نحن والآخر

نحن والآخر

أ. د. عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي
 

توطئة:

لله تعالى ـ خالِق الكون ـ حِكمتُه الباهرة في الوجودِ الإنساني في هذه الحياة، وتتجلَّى هذه الحِكمة بأمرين: بعبادته سبحانه، وبالاستخلافِ والاستعمار في الأرْض، ومِن هنا اقتضتْ حِكمته تعالى أن لا يزال الناسُ مختلفين؛ ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود: 118].

 

وأن يكونَ اختلافهم - كما كان وجودُهم - فتنةً واختبارًا؛ ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20]، ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53]، وأن يكونَ هذا الاختلافُ مدعاةً إلى التنافُس والتدافُع: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]؛ قيل في معنى الآية: "ابتلَى الله المؤمن بالكافِر، ويُعافي الكافر بالمؤمن"؛ لذا جاءتِ النبوَّات والرسالات لتفصلَ الخلاف، وتَهدي إلى طريقِ الحق، وتُقيم الحجَّة على الناس، فمَن استنار بنور النبوَّة، اهتدَى في الدنيا والآخِرة، ومَن ضلَّ خسِر الدنيا والآخِرة؛ ﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ [الأنعام: 104].

 

وكان خاتمةُ النبوات والرسالات دِينَ الإسلام، الذي جاء مهيمنًا على ما سبَقه من النبوَّات والرِّسالات، وكان محمَّد - عليه السلام - خاتمَ النبيِّين، فمَن أراد الحقَّ وطريق النجاة ورِضا الله - جلَّ ثناؤه - فدونه الإسلام، ومَن اختار غير ذلك، فقد ضلَّ سواءَ السبيل.

 

وعندئذٍ يمكن تصنيفُ الناس في هذه الحياة صِنفين: الأول: أمَّة الاستجابة لرِسالة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهم المسلِمون؛ الثاني: أمَّة الدعوة، أو الإباء، وهم غيرُ المسلمين مِن أصحاب الدِّيانات المختلفة.

 

والسؤال الذي يفرِض نفسَه هنا: كيف تكون العلاقة بيْن الصِّنفين مِن البشَر: المسلمين، وغير المسلمين؟ وهلِ الاختلاف في الدِّين يقتضي التباعُدَ والانفصال؟

 

ثم هل يلزم مِن ذلك النِّزاعُ والقِتال؟

الحقُّ أنَّ الوقوعَ فيه مِن الدقَّة ما لا يخفَى، وقد يكون مِن المجازفة المسارَعة إلى جوابٍ حاسم وقاطع.

 

لهذا يحسُن أن نذكُرَ هذه الأصول التي تقوم عليها علاقةُ الناس بعضهم ببعض، ثُم ما يترتَّب عليها مِن آثارٍ عمليَّة.

 

الأصول التي تقوم عليها العلاقاتُ البشَريَّة:

والذي أراه أنَّ الأصولَ هذه نوعان:

النوع الأول: أصول عامَّة (إنسانية): ويُمكن إجمالها في الآتي:

1- التكريم الإنساني:

قال - تعالى -: ﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 70].

 

2- التعارف والتعاون:

قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، ويقول سبحانه: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].

 

3- القِيَم الخُلقيَّة العليا، وفي مقدِّمتها:

أ- العدل؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].

 

ب- الرحمة العامَّة: ففي الحديث: ((في كلِّ ذات كبدٍ رطبةٍ أَجْرٌ))، وفي الحديث الآخر: ((لا يَرحَم اللهُ مَن لم يرحمِ الناس)).

 

ج- البِر والإحسان: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، وفي الحديث: ((إنَّ الله كتَب الإحسانَ على كلِّ شيء)).

 

د- الرِّفق في المعاملة: ففي الحديث: ((إنَّ الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلاَّ زانَه، ولا يُنزع مِن شيء إلاَّ شانَه)).

 

هـ- الوفاء بالعهود: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مسؤولاً ﴾ [الإسراء: 34].

 

فهذه الأصولُ عامَّة ومشترَكة بيْن الخَلْق كافَّة، يَنبغي على المسلمِ أن يَلزمَها ويستشعرَها في كلِّ علاقاته الإنسانيَّة، بغضِّ النظر عنِ الاختلافات الدينيَّة والمذهبيَّة، والعرقيَّة والوطنيَّة، وغيرها.

 

النوع الثاني: أصول خاصَّة (فكرية):

ويُقصد بها الأصولُ الإيمانيَّة التي يَنبغي أن تقومَ عليها علاقة المسلِم بالآخَر، ويُمكن إجمالها فيما يأتي:

1- العِزَّة الإسلاميَّة: وهي الأنَفة التي تَحُول بيْن المسلم والمذلَّة، بحيث يكون شامخَ الرأس، لا يطلُب العزة والقوَّة والنصرة إلاَّ من الله تعالى دون البشَر، فلا يُهين نفسه، ولا يَستكين أمامَ أعدائه وأعداء الحقِّ مِن الكفرة والظلمة والبُغاة، كما قال - تعالى -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]؛ ولذا قال عمر بن الخطَّاب قولته المشهورة: "نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغيْنا العِزَّةَ في غيرِه أذلَّنا الله".

 

2- المفاصلة الشعوريَّة: وهي البَراءة مِن الشرك والمشركين، والكُفر والكافرين، كما قال - تعالى -: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4]، وضد البراءة: الموالاة، وهي المحبَّة والنُّصرة والتقارُب، وهذه تكون خاصَّة بالله وبرسولِه وبالمؤمنين؛ ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [المائدة: 55].

 

3- تميُّز الشخصيَّة الإسلاميَّة للفرْد والأمة: والذي يشمل جوانبَ الحياة المختلفة: عقيدة وعبادة، وأخلاقًا ومعاملة، ونظام حياة، وهذا فوق كونه نتيجةَ تطبيق شريعة الإسلام، فإنَّه مطلَب مقصود بذاته؛ ولذا جاء النهي عنِ التقليد والتبعية لأعداءِ الملَّة.

 

4- الدعوة إلى الله: وهي مسؤوليةٌ عظيمةٌ مناطة بالأمَّة المسلمة، سواء الأفراد والمؤسَّسات، كل بحسب قُدرته وإمكاناته؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، ويقول تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، قال بعض المفسِّرين في معنى الآية: (وأنتم خيرُ الناسِ للناس)، فإذا انتظمتِ الدعوة بالأساليب السِّلميَّة، فهو المطلوب، أما إذا تعثَّرتْ بسببٍ مِن الخصوم والأعداء أو كان الاعتداء منهم، فيلجأ عندئذٍ إلى القوَّة والجهاد، الذي دلَّت عليه نصوص الوحيَيْن.

 

5- مراعاة قاعِدة (المصالح والمفاسد): إنَّ معظم سلوكياتِ البشَر وإفرازاتهم لا تخلو مِن الخير والشر، والمسلِم أو المؤسَّسات أو الدولة المسلِمة حينما تتعامَل مع أندادها مِن غير المسلمين، لا بدَّ أن تصطدمَ بهذا الواقِع المزدوج مِن الخير والشر، أو المصلحة والمفسدة؛ ولذا يَنبغي الموازنة بينهما في كلِّ شأن، وفقًا لميزانِ الشريعة الإسلاميَّة ثم منطق العقل، فإذا كانتِ المصالح هي الغالبة استجلبتْ مع درء المفسدة المصاحِبة بقدر الإمكان، وإذا كانتِ المفاسد هي الغالبة استبعدتْ ولم يلتفتْ إلى ما فيها مِن مصالح، وإذا تساوتِ المصالح والمفاسِد، فيُمكن ترجيح أحدهما بحسبِ ما يراه صاحبُ الشأن.

 

وبهذه القواعِد مجتمعةً - وكلها صحيح - يتعذَّر القول بأنَّ العلاقة بالآخَر قائمة في أصلها على القطيعة والمفاصَلة، أو الشدَّة والمحاربة، كما يتعذَّر القول بأنَّها قائمة في الأصل على المحبَّة والتسامُح، والتآلُف والتمازُج.

 

بل الحقُّ أنَّها قائمة على مزيجٍ مِن الأصول والمقوِّمات التي تبدو متعارضة، ولكنَّها عندَ التحقيق ليستْ كذلك.

 

إنَّها أصولٌ تجمع بيْن الثبات والمرونة، كما تجمَع بين الاعتزاز بالشخصية الإسلاميَّة، واحترام الإنسان وما عندَه مِن الحقائق المجرَّدة.

 

الآثار العملية لتلك الأصول:

إنَّ الالتزام بالأصولِ السابقة لا بدَّ أن يرتِّبَ آثارًا عملية كثيرة وكبيرة، لعلَّ مِن أبرزها:

1- أنَّ الإسلام بمبادئِه وقِيَمه وتشريعاته هو الدِّين الحق الذي يجِب اعتناقه على جميعِ البشر.

 

2- والأمَّة الإسلاميَّة - وقدِ ارتضت الإسلام دِينًا - عليها مسؤوليةُ حمْل الأمانة، بالدعوة إلى الإسلامِ بالحِكمة والموعِظة الحسَنة والجِدال بالتي هي أحسن، وما يتوقَّف على ذلك مِن إزهاق الباطِل ودحْضه أنَّى وُجِد.

 

3- وعليها أن تكونَ قويةً مرهوبةَ الجانب؛ كي تَحمي نفسها، وتحمي دعوةَ الإسلام مِن أهل المكْر والكيد والصدِّ عنْ سبيل الله.

 

4- ومصالِح الدنيا غيرُ موقوفة على أحدٍ، بل هي مناخ مَن سبق، ولا بأسَ مِن التعاون الدولي والأُممي في أيٍّ منها وَفقَ الضوابط الشرعية.

 

5- والمعرفة رحِمٌ واسع، وظلٌّ ممدود لكلِّ مفكِّر وباحث، ما دامتْ لا تصادم النصوصَ الشرعيَّة، ولا الحقائقَ العقلانيَّة.

 

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Web/triqi/10945/36291/#ixzz1m4oVQxAL
 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك