثنية 27/14-15)، (وانظر 4/15-24).
ثالثاً : العشاء الرباني
تؤمن الكنائس المسيحية عامة بسر العشاء الرباني، وتسميه بأسماء كثيرة منها (الأفخارستيا) أي الشكر و (الليتورجيا) أي الخدمة، وتختلف في فاعليته.
وتستند المسيحية في إقرار هذه الشريعة إلى العشاء الذي تناوله المسيح مع تلاميذه قبيل حادثة الصلب، فقد قال لهم وهو يناولهم الخبز: "هذا هو جسدي"، ولما ناولهم الخمر قال: "هذا هو دمي" (مرقس 14/22-24).
ويذكر يوحنا أن المسيح قال لتلاميذه في مطلع خدمته: " من يأكل هذا الخبز النازل من السماء لا يموت، أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء: والخبز الذي أعطيه هو جسدي: الحق الحق أقول لكم: إن كنتم لا تأكلون جسد ابن الإنسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة، ولكن من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبدية…" (يوحنا 6/50-54).
وزعموا أن المسيح أمر بتجديد العشاء وفعله، فقال: " هذا هو جسدي الذي يبذل من أجلكم، اعملوا هذا لذكري " ( لوقا 22/20).
ويجدر هنا التنبيه إلى أن قصة تجديد العشاء الأخير على أهميتها لم يذكرها يوحنا التلميذ في إنجيله، وأن ما جاء في (يوحنا 6/50-54) لا علاقة له بالعشاء الرباني، بل هو جزء من عظة قديمة للمسيح.
وأما أمر التجديد في لوقا "اعملوا هذا لذكري" مدسوس على الإنجيل، وقد حذفته نسخة الرهبانية اليسوعية وكذلك النسخة القياسية المراجعة النص من نسختها، واعتبرتاه نصاً دخيلاً.
ويقول المفسر جورج كيرد في تفسيره لإنجيل لوقا (236):" إن قصة العشاء الأخير في لوقا تعتبر كابوساً, فهي تثير مشاكل في أغلب مواضيع دراسة العهد الجديد, كما أنها أعطت الأساس لطوفان من النظريات المتصارعة .. ويبدو أن النصين 19 و 20 قد أخذا مما جاء في مرقس (14/24) و (كورنثوس (1) 11/24-25) ثم أدخلا إلى النص في عهد مبكر على يد كاتب اعتقد أن قصة لوقا خاطئة، إن الفقرة أدخلت في زمن مبكر، وقد اقتبسها أحد الكتبة من (مرقس 14/24) و (كورنثوس (1) 11/24-25)" ( ).
وقد اختلفت الكنائس المسيحية في فاعلية العشاء الرباني، فالكنائس الإنجيلية ترفض مبدأ الاستحالة إلى جسد ودم المسيح من خلال الخبر والخمر، واعتبر المصلح زونجلي ممارسة طقوس الأفخارستيا مجرد تذكار لموت المسيح، وأما المصلح كالفن فيرى أن حضور المسيح في الخبز والخمر حضور روحي فحسب، وزعم اللوثريون أن المسيح يحضر هذا العشاء بطريقة سرية، وقال لوثر بحضور حقيقي للمسيح، وهو قريب مما يقوله الكاثوليك.
وأما سائر الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية فتقول بالاستحالة "فالشخص المشترك يتناول أو بالمعنى الأصح يأكل بطريقة فعلية وحقيقية جسد المسيح في شكل الخبز والخمر" ( ).
وقد كان من أوائل من أصّلها باسخاسيوس في منتصف القرن التاسع في كتابه "جسد الرب ودمه"، وقد أقرها المجمع اللاتراني برئاسة البابا إنوسنت الثالث عام 1215م ، كما أقرتها الكنائس الأرثوذكسية صراحة بعد ظهور الإصلاحيين في القرن السادس عشر الميلادي.
وذكر المحققون من البرتستانت أن هذه الفكرة المناقضة للعقل والحس مبتدعة لا تجد لها أثراً عند الآباء الأقدمين ( ).
وتنبه المحققون إلى مصدر هذه الفكرة الغريبة، فهي وثنية المنشأ، صنعتها العديد من الأمم الوثنية، ومنهم الفرس الذين اعتقدوا أن متراس يمنح البركة للخبز والخمر في العشاء.
وكما كان عُباد يونيشس وأتيس يجتمعون في عيد الحب في مساء أحد السبوت صنع النصارى أيضاً، حيث كان العشاء ينتهي بقراءة فقرات الكتاب المقدس، وفي آخر الطقوس قبلة الحب بين الرجال والنساء.
وقد ندد القديس ترتليان بهذه العادة القبيحة، واعتبرها موصلة للإباحة الجنسية ( ).
ونختم بقول فيلسيان شالي: "وما التآخي إلا صورة عن المشاركة ذات الأصل الطوطمي، مشاركة الناس في لحم الكائن المقدس ودمه، وكانت تتم بالخبز في أيلوزيس، وبالخمر لدى المؤمنين بديونيزوس، وبالخبز والخمرة والماء في الميثرائية" ( ).
خاتمة
وهكذا نصل إلى خاتمة مطافنا الطويل في إجابتنا للسؤال الكبير الذي طرحناه: الله جل جلاله، واحد أم ثلاثة؟
فقد رأينا - من خلال هذه الرحلة التي أبحرنا فيها في نصوص الكتاب المقدس – أن المسيح عليه السلام، كان نبياً من أعظم أنبياء الله، وأنه عليه السلام لم يدع ربوبية ولا ألوهية، ولم يستنكف عن عبادة ربه والدعوة إليها طرفة عين.
وثبت لدينا أن كل ما تدعيه النصارى من أدلة ألوهيته سراب يدحضه القليل من التأمل في نصوص الكتاب المقدس، والذي أثبت لنا بشرية المسيح ونبوته .
كما عرفنا ومن خلال الدراسة النقدية المصدر الذي استقى منه بولس هذا المعتقد الوثني، والذي أراد من خلاله النيل من دين المسيح بتحريفه وجعله ديناً وثنياً، وابتعد به عن تعاليم المسيح وتلاميذه، لتظهر المسيحية بثوبها الجديد الذي نسجه بولس، وليختفي التلاميذ والحواريون في أتون الاضطهادات الرومانية، في انتظار بزوغ الفجر الجديد والعهد الأخير، المتمثل في الإسلام ونبيه العظيم، محمد ﷺ.
ولا يسعني وأنا أشكر القارئ الكريم على قراءته لهذه السطور إلا أن أتوجه إليه بدعوة مخلصة لقراءة الحلقة التالية من حلقات سلسلة الهدى والنور، وهي بعنوان: هل افتدانا المسيح على الصليب؟
اللهم اهدنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. اللهم آمين.