مستقبل ثقافة الحوار

مستقبل ثقافة الحوار

 د. عبد الحميد الأنصاري

 

 

يلاحظ المراقب على امتداد السنوات السبع الماضية، في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر 2001، أن الدعوات للحوار هي المعلم الأبرز في المشهد العربي العام من منطلق أن ثقافة الحوار هي المخرج الطبيعي والوقائي من أمراض التطرف والعنف، وباعتبار أن غيابها هو الذي أتاح لثقافة الكراهية أن تنمو وتنتشر لكن بعد أن ازدحمت الساحة بالمؤتمرات الحوارية وفاضت الأرض العربية بمشاريع ومبادرات حوارية، هل تحققت ثقافة الحوار؟ واضح من هذا التساؤل أننا نقصد بثقافة الحوار شيئاً آخر غير الدعوات للحوار، فهناك حوارات كثيرة بين الشرق والغرب وأوروبا والعرب وأميركا والعالم الإسلامي، والحوار بين الأديان الثلاثة وبين المذاهب والطوائف الإسلامية. ولا يخلو بلد عربي وفي كل شهر من لقاء حواري داخلي أو خارجي، ومع ذلك أتصور أنه لا ثقافة للحوار متحققة حتى الآن.

فما المقصود بثقافة الحوار؟ وما مقوماتها، وما معوقاتها؟ وما مستقبلها؟ المقصود بثقافة الحوار: قبول الآخر بما هو عليه من اختلاف، واحترامُ التعددية مطلقاً: دينية أو مذهبية أو سياسية، وتفعيل قيم التسامح ونقد الذات والاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه. وأقصد بالثقافة هنا معناها العام المتمثل في المنظار الذي ينظر الإنسان من خلاله لذاته ولبقية البشر وللأشياء. وبطبيعة الحال فإن "الآخر" هو المغاير للذات، أياً كان سبب المغايرة.

دعونا نتساءل: لماذا الاختلاف؟ وهل هو نعمة أم نقمة؟ ثقافة المجتمع العربي السائدة مع ذم الاختلاف ووصم المختلفين بشتى التهم التي تخرجهم من الملة والوطن، باعتبار أن العقيدة الصحيحة واحدة أصحابها يدخلون الجنة وغيرهم محجوبون عنها، وأتصور أن كل ذلك سوء فهم، فالقرآن مع مشروعية الاختلاف بل وضرورته "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُّك، ولذلك خلقهم". يقول المفسرون: خلقهم ليختلفوا ويتنافسوا إعماراً للأرض وإثراء للحياة ورقياً للإنسان والمجتمعات، ومعنى ذلك أن القرآن جعل الاختلاف حقيقة كونية وإنسانية ثابتة ومستمرة إلى يوم القيامة، وهو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة "إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون".

ثقافة الحوار هي التي تعصمنا من الاختلاف المذموم وتجعله اختلافاً محموداً وتعلمنا إدارة الاختلاف بما يجعل تمايزاتنا، مصدر ثراء وبهجة!

ومن هنا فثقافة الحوار هي التي تعصمنا من الاختلاف المذموم وتجعله اختلافاً محموداً وتعلمنا فن إدارة الاختلاف بما يجعل من التمايزات بين البشر، مصدر ثراء وتنوع وبهجة، وأداة للتفاعل الحضاري الخلاق تتيح للشعوب "التعارف" وتبادل الخبرات والتجارب والمعارف بين بعضها "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا". ثقافة الحوار تفرض علينا خيار الحوار العقلاني وسيلة حضارية لإدارة الاختلاف؛ سواء بتفعيل حالة الحوار الداخلي بين القوى والأطياف المجتمعية دون إقصاء أو تخوين وتكفير لأحد، أو بتنشيط حالة الحوار الخارجي لإزالة سوء الفهم والظن وتغيير الصورة النمطية السائدة والتي كونها كل طرف تجاه الآخر، وهي في الحقيقة صورة ذهنية زائفة يمكن تصحيحها لتجنب حالة الصدام والمواجهة.

ما هي مقومات ثقافة الحوار؟ لعل أهمها أن ثقافة الكراهية التي تنشغل بعيوب الآخر وتضخمها بهدف الإثارة والحشد، لا تؤسس لثقافة حوار ناجح، ثقافة الحوار التي ننادي بها تنشغل بعيوبها أكثر من عيوب الآخر. لقد أمرنا بالعدل والإنصاف مع الخصم ولو كان عدواً "ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا". والتركيز على سلبيات الآخر وتجاهل إيجابياته، فضلاً عن أنه يجافي منطق العدل فإنه لا يبني حواراً مثمراً. والمقوم الآخر لثقافة الحوار "إحسان الظن" بالمخالف، وهذا يعني نبذ نظريات التآمر والتربص والغزو الفكري لأنها قائمة على أوهام سيئة لا أساس موضوعيا لها إلا الظن، وهو لا يغني من الحق شيئاً. والمقوم الثالث للحوار: تجنب ما فيه تشكيك في معتقد الآخر وهو للأسف منهج سائد بين الفرق والطوائف؛ سياسية أو دينية أو فكرية، وما أكثر إطلاق أحكام التخوين والتكفير. المقوم الرابع للحوار هو "حسن الإصغاء" للآخر، وقد بيّنت دراسة أن المجتمع العربي تغيب عنه ثقافة أو فن الإصغاء للآخر، فالكل يقاطع الكل والكل يتكلم ويصرخ في وقت واحد، وعندك بعض البرامج الحوارية في الفضائيات خير دليل. المقوم الرابع للحوار "الإيمان بأن الحوار ليس حكراً على مذهب" وأن الإسلام أكبر وأرحب من أن يختزل في مذهب أو تفسير أو اجتهاد واحد. أما أهم معوّق لانتشار ثقافة الحوار فهو رسوخ الثقافة الإقصائية والتمييزية في البنية المجتمعية تعليماً وتربية وخطاباً دينياً وإعلامياً وثقافياً وتشريعياً.

ونأتي للتساؤل الأخير: ما مدى نجاح ثقافة الحوار مستقبلاً في المجتمع العربي؟ إن ذلك مرهون بقدرتنا على تفكيك المنظومة الثقافية الموجّهة للفكر والسلوك المجتمعي وفق رؤية نقدية ومراجعة شاملة من أهم ركائزها:

1- الإيمان بأن الاختلاف حقيقة إنسانية وكونية يجب القبول بها.

2- إحياء البعد الإنساني المغيّب عن مجمل الخطابات المجتمعية: الدينية والتعليمية... إلخ.

3- تنقية المناهج والبيئة التعليمية من الإرث التعصبي والتمييزي.

4- تدريس المفاهيم الدينية، مثل "الجهاد" و"الأمر بالمعروف" و"التشبه بالكفار" و"الولاء والبراء"... وفق منظور إنساني تسامحي.

5- معالجة التشريعات الوطنية بتخليصها من سوءة التمييز ضد المرأة في مسألة نقل جنسيتها لزوجها وأولادها والتمييز ضد الأقليات الدينية.

6- التركيز على القواسم الثقافية والدينية المشتركة طبقاً لقاعدة "نتعاون فيما اتفقنا ونغدر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا".

7- الإقلاع عن عادة "لوم الآخر" وتفعيل ثقافة "نقد الذات" وثقافة "الاعتذار". لقد اعتذر 300 عالم مسيحي عن الحروب الصليبية والأضرار الناتجة على المسلمين من الحرب على الإرهاب طالبين الصفح من المسلمين، وذلك رداً على رسالة بعثها 138 عالما مسلما إلى الفاتيكان. فهل يملك هؤلاء شجاعة الاعتذار عما سببه الإرهاب باسم الجهاد على أوروبا وأميركا؟

8- تعزيز قيم المواطنة رابطاً أعلى فوق كل الروابط.

9- إصدار تشريعات تجيز مقاضاة دعاة "الكراهية" و"التحريض" على الجهاد في العراق، ودولنا مطالبة بتفعيل قرار مجلس الأمن (1624) بتجريم التحريض، والأردن الوحيدة التي أصدرت تشريعاً بذلك. وكذلك جرّمت "قمة مكة" في ديسمبر 2005 الفتاوى التحريضية على الإرهاب، دعماً أو تمويلاً أو تحريضاً أو تبريراً، فالمحرّض والمبرر للعنف شريكا المنفذ.

10- إبعاد دعاة الكراهية عن منابر الخطابة والتوجيه والتعليم.

11- تجريم استخدام منابر بيوت الله في غير أهدافها المشروعة مثل الدعاء للمجاهدين في العراق وأفغانستان والصومال... فهؤلاء إرهابيون وليسوا مجاهدين.

12- ضبط ومراقبة الفتاوى التي تدعو للكراهية أو تكفر أو تخوّن.

13- ترشيد السياسة الإعلامية للفضائيات التي تنساق وراء الغرائز الجماهيرية، فتقوم بشحنها ضد الآخر وتستضيف رموزاً متطرفة أو مبررة للعمل الإرهابي، وتجعلهم نجوماً.

14- تدريس مقرري (ثقافة الاختلاف) و(ثقافة الحوار) ضمن التعليم العام.

15- التوسع في سياسة إنشاء المراكز الحوارية.

16- تدريس (تاريخ الأديان المقارن) في كليات الشريعة والعلوم الإنسانية وفق منهجيات حديثة: سوسيولوجي، تاريخي، ألسني، فلسفي... لا كما يدرس حالياً للدفاع والانتصار لمذهب ضد الآخر.

17- تفكيك ثقافة البطل الزعيم، فهي أيضاً تقتل ثقافة الحوار.

18- إشاعة تربية الفرح والبهجة ومحبة الناس والحياة في نفوس أولادنا، بالانفتاح على الثقافات والفنون.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alitihad-12-12-2007

المصدر: http://www.siironline.org/alabwab/josoor/026.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك