الترجمة وحوار الذات مع الآخر

الترجمة وحوار الذات مع الآخر

بقلم:   شاكر عبدالحميد

الإنسان بمفرده كنز مخفي، والمجتمعات بمفردها كنوز مخفية لابد لها كي تعرف ذاتها أن تعرف الآخر. وعلي الشاكلة نفسها تكون الترجمة أيضا وسيلة لمعرفة الذات من خلال مرآة الآخر، ووسيلة لمعرفة الآخر من خلال مرآة الذات، وسيلة للتفاعل والحوار والتعرف والمعرفة والتواصل والاتصال.
بعد أن قام الناقد والفيلسوف الروسي الشهير ميخائيل باختين (1895 ـ 1975) ـ صاحب الدراسات ذات التأثيرات المهمة في حقول اللغة والنقد الأدبي، والأنثروبولوجيا، والفلسفة ـ بدراسات معمقة حول فرويد، المحلل النفسي النمساوي المعروف، انتقد باختين اهتمامات فرويد الجوهرية بالأنا الفردي، واعتبر هذا الاهتمام أمرا سلبيا، وذلك لأنه يحصر الجوانب الاشكالية والمهمة في حياة الانسان داخل الحدود المتعلقة بالطبيعة والانشغالات الفردية الخاصة فقط، فقد اهتم فرويد باللاشعور الفردي فقط، واهتم بدوره في الابداع، وتكون الشخصية، والمرض النفسي، وصناعة النكات، والتربية، وما شابه ذلك من جوانب. أما "باختين" فقد رأي أنه من المستحيل عزل أي عقل فردي عن العقول الأخري، وأن الأكثر مناسبة أن ننظر إلي هذا العقل في ضوء علاقته بالآخرين، سواء أكان هؤلاء الآخرون معاصرين له، ويعيش بينهم، أم كانوا سابقين عليه، فالعقل الانساني، في صوره كافة، هو عقل في حالة علاقة ما مع شخص ما أو أشخاص آخرين. وهو عقل يتوجه دوما، سواء علي نحو مباشر أو غير مباشر، نحو الآخرين. ولذلك فإن الطبيعة الأساسية للعقل الانساني، في رأي باختين، هي أنه عقل حواري، وما النتاجات الابداعية لهذا العقل بأشكالها كافة، إلا تمثيلات للخطاب الحواري الذي يقيمه المبدع مع الآخرين، كما أن العلاقات الإنسانية، في أشكالها المتنوعة، هي علاقات حوارية، والترجمة هي كذلك، يقينا، علاقة حوارية.
إن الوجود يتجلي علي أنحاء شتي كما قال أرسطو ذات مرة، ويتمثل هذا التعدد في تجليات الوجود خلال تلك الحوارية الخاصة التي تنشأ علي أنحاء شتي، سواء بين المبدع وبين نفسه، أو بينه وبين الآخرين، وبأشكال متنوعة، ومن أبرز هذه الأشكال التي يتجلي من خلالها التفاعل بين الذات والآخر ذلك النشاط الخاص بالترجمة وهي نشاط يتجلي فيه علي نحو كبير ذلك الحوار الخصب الدائم بين الذات كما تري صورتها وكما تري الآخر وأيضا ذلك الآخر كما يري الذات.
وما نقصده بصورة الذات إدراك الشخص لهويته الخاصة المتميزة سلبا أو إيجابا عن الآخرين، وكذلك ما يرتبط بهذه الهوية أو الذاتية من خصائص جسمية ونفسية واجتماعية، تشتمل علي الذكريات والأفكار والمشاعر التي تتصف بقدر كبير من الثبات والاستمرار عبر مدي متسع من حياة الفرد أو الجماعة. وتنقسم صورة الذات إلي: صورة واقعية: أي ما يري الشخص نفسه عليه فعلا في الواقع، ثم صورة مثالية، وهي ما يطمع الشخص ـ أو الجماعة ـ في أن يكونه. كما يمكن النظر إلي صورة الذات أيضا من منظور داخلي، أي الطريقة التي نري بها أنفسنا (في الداخل) فعلا، أي كيف يري الفرد نفسه، وكيف تري الجماعة أو تنظر إلي ذاتها. كذلك يمكن النظر إلي صورة الذات أيضا من منظور خارجي، أي من خلال الطريقة التي نعرض بها أنفسنا علي الآخرين، ووفقا للطريقة التي يرانا بها الآخرون، التي نرغب كذلك في ترسيخها في أذهانهم عنا، وهذه تسمي الذات الخارجية الاجتماعية، وهي ما يطلق عليها يونج اسم القناع. أما الذات الداخلية الخاصة، أو الذات الحقيقة، فهي ما نري أنفسنا عليه فعلا دونما حاجة إلي ارتداء الأقنعة التي تكون أقرب إلي عالم الخارج الاجتماعي منها إلي العالم الداخلي النفسي أو الاجتماعي الحقيقي.
هكذا ـ وباختصار ـ يمكن أن تكون صورة الذات، صورة واقعية: وهي ما نري أنفسنا عليه فعلا بشكل عام. أو صورة مثالية: وهي ما نود أن نكونه. أو صورة خارجية: وهي ما نفرضه من ذاتنا علي الآخرين بهدف التأثير الإيجابي. أو صورة داخلية: وهي ما نكون عليه فعلا في الاعماق بشكل حقيقي أو كل ما سبق معا. وهناك ـ بالطبع ـ تفاعلات بين هذه الصور وبعضها بعضا.
هذا عن صورة الذات. أما صورة الآخر فهي باختصار: مجموعة الصفات والخصائص التي ينسبها الشخص بشكل ثابت ومستمر إلي الآخرين، وتكون هذه الصورة الذهنية النمطية مسئولة كثيرا ـ إلي حد كبير ـ عن علاقات الفرد أو الجماعة مع الآخرين، ونظرته إليهم، ونظرته كذلك إلي ذاته في ضوء هذه العلاقات والتصورات والتفاعلات هكذا.
إننا من خلال الحوارية ـ ومن صورها البارزة: الترجمة ـ يمكننا أن نزداد معرفة بأنفسنا وفهما لها، ونزداد كذلك معرفة بالآخر وفهما له، ونزداد تقبلا لذواتنا وتقبلا للآخر كذلك، ونقيم صلات قوية بين الأنا والآخر، بحيث يمكن أن تضع الذات نفسها مكان الآخر، ويضع الآخر نفسه مكان الذات، وتقوم في الوقت نفسه بتعديل صورها عن الآخر، وصورة الآخر عنها، ومن ثم صورتها عن نفسها أيضا، وهي صلات تقوم في جوهرها علي أساس الإقرار بالاختلاف والتنوع، وكذلك إمكانية التعايش والتفاعل والتكامل والوحدة، في ظل هذا الاختلاف والتنوع والتمايز أيضا.
وهكذا فإن الترجمة أشبه أيضا بالمرآة التي يري من خلالها الانسان ذاته في مرآة الآخر. إنه يري ذاته أولا "هنا" كأنا وحيدة تفتقر إلي "آخر"، ويراها "هناك" حيث يوجد الآخر، وتطمح الأنا إلي التوحد مع ذلك الآخر، وعندما تنجح في ذلك عبر مرآة الترجمة مثلا لا تصبح الأنا ما كانت عليه سابقا، ولا يصبح الآخر ما كان عليه سابقا. إن الأنا تصبح هكذا هي الآخر، ويصبح الآخر هو الأنا في مزيج معرفي وثقافي جديد يجمع بين الأنا والآخر. إن الترجمة وسيلة مهمة لانتقال الانسان من المجال الحيوي الذي يعيش فيه وحيدا ـ كالطفل أو البدائي ـ إلي المجال الاجتماعي الذي يظهر فيه التمايز بين الأنا والآخر، ثم إلي المجال التفاعلي العالمي الحواري الجديد الذي ينبغي أن يتوحد فيه الأنا والآخر، أو علي الأقل يحدث فيه التعاون والتكامل والتكافل بين الأنا والآخر.
وقد كان الفيلسوف المسلم أبو يعقوب بن إسحق الكندي (توفي 252 هـ/768 م) الذي عهد إليه المأمون بترجمة مؤلفات أرسطو وبعض فلاسفة اليونان الآخرين يقول: "ينبغي أن لا تستحي من الحق واقتناء الحق من أين يأتي، وإن أتي من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولي بطالب الحق من الحق،. وليس ينبغي بخس الحق ولا التصغير بقائله ولا بالآتي به". وكان ينصح الناس بدوام طلب العلم لأن العلوم كثيرة ولا يستطيع أحد أن يحيط بها جميعا، وكان يقول أيضا: "العاقل من يظن أن فوق علمه علما فهو أبدا يتواضع لتلك الزيادة. والجاهل من يظن أنه قد تناهي فتمقته النفوس لذلك"، وقد أحصي ابن النديم للكندي 265 مؤلفا في مختلف العلوم، كالطب، والفيزياء، والفلك، والكيمياء، والميكانيكا، والمنطق، والفلسفة.
يقول المثل السائر "إن الشيء إذا زاد علي حده انقلب إلي ضده"، هكذا قد يستسلم العقل في بعض الثقافات لفعل الترجمة ويستثمره ويكتفي به، ولا ينظر إليه كما كان ينبغي أن ينظر، أي بوصفه مرحلة سابقة أو موازية لفعل الإبداع والانتاج. هكذا نجد بعض المؤسسات الثقافية العربية التي كان عليها أن تقوم بالإبداع تكتفي بالترجمة والنقل. وهكذا نجد ذلك الشحوب الواضح في عملية التأليف في بعض السلاسل الثقافية العربية المكرسة للانتاج الثقافي والترجمة بحيث غلبت الترجمة علي التأليف بشكل واضح. وهكذا نجد كثيرا من المؤلفين العرب ينطبق عليهم القول الساخر "إنهم يؤلفون وكأنهم يترجمون، ويترجمون وكأنهم يؤلفون.
إن الترجمة قد تصبح أحيانا هي الهدف والغاية في الوقت الذي كان ينبغي أن تكون فيه أداة ووسيلة.
إن الذي يكتفي بالترجمة فقط يقع في براثن الاغتراب الذي تحدث عنه هيجل حينما كان بصدد الحديث عن الأدوات والأنشطة المعرفية التي ابتكرها الانسان كي يسيطر عليها، وينطلق بواسطتها ـ من حدود الضرورة إلي رحاب الحرية ـ إلي أدوات وأنشطة مسيطرة عليه لا يتصور لحياته وجودا بدونها ولا معني. إن الاكتفاء بالترجمة فقط يحول الانسان إلي مستقبل سلبي خاضع منفعل متأثر بدلا من أن يكون مرسلا إيجابيا متفاعلا مؤثرا وفعالا. هكذا تكون الترجمة سلاحا ذا حدين: بأحد حديه نتعرف إلي الآخر ونوجد معه، وبالحد الآخر نفقد ذاتنا ونغترب عنها. وليس العيب ـ بطبيعة الحال ـ في الترجمة، لكنه عيب العقول التي تكتفي بها، وترضي بأن تصبح صورة حرفية منسوخة وممسوخة للآخر، لا صورة متميزة وموجودة معه في عالم لا يكف عن الحركة والإبداع.

 

المصدر:

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك