الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه

الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه

د. أحمد بن سيف الدين تركستاني

الأستاذ المشارك بقسم الإعلام

كلية الدعوة والإعلام - جامعة الإمام

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيمكن للمرء أن يسمي هذا العصر بعصر تقارب الثقافات وتعايشها وتحاورها. وما سبق أن توقعه البروفيسور (مارشال ماكلوهان) قبل نحو أربعين عاماً تحقق إلى حد كبير، إذ إن الدفع التقني مضى قدماً إلى الأمام بأسرع مما كان يدور في خلد ذلك المنظر الإعلامي الرائد. من كان يتصور قبل عقود قليلة أن شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) يمكن أن تربط العالم بهذا الشكل سواء بنقل المعلومات فورياً، أو بالسماح بالحوار عبر المعمورة بحرية كاملة وتكاليف قليلة هي رمزية في معظم الأحيان؟! هذا فضلاً عما حدث من تقدم في وسائل الاتصال الأخرى، وتيسر السفر والانتقال والتبادل التجاري وغير ذلك من الوسائل التي توفر فرصاً لا تحصى للقاء بين الشعوب والتعرف على مختلف الثقافات والحضارات.

وقد جاء انحسار الحرب الباردة وانتهاء الاستقطاب السياسي الدولي القديم ليتيح فرصاً ثقافية وفكرية يمكن أن تقلل من آفات التعصب والتربص بالآخر والإصرار على غزوه فكرياً. لقد أصبح ممكناً أكثر من ذي قبل نشر الأفكار على نحو طبيعي دون أن تقف من ورائه - في الغالب - الأحزاب والدول، وإنما جماعات غير منظمة ولا ممولة بشكل جيد تعمل جهدها لنشر أفكارها بهدوء دون العوائق المعروفة تاريخياً، وهذا وضع أقرب إلى تحقيق التعايش الثقافي السلمي والتبادل الحضاري الذي يفتح الفرص أمام جميع الأطراف.

هذا الأمر يدعونا إلى كيفية الاستفادة من هذه الفرص المتاحة في الحوار وطرح الآراء بعيداً عن الإكراه والقسر. كما أنه يقودنا إلى مكانة الحوار مع الآخر في ديننا الإسلامي وتراثنا الطويل.

إن حوار المسلمين مع أصحاب الأديان الأخرى لم ينقطع قط، لأنه مسجل في القرآن الكريم ويتلوه المسلمون صباح مساء في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران / 64) وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران / 71) وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (المائدة / 68) وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} (الأنعام / 91) وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (البقرة / 144) وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة / 145) ، وغير ذلك من آي الذكر الحكيم التي تذكر مشاهد الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب وهي آيات تعد بالعشرات وتتخلل كثيراً من سور القرآن الكريم.

وفي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مواقف عديدة للحديث مع أهل الكتاب والحوار معهم بدءاً من قصة بحيرا الراهب الذي رأى خاتم النبوة على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى بالنبي صلى الله عليه وسلم خيراً، وورقة بن نوفل النصراني الذي قال حينما عرف بحديث الوحي: " لقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ". ويروي ابن هشام مؤرخ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في حواره - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود حول الروح: " قال ابن إسحاق: وحدثت عن ابن عباس أنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال أحبار يهود: يا محمد، أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إيانا تريد، أم قومك؟ قال: كلاً، قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شئ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه. قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ

اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل» (ابن هشام، ج 2 / 308) .

كما يروي ابن هشام كذلك قصة وفد من نصارى الحبشة جاؤوا وحاوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وآمنوا، ثم يروي قصة حوارهم بعد أن آمنوا مع من تصدى لردهم عن الإسلام. فيقول: " قال ابن إسحاق: ثم «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتها حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل ابن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلما تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال! ما نعلم ركباً أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل

أنفسنا خيراً» (ابن هشام، ج 2، ص 291 - 292) .

وهذه مجرد أمثلة من حشد من أخبار الحوار التي رواها ابن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب وغيرهم، ثم لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كسلمان الفارسي رضي الله عنه مع أهل الكتاب كما تذكر كتب الفرق والملل والنحل أمثلة عديدة لحواريات الشهرستاني وابن حزم وابن الوليد الباجي وابن تيمية وغيرهم مع الأحبار والرهبان وممثلي الفرق الدينية الأخرى.

تعريف الحوار الحوار في اللغة: تراجع الكلام، وفي لسان العرب: (وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام. والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة) . أما الجدل: فقال ابن فارس: (الجيم والدال واللام أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام) .

الحوار في الاصطلاح: هو المعنى اللغوي السابق نفسه، فهو إذاً: مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة أما الجدل: فهو: (إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامهما من الإشارة والدلالة) . ويفرق العلماء بين الحوار والجدل حيث إن الجدل مظنة التعصب والإصرار على نصرة الرأي بالحق وبالباطل والتعسف في إيراد الشبه والظنون حول الحق إذا برز من الاتجاه الآخر. وتوجد ألفاظ قريبة من الحوار والجدال منها: المحاجة والمناظرة والمناقشة والمباحثة.

مما سبق يتبين أن الحوار هو تبادل المعلومات والأفكار والآراء سواء أكانت تبادلاً رسمياً أم غير رسمي، مكتوباً أم شفوياً. وينعقد الحوار بمجرد التعرف على وجهات نظر الآخرين وتأملها وتقويمها والتعليق عليها. ومن هذا الفهم يمكن أن يطلق الحوار على تلاقح الثقافات بين بعضها الآخر وما يحصل من جراء ذلك من تلاقي المتحاورين وتصويب بعضهم لبعض وتأثير بعضهم في بعض.

تعريف الدين يعرف الدين على أنه الطاعة والانقياد وتأسيس منهج الحياة على مثل عليا يلتزم بها الإنسان. يقول محمد فريد وجدي في تعريف الدين إنه: " اسم لجميع ما يعبد به الله، والملة، ومثله الديانة. جمع الدين أديان وجمع الديانة ديانات " وفي الموسوعة العربية العالمية " الدين لغةً: الملك والحكم والتدبير من دانه ديناً أي ملكه وحكمه وساسه ودبره وقهره وحاسبه وجازاه وكافأه من ذلك " مالك يوم الدين " أي يوم الحساب والجزاء. وفي الحديث «الكيس من دان نفسه» أي حكمها وضبطها ". وفي الموسوعة العربية: " لفظة " دين " العربية تضم معاني مختلفة، ولكنها وثيقة الارتباط فيما بينها. فاللفظة مشتقة من فعل " دان " وأصله " دين " ومعناه أذل، استعبد، وحاسب. ومنه يوم " الدين " وهو يوم " الجزاء " أو " المكافأة ".

وفي اللغات الأوربية تستخدم كلمة (Religion) للتعبير عن الدين وهي كلمة ذات أصل لاتيني هو (Religio) بمعنى إعادة الجمع والقطف إشارة إلى التفكر والتعبد والتأمل والعمل تبعاً لما يستخرج من تلك التأملات.

وأما في الدين الإسلامي فيعني الدين الاستسلام لأمر الله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك واتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ هذا الاستسلام والاتباع عقيدة وشريعة ومنهاج حياة شاملاً حيث قال الله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} (النحل / 52) ، وقال تعالى {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران / 83) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (الزمر / 11) أي ممحضاً الاتباع لله تعالى في جميع أوامره الشاملة لجميع جوانب الحياة. فمن المنظور الإسلامي يعد الدين هو القيمة العليا، وعلى الأعراف والثقافات أن تتكيف معه، أو أن تحظى بإقراره لما هي عليه من المواضعات.

تعريف الثقافة الثقافة هي مجموع العقائد والقيم والقواعد التي يقبلها ويمتثل لها أفراد المجتمع. ذلك أن الثقافة هي قوة وسلطة موجهة لسلوك المجتمع، تحدد لأفراده تصوراتهم عن أنفسهم والعالم من حولهم وتحدد لهم ما يحبون ويكرهون ويرغبون فيه ويرغبون عنه كنوع الطعام الذي يأكلون، ونوع الملابس التي يرتدون، والطريقة التي يتكلمون بها، والألعاب الرياضية التي يمارسونها والأبطال التاريخيين الذين خلدوا في ضمائرهم، والرموز التي يتخذونها للإفصاح عن مكنونات أنفسهم ونحو ذلك.

من هذا التعريف يتبين أن الثقافة:

1- ذات نمو تراكمي على المدى الطويل: بمعنى أن الثقافة ليست علوماً أو معارف جاهزة يمكن للمجتمع أن يحصل عليها ويستوعبها ويتمثلها في زمن قصير، وإنما تتراكم عبر مراحل طويلة من الزمن.

2- تنتقل من جيل إلى جيل عبر التنشئة الاجتماعية: فثقافة المجتمع تنتقل إلى أفراده الجدد عبر التنشئة الاجتماعية، حيث يكتسب الأطفال خلال مراحل نموهم الذوق العام للمجتمع.

3- ذات طبيعة جماعية: أي أنها ليست صفة خاصة للفرد وإنما للجماعة، حيث يشترك فيها الفرد مع بقية أفراد مجتمعه وتمثل الرابطة التي تربط جميع أفراده.

وهكذا تميز ثقافة شعب ما نمط حياته عن أنماط الشعوب الأخرى ولكنها لا تعزله ولا تقوده بالضرورة إلى حالة خصام مع الثقافات الأخرى. وقد يوجد في داخل كل ثقافة من يدعو إلى العزلة والانقطاع عن الآخرين أو أسوأ من ذلك إلى التعالي وتفخيم الذات واحتقار الآخرين. وقد يصل هذا إلى مرحلة العداء للآخرين وتشكيل خطر على وجودهم. ولذلك كان لا بد للحوار حتى يخفف من حدة هذا العداء ويجعل أصحاب الثقافات يتعايشون ويفهم كل منهم الآخر.

هدف الحوار إن المقصود من الحوار ليس المجابهة والإفحام إذ إن ذلك هو من باب المناظرة ومحاولة الظهور على الخصم وتعجيزه عن الرد. وإنما المقصود أن يحصل كل ما يأتي أو بعضه:

1- معرفة أطروحات الطرف الآخر ووجهات نظره وحججه في القضايا التي هي موضوع الحوار.

2- تعريف الطرف الآخر بما يغيب عنه أو يلتبس عليه من المعلومات ووجهات النظر والبراهين في القضايا التي هي موضوع الحوار.

3- العمل على إقناع الطرف الآخر ليتخلص من وجهات نظره ومواقفه كلياً أو جزئياً في القضايا التي هي موضوع الحوار ليتقبلها ويعمل على تبنيها بعد اقتناعه بها سواء بعد الحوار مباشرة أو تدريجياً على المدى الطويل.

4- العمل على استكشاف ما لدى الطرف الآخر من حقائق وإيجابيات والاعتراف بها وقبولها والاستفادة منها طالما (أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها) .

5- العمل على استكشاف ما عند المحاور من معلومات غير صحيحة أو دقيقة ومما في وجهات نظره أو مواقفه من ثغرات وأخطاء والعمل على تداركها وإصلاحها.

6- تشييد جسر للتواصل السلمي البناء وسد الطريق أمام المواجهات والمصادمات مما يبدد الجهود.

7- أن الحوار يساعد على التوقد الذهني وهي صفة ملازمة لأجواء التحدي الفكري والحوار المتبادل.

8- قد يؤدي الحوار إلى إيضاح الحقيقة بالإضافة إليها، فيعطي كل فرد ما يعرف من أجزاء الحقيقة حتى يمكن تركيبها كاملة وحتى صاحب الحق فإن أجزاء من الحق تبرز له بصورة أوضح أثناء توقده الذهني في لحظات الحوار.

9- إحباط حجج المتطرفين والمتعدين فكثير من حوارات كبار علماء الإسلام مع الفرق الضالة كشفت زيف أفكارهم وذلك ما سجلته كتب تراثية خالدة كالملل والنحل للشهرستاني والفصل بين الملل والأهواء والنحل لابن رشد والرد على الجهمية لابن تيمية والصواعق المرسلة لابن القيم والمسألة القاديانية للمودودي وغيرها.

 

القرآن الكريم وحوار الثقافات بين القرآن الكريم في آيات عديدة أن تعدد الثقافات الإنسانية واختلاف الناس في الدين أمر من مقاصد الخلق. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} . فالاختلاف أمر قدري مثلما هو أمر مقصود لتقوم الحجة على المخالف لكن ليس للاقتتال والنزاع إذ ليس الكفر في ذاته مبيحاً لقتل الكافر ولإزهاق روحه. أما التنوع في الأعراق والأجناس والألوان واللغات فإنما يقصد به التعارف والتقارب، لا التنافر والتفرق. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فالقصد من التعدد والتنوع الثقافي في أدنى مراحله هو التلاقي والتعارف وتبادل الأفكار والخبرات التي تطورها أنماط الحياة المختلفة. وذلك مما يزيد من عمق مكونات كل ثقافة بما تولده من الثقافات الأخرى. وبتواصل الاحتكاك السلمي بين الثقافات يتعلم أفراد البشر أن يقللوا من تحيزاتهم، وأن يلطفوا من مشاعرهم السلبية تجاه أصحاب الثقافات الأخرى، فيزيد التسامح بين البشر، وتصحح تلك الأفكار الخاطئة تجاه

الآخرين، وهذا أمر يعرفه الإنسان حتى من تجاربه الخاصة مع الأفراد، فما أكثر ما يحمل الواحد منا فكرة سلبية عن فرد آخر يكون الدافع الوحيد لها هو عدم الحوار مع هذا الآخر وعدم معرفته معرفة قريبة وثيقة أكيدة، ولكن سرعان ما تنجلي غشاوة ذلك التحيز بمجرد أن يتم الحوار والتعارف الوثيق معه.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد تنوع تجارب البشر وعدم احتقار الآخرين لمجرد الاختلاف عنهم، وقد صارت الثقافة الإسلامية غنية بفعل الاحتكاك بالشعوب الأخرى وتبادل الأفكار معها وأخذ ما عندها من الحق حتى ولو جاء ذلك الحق من عند من يعادون الإسلام. ولقد قبلت الشعوب المسلمة عقيدة الإسلام واحتفظت بعاداتها وتقاليدها الخاصة التي لا تخالف الإسلام وإن كانت لا تتفق مع عادات شعوب إسلامية أخرى ولا تقاليدها. وتلك هي رحابة الإسلام وسماحته التي ضمت الجميع. ولعل خير ما يمكن أن يستخلص من ذلك هو أن التنوع في الحوار هو أداة خصوبة وإغناء، مثلما عبر عن ذلك المفكر الاجتماعي سكوت بيك حيث قال: " إن الرسالة الإجمالية للتواصل والحوار الإنساني تتلخص (أو ينبغي أن تتلخص) في البلوغ إلى التصالح. . . إن التواصل والحوار الكفء يستطيع أن يصل في النهاية إلى تحقيق إزالة الجدران والحواجز التي تؤدي إلى سوء التفاهم الذي يبعد البشر عن بعضهم الآخر ".

لقد دعا القرآن الكريم إلى الحوار مع الآخرين حواراً رفيعاً مهذباً كما قال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وكما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ، وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، فمجرد الغلظة في الحوار واستخدام المفردات الجافة الفظة غير مرغوب ناهيك عن سباب الناس وإيذائهم وتحقيرهم وازدرائهم وغير ذلك من الممارسات الناجمة أساساً عن عدم الاعتراف بالآخرين وعدم الإيمان بجدوى الحوار نفسه، وهؤلاء لا ينبغي لهم أن يتصدوا للحوار أو لا يمكن أن يحققوا منه أي نتائج إيجابية.

شبهات حول جدوى الحوار هناك بعض الشبهات حول جدوى الحوار وفائدته خاصة في حوار الأديان، وتدور هذه الشبهات حول بعض الحجج التي تحتاج منا إلى بيانها وكيفية الرد عليها بما يثبت أهمية مبدأ الحوار دون تطبيقه في كل حين ومع كل أحد، ومن هذه الحجج:

1- أن الحوار قد يؤدي إلى التشويش والاضطراب وذلك بما ينتج عنه من التأثير الفكري غير المحمود، ففي حالة الحوار بين المسلمين والنصارى مثلاً: يخشى بعض المسلمين من أن يؤدي الخطاب النصراني إلى إدخال بعض الشبهات والخلط الفكري في أذهان المسلمين فتضطرب بعض مفاهيمهم من جراء ذلك الخلط. وهذا الكلام صحيح إذا كان المحاور قليل البضاعة في موضوع الحوار، أو كان ضعيف الحجة غير قادر على البيان والتوضيح. أما إذا كان مؤهلاً للحوار محصناً بالعلم والحجة وحسن الالتزام بدينه فإن الحوار يزيده صلابة وقوة وكشفاً لزيف الطرف الآخر ورد شبهاته وتفنيدها.

2- أن الحوار قد يؤدي إلى مزيد من التعصب والتصلب عند طرفي الحوار. ففي حالة حوار الأديان يكون الحوار عادة بين منطلقات ومفاهيم كلية للوجود والألوهية والشرائع، وهذه مفاهيم من القوة والتجذر بحيث لا يؤثر فيها حوار، وتكون النتيجة الحتمية هي بقاء ما كان على ما كان أو على أشد مما كان عليه. وللرد على هذا، يكفي ذكر الحقيقة الواضحة كما كان الحال في أكثر حوارات القرآن الكريم، حيث حاور رسل الله عليهم الصلاة والسلام أقوامهم حول إثبات ربوبية الله عز وجل وألوهيته وإثبات البعث والجزاء، ولا ضير في حوار يتأسس على هذه القواعد الكبرى لتنطلق منها إلى ما هو دونها. وأما القول بأن كل أصحاب موقف سيتصلبون عليه، فيمكن القول بأنه نجم عن بعض حوارات الأديان تحولات كبرى في العقيدة كسب منها الإسلام قديماً وحديثاً كثيراً، إذ هو أكثر الأديان كسباً من هذا الباب إلى جانب ما يحققه من بيان موقفه من التوضيح لعقائده فيدفع عنها اللبس ويصد عنها العداوة أو يخففها.

3- أن الحوار يقود إلى الفتنة والصدام: وتقوم هذه الحجة على قاعدة سد الذرائع وإقامة الحواجز، ولكنه قد يبالغ فيها حتى تقيم الحواجز مع الآخرين وتبقى الحقيقة الإسلامية مغيبة. إن الحوار غير المنضبط بشروط الحوار وآدابه قد يتحول إلى فتنة وصدام، ولكن ليس كل حوار مرشحاً لذلك المآل بالتأكيد، ما دام هناك أخذ بشروط الحوار الصحيح الخالي من الجدل العقيم أو غير الملتزم بآداب الحوار كما سيأتي بيانه لاحقاً.

4- أن الحوار يعطي الفرصة لتلميع الآراء الباطلة: في هذا القول تعميم لا يصح في كل حال، فإن الغالب أن الآراء الباطلة إنما تكتسب بريقها إذا انفردت بالأجواء والأضواء، بعيداً عن الاعتراض عليها والتصدي لها بالحوار. إن الحوار يعطي الفرصة لتوهين الآراء الباطلة وخفض درجة توهجها وبريقها، وذلك بما يكشفه من الحق المناقض لها ومن الباطل المنطوي فيها.

5- أن الحوار قد يؤدي إلى المساومة على المبادئ والتلاعب بها ومزجها ببعضها الآخر للوصول إلى مواقف وسطى للتراضي أو القول بنسبية الحقيقة وأن الحقائق والآراء مهما اختلفت وتضاربت فهي كلها على صواب. والحق أن هذا المحذور وارد متى غاب عن المحاور من الطرف الإسلامي وضوح مبدئه وعدالة قضيته وإلا كان محامياً فاشلاً. إن الحرص على الحوار من أصحابه الأكفاء هو صمام الأمان ضد الوقوع في هذه الهوة السحيقة، وعلى المحاور معرفة أن المساومة على المبادئ وأن مزج الإسلام مع غيره في مبادئه وعقائده ليس هدفاً من أهداف الحوار وذلك حتى لا يجعله المحاور هدفاً وهمياً للإنجاز.

6- أن الحوار قد يوقع أصحاب الحق في المزالق والإحراجات: وذلك إذا ما لم يؤدوا دورهم جيداً، وبذلك ينتصر أصحاب الرأي الباطل بسبب حسن إعدادهم لأنفسهم واستخدامهم الأفضل للمنطق. وفي ذلك ما فيه من تشكيك لأصحاب الحق في حقهم. وهذه النتيجة واردة الحدوث. ولكن السبب في ورودها هو الضعف العلمي للمحاورين أو تهاونهم في الإعداد وليس السبب في الحوار نفسه.

إن بعض من يرددون تلك الحجج ينطلقون من الحرص على الإسلام وثقافته وصفاء منهجه، وهذا أمر محمود، وربما ساعد في تقوية هذه الحجج ما رافق بعض جولات الحوار من الفشل في تحقيق نتائج ملموسة نظراً لعدم جدية المحاور من الطرف الآخر. وقد يكون السبب هو أن من تصدوا للحوار قد خاضوه على غير علم أو استعداد أو على غير انضباط بشروط الحوار وآدابه وبدلاً من أن يعيدوا النظر في أنفسهم لجؤوا إلى تخطئة مبدأ الحوار بدلاً من ذلك.

صدام الحضارات عقد بعض المنظرين الغربيين نظريات حول عقم حوار الحضارات والثقافات وانتهوا إلى أن الحوار الإيجابي بين الحضارات قد انتهى بتطورها إلى شكل الحضارة الغربية الليبرالية الحاضرة ولم يبق أي أمل أو فائدة لحوار، وهذا ما أورده (فرانسيس فوكو ياما) صاحب نظرية (نهاية التاريخ) في صورتها الحالية. وإذا كان (فوكو ياما) قد انتهى إلى أن التطور في خط التاريخ البشري قد تكلل بانتصار الليبرالية واندحار الاشتراكية، فإن (صموئيل هنتنجتون) صاحب نظرية (صراع الحضارات) يزعم أن أعنف معارك التاريخ هي التي لم تقع بعد. وأنها لن تكون على صعيد الدول القومية ولا على صعيد المحاور الفكرية، وإنما ستتطور إلى مستوى أعلى هو مستوى الحضارات البشرية التي هي أوسع كيان ثقافي ينتمي إليه الإنسان.

إن وحدة التحليل عنده هي الحضارة. ومع أنه يعترف بأن العامل الحضاري عامل شديد التعقيد، إلا أنه يزعم مع ذلك أنه قد سيطر عليه - ولكن مجرد الاطلاع العابر على تعريفه للحضارة يؤكد أنه لم يصل إلى تعريف دقيق الحد لذلك المفهوم.

الحضارة عند هنتنجتون " هوية ثقافية ". هذا هو تعريفه لها، وعندما يدرك أنه تعريف هلامي، وبعيد جداً عن أن يكون تعريفاً جامعاً مانعاً - كما يقول " المناطقة " فإنه ينعطف نحو مزيد من الشرح والإيضاح. فيحدثنا عن أن الهوية الثقافية تترادف وتندرج في الانتماءات الأكبر: " إن ثقافة قرية من قرى الجنوب الإيطالي، قد تختلف عن ثقافة قرية في الشمال الإيطالي، ولكن كلتا القريتين تشتركان لا محالة في خصائص الثقافة القومية الإيطالية الجامعة، وهذه الثقافة الجامعة هي التي تميز كل القرى الإيطالية عن القرى الألمانية مثلا. ولكن ذلك لا يمنع أن كل القرى الأوربية تجتمع تحت ظل ثقافة أوسع هي ما يسمى بالثقافة الأوربية وهي الثقافة التي تميز كل القرى الأوربية عن القرى العربية أو الآسيوية". هذا المستوى الثقافي الأخير هو ما يعنيه هنتنجتون بالحضارة، وهو تعريف غير محكم، لأن صاحبه سرعان ما يدخل في التخبط وينقض ما سبق أن أبرمه.

إن (هنتنجتون) ليس مؤرخاً راسخاً (كتوينبي) مثلاً، ولا عالم اجتماع ضليع كماكس فيبر، ولذلك فهو ينزلق في الأخطاء المتوالية. إنه يقول مثلا في تأكيده لتعريفه ذاك للحضارة: " إن العرب والصينيين والغربيين ليسوا جزءاً من أي كيان حضاري أوسع ". وهذا خطأ محض، لأن العرب جزء من الحضارة الإسلامية التي هي الوحدة الكبرى، ولا يوجد شيء يسمى بالحضارة العربية بمعزل عن الحضارة الإسلامية، ولا شيء يسمى بالحضارة الإسلامية بمعزل عن الثقافة العربية. إن خطأ هنتنجتون هنا هو في مرادفته ما بين العرب والإسلام، وعدم إدراكه أن العرب لا يمثلون أكثر من خمس مسلمي العالم الذين تمتد رقعتهم الجغرافية حتى أوربا والصين، وهو الأمر الذي يلغي مقولة هنتنجتون الثانية بأن الغربيين أو الصينيين لا يمكن أن يكونوا جزءاً من أي كيان حضاري أوسع.

ويرى هنتنجتون أن عالمنا المعاصر يتشكل من سبع حضارات أو ثمان هي الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية، ويمكن إضافة الحضارة الإفريقية إذا ما تساهلنا في التصنيف. هذه الحضارات بالتعريف السابق لها هي أشد تجذراً في الأرض وفي الحياة الإنسانية من المعتقدات الطارئة التي تظهر وتعمر حيناً من الدهر ثم تختفي. أما هذه الحضارات المذكورة فهي ذات ثوابت عميقة، عمادها اللغة والثقافة والتراث والدين، وتمتلك نظريات متباينة نحو علاقات البشر بالله وعلاقات البشر ببعضهم الآخر وعلاقات الحاكم بالمحكوم وعلاقات الأسرة فيما بين أفرادها إلى آخر هذه العلاقات.

وبناءً على مفهوم هنتنجتون فإن هذا التباين في الأفكار والآراء ليس مآله إلى الاضمحلال أو الزوال بحال مهما تكثفت وسائل الالتقاء والاتصال بين البشر، فهذه اللقاءات والاتصالات ستؤدي إلى عكس ذلك تماماً، إذ إنها ستؤدي إلى تنامي إحساس كل حضارة بصفاتها المتميزة التي تمنع ذوبان أهلها في الحضارات الأخرى. وأبلغ مثال على ذلك هو ما تثيره هجرة الجزائريين المسلمين إلى فرنسا من تيقظ للحس الحضاري الفرنسي واشتعال عدائه للمسلمين. إن مثالاً كهذا - وهو ليس مثالاً فريداً في بابه - يحدونا لأن نقرر " أن التواصل والتفاعل بين الشعوب ذات الحضارات المتباينة يؤدي إلى اشتعال الوعي الحضاري لدى شعب ما ويزيد حدة الخلافات والعداوات الممتدة في عمق التاريخ ". وهكذا يستخدم هنتنجتون الحجة التي كان يخشى أن تستخدم ضد نظريته، يستخدمها لصالح نظريته المزعومة، فهو لا يوافق على أن التواصل والتحاور الحضاري سيكون إيجابي العائد، وإنما سيؤدي إلى التناحر والتناوش والتصارع وحسب.

وإضافة إلى التواصل والتفاعل يأتي عامل التحديث الاقتصادي الذي يعتقد هنتنجتون بأنه سيزيد من حدة التمايز الحضاري بين الشعوب. إن التحديث في نظر هنتنجتون سيدمر المجالات الثقافية الأصغر، كالثقافة المحلية، والقومية، ويحرر الشعوب من أسرها، وحينها لن تجد تلك الشعوب سوى البوتقة الحضارية الأكبر التي تعد الدين أعظم عناصرها التكوينية. ولعل هذا هو سر انتشار الأديان الآن، وسر تصاعد الحركات الدينية الأصولية التي " يمكن العثور عليها في النصرانية واليهودية والبوذية بقدر ما يمكن العثور عليها في الإسلام "! وفي معظم هذه الحركات لا يخفى أن أكثر المنجذبين إليها هم الشباب بسبب عمليات التحديث ومن خريجي الجامعات، وبالذات في مساقات العلوم البحتة والتقنية. وهؤلاء هم الذين غدوا يكافحون مظاهر العلمانية في مجتمعاتهم، وقد صدق عليهم قول جورج ويجل: " إن نزع العلمانية عن العالم يمثل إحدى الحقائق الاجتماعية المسيطرة على الهزيع الأخير من القرن العشرين "!

إن النخب المتعلمة تعليماً جيداً في العالم غير الغربي غدت أكثر انخلاعاً عن الثقافة الغربية من سائر تلك الشعوب التي أنجبتها: " ففيما مضى كانت نخب المجتمعات غير الغربية - تلك النخب التي تخرجت في أكسفورد والسوربون وسانت هيرست (ببريطانيا) - تجنح نحو صياغة مجتمعاتها وفق المعطيات والمعايير الفكرية والثقافية الغربية، وكانت تلك النخب تتمتع بالسلطة الكاملة في مجتمعاتها، وتمتلك القوة والموارد التي تساعدها في تحقيق رغباتها في تغريب مجتمعاتها في وقت كانت غالبية السكان في تلك المجتمعات غارقة في ثقافاتها التقليدية المحلية. الآن انعكس الوضع، فإن النخب أصبحت أكثر إحساساً بالهوية الثقافية لمجتمعاتها، بينما أصبح المواطنون العاديون في تلك المجتمعات أكثر تعلقاً بالقيم وأنماط السلوك الغربية "، ولا شك أن دور النخب في صياغة المجتمعات أكبر من دور العامة في هذا العصر، وبالتالي فستتأكد الهوية الحضارية للمجتمعات غير الغربية بصورة أكبر، وسيزداد تمايزها، بل صراعها مع الحضارة الغربية.

إن صراع الحضارات هو ضربة لازب في تقدير هنتنجتون لهذا الشأن الخطير. إنه يضع الأمر بهذه السهولة المثيرة: " أما بالنسبة لصراع الحضارات فإن السؤال هو: من أنت؟ وهذا سؤال لا بد من أن تجيب عليه. وكما تدرك بداهة فإن إعطاءك إجابة خاطئة عن هذا السؤال في البوسنة أو القوقاز أو السودان يعني أن يسدد الرصاص إلى رأسك فوراً. وهكذا تصاغ النظرية بلغة الروايات. وواضح ما في اللغة التي صيغت بها هذه الأمثلة من التحيز والكراهية العارمة للعالم الإسلامي. والمعنى السالف واضح جداً، فإن اعتراف الإنسان الغربي بأصول هويته في أي أرض إسلامية قد يقود إلى ممارسة العنف ضده، والغريب أن هنتنجتون لا يختار الأمثلة إلا من هذه الأوطان الإسلامية التي تضطهد أغلبياتها بوساطة الأقليات المدعومة من الحضارة الغربية. إن هنتنجتون يسير في ذلك مع تحريض وسائل الإعلام الغربية العشوائي للإنسان الغربي غير المثقف ضد ما يسمى بالخطر الإسلامي، وهو مجرد " وهم " تريد هذه الوسائل بإلحاحها عليه أن تلصقه في ذاكرة الإنسان الغربي الذي يمكن أن يبقي مفزوعاً بذلك الخطر " الوهمي "!

إن هذا الصدام التلقائي " الحتمي " بين السائل والمجيب، يتطور على مستويين آخرين " فعلى المستوى الأول ستتصادم مصالح المجموعات التي تحتشد على خطوط التوتر الفاصلة بين الحضارات من أجل الاستحواذ على الأرض وإخضاع المنافسين، وعلى المستوى الثاني ستتصادم الدول ذات الحضارات المختلفة من أجل تحقيق سيطرتها الاقتصادية والعسكرية، والتحكم في المؤسسات الدولية ونشر قيمها السياسية والدينية على مستوى النظام العالمي ". وهنا تنال مسألة الحدود الفاصلة بين الحضارات جل عناية هنتنجتون، وهو يسميها " حدود التوتر " حيث يبرز معالم الحدود الفاصلة في أوربا بين النصرانية الغربية من جهة والنصرانية الأرثوذكسية من جهة أخرى، ثم يعود ليركز على التهاب حدود التوتر بين الحضارتين الغربية والإسلامية، ويستعرض تاريخ الحروب الصليبية بحملاتها المتتالية وفصول الصراع الأوربي مع الدولة العثمانية وموجة الاستعمار الغربي التي توجهت إلى العالم الإسلامي، ثم الحروب العربية الإسرائيلية " حدثت لأن إسرائيل ممثلة لروح ومضامين الحضارة الغربية كما يقول "، ثم قيام من سماهم ب " الإرهابيين العرب والمسلمين "

بقصف الطائرات والمنشآت الغربية وخطف الرهائن. وهنا نسي هنتنجتون أن يقول ولو كلمة عابرة عن الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي الذي ما زال ينصب على الفلسطينيين منذ أكثر من نصف قرن!

لقد ساق هنتنجتون نظريته في صراع الحضارات على أنه صراع يحدث بين كل الحضارات، ولكن طاب له فقط أن يركز على صراع الحضارتين الإسلامية والغربية، وبالطبع فإنه لم ينس أن يضع المسلمين في مقام المعتدي المبادر بالصدام، بل لم ينس أن يتوسل لتأكيد ذلك بشهادة مزورة من أحد الكتاب المسلمين، وهو الكاتب الهندي م. ج. أكبر حيث يقول: " إن الحرب ستبدأ من جانب العالم الإسلامي، لأنه سيصارع من أجل تشييد نظام عالمي جديد، وإن كل دول العالم الإسلامي من المغرب إلى باكستان، ستشارك في ذلك الصراع "، ثم أردف ذلك بشهادة أخرى من أستاذه القديم في هارفارد المؤرخ اليهودي البروفيسور برنارد لويس: " الذي جعل همه قبل أوانه أن يثبت أن هنالك تزويراً طرأ على المصاحف القرآنية التي يعتمد عليها المسلمون الآن، وأن هناك مخطوطات مصاحف تثبت وجود هذا التزوير! ". وقد استشهد بكلام لويس في شهاداته عن صراع الحضارات بقوله: " إن العالم سيشهد مزاجاً فائراً سيزيد هيجان الحكومات ويؤدي إلى تضارب خططها وسياساتها، وسيؤدي ذلك كله إلى نتيجة واحدة مؤكدة، هي صراع الحضارات ليس غير. وسيقوم المسلمون وهم خصومنا القدامى برد فعل غير عقلاني

ضد تراثنا اليهودي - النصراني المشترك وثقافتنا العلمانية، وعلى انتشار تراثنا وثقافتنا عبر العالم ".

هذه الآراء العدوانية الشاطحة الرافضة لحوار الحضارات حري بها أن تجد الدراسة والعناية من قبل المفكرين والدعاة المسلمين، فالحوار حتى مع عدم تحقق جميع شروطه وآدابه من قبل الطرف الآخر أفضل من الانقطاع عنه والانصراف إلى موقف الصدام، وكما يقول خالد بن عبد الله القاسم في كتابه " الحوار مع أهل الكتاب: أسسه ومناهجه في الكتاب والسنة: " أما الامتناع عن الحوار مع الظالمين واتخاذه منهجاً مطرداً فهذا يخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حاور عليه الصلاة والسلام اليهود في المدينة وكانوا يكتمون ما أنزل الله، ويلبسون الحق بالباطل. كما حاور نصارى نجران ودعاهم إلى المباهلة فرفضوا " وهكذا يتضح حرص الإسلام على الحوار لكونه أداةً من أدوات بيان الحق، وواجب المسلمين هو أن يأخذوا به سبيلاً للبيان، وأن يعملوا على تفعيل تلك الأداة إبلاغاً للدين وتخفيفاً لحدة الصراع بين البشر ما دام هناك سبيل لإبلاغ الدعوة وإيصالها بطريق الحوار وتبادل الأفكار والآراء.

قضايا لا يجوز الحوار فيها إذا اقتنعنا بمشروعية الحوار وفائدته الظاهرة، فينبغي أن ننظر إلى أنه مشروع بحدوده وجدواه، فالحوار ليس مشروعاً مشروعية مطلقة لكي يتناول كل شأن، فهو ليس من قبيل الترف الفكري ولا الفضول وحب الاستطلاع وتشقيق الجدل في المسائل. هنالك قضايا محددة ليس من الجائز الخوض فيها بحوار أو جدال إما بسبب محدودية العقل البشري إزاءها أو بسبب عدم ترتب أي ثمرة علمية أو عملية من ورائها، أو لأنها محسومة أساساً بنص شرعي أو إجماع.

إن الخوض في البحث في ذات الله تعالى مثلاً منهي عنه شرعاً، فهذا ليس مجال بحث ولا جدال ولا حوار، لأن القول في ذلك الشأن الجليل هو من قبيل الخوض بلا علم ذلك أن العلم شرط أولي لخوض الحوار وهو شرط معدوم في هذه الحالة. وهو هنا من جملة ما نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وهنالك مسائل كثيرة لا يترتب حكم عملي عليها مثل أكثر المسائل التي خاض فيها من يسمون بفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن رشد وابن سينا وكثير من الصوفية كابن عربي وابن سبعين والسهروردي وغيرهم. ومن المسائل التي ينهى عن الجدال فيها كل ما حكم الله ورسوله فيه بنص محكم جلي أو ما جاء فيه إجماع لعلماء الإسلام. إن كل ما يحرم الحديث فيه شرعاً لا يجوز الحوار فيه مطلقاً كما لا يجوز الجدال في أمره، وهكذا فالأحكام القطعية في الدين ليست مناطاً للحوار أو الجدال من أجل إعادة النظر فيها أو تقويمها أو تغييرها.

وهنالك قضايا كثيرة لا ينبغي فيها الحوار لأنها تقود إلى مزيد من الشقاق والفتنة، كالجدال في شأن الصحابة رضي الله عنهم أو تفضيل مواقف بعضهم على بعض في أيام الفتن، أو الجدال على أسس سياسية أو قومية متعصبة أو ما نحا ذلك النحو من أنواع الخلاف الذي يثير القلق والبلبلة في المجتمع.

مؤهلات المحاور المسلم إن المحاور المسلم يمكن أن يخوض حواره مع جبهات شتى، سواء مع مسلمين من أمثاله، أو مع مسلمين مبتدعين، أو مغالين، أو مفرطين، أو منهزمين فكرياً أمام الأطروحات الغربية ومائلين إلى تفسير الدين بما يساير تلك الأطروحات، أو قد يحاور المسلم بعضاً من أهل الكتاب أو من لا دين لهم. وتتباين دوافع من يقابلهم المسلم في الحوار، فمنهم من يستصحب نية حسنة في طلب الحق والاستعداد لقبوله متى ما اتضح، ومنهم من يتخذ الحوار سبيلاً لعرض آرائه ونشرها مع الإصرار على عدم قبول الحق إذا جاء من طرف آخر حتى ولو اتضح جلياً.

وعلى المحاور المسلم أن يتعرف على خلفيات من يحاورهم جيداً حتى يتمكن من تسخير معارفه ومواهبه على النحو الكفيل بالتعامل مع كل طائفة من هؤلاء بما يليق. وفيما يأتي عرض لبعض المؤهلات الضرورية للمحاور المسلم:

1- العلم بالأدلة الشرعية من القرآن والسنة: فعلى من يجادل عن دين الله تعالى أن يلم بأدلته الشرعية من الكتاب والسنة وفهمهما كما ورد عن السلف رضوان الله عليهم، وهذا يقتضي العلم بالتفسير بأنواعه، والدراية بالحديث النبوي الشريف وعلوم الشريعة الأساس. وإذا كانت الإحاطة التامة بكل ذلك متعذرة، فالواجب ألا يحاور المرء ولا يجادل إلا فيما يعرف معرفة أكيدة من أمور الشرع وعلوم الدين. إن من تمام فقه الفقيه وعلم العالم أن يعرف قدر نفسه، فلا يتعداه، وأن يحقق

2- العلم بالقواعد الأصولية ومقاصد الشريعة: وهذا جانب مهم من العلم لأن معرفة الأدلة تحتاج إلى المعرفة بتلك القواعد حتى يتم تخريج الأحكام على أساس أصولي صحيح، وإلا اختل الميزان وجرى التلاعب بالأحكام. ومقاصد الشريعة عليها أيضاً التعويل في استخراج كثير من الأحكام. لقد كان علماء السلف أشد الناس تحرياً لمقاصد الشرع. يقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور: " وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدون الرحال إلى المدينة ليتبصروا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين، هنالك يتبين لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، ويتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعاً لمعرفة الحكم والمقاصد ".

3- العلم بموضوع الحوار: فعلى من يتصدى للحوار في موضوع معين أن يكون على علم شامل أو على الأقل كاف بأساسيات الموضوع وتفاصيله وذلك حتى لا يجادل عن موقف لا يدرك خلفياته جيداً فينهزم في الحوار. وعليه كذلك أن يحيط علماً بوجهة نظر الطرف الآخر حتى لا يسدد سهام حواره بعيداً عن مدارات الموضوع فتسجل عليه الهزيمة كذلك. وقد اشترط القرآن الكريم العلم فيمن يحاور عن دين الله القويم وعاب على قوم أنهم يجادلون بغير علم، يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج / 8) وأمر المسلم أن يحاور بعلم وهدى وبصيرة فقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) .

4- الجهر بالحق: إن الحوار ينبغي ألا يؤدي إلى المداهنة والدبلوماسية التي تغطي على الحقائق وعلى الخلافات وتعمل على ترميمها ظاهرياً وتلفيق موقف اتفاق زائف. وقد ذم الله تعالى من يعمل على كتمان حقائق الدين قائلاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة / 159) وذم من أهل الكتاب أولئك الذين يزورون حقائق الأمور فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران / 71) . إن في تزوير الحقائق إجهاضا لجميع مقاصد الحوار والتبادل الثقافي، فما قام الحوار أساساً إلا لتبادل المعلومات والآراء، فإن جاءت مغشوشة فلن يكون القصد من الحوار إلا الغش والتستر بمواقف هي غير المواقف الأصلية للحوار.

5- التجرد لطلب الحق: فالحوار ليس معركة حربية غرضها الانتصار وكسر الخصم. فعلى المحاور أن يفترض - ولو نظرياً - احتمال ثبوت الحق على لسان الخصم، وذلك أدب جم من آداب الحوار، قال تعالى إرشاداً لمسار الحوار: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ / 24) . وهذا هو مقام التنزل الذي يعطيه المحاور - افتراضاً - للآخرين حتى يجلبهم إلى مائدة الحوار.

6- الحوار بالحسنى: فلا مجال للعنف والغلظة في أي حوار بناء ولا يلجأ للقسوة على الخصم إلا عند ظلمه وتجاوزه، فيردع بالقوة إيقافاً له عند ظلمه، وهذا هو الاستثناء لا الأصل في الحوار. إن الحوار بالحسنى يتضمن استخدام أطراف الحوار لبعضها بعضاً، والرغبة المخلصة في تحقيق النفع المشترك، وبغض النظر عمن يكسب جولات الحوار.

وفي تحديد الإطار المهذب للحوار جاء قول الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . وذكر بعض المفسرين أن المقصود بالذين ظلموا أولئك الذين نصبوا القتال للمسلمين بدل الجدال. وجاء قول الله تعالى مؤكداً استخدام القول اللين في مخاطبة الآخرين في وصية موسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم دوماً بالرفق في القول مع الآخرين والصبر على تطاولهم وإيذائهم.

7- التثبت واتقاء الزلل: وعلى من يحاور أن يجهد نفسه لضبط أعصابه ليثبت الأمور ولا يجازف بالقول ولا يتمحل الحجج ولا يتسرع فيزل ويجنح إلى خطأ لمجرد أنه يريد أن ينافس محاوره وينتصر عليه. وكثيراً ما يزل المتحاورون بسبب الانتصار لأنفسهم، وهذا ما يوحيه الشيطان ليغلَِب حق النفس على الحق المحض. وكما قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم. وقال تميم الداري - رضي الله عنه -: "اتقوا زلة العالم "، فسأله عمر: " ما زلة العالم "؟ قال: " يزل بالناس فيؤخذ به، فعسى أن يتوب العالم، والناس يأخذون بقوله ".

8- منهجة الأفكار: إن التعلم يحتاج إلى الذكاء والمثابرة والدأب والبصيرة، أما منهجة الأفكار فتحتاج إلى مهارة خاصة تصقل بالمران والدربة. إن كثيراً من العلماء مهما زاد محصولهم من العلم المستند إلى الأدلة، فإنهم قد لا يحسنون ترتيب مسائله ترتيباً منطقياً، فتبدو معارفهم مشتتة ومختلطاً بعضها ببعض، وكلما زادت حصيلتهم من العلم ازدادت أذهانهم اختلاطاً وتشوشاً ونقلوا ذلك الاختلاط والتشوش إلى السامع، وهذا آخر ما يحتاج إليه السامع وأول ما يفسد على العالم رسالته ويسبب فشله في الحوار.

إن المحاور الناجح هو ذلك الذي يدرب نفسه على منهجة الأفكار وترتيب النصوص والأدلة، واستخراج مقدمات تخضع للتحليل بغرض استخراج النتائج منها. فإعطاء النتائج بدون ذلك الترتيب المنطقي قد لا يكون محل اقتناع أو تسليم من الطرف الآخر في الحوار ولا من جمهور السامعين.

وعلى المحاور أن يتعهد موضوعه بالمذاكرة الوافية والترتيب المنطقي وأن يعد نفسه للحوار إعداداً جيداً، فحتى العالم فإنه معرض للنسيان ولأن تخذله ذاكرته ويتشتت ذهنه وتنفرط براهينه إن لم يقم ببذل الجهد الكافي لواجب الحوار وهنا قد ينتصر صاحب الرأي الخاطئ والحجة الباطلة فقط لأنه كان مرتب الذهن ولأنه استخدم المنطق جيداً ولأنه واجه محاوراً صاحب حق ولكنه ممثل سيئ لحقه بسبب ما هو عليه من بلبلة وتضعضع وتعثر في المنطق.

9- منطق البداهة: إن الإيغال في تركيب البراهين قد يغري المحاور بأن يبتعد كثيراً عن منطق البداهة، وعن استخدام المسلمات الأولى التي يتفق عليها الناس جميعاً، ويعمل بالتالي على الإغراب في توليد الصيغ وسلاسل الاعتماد. وذلك مهما بدا مهماً مما يكل الأذهان ويبعد عن التباس حرارة الحق الشاخص. المحاور الناجح هو من يتمكن من التقاط المشاهدات والمسلمات والبدهيات العالية في الحياة والبناء عليها، لأن البناء على أمثال هذه الفرضيات يكون بمثابة البناء على مقدمات صلبة لا ينازع عليها الطرف الآخر، بل تثير إعجاب السامع وتدفع إلى اعترافه بالحق وإذعانه له.

10- تجويد لغة الحوار: لا بد للمحاور أن يسيطر على اللغة التي يحاور بها حتى يتمكن من الإفصاح عن جوهر ما يريد قوله وأن يختار الألفاظ والتعابير الأقوى في إيصال تلك المعاني. أما إذا كانت لغة المحاور ضعيفة، فإن أفكاره مهما كانت صحيحة أو عميقة فإنها تبدو ضعيفة وسطحية وشديدة الاهتزاز، وكثيراً ما يحكم الناس على المتحدث بمستوى تمكنه من اللغة والإفصاح بها لا بمستوى تمكنه من العلم والتعمق والتحقيق فيه، وهكذا كثيراً ما انهزم محاورون كانوا على حق، ولكن خانتهم ملكاتهم اللغوية الخائرة.

11- التسليم بالحق من أي مصدر جاء: فالوصول إلى الحق هو غاية الحوار. وليس غايته إفحام الخصم وجرجرته إلى التسليم بالرأي الذي يطرحه من يحاوره. وعلى كل من يحاور أن يعد نفسه لقبول نتيجة الحوار إن ظهر ضعف رأيه وحجته إزاء قوة رأي الخصم وحجته. وكثير من العناد الذي يعقب الحوار يرجع أصله إلى عدم تحلي المحاور نفسه بالتواضع لإلزامها بقبول الحق. فليس ثمة منهزم ولا منتصر، ولكن التزام بالحق وانصراف إليه.

إن على المحاور ألا يشعر خصمه بالدونية وبأنه على الخطأ الذي لا صواب معه ولا إمكان صدور أي صواب عنه. فحتى الكفار يمكن أن يصدر عنهم بعض الرأي الصائب على ما هم فيه من ضلال ويمكن أن يستدرجوا لينطقوا بالصواب. إن القاعدة العامة هي أن على المحاور أن يهيئ ذهنه لتلقي الصواب من أي جهة عملاً بقول الإمام الشافعي رحمه الله: " قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب "، وما روي عنه أنه ما حاور إنساناً قط إلا وتمنى أن يأتي الحق على لسانه.

من آداب الحوار متى ما كان المحاور المسلم مؤهلاً للانخراط في الحوار حتى يجني ثماره وينفع نفسه ودينه منه فإن عليه أن يأخذ بآداب الحوار ويلتزم بمعاييره التي تتحقق بها أعلى فائدة منه، ومن أهم هذه الآداب:

1- الالتزام بموضوع الحوار وعدم الخروج عليه. وهذه مسألة منهجية وتنظيمية في غاية الأهمية، وعدم الالتزام بها يؤدي إلى خلط المسائل ببعضها الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى عدم إنضاج أي منها بالبحث والمساءلة والمقارنة والتقويم والاستنتاج. ويمكن معالجة هذه الناحية بضبط أولويات الحوار جيداً، وإقامة هيئة تحكيم لتضبط المتحاورين كلما جنحوا للخروج من إطار الموضوع.

2- ضرورة تحديد المصطلحات المستخدمة في الحوار وشرح مدلولاتها جيداً، لأن المصطلح الواحد قد يعني شيئاً مختلفاً عند كلا الطرفين. وهنا لا بد أن يعلن المتحدث عما يعني تحديداً بالمصطلح الرئيس الذي يدور حوله حديثه خلال الحوار.

3- مناقشة المسائل حسب أهميتها. فليس من آداب الحوار تضخيم المسائل الفرعية على حساب المسائل الأصلية، فإن كثيراً من المسائل الفرعية تنحل آلياً بمجرد مناقشة أصولها الكبرى ومصدر الاختلاف حولها.

4- تلطيف أجواء الحوار حيناً بعد حين، وذلك بإسداء بعض عبارات الاحترام والتقدير للطرف الآخر، فإن ذلك أدعى إلى كبح جماح الانفعال لدى الطرف الآخر وتهدئة جموحه نحو التعدي وعدم الموضوعية.

5- عدم التسرع في الإقناع؛ لأن ذلك مما يجرح مشاعر الطرف الآخر. فالأفضل أن يظهر المحاور وجهة نظره بصورة واضحة، ويعطي الفرصة كاملة للطرف الآخر - حتى ولو كان خصماً - ليظهر وجهة نظره، ثم تعطى فرصة زمنية للاثنين حتى يتأمل كل إنسان وجهة نظر صاحبه، فتتضح الرؤية مع هدوء الخواطر وفتور الانفعال الوقتي الذي يصاحب لحظات الحوار.

6- حسن الاستماع للطرف الآخر. فالحوار مسألة تبادل للآراء وليس مجرد إرسال من طرف واحد واستقبال من الطرف الثاني. ومن آداب الحوار أن يحسن كل طرف الاستماع إلى آراء الطرف الآخر، فلا يغفل عن الاستماع استهواناً أو تسفيهاً لآراء الآخرين ولا يتمادى في الحديث حتى يجور على الوقت المخصص للآخرين. ومن حسن آداب الأنبياء أنهم كانوا يصغون جيداً لمحاوريهم بل كانوا يتفضلون فيمنحونهم الفرصة الأولى للإدلاء بآرائهم وحججهم فعندما قال السحرة لسيدنا موسى عليه السلام: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} فأعطاهم الفرصة الأولى للإدلاء بالبينات. وروى ابن اسحق في سيرته صلى الله عليه وسلم «أن عتبة بن ربيعة قال يوماً وهو جالس في نادي قومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟! - وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون - فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله

عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي. إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، عبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل يا أبا الوليد أسمع ". قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منها، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: " أفرغت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم، قال: " فاستمع مني ". قال: أفعل. قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ومضى رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقرؤها إلى السجدة واستمع إليها عتبة حتى تغير وجهه وتأثر مما سمع وذهب إلى القوم وهو يمدح القرآن فقالوا له: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه» .

ومهما تكن نتيجة الحوار فالمسلم مكلف بالاستماع تطييباً لخاطر من يتكلم وذلك أدعى إلى جلبه إلى جانب الحق، وذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وفي كل موقف حوار له مع الكفار والمخالفين. وإذا كان حتى الكافر يمنح تلك الفرصة في الاستماع ليعرض أفكاره وآراءه، فإن ذلك الحق نفسه لا بد أن يعطى للمخالفين ضمن إطار التصور الإسلامي العام، أو للمخالفين من أصحاب الثقافات والحضارات والأديان الكتابية، على وجه الخصوص، فالحوار آلية مهمة لتحقيق أداء واجب الدعوة بالتبليغ لرسالة الدين الحنيف، ولذا أورد القرآن الكريم نماذج عديدة منه، ودعا إلى استخدامه مشروطاً بآداب الحوار.

خاتمة مما سبق يتضح جلياً أن الحوار يستمد مشروعيته من القرآن الكريم نفسه الذي حكى كثيراً من الحوارات على سبيل التعليم والموعظة ابتداءً بحوار الله تعالى نفسه مع الملائكة حول خلق آدم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ومروراً بحوارات الرسل مع أقوامهم، وانتهاءً بحوارات الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم مع اليهود والنصارى.

وللمسلمين حوارات كثيرة مع غيرهم من أهل الكتاب، ومع الفرق المبتدعة سجلتها كتب الفرق وكتب الحوار والخلاف والجدل الكثيرة التي حفل بها التاريخ الفكري للحضارة الإسلامية، كما امتلأت كتب المذاهب الفقهية الإسلامية أيضاً بحواراتها مع بعضها الآخر حول الكثير من قضايا أصول الفقه وفروعه.

ولأهمية الحوار لكونه آلية مثلى لاستجلاء الحقائق حرص كثير من أئمة السلف على إنشاء كتب علمية قيمة حول موضوع الحوار مثل كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف) لأبي سعيد النيسابوري، و (البرهان في الخلاف) لأبي المظفر المروزي و (تجريد المسائل اللطاف في الائتلاف والخلاف) لنور الدين الشافوري و (تهذيب الأخلاق بذكر مسائل الخلاف والوفاق) لمحمد الأسدي القدسي، وهنالك ما لا يقل عن مائة وخمسين كتاباً من هذا النوع في التأسيس لآلية الحوار وترقيتها والنهوض بها ونماذج منها مما يدل على أهميتها الحيوية في بناء المعرفة الإسلامية.

والآن في ظل صحوة المسلمين والتفاتهم إلى أمور دينهم وحقائق عصرهم المتفجر معرفياً وإعلامياً فإن آلية الحوار تكتسب مزيداً من الأهمية في الذهن الإسلامي. وما إقامة الكثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات متعددة الأطراف إلا دليل على استشعار المسلمين المتزايد لتلك الأهمية لمبدأ الحوار بين المسلمين وأهل الديانات والثقافات الأخرى. اللهم إنا نسألك أن تعيد المسلمين إلى دينهم عوداً حميداً وتردهم إليه رداً جميلاً وتزيل غشاوة الباطل عن العيون وتفتح القلوب للحق، وترزقنا المحاجة عن دينك على هدىً ونور والدعوة إلى سبيلك على بصيرة، إنك نعم المولى ونعم النصير.

 

المراجع

 * القرآن الكريم.

* سيرة ابن هشام.

* الحوار مع أهل الكتاب: أسسه ومناهجه في الكتاب والسنة، خالد بن عبد الله القاسم، دار المسلم، الرياض، 1414هـ.

* مقدمة في اختلاف المسلمين وتفرقهم، محمد العبدة وطارق عبد الحليم، دار الأرقم، الكويت، 1406هـ.

* معرفة علم الخلاف الفقهي: نظرة إلى تحقيق الوفاق الإسلامي، د. زكريا عبد الرزاق المعري، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1410هـ.

* آداب البحث والمناظرة، محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، بدون تاريخ.

* آداب الحوار والمناظرة، د. علي جريشة، دار الوفاء، المنصورة، 1410هـ.

* أدب الحوار في الإسلام، سيف شاهين، دار الأفق، الرياض، 1414هـ.

* Clash of Civilizations? By: Samuel Huntington, (Foreign Affairs) , Summer 1993. pp. . . .

 

المصدر: http://www.islamww.com/books/GoPage6-61-1132-156.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك