التعايش بين الشعوب في الرؤية الإسلاميّة: إيران نموذجاً

التعايش بين الشعوب في الرؤية الإسلاميّة: إيران نموذجاً

حسن يحيى
الرؤية الثقافيّة الإسلاميّة رؤية هادفة تنطلق من مرجعيّة مقدّسة للحياة الإسلاميّة، تعطيها شكلاً مميّزاً، ومضموناً مميّزاً أيضاً. وتستبطن هذه الرؤية في داخلها الخطوط العامّة والأسس العمليّة اللّازمة لإحداث عمليّة تغيير اجتماعيّ شامل، ونحو الأفضل طبعاً.

فالإسلام في الرؤية الثقافيّة التي يقدّمها هو بمثابة المصنع الذي يصنع الإنسان، وهو طريق إصلاح المجتمعات البشريّة الذي يُعنى بتهذيب وتطوير شؤون الحياة العامّة.

ولهذه الرؤية ـ بالطبع ـ مرجعيّتها التي تعطيها المشروعيّة، وتصوغ لها المضمون والمحتوى، وتحدّد لها المنهج الأقوم الذي ينبغي اعتماده في سبيل أن تكون حياة الإنسان، مجتمعاً وفرداً، على وفق التصوّر الإسلاميّ الصحيح. ولا شكّ في أنّ هذه المرجعيّة الإسلاميّة التي نتحدّث عنها تتمثّل في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، إضافةً إلى حقائق الخلق والكون والتي تشكّل مصدراً معرفيّاً دائم الحركة.

وبديهيّ أنّ هذه الرؤية لا يمكن لها أن تحقّق غاياتها ومقاصدها في بناء الحياة الإسلاميّة من دون الاعتماد على أسس قابلة لاستيعاب متطلّبات المعاصرة، لكي يكون كلّ عصر من العصور التي تعيشها المجتمعات الجديدة عصراً لصيقاً بالإسلام ورؤيته الثقافيّة. الأمر الذي يتطلّب ـ دون شكّ ـ عقولاً تكون في عين أصالتها وعراقتها متحرّرة من الجمود، وأجواءاً منفتحةً على النقد البنّاء والحوار الهادف اللّذين يوفّران مناخات واسعة من الحرّيّة الفكريّة المتوازنة.
ومن هذا المنطلق، يُعدّ الحوار والتعايش من منظور الرؤية الثقافيّة الإسلاميّة من جملة القيم الأساسيّة التي ينادي بها هذا الدين الحنيف، إلى جانب كونهما من القيم الإنسانيّة والفطريّة التي يقضي بها العقل، ولا يعارضها الدين، بل يؤيّدها ويتبنّاها بشكلٍ تامّ.

وفي أجواء الاختلاف التي تفرض نفسها بشكلٍ طبيعيّ على سياق الحياة الاجتماعيّة للبشر، تطرح الرؤية الإسلاميّة مبدأ التعايش بوصفها الحلّ الكفيل بتجنّب مشاكل الصراع والتضارب في الرؤى والأفكار والمعتقدات بشتّى ألوانها.

والتعايش لا يعني القبول بنسق واحد من التفكير والسلوك، كما لا يعني التنازل عن الحقّ، ولا القيام بتوزيعه على المتعايشين بنسبةٍ متساوية!! وإنّما يعني: أن يحتفظ كلّ طرفٍ من الأطراف بوضعه الخاصّ، ويكون متاحاً له أن يمارس نشاطه الدينيّ أو المذهبيّ أو الفكريّ أو السياسيّ في إطار الحقوق والحرّيّات العامّة التي يكفلها الإسلام في حيّز من التوازن والانسجام، بحيث لا يُسمح لأيّ طرف ـ مهما بلغت قوّته عدّةً وعدداً ـ بسلب حقوق الآخرين، أو الإخلال بالنظام وبأمن المجتمع.

وتستند الرؤية الإسلاميّة في مجال تعيين آليّات تعايش المسلمين مع الآخرين إلى مجموعة من العناصر نشير إلى بعضها فيما يلي:

1ـ الأمّة الوسطيّة:
يصف القرآن الكريم الأمّة الإسلاميّة تارةً بأنّها: (الأمّة الوسطيّة)، وأُخرى بأنّها كانت (خير أمّة أُخرجت للناس)، ما يولّد في نفوس أبناء هذه الأمّة الشعور العارم بأنّ أمّتهم يجب أن تكون الأنموذج بين الأمم، وهو شعور يكفي لأن يدفعهم باتّجاه السموّ والتكامل في كلّ المجالات والميادين، ويحثّهم على الاستفادة الأكمل من كلّ التجارب، بما فيها تجارب الآخرين وحضاراتهم وعلومهم، الأمر الذي يجعل من الأمور الضروريّة بالنسبة إلى هذه الأمّة: الانفتاح على كلّ مجالات الحياة وحمل رسالة إنسانيّة حضاريّة كبرى، وذلك هو التعايش بأكمل معانيه وأبهى صوره.

2ـ نفي السبيل على المؤمنين:
وهو يعني أنّ أيّ تصرّف أو معاهدة تؤدّي إلى تفوّق الكافرين على المسلمين، وخطّ الكفر على خطّ الإسلام، يعدّ لاغياً من أصله، لا تكبّراً واستعلاءاً، وإنّما انطلاقاً من متطلّبات المصلحة الإسلاميّة العليا، واعتماداً على معايير إنسانيّة وأخلاقيّة، حيث إنّ خطّ الكفر يمثّل بدرجةٍ كبيرة طغيان الإنسان على فطرته المودعة فيه بأصل الخلقة، وتجاوزاً لحدّ الوسطيّة والاعتدال الذي هو مجبول عليه، فلا ينبغي السماح لهذا الخطّ ـ إذاً ـ بأن يكون له على خطّ الإيمان والاعتدال والاتّزان سبيل وغلبة.

3ـ الدعوة الحسنة:
فالتعايش لا يعني تجاوز حقائق الإسلام التي تؤكّد على استمرار عمليّة التوعية والتبليغ والدعوة، وإنّما يعني: أنّ على عمليّة التوعية التي تجري في داخل الدولة الإسلاميّة أن تقتصر على أسلوب الدعوة العقلانيّة الهادئة والحوار الحكيم والمنصف والكلمة الطيّبة والموعظة الحسنة.

4ـ العدل:
يشكّل العدل أهمّ أصول التصوّر الإسلاميّ للواقع، وأهمّ الأسس والمعايير التي ينبغي أن تكون حاكمةً في معادلات التعامل الاجتماعيّ، حيث نهى القرآن الكريم عن مفارقة العدل حتى في صورة استحكام العداوة والبغضاء، أو سيادة التوتّر والتأزّم بين الأطراف، قال تعالى: [ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى]، وهو ما يفسّر أيضاً وقوف الإسلام دائماً إلى جانب المستضعفين والمحرومين في كلّ مكان.

ولعلّ تجربة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة اليوم في مجال التعايش والانفتاح هي من التجارب المهمّة على صعيد التطبيق المعاصر؛ نظراً لما تمثّله إيران من دولة تتميّز بالتعدّديّة في كثير من المجالات؛ إذ:
أوّلاً: يعيش فيها المسلمون جنباً إلى جنب مع أتباع ثلاث من الديانات، وهي: النصرانيّة واليهوديّة والزرادشتيّة.
وثانياً: فيها ستّ قوميّات، وهي: الفارسيّة والتركيّة والعربيّة والكرديّة والتركمانيّة والبلوشيّة.
وثالثاً: فيها ثلاثة مذاهب إسلاميّة، وهي: الإماميّة الاثني عشريّة، والشافعيّة، والحنفيّة.
ورابعاً: فيها الكثير من الجماعات والتيّارات الفكريّة والسياسيّات.
هذه التجربة الغنيّة المعاصرة تمثّل ـ بحقّ ـ الوجه المشرق والعصريّ للرؤية الإسلاميّة في مجال التعايش بين الشعوب والفئات المختلفة، وهي جديرة بالدراسة والمراجعة المستمرّة.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك