أخلاقيات الحوار

أخلاقيات الحوار 

القاضي عباس الحلبي 

إذا كان الشق المتصل بتنوع الأديان أمراً ميسراً لجهة رسم صورة واقع المشرق العربي، فإن الحديث عن أخلاقيات الحوار يعتبر مغامرة، بعد أن أصبحت عبارة الحوار ملتبسة ومفرغة من المضمون لكثرة ما تداولها السياسيون والعامة بشكل مفرط، حتى لكاد الحوار يفرغ من معناه.

ولتمكيننا من ولوج الموضوع، لا بد لنا من رسم صورة تنوع الأديان في مشرقنا العربي، تمهيداً للتعريف بالحوار والحديث عن أخلاقياته.

ليس حتمياً أن يكون الحوار بين الشرق والغرب، بل بين مشرقين هما الشرق العربي والشرق الروسي، على ما بينهما من تاريخ مشترك وقيم مشتركة، وعلى ما فيهما من تباعد وربما تنابذ، ولعل وجه الشبه بين هذين الشرقين هو تنوع الأديان، حيث أن الإسلام والمسيحية بجميع أشكالهما وألوانهما موجودان في هذه المناطق فضلاً عن اليهودية والمجموعات التي تخلت عن الاعتقادات الدينية للمصلحة المادية التاريخية والإلحاد.

وإذا كان التنوع الديني مصدر غنى، فهو في الوقت عينه مصدر قلق وخلاف، ويتيح في العديد من المناسبات للتدخلات الخارجية العبور عبر هذه الخلافات لتضرب النسيج الوطني تبعاً لتضارب المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويبدو أن وحدة  الشبه بين هاتين المنطقتين تتصل هي الأخرى بوجود التطرف الأصولي الذي يشكل سبباً للمآسي التي يعيشها العالمان العربي والإسلامي من جهة، وروسيا من جهة ثانية. فالتطرف الأصولي هو العدو الأساسي للحضارة، ولكل منتجات الثقافة، المادية منها والروحية، كما انه يسيء إلى الحضارة التي يدعي حمايتها والدفاع عن مصالحها فيستحيل حوار الحضارات، كما نشهد في أيامنا هذه صراعاً بين الأصوليات التي ترفض الآخر ولا ترى الحقيقة إلا في خطابها، وتخلط بين المقدّس والبشري بحيث يصعب وضع خط فاصل بين الاجتهادات الشخصية والأحكام الإلهية.

إن الحضارة الإسلامية ليست نتاج المسلمين وحدهم، بل ساهم فيها المسيحيون بقدر كبير، وكثير من الشعوب عاشت في ظل الدولة الإسلامية وساهمت فيها بتقديم جزء من تراثها، بحيث استحالت هذه الحضارة مزيجاً من حضارات سابقة ومتزامنة، وعليه فإن الحضارة الإسلامية لا تستطيع ادعاء احتكار تمثيل الشرق، طالما أن هناك في هذا الشرق تنوعاً اتنياً ودينياً وحضارياً، وروسيا تمثل جزءاً أساسياً من هذا الشرق وتمثل بحكم موقعها الجغرافي وتراثها التاريخي جزءاً مهماً من الغرب بحيث تشكل الرابط بين هذين العالمين، دون إغفال مدى تأثير التقاليد الشرقية الإسلامية على الحضارة الروسية وتكويناتها المتنوعة.

وإحدى أهم المفارقات القائمة في علاقة روسيا والعرب هي الأزمة الشيشانية التي جعلت جزءاً من العرب والمسلمين في موقع العداء لروسيا، بحيث يتشارك جزء من الشعب الروسي في الرؤية الأميركية لما بعد أحداث /11/ أيلول بأن العرب والمسلمين هم "إرهابيون".، ولا يمكن إغفال الحملة الإسرائيلية والأميركية ومدى تأثيرها على وسائل الإعلام الروسية وتوجيهها للرأي العام، يغذي ذلك، الأحداث التي يقوم بها نفر من المسلمين ضمن سياق الأحداث التي شهدتها أفغانستان والعراق وبعض فلسطين، بحيث غلبت صورة العربي المتعصب خلافاً لتاريخ هذه المنطقة في التسامح والانفتاح.

وإذا كان التنوع الديني سمة مشتركة بين المشرق العربي والروسي، فإن هذين العالمين محكومان بالحوار والتواصل والتعارف ضمن الأخلاقيات التي تحكم هذا الحوار كمنظومة للقيم، أبرزها العيش المشترك للمكونات التي تشكل نسيجها الوطني.

الحوار قيمة مطلقة بذاته ومكسب من مكتسبات الثقافة المعاصرة، وغايته هي معرفة الذات والآخر على قاعدة الاعتراف به وقبوله كما هو، واحترام حق الاختلاف كقيمة إنسانية وكحق أساسي.

الحوار دعوة إلى الصدق مع الذات ومع الآخر ولا يمكن اختصاره بحسب المعاشرة والتكذيب في التعاطي والقول الحسن، وحتى التسامح والسطحية في التعارف والتقارب بل هو "حوار يراعي مشاعر الأفراد والجماعات المختلفة".

ولعلنا هنا نبدي القلق حيال الفكرة السائدة في فكر الحركة الإسلامية المعاصرة وممارستها وتناقضها البيّن مع الموقف الإسلامي الأصيل الذي يرعى الحرية الدينية وحرية الاعتقاد وصولاً إلى الحق بتغيير المعتقد، وهذا ما يعوق بل يطيح بإمكان الحوار، أي حوار. إن قبول الحرية الإنسانية في المطلق يبدأ بقبول حرية الرأي وتغيير الرأي أو المعتقد.

ومن مبدأ الحرية تنبع ضرورة الاعتراف بالآخر كما هو، بصفته شخصاً جديراً بالحرية، مع ضرورة أن نميز بين الحقيقة البشرية والحقائق الأخرى، إن روح الحوار حتى تتكرس، تعيد النظر بنظام الأشياء وبالأحكام المسبقة وبالأفكار والتصورات الظنية. إن الحوار ضمن أخلاقيات الإنسانية هو النقيض المباشر للنبذ والإلغاء والاستقواء والغلبة.

ولعلنا نشير في هذا السياق إلى التمادي الحاصل سواء في عالمنا العربي أو في روسيا في تجاهل الثقافات والانتماءات المختلفة داخل عوالمنا، بما يؤسس للخطر ولتشكيل بؤر من التوتر تحمل في  طياتها احتمال الانفجارات.

لعلنا في هذا الشرق اكتسبنا خبرة في التفريق بين التدين والتطرف، وبين التأصيل الديني والأصولية بمفهومها القائم على الغلو وبين الدين، كعنصر مكوّن للكرامة الإنسانية واستغلاله في تدبير وتبرير التصرفات السياسية، على ما شهدناه من حركات "أصولية" تكاد تطيح بمكتسبات الحياة الواحدة، وهي باتت مرفوضة من أهل الإيمان الذي تدعي حمايته وتأصيله، ولعل البارز في تنامي النزعة الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، أنها تزيد من تغذية الأصولية الإسلامية في مشرقنا ومغربنا التي قامت أساساً لمواجهة الأصولية اليهودية وحولت منطقتنا من مساحة حرية وتسامح وعيش مشترك إلى بؤرة توتر وارتكاب مجازر وطغيان فئات على فئات.

فأي وضع سنبلغه بعد تنامي هذه النزعات التي تخدم كل واحدة مصلحة الأخرى؟..

فهل بتغليب طابع الإلغائية على مبدأ الاعتراف بالآخر؟..

وعن أي صراع ثقافات يتحدثون؟..

إن هو إلا صراع أصوليات سوف يدفع ثمنه المعتدلون من كل الفئات، كل ذلك باسم الدين؟..

إن أخطر ما في هذا "المنطق" السائد هو أن الأصولية المسيحية المتهودة المسيطرة تتحكم بأكبر قوة لم تتجمع عناصرها في التاريخ بيد دولة أخرى، وفي وقت ضعفت فيه المنظمات الدولية وتلاشت أمام هذه القوة، كما لم تعد أي دولة تشكل تحدياً أو منافساً متوازناً لها  مع اندثار الاتحاد السوفيتي.

تنبع خشيتنا من اثر انعكاس هذه الهجمة الجديدة على العلاقات الإسلامية المسيحية في عالمنا العربي، خصوصاً إزاء اندفاع بعض الشلل المتطرفة إسلامياً، وتحت حجة مواجهة هذه الهجمة، لاستخدام المسيحيين العرب أداة للتشفي والانتقام، هؤلاء المسيحيون العرب الذين لا رابط لهم بما يجري سوى سوء استخدام رموزهم الدينية في الغرب، لا بل إن المسيحيين العرب يعانون من الأوضاع الصعبة التي يعاني منها  مواطنوهم المسلمون، إن لم يكن بسبب انتمائهم العربي فبسبب كونهم كنائس مسيحية عربية عريقة، لا صلة لها بتلك الاجتهادات التلمودية المتطرفة. ولعل التنبه إلى هذه المسألة يقع أولاً على المسلمين الذين تقع عليهم أيضاً مسؤولية وعي خطورة هذه المرحلة وعدم الانجرار وراء التطرف الديني الأميركي في التعامل مع مواطنيهم الذين يشاركونهم الحياة الواحدة منذ مئات السنوات.

لفتني، بينما كنت اكتب هذه الورقة، ما قرأته في /11/ شباط الماضي من أن السفارة الروسية في لبنان أقامت حفلاً تكريمياً في ذكرى قنصل روسيا في القدس ألكسي كروغلوف، وهو كان القنصل العام الأخير للإمبراطورية الروسية، بالتنسيق مع الفعاليات المحلية الأرثوذكسية في الشويفات، حيث وضع السفير بولوتين أكاليل الورد على ضريح الراحل مما يعني انه دفن في تراب لبنان. كما لفتني في كلمة سعادة السفير أن "للقنصل الراحل أقارب في لبنان". أوردت هذا المثال لأشير إلى  تاريخية العلاقة بين روسيا والمشرق العربي عموماً، وعلاقة روسيا بلبنان خصوصاً.

عُني الروس واليونان بالشؤون الأرثوذكسية الإنطاكية ومارسوا دوراً كبيراً، ومثل الحضور الروسي حاجزاً بين الأرثوذكسية والمد البروتستانتي خصوصاً، والغربي عموماً، وكان الروس بدؤوا نشاطهم على الساحة الإنطاكية في أواخر القرن الثامن عشر بنهج سياسي، وطالبوا في معاهدتهم مع العثمانيين بمصالح للأرثوذكس في السلطنة العثمانية، وخصوصاً في جبل لبنان.

ساند الروس اللبنانيين الأرثوذكس في دورهم سياسياً، وهذا الحق امتد ليشمل الشؤون الكنسية، وللعبرة اذكر أن البطريرك الإنطاكي طلب من الجمعية الروسية الفلسطينية المجيء للعمل في أنطاكية، فبنيت أول مدرسة في بيروت عام 1887 عرفت بـ"المسكوبية" (نسبة إلى موسكو)، كتعزيز لقدرة الأرثوذكس، ثم أنشئت مدارس مماثلة في بحمدون وسوق الغرب والشويفات، وكان للأخيرة دور ريادي على الصعيدين التربوي والديني، إذ أمّنت المدرسة "المسكوبية" التعليم المجاني لعدد كبير من أبناء الطوائف المختلفة، ولاسيما الطائفة الدرزية. وكانت كنيسة السيدة في الشويفات محجاً لطلاب "المسكوبية" ومركزاً يأتونه مرة في الأسبوع للمشاركة في القداديس الاحتفالية، ولعل هذه العلاقات تعمقت في الفترة اللاحقة عن طريق برنامج المنح الذي استفاد منه المئات من أبناء الجبل، ويلعب دوراً مهماً في الدفاع عن هوية لبنان العربية، وقد أرسى هذه العلاقة ورفعها إلى مستوى التنسيق والتفعيل الزعيم المرحوم كمال جنبلاط.

إن التلاقي بين الحضارتين الروسية والعربية في ظرفهما التاريخي المشترك، لاسيما انطلاقاً من لبنان وإطارهما المشرقي الرحب، هو مساحة مميزة قل نظيرها بين حضارتين يجمع بينهما مثل هذا المشرق العريق، وربما هي هذه العراقة المتأصلة التي تدفع بالبعض إلى إذكاء الصراعات العرقية والعنصرية والمذهبية الباعثة لعدم التسامح والتعصب، تمهيداً للقضاء عليها.

إن دورنا في مضمار تجربة "روسيا والمشرق العربي" لا يكمن في مجابهة التطرف أياً كان مصدره فحسب، بل وأيضاً في مجابهة مخاطر الهيمنة الثقافية والمعلوماتية التي تهدد الخصائص المتنوعة للبلدان والشعوب، دون إنكار حاجتنا لاقتباس ما يصلح منها لتطوير مجتمعاتنا - وهو أمر ضروري لتقدمها - وللتواصل والتبادل مع المجتمعات الأخرى على السواء.

إن الجامع بين هذه المجابهة وتلك واحد، وهو يتوخى أساليب مجابهة مختلفة عن الأسلحة التي نواجه بها، فبدل العنف نتوخى مزيداً من الحوار الدائم والهادف، وعوضاً عن الجهل نلتمس مزيداً من المعرفة لنا وللأجيال من بعدنا.

ولعل في لقائنا اليوم شيئا من هذا التحدي.

 المصدر: http://www.skandarassad.com/temp/essay_1_24.htm

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك