القومية
الـقـومـيـة
تعرضنا في الأسبوع الماضي بتوفيق الله تبارك وتعالى إلى مسألة المساواة والكرامة أو ما يسمى " حقوق الإنسان " , ويكفي أن الله تبارك وتعالى منّ على البشرية جمعاء ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا الدين العظيم الذي حررها من العبودية لغير الله وعلمها حقيقة المساواة بين البشر وأن التفاضل لا يكون إلا بالتقوى .
نكمل اليوم هذا الموضوع فيما يتعلق بفكرة (( القومية )) التي نشأت مخالفة لما ذكر الله تبارك وتعالى ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالقومية أو الوطنية أو القبلية أو الحزبية أو النعرات العرقية أو الطائفية أو ما أشبه ذلك كلها يجمعها أنها تنافي وتخالف هذا الأصل العظيم – التفاضل بين الناس بالتقوى - . وإذا أردنا أن نرجع إلى تاريخ القومية القديم فإننا نجد أكثر الناس غلواً في القومية وفي العنصرية - ولا يزالون إلى اليوم - هم اليهود . ربما يكون لليهود السبق وتعليم غيرهم من الأمم التعصب العرقي الذميم المغالى فيه جداً ، فإن الأمم الأخرى وإن كانت كل أمة تتعصب لقوميتها إلا أنها لم تبلغ حداً يفوق اليهود ، وإنما أكثر الأمم قوميةً ظهرت تبعاً لليهود كما حدث للقومية النازية في ألمانيا أو الفاشية في إيطاليا ، فهي ظهرت متأثرة بالفكر اليهودي .
واليهود هم أكثر الناس عنصرية وقومية وذكر الله تبارك وتعالى عنهم ما يدل على ذلك في القرآن في مواضع كما قال الله عز وجل : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبائه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق } يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه ويدعي اليهود أنهم شعب الله المختار , وأيضاً كما ذكر الله عز وجل بأنهم قالوا : { ليس علينا في الأميين سبيل } ، { ومنهم من تأمنه بدينار لا يؤده إليك } . فيرون استحلال أموال غير اليهود وأن أموال الأميين هي حلال لليهود !
وهذه القومية عند اليهود إنما جاءتهم من فهم باطل للتوراة وتحريف لبعض نصوصها ، أو من ابتداعهم في الكتاب الكبير الذي ابتدعوه واتبعوه أكثر من التوراة وهو ما يسمى " التلمود " .
ومن آثار هذه القومية والعنصرية اعتقادهم أنه لا يمكن أن يكون نبيٌ إلا من بني إسرائيل , وكان ذلك من جملة أسباب كفرهم برسالة محمد صى الله عليه وسلم أنه من الأميين ! ولهذا نجد في سورة الجمعة بين الله تبارك وتعالى تفضله وإنعامه على الأميين { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } , ثم بين لماذا هذا التفضيل وهو أن اليهود لا يستحقونه { مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } . فهذا الفضل من الله تبارك وتعالى على الأميين هو بحكمته ، فهو الذي اختارهم لحكمة يعلمها , وأما أولئك فنـزع منهم النبوة لأن حالهم أصبح مثل هذا المثل السيء - كمثل الحمار يحمل أسفارا – فنـزعت منهم النبوة . فهم يرون أنهم أحق الناس بالنبوة وأن لا نبوة في غيرهم , ووصل بهم الحد إلى اعتقاد أن أي إنسان غير يهودي سواء كانت نصرانياً أو مسلماً أو من أي دين آخر فهم إنما خُلِقُوا ليكونوا كالحمير لليهود يركبهم شعب الله المختار ! بل يعللون خلقة الله سبحانه وتعالى لغير اليهود على شكل اليهود فيقولون : هذا من فضل الله على اليهود حتى يستطيعوا استخدامهم وإلا فهم في الحقيقة كالحمير والبغال والجمال وغيرها من الحيوانات لكن الله سبحانه وتعالى خلقهم على صورة اليهود ليستطيع اليهود أن يستخدموهم كما يشاؤون , فهم وأموالهم حلال لهم ولا حرج عليهم في شيء من ذلك !
فلذلك كما قلنا إما أنها نصوص حرفت من التوراة أو أنها مما وضعه الأحبار والرهبان في التلمود . وهذا ما بينه الله تبارك وتعالى - وهو معلوم بالتواتر - أنهم حرفوا التوراة , ومن جملة ما حرفوا أن الله سبحانه وتعالى أمر الناس في الوصايا العشر التي أنزلها في التوراة بأن يقوموا بالقسط وأن يوفوا الكيل والميزان وأن لا يزنوا وأن لا يسرقوا ... فحور اليهود ذلك وحرفوه : لا تزني أي باليهودية , ولا تسرق مالاً أي لا تسرق مال اليهودي , ولا تقتل النفس أي لا تقتل اليهودي وهكذا . حرفوا ذلك ليصبح خاصاً باليهود أما غير اليهود فجاء التلمود وأكمل في هذا فيقول : " إذا وقع أممي ( أي غير يهودي ) في حفرة فلا تنقذه منها بل إن استطعت فألقِ عليه حجراً حتى لا يخرج ، إذا وقع في حفرة أو غرق في ماء أو سقط في أي مكان فلا نتقذه أبداً لأنه عدو لك " فالتفضيل تحول إلى عداوة شديدة مقيتة لأن التلمود كتب في بابل - في العراق - التي كانت مقر حكم الفرس الذين سبوا اليهود إلى بابل ، فاليهود في ظل ظروف الأسر وضيقه كان عندهم شعور بالاستعلاء وأن الله اصطفاهم واختارهم وأن هؤلاء وثنيون مشركون ، فكتبوا التلمود في ظل هذه الظروف فكانت فيه روح الاستعلاء والكبر واحتقار جميع الشعوب والعداوة لهم .. فأي انسان من غير اليهود لا حرمة له عندهم مثلما أنهم كانوا لا يرون أي حرمة أو تقدير لهؤلاء الذين أسروهم وقهروهم وسلبوهم ملكهم وآذوهم وعذبوهم . فالنفس الانتقامية لدى اليهود هي التي كتبت هذا التلمود , وعندما تحرروا من الأسر البابلي ودخلوا وانتشروا في أوروبا وغيرها كان النصارى يضطهدونهم اضطهاداً شديداً لأنهم يعتبرونهم قتلة المسيح ، والمسيح عند النصارى هو الرب ، فهؤلاء قتلة الرب الذين صلبوه وقتلوه وكذبوه .. فأخذ النصارى يتفننون في تعذيب اليهود فازداد اقتناع اليهود بما في التلمود . وكانوا يكتبون عبارات شنيعة جداً في المسيح عليه السلام لكن لا يضعونها لأن التلمود كتاب سري وهو في الأصل كتاب سري لا يطلع عليه غير اليهود ، ومع ذلك كانوا يكتبون هذه العبارات ويضعون مكان اسم المسيح علامات أو نقاط حتى لا يذكروه , لكن الحبر عندما يقرأه عليهم يقول المقصود ( المسيحيين أو المسيح ) ثم عمم بعد ذلك على غير النصارى في خارج أوروبا .
بهذه الروح كان اليهود ولا يزالون ينظرون إلى غيرهم من الشعوب , ولهذا لا يرون لأي أمة فضل عليهم مهما أعطتهم وأنفقت عليهم ووقفت معهم لأن هذه الأمة وما ملكت هي ملك لليهود أصلاً ، فمهما فعل معهم الناس أو أسدوا إليهم بمعروف فالفضل لا يزال لهم لأنهم هم الأصل ومن عداهم فلا قيمة له .
تعلم من هذا الفكر اليهودي القوميون الغلاة في أوروبا وأهمهم النازيون , لكن قبل أن نتكلم عن هذا الفكر نرجع إلى أصل وجود فكرة القومية في أوروبا فهي تسبق النازية وتسبق التأثير الواضح لليهود , وذلك أن القومية لم تكن معروفة في أوروبا على الإطلاق إنما كان العالم فيما يسميه المأرخون " القرون الوسطى " كان الأصل فيه هو الدين , وكانت القاعدة في التعامل هي الدين , وكان الإنسان يسأل أكثر ما يسأل عن دينه ، فهو إما مسلم وإما نصراني وإما يهودي وإما مجوسي ....... الخ , أما العصبيات والعنصريات فلها اعتبار ثانٍ يأتي بعد الدين ، وكان ذلك في أوروبا وفي الشرق وفي كل مكان حتى ظهرت أول ما ظهرت الفكرة القومية .
ظهرت هذه الفكرة بشكل وطني وذلك بظهور الثورة الفرنسية التي يزعم الغربيون أنها مفتاح الحرية ومشرق النور وفجر المساواة والعدالة والحضارة الحديثة , فعندما ظهرت الثورة الفرنسية لم يكن لها أي طابع ديني وإنما كانت وطنية تقول أن الناس جميعاً متساوون في الوطنية ، فلا ينظر إلى أديانهم ولا إلى عقائدهم ومللهم . هذه فكرة كانت جديدة على الناس سواء في بلاد الغرب أو الشرق لأن الناس إنما يتفاضلون بحسب الدين , وكل إنسان يرى أنه أفضل من غيره ديناً ، ومهما كان المخالف له في الدين فإنه يحتقره . لكن هؤلاء المفكرين الذين وضعوا أفكار الثورة الفرنسية كانوا معادين للدين لأسباب ولظروف خاصة ، فكانوا يأخذون من الفكر اليوناني القديم ومن الأفكار التي ظهرت في أوروبا ونمت وترعرعت شيئاً فشيئاً بعد ظهور حركة الإصلاح الديني ( وهذه نأتيها إن شاء الله عندما نتحدث عن النازية ) , فعندما كان هذا الفكر بعيدا عن الدين جمعوا الأمة كما يزعمون على أساس وطني .
هناك دول " الوطنية " و " القومية " فيها شيء واحد ، وهناك دول ومجتمعات القومية فيها أوسع وأعم من الوطنية ، وأوضح مثال الدول العربية . الدول العربية " الوطنية " فيها أضيق من مفهوم " القومية " ، فهناك مثلا وطنية مصرية ووطنية عراقية ووطنية سورية , هذه كلها وطنيات لكن يجمعها قومية واحدة هي القومية العربية . لكن بعض الدول قوميتها هي وطنيتها مثل ألمانيا واليابان وفرنسا ، فهم شعب يعيش على أرض واحدة ويتكلم لغة واحدة في مكان واحد وله تاريخ واحد فقوميته هي وطنيته .
ظهرت وترعرعت الوطنية مختلفة ومندمجة مع القومية ، فيمكن أن تعتبر الثورة الفرنسية ثورة وطنية أو ثورة قومية . ثم نشأت بعد ذلك القوميات الأخرى في أوروبا وارتبطت بالحروب الدينية , وأول ما تفتتت أوروبا تفتتت على يد حركة الإصلاح الديني ( مارتن لوثر ) و ( كالفن ) ومن كان معهم ، هؤلاء ابتدعوا الدين الذي يعتبرونه تصحيحاً للنصرانية وهو البروتستانتية ، ومعنى البروتستانت : المحتجون أو المعارضون .. معارضون لمن ؟ للبابا زعيم الكاثوليك في روما ومحتجون عليه وعلى ما أحدث في الدين من بدع وأرادوا تصحيح الدين .. لكن إلى أي مدى صححوا ؟ لم يأتوا إلى القضايا الأساسية , فلم يصلحوا التثليث ليصبح توحيداً ، لم يصححوا اعتقاد أن المسيح ابن الله ويقولون أنه عبد الله ورسوله وغير ذلك من الأمور . ولكنهم اعترضوا عليه في أمور كثيرة من أهمها توسط رجل الدين بين العبيد وبين الله تبارك وتعالى ، فالكاثوليك يقوم دينهم على هذا التوسط فرجل الدين هو الواسطة ، فلا يمكن الاستغفار إلا عن طريقه ولا يمكن الصدقة إلا عن طريقه ! حتى أنه يباشر كثيرا من الطقوس وأمور الناس عند الموت وعند الميلاد وعند الزواج , وأمور كثيرة لابد أن يقوم بها القديس وإن لم تفعل لأي انسان فإنه يعد محروماً من الجنة ! ومن ذلك احتكارهم لقراءة وتفسير الانجيل فلا يمكن لأحد أن يقرأ الانجيل أو أن يفسره إلا رجال الدين ، ويقرأونه باللغة القديمة وليس باللغات المعاصرة واللهجات المحلية التي كانت في أوروبا .
وعندما ظهرت حركة مارتن لوثر أحدثت انفجارا قوياً وعنيفاً جداً في هذه التركيبة التي كانت أوروبا بأجمعها مجتمعة عليها ، وقد تأترت تأثراُ واضحاً بالإسلام والمسلمين نتيجة الحروب الصليبية لما وجدوا أن المسلمين يقرأون كتاب الله كما يشاء ويعبد الله سبحانه وتعالى ليس بينه وبين الله واسطة ، فوجدوا أنهم يمكن أن يعبدوا الله تبارك وتعالى بغير توسط من أحد , فاجتهد أناس قبل ( لوثر ) في زحزحة هذه التقاليد القديمة التي نشأ عليها الغربيون ، فنشأت حركة يسموها " حركة تحطيم الصور والتماثيل " وأخذوا يحطمون الصور والتماثيل في كثير من أنحاء أوروبا ويقولون أن هذه وثنية لأنه في التوراه مكتوب ( لا تعمل صنماً ولا ترسم صورةً ولا تعبد وثناً ) , فقالوا هذا ليس من الدين في شيء .
وهكذا ظهرت حركات من هذا النوع إلى أن بلغت القمة في حركة " مارتن لوثر " الذي كان ألمانياً فترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية وجعل كل إنسان يقرأ الإنجيل ويتعبد كما يشاء ولا يراجع أي قسيس , وأصبحوا يعتقدون كفر الكاثوليك الذين في أوروبا ، والبابا في المقابل يعتقد أن البروستانت كفار ، وحرم كل منهما الزواج من الآخر فلا يجوز للبروتستانتي أن يتزوج كاثوليكية ولا يجوز للكاثوليكية أن تتزوج من بروتستانتي والعكس ، فصارت بينهما العداوة الشديدة للدين . ولأن لوثر لم يضع منهجاً دقيقاً ومنضبطاً بقدر ما وضع خروجا عن البابوية ، فقد خرجت فرق وطوائف كثيرة تحت الشعار نفسه وخالفته وخالفت البابا .
القومية الألمانية تمحورت حول البروتستانتية عقيدةً والشعب الألماني قوميته ، أما الفرنسيون وهم الأعداء لهم في تلك المرحلة فإنهم بقوا على دين الكاثوليك وهم إلى اليوم كذلك فدينهم الكاثوليكية تبعاً للبابا , ولكن عندما ظهرت الثورة الفرنسية أصبحت دعوتهم لا دينية فثاروا على البابا ولكن ثورة غير دينية ، فبقي عندهم الدين في حدوده المعينة التي رسموها له والتي لا يتدخل فيها في شؤون الحياة , فمجال الدين ( الكنائس وما يتعلق بها ) أعطوها حرية وبقيت علىمذهب الكاثوليك . فهنا نشأ الصراع والتنافس الشديد في أوروبا بين هاتين الدولتين وبين غيرها من الدول فيما بعد ، وارتبطت القومية بالدين أيضاً وأصبح كل منهم يمثل شيئاً واحدا .
الانجليز أخذوا العقيدة البروتستانتية وادعوا القومية الانجليزية وانتشروا وتمددوا في أنحاء كثيرة من العالم خارج بلادهم ، فأصبحت العداوة بين الألمان والانجليز عداوة قومية محضة مع أنهم في الدين سواء ، أما الفرنسيون فإنهم كانت العداوة بينهم مختلفة ولهذا نجد أن هذه الدول الثلاث قل أن تتفق في تاريخها , وهذا غير الحروب والخلافات والشحناء بينها ، فإذا اتفقت منها اثنتان فهما ضد الثالثة غالباً .
نشأت وترعرعت الأفكار القومية في كل دولة من هذه الدول فأصبح لكل دولة شعراؤها وشعاراتها ورموزها وتاريخها ومفاخرها وهكذا ، وابتعدت كل واحدة عن الأخرى ابتعاداً شديداً بعد أن كانت أوروبا قبل الثورة الفرنسية وقبل حركة مارتن لوثر كلها أمة واحدة يجمعها دين واحد ، فتشعبت تشعباً شديداً .
في هذه الفترة كان العالم الإسلامي كله أو على الأقل ما يوازي منه أوروبا - الذي هو منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط - تحت حكم الدولة العثمانية ولم يكن يعرف المسلمون أي شيء عن الفكرة القومية ولا الوطنية إلى أن ظهرت في مصر . ظهرت الوطنية المصرية والافتخار لمصر ولأمجاد مصر وبالفراعنة وما قبل الفراعنة تأثراً بالذين ابتعثوا لفرنسا وتأثروا بفكرة الوطنية الفرنسية . ونشأت في مصر دعوة قوية جداً إلى الوطنية حتى كانت كل الأحزاب على اختلافها تدعوا أو تفخر بالوطنية . حزب الوفد - وسعد زغلول - كان وطنياً , وكذلك مصطفى كامل كان وطنياً جداً رغم عداوته لسعد زغلول ورغم ما عنده من مسحة إسلامية لكن كان هو الذي يقول ( لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً ) . أحمد شوقي ، حافظ ابراهيم ، وغيرهم من الشعراء كانوا شعراء وطنيون قلّ أن تجد لهم شيئا من الشعر الذي يفتخر بالعرب أو بالعالم الاسلامي إلا أحياناً , إنما الأصل عندهم في الفخر هو بالوطنية ونوع من الامتزاج بالقومية لكن لم تظهر ملامحه ولم تتضح في تلك المرحلة .
ثم ظهرت فكرة القومية العربية والقومية التركية . القومية العربية أول من دعى إليها وأظهرها كقومية عربية هم النصارى العرب ، وهؤلاء النصارى أكثرهم في بلاد الشام ، أما الأقباط الذين كانوا في مصر فلم يكونوا يفكرون في قومية عربية بل ولا حتى في وطنية مصرية إنما كان همهم هو التبعية للغرب وللمستعمر .
الذي حدث أن الدولة العثمانية ضغطت على نصارى الشام وآذتهم فهاجرت طوائف كبيرة منهم إلى مصر , وهناك أسسوا جريدة الأهرام ومجلة المقتطف وغيرها , وبدأوا يبثون الفكر القومي في مصر فأصبح منتشراً في مصر إلى حد ما , وكذلك في بلاد الشام وهي مقره ولا سيما في لبنان لأن النصارى كانوا في منطقة جبل لبنان . وهناك تركزت الفكرة أو الدعوة النصرانية القومية وأيدها الغرب كما كتب برنارد لويس في كتابه "الغرب والشرق الأوسط" ( تبنى الغرب القومية العربية لماذا ؟ لتكون معولاً لهدم الإسلام ) !! ليضرب بها الإسلام فتختلف آصرة التجمع عند العرب والترك على الإسلام فينفصلون عن الترك وعن الهنود وغيرهم وتصبح القومية العربية فقط هي التي تجمعهم فيسهل تفتيتهم .
كانوا يريدون تفتيت الدولة العثمانية بأي شكل من الأشكال , ففي الدول العربية أظهروا فكرة القومية العربية ونشأت منها جمعيات : جمعية العربية الفتاة وما تفرع عنها ، الجمعية القحطانية ، جمعية العهد ، الجمعية العربية ، العربية الفتاة ... إلخ . فأصبح النصارى العرب يتغنون بأمجاد الأمة العربية بأشعار ومنشورات وكتب ألفوها , وكذلك أصبحت الدعوة في تركيا إلى القومية الطورانية التركية ، والذين دعوا إلى القومية الطورانية التركية كانوا من اليهود وهذا شيء ثابت حتى أن أحد المؤرخين الأمريكان اسمه "واطسن" يقول أنه لا يوجد أحد في حركة الاتحاد والترقي - الحركة القومية التركية - من أصل تركي حقيقي وإنما هم من اليهود وغيرهم ! يعني يدعون إلى القومية التركية وليس فيهم رجل واحد من أصل تركي ، والذين يدعون إلى القومية العربية ليس فيهم في الأصل ولا واحد مسلم وأكثرهم أيضاً أصولهم أعجمية ونصارى !! هنا يجد الإنسان المفارقة ويعلم أنها كانت كلها تهدف لتحقيق التمزق والفرقة بين المسلمين لمعرفتهم بأخطار الحركة القومية في أوروبا التي قد عانت وذاقت الأمرين من الفكر القومي والتمزق القومي ، فجاءت وصدرت هذا الفكر إلى العالم الإسلامي في حين بدأت هي تكون التحالفات والتكتلات الأممية والعالمية التي ظهرت في الحرب العالمية الأولى ثم في الثانية . وبعد الحرب العالمية الثانية انتهت القوميات في أوروبا واختفت , والآن يريدون إخفاء حتى الوطنيات تماماً لتصبح أوروبا أمة واحدة لا وطنية فيها فضلاً عن القومية . ولأنهم ذاقوا مرارة القومية أرادوا أن يصدروها لتفتيت العالم الإسلامي فظهرت الدعوة الطورانية أو التركية وأرادت أن تفرض اللغة التركية على جميع العرب , وفي المقابل يظهر الدعاة القوميون العرب - وأكثرهم من النصارى ثم تبعهم الشيعة والدروز وأمثالهم - ويقولون العروبة واللغة العربية والأمة العربية .
في الحرب العالمية الأولى كانت البداية عندما اتفق على ما يسمى اتفاقية " سايكس بيكو " - تقسيم الخلافة العثمانية بين دول الغرب - فجاءت الحركة القومية العربية وجيشت جيوشاً وحاربت مع الإنجليز ضد الدولة العثمانية , فعندما أراد الصليبيون أن يدخلوا إلى القدس كانت رايتهم تضم جموعاً عديدة منها : الإنجليز والعرب القوميون - الذين انضموا إلى الإنجليز في قتال إخوانهم في الإسلام " الترك " - ودخل الإنجليز القدس وبإنتهاء الحرب العالمية انتهت الخلافة العثمانية تماماً , وتمزق العالم الإسلامي , ونفذت اتفاقية " سايكس بيكو " , وظهرت الأفكار الوطنية والقومية , وكانت في مصر أكثر ما تكون وطنية , وأما في بلاد الشام فإنها كانت قومية ثم تطورت الحركة القومية وجمعية العربية الفتاة كما يسمونها وحرصت على تأسيس رابطة قومية تجمع العرب , وبارك هذه الرابطة وشجعها بل هو الذي اقترحها في الأصل كمنظمة " أنطونيا إيدن " الذي كان وزير خارجية بريطانيا ثم رئيس وزراء بريطانيا , فاقترح فكرة إنشاء جامعة الدول العربية فأنشأت بروتوكول الاسكندرية ثم جامعة الدول العربية ، وكان الذين أسسوها واجتمعوا ووقعوا ميثاقها هم أصلاً قبل قيام هذه الجامعة كانوا أعضاء في جمعية العربية الفتاه وأشباهها من الجمعيات التي كانت قائمة في ذلك الزمن . وأوضح الكتب على هذا كتاب " نشأة القومية العربية " لمحمد عزة دروزة لأنه كان واحداً منهم ، وكذلك الشاعر "خير الدين الزركلي" صاحب الأعلام وهو واحد من هؤلاء القوميين وشعره وحياته يذكر فيها هذا الشيء وغيرهم كثير .
رئيس بلاد الشام "شكري القوتلي" كان من جمعية العربية الفتاة , ووقع ميثاق جامعة الدول العربية ، فنشأ الفكر القومي بعد ذلك حتى قامت ثورة الحزب البعثي واستطاع بقيادة "ميشيل عفلق" أن يؤسس فكرة عقدية قوية جداً تحكم الآن العراق وسوريا وله وجود قوي في ليبيا وفي السودان وهم الآن تقريباً أقوى حزب في موريتانيا .
بعد الحرب العالمية الثانية نسيت القوميات تماماً في أوروبا فأصبحت التكتلات عقائدية وعسكرية ، وأصبحت أروبا في الحقيقة معسكرين : حلف وارسو وحلف الناتو ( شمال الأطلسي ) . حلف شمال الأطلسي يضم الولايات المتحدة الأمريكية ومعه دول غرب أوروبا كلها على اختلاف مللها ومذاهبها الدينية وقومياتها ، وأوروبا الشرقية الشيوعية على اختلاف أجناسها وأعراقها أصبحت كتلة واحدة بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945م . بعدها وقع ميثاق جامعة الدول العريبة ثم ظهرت الأحزاب هذه وأسست حزب البعث . فلما ظهر المعسكر الشرقي الاشتراكي اندمجت الفكرة الاشتراكية في الحركات القومية والوطنية لأنها كلها مستوردة من الغرب ، فقامت الثورة المصرية وحَوَّلَها جمال عبدالناصر من فكرة وطنية إلى فكرة قومية ، فقبل جمال عبد الناصر لا تجد في مصر إلا إشارات إلى العرب أو العروبة ككل إنما كانت الفكرة الراسخة في مناهج التعليم وفي الصحافة والإعلام والشعر : الشعارات الوطنية الفرعونية ... إلى آخره ، المهم وطني مصري . جمال عبدالناصر أنشأ إذاعة صوت العرب والصحافة العربية والفكر العربي والأمة العربية من المحيط إلى الخليج فأجج الفكر العربي القومي . في المقابل أيضاً البعثيون جاءوا بشعار " أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة " هذا شعار حزب البعث ، فبدأوا ينشرون هذا المبدأ . كان الصراع على أشده بين هؤلاء وهؤلاء مع أن جمال عبدالناصر دعى إلى الاشتراكية مع القومية العربية وأولئك مع الوحدة العربية دعوا إلى الاشتراكية ؛ إذن هؤلاء اشتراكيون وهؤلاء اشتراكيون ، لكن الخلافات الحزبية بينهم واختلاف الولاءات : هذا مع الغرب وهذا مع الشرق كان على أشده والذي يجمع الجميع أنهم لا يريدون الإسلام فالغرب سواء كان شرقاً أو غرباً لا يريد أن يكون هناك أي تجمع باسم الإسلام كما عبر لويس وغيره في أوضح ما يمكن .
إن الغرب أراد هذا بوضوح ، أراد أن لا يكون هناك أي رابطة أو جامعة إسلامية وإنما يكون المبدأ القومي هو الذي يجمع هذه الشعوب جميعاً .
وتحت شعار الحركة القومية والحركة البعثية نشأت في دول أخرى - مثل دول الجزيرة العربية - الفكرة الوطنية التي لم تكن معروفة من قبل ، ففي هذه البلاد في عمان في اليمن مثلاً ، ما كان الناس يعرفون على الإطلاق فكرة التفاخر بالحضارات القديمة وبالوطنية ولا يعلمون عنها أي شيء فضلاً عن القومية ، فنجد أن القوميين تبنوا إحياء هذه الحضارات والآثار القديمة , بل مع أنهم يدعون القومية العربية ويتعصبون للغة العربية أحيوا ما يسمونه التراث الشعبي والأشعار النبطية وما أشبه ذلك ، وهذه كلها عوامل تفتيت للأمة إلى قوميات , القومية تفتت إلى وطنيات ، الوطنية تفتت إلى قبليات وحزبيات وحضارات مختلفة ، وكل هذا بغرض تفريق وتمزيق الأمة الإسلامية ورابطة الولاء ، فأصبح الإنسان لا يوالي ولا يعادي إلا في ما يعتقد من قومية أو وطنية . الشيخ عبدالرحمن الدوسري رحمه الله كان أكثر إن لم يكن كل كلامه وأشرطته تصب في حرب الماسونية وهؤلاء القوميين المجرمين وخاصة عندما روج لشعار القومية إلى حد لو أن أحداً يقول هذا العربي ليس مسلماً لاستنكر أشد الاستنكار في أي مكان , ورسخت فكرة القومية العربية حتى قال شاعرهم :
سلامٌ على كفرٍ يوحد بيننا ********** وأهلاً وسهلاً بعده بجهنّمِ
هبوني ديناً يجعل العرب أمةً ****** وطوفوا بجثماني على دين برهمِ
بلادك قدمها على كل ملةٍ ***** ومن أجلها أفطر ومن أجلها صُمِ
والثاني يقول :
داع من العهد الجديد دعاك *** فاستأنفي في الخافقين علاكِ
يا أمة العرب التي هي أمنا ********** أي افتخارٍ نميته ونماكِ
ميخائيل نعيمة ، جبران خليل جبران ، إيليا أبو ماضي ، وإيليا حاوي ، إلياس أبو شبكة .. الخ ، هؤلاء كلهم هم الشعراء الذين يتغنى الناس بأفكارهم ، بل حتى أحمد شوقي الذي يقول :
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد *** فلا دين يفرقنا ولا حد يباعدنا
وأصبحت المفاخرة بأن أبناء الوطن جميعاً يعملون ضد الاستعمار وضد القوى الرجعية ، والرجعية هي الدين في نظرهم ، فكانوا يستغلون فكرة القومية والوطنية لإشعال الحرب الضروس على الدين وعلى كل من يدعو إلى الانتماء إلى الإسلام أو يوالي أو يعادي في هذا الدين حتى مسخت الأمة تقريباً مسخاً كاملاً أو شبه كامل , وأصبحت نظرة كل الناس إلى الأمة العربية والوطن العربي : فإن درست الجغرافيا فهي جغرافية الوطن العربي ، وإن درست الثروة فثروة الوطن العربي ، وإن درست السكان فهم سكان الوطن العربي ، وإن تحدث أحد عن الأخطار فإنه يتحدث عن الأخطار على الأمة العربية . وفي الحقيقة أنه مجاملة لهؤلاء الحفنة من النصارى في لبنان ومصر تخلى الباقون عن دينهم ، والتعبير الذي كان ولا يزال إلى هذه الأيام مستخدم أن يقال ( الأمتين ) الأمة العربية والأمة الإسلامية ! ومن أجل هؤلاء تجعل الأمة الواحدة التي قال الله تعالى عنها { وإن هذه أمتكم أمةً واحدة } تجعل أمتين !!
ونتيجة لهذا الشعور - رسوخ الفكرة القومية عند الناس - أصبح لا يمكن أن تنظر إلى أي أحد وتقول هذا مسلم أو نصراني ولا يمكن أن تسأل عن هذا ، وما كان أحد يستطيع أن يتحدث بهذا إلا ويحتقر ولا يستطيع أن يكتب في مجلة أو يتكلم في الإذاعة وهو يخالف فكرة القومية العربية أو الأخوة العربية والرابطة العربية واللغة المشتركة والتاريخ المشترك ، وهذا خلاف ما ذكر الله تبارك وتعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ولما قاله صلى الله عليه وسلم " لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى " . وكان العراقي مثلا وإن كان يدعي القومية العربية إلا أنه يفتخر بالآشورية والبابلية والكلدانية ، وأهل الشام وإن كانوا أيضاً يدعون القومية العربية والبعثية إلا أنهم يفتخرون بآثار السومريين والفينيقيين ، وفي مصر يفتخرون بالآثار الفرعونية وغيرها ، أما نحن هنا فمعنا دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والعقيدة السلفية الناصعة التي لا تفرق بين عربي وأعجمي فهي دعوة سلفية تجمع كل من يؤمن بها ، مع ذلك أيضاً أصبحت عندنا باسم الآثار وغيرها فكرة أن عندنا آثار قديمة كآثار الأخدود وآثار عاد وآثار ثمود ومدينة الفاو ، واذا اكتشف مكان ما وفيه بيوت قديمة طمرها الطين اعتبروا هذا كشفا حضاريا ومنقبة عظيمة وأننا لنا ماضي ولنا تاريخ ولنا آثار ، أي أننا دخلنا فيما دخل فيه غيرنا من الأفكار التي رفضتها ولفظتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية .
وقد بقيت النزعة التي تظهر هذه الأيام مثل النازية والفاشية وهذه ظهرت نتيجة التأثر بالفكر التلمودي اليهودي ، وكل ما فعله هتلر أنه قرأ ما في التلمود ووجد الفكر اليهودي يجعل اليهود فوق الجميع فأراد هتلر مضادة اليهود فقال الألمان فوق الجميع وأخذ كل الخصائص التي يدعيها اليهود وجعلها في الألمان , وتعاون معه وأفاد منه بنفس الوقت موسيليني في إيطاليا بالفاشية , واليابان قامت على هذا المبدأ أيضا , ولذلك لما قامت الحرب العالمية الثانية كانت هذه الدول الثلاث تحارب بريطانيا وفرنسا ثم بعد ذلك تدخلت أمريكا وكانت النهاية التي تعلمون .
هذه العنصرية المقيتة البغيضة هي التي يحاربها الإسلام أشد الحرب والتي كان أول من رفع راية الحرب عليها هو محمد صلى الله عليه وسلم عندما أنزل الله تعالى عليه هذا الدين العظيم وأصبح الناس سواسية ، فبلال الحبشي وأبو سفيان وسلمان الفارسي ومن أسلم من اليهود ومن كان أنصارياً أو مهاجرياً فلا فرق بينهم : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
بقي أن نشير إلى قضية تجدونها في التاريخ الإسلامي مع الأسف وهي أن المفاخرة نشأت قبل نهاية القرن الأول الهجري عند المسلمين ، نشأت بين العرب اليمنية والعرب المضرية في أيام الدولة الأموية ، ولو قرأتم فتح الاندلس أو فتح بلاد ما وراء النهر فستجدون أن اشتداد هذه العنصرية والعصبية بينهما أدت أكثر من مرة إلى هزيمة المسلمين , ففي اثناء الحرب تشتعل بينهم المفاخرة ثم يتقاتلون وينسون العدو المشترك !! قتيبة بن مسلم الباهلي القائد المشهور عانى أشد المعاناة من أن جيشه ينقسم إلى قسمين : العرب اليمنية والعرب المضرية . ونشأت أشعار الهجاء الطويلة الشديدة في دواوين الشعر وكتب الأدب وكتب التاريخ . كانت هذه بداية مؤلمة جداً وفي عصر يعتبر مبكر جداً لنشوء الفكرة الجاهلية العنصرية العصبية وقد دفع المسلمون ثمنها ، ومن ذلك ما جرى في معركة بلاط الشهداء عندما انقسم جيش عبدالرحمن الغافقي رحمه الله إلى عرب مضرية وعرب يمنية وحدث بينهما فرقة وخصومة وهزم الجيش .
ثم نشأت أنواع أخرى من العصبيات بعد ذلك عندما ظهرت الشعوبية التي جاء الفرس بها , وهي تزدري العرب مطلقاً وتفضل عليهم العجم ، وكثير من الشعراء وإن كانوا شعراء باللغة العربية وتعربت ألسنتهم إلا أنهم كانوا دعاةً للشعوبية - أي لتفضيل العنصر الفارسي أو غيره من الشعوب على العنصر العربي - وكثر ذلك جداً حتى قيل إن الجاحظ يميل إلى الشعوبية لأنه في كتاب الحيوان وغيره ذكر عن عادات العرب وكيف كان العرب يأكلون الميتة ويأكلون الحيوانات القذرة !! وهذا من أخبث أنواع الأمراض التي تصاب بها القلوب وتصاب بها الأمم مرض القومية هذا أو تفريق الناس وتحزيب الناس على غير التقوى .
ثم ظهرت أفكار أخرى ومزقت الأمة بأنواع كثيرة من التمزقات والعنصريات والجاهليات كل ذلك حتى لا يكون ولاؤها لله وتعتقد فعلاً أن أكرمهم عند الله أتقاهم وأنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى . ونشأت التعصبات الفقهية أيضاً - وهي نوع من الجاهلية - فأصبح الحنفية والشافعية يتقاتلون قتالاً شديداً في بلاد ما وراء النهر وشرق العالم الإسلامي ، كذلك شهدت بغداد والعراق معارك شديدة بين الحنابلة وغيرهم . الطرق الصوفية التي نشأت زادت الأمة أيضاً انقساماً وأصبح الناس يعادون ويوالون كلٌ في شيخه وفي طريقته فتمزقت الأمة أكثر فأكثر .... وهكذا .
أما اختلاف العلماء حول قضايا العبادات كالتفضيل إذا تعلق بالعبادة فهذا الأمر ليس فيه إشكال إن شاء الله ، وهو من باب تفضيل شعبة من شعب الإيمان على شعبة أخرى أو العاملين بشعبة على شعبة ، فأيهما أفضل أهل الذكر أو أهل الجهاد ، أيهما أفضل أهل القرآن أم أهل الحديث ، هذه أيضاً نشأت لكنها أخف لأنها كلها خير وكلها علم وكلها من الدين والحمد لله , فأينما كان الإنسان فهو آخذ بشعبة من الخير لكن لا يجوز له أن يفتخر بحيث يغمط الآخرين أي فضل .
والمشكلة تكون أوضح عندما تكون الفرقة بسبب الشعوبية كما جاء أن الرشيد قضى على البرامكة لأنهم كانوا كذلك , وكانوا يجمعون بين الشعوبية وبين الباطنية ، وبعض الناس لا يذكر عنهم إلا شعوبيتهم وأنهم أعادوها فارسية كسروية , فشعارات كسرى وآثار كسرى وقصور كسرى ولكل مظاهر الحياة في أيام كسرى أعادها البرامكة ... وكانوا وزراء والرشيد هو الخليفة ، فلما رأى الأمر كذلك وكلمه علماء المسلمين فيهم فقضى عليهم وقتل من قتل وسجن من سجن وشتت الله شملهم وفرق جمعهم ولله الحمد .
ثم في العصور التي تلت ذلك نجد أنها طمست واندثرت ، وتمزقت الأمة إلى دويلات : تجد حلب دولة ودمشق دولة وأنطاكية دولة والموصل دولة .. الخ ، حتى شاء الله عز وجل وجاء الصليبيون ولقنوا الأمة درساً عظيماً فتوحدت وبدأت ترجع إلى وحدتها . ثم جاء المماليك وهؤلاء ليسوا عرباً والسلاجقة ليسوا عرباً في الأصل ، والترك كما هو معلوم دخلوا في الاسلام ولم يكونوا من العرب فظلوا يحملون راية الإسلام إلى أن ظهرت فيهم القومية الطورانية كما ذكرنا . وهذا إجمال وإيجاز سريع لنشأة هذه النعرات الجاهلية في العالم سواء كانت في العالم الإسلامي أو في العالم الأوروبي الذي منه أخذنا القومية العربية الحديثة .
وضعنا الحاضر :
نعمة من الله عز وجل أن القومية العربية تفتتت بحربين ، الحرب الأولى حرب لبنان . لو تأملنا تاريخ لبنان التي كانت منطلقاً لتمزيق الأمة الإسلامية والدولة العثمانية - والرابطة التي جمعتهم هي رابطة القومية - فأراد الله عز وجل أن تتمزق لبنان نفسها وتصبح فئات متناحرة : فالموارنة طائفة , والأرمن طائفة ، والموارنة انقسموا إلى أحزاب : حزب شمعون وحزب مع فرنجية وحزب مع الجميّل وهكذا .. والدروز لهم حزب ولهم إذاعة وجيش ، والرافضة حزبين : حزب الشيطان الذي يسمونه حزب الله , و أمل نبيه بري ، وهم كلهم رافضة .. فتمزقت البقعة الصغيرة هذه التي من أجلها مزقنا الأمة الإسلامية وجعلناها أمتين ، أمة عربية وأمة إسلامية ، حتى أنه إذا عقد مؤتمر الأمة العربي يحضر رئيس لبنان ، فإذا عقد مؤتمر إسلامي يحضر رئيس لبنان وهو نصراني !! فمن أجلهم ضيعنا ولاءنا وعقيدتنا وانتماءنا فمزقهم الله .
فبدأت القومية العربية في الانتكاس بهذا الحال ومزق الله حزب البعث في سوريا والعراق ، عداوة مستحكمة بحيث أنك تتعجب كيف أن كل واحد منهم لو مكّن لكان أول ما يبدأ يفترس ويبطش بأخيه البعثي الآخر ، وتجد سجون العراق ملأى بالبعثيين السوريين الموالين لصلاح بكداش ، وسجون سوريا ممتلئة بالبعثيين المنتمين إلى ميشيل عفلق وحسن البكر وأمثاله .
وفي مصر عندما جاء أنور السادات تخلى تماماً عن القومية العربية ورجعت مصر وسمت نفسها جمهورية مصر العربية .
القذافي الذي هو تلميذ جمال عبدالناصر كان يريد أن يعمل دولة موحدة ولم يوفقه الله لأنها لا تقوم على أساس الإسلام فتمزقت أيضاً القومية العربية التي كانت تربط ما بين مصر وليبيا .
الحرب الثانية هي حرب الخليج . فالعرب بعضهم حتى في داخل البيت الواحد وداخل الحزب الواحد وداخل الدولة الواحدة بعضهم وقف مع العراق وبعضهم وقف ضد العراق وتشاحن الطرفان ، البعثيون السوريون الذين يربطهم بالعراق رابطة القومية والبعثية هم أيضاً دخلوا ضمن الجيوش التي دخلت إلى العراق وقتلت من العراقيين ما قتلت ! فهذه نعمة والحمد لله .. فبعدما كانوا يتقاتلوا في لبنان هذا يؤيد عون وهذا يؤيد شمعون أصبحوا يتقاتلون بأنفسهم وجهاً لوجه فالحمد لله أن القومية العربية في حالة احتضار .
والحمد لله أن المسلمين أفاقوا إلى حد كبير فنجد ما حدث في أفغانستان أو في الفلبين أو في البوسنة والهرسك الآن وغيرها جعل المسلمين يشعرون بضرورة الولاء الإسلامي وأن تكون العقيدة هي الرابطة , فالكل اشتركوا و جاهدوا ولو بالمال ولو بالدعاء لاخوانهم المسلمين . هذه المصائب وهذه المحن جعلت المسلمين يشعرون بأننا أمة واحدة في آمالها وآلامها لأنها واحدة في عقيدتها وفي قبلتها وفي كتابها وفي سنة نبيها صلى الله عليه وسلم وفي كل الأواصر والروابط . ولا يوجد أمة أوغل أو أعمق في التاريخ من هذه الأمة لأنها فوق كل القوميات والعنصريات والعصبيات , ولا فخر بالحجارة الطين كما يفتخرون ، هذا عنده أهرامات وهذا عنده حدائق بابل وأولئك بنوا مدائن صالح وهؤلاء بنوا إرم مثلاً . نحن نفخر وننتمي ونعتز بالانتماء إلى ركب الإيمان , ركب الانبياء , ركب النبي الذي بنى هذا البيت { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } , هذا هو البناء الذي يجمعنا والذي نفتخر به والذي نعتز بأننا والحمد لله نعبد الله سبحانه وتعالى ونفتخر بالعبودية لله باستقبالنا هذا البيت الذي بناه أنبياء الله وحجه أنبياء الله , فهذه هي حضارتنا التي نفتخر بها وآثارنا التي نفتخر بها وانتمائنا الذي نفتخر به وما عدى ذلك فكلها جاهليات وعصبيات ممقوته مذمومة ، إنما جاء الإسلام للقضاء عليها ولحربها ويكفيها أنها جاهلية كما سماها الله تعالى وسماها رسوله صلى الله عليه وسلم .
هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .