ثمرة التواصل مع الإسلام والمسلمين

ثمرة التواصل مع الإسلام والمسلمين

شكل احتكاك جوته بالرواية العربية، ثم الشعر العربي، ثم المخطوطات القرآنية والضباط البشكيك المسلمين دافعاً هاماً له ومصدر إلهام لكتابة "ديوان الغرب والشرق"، الذي يعد ثمرة التواصل البناء بين الحضارات.

 

عكس تأثر جوته بالثقافة العربية والإسلامية نموذجاً ناجحاً وصحياً للتقارب الإسلامي المسيحي، الذي كثيراً ما نفتقر إليه في وقتنا الراهن. فهو أول شاعر أوروبي مسيحي قام بالثناء على النبي محمد صلى الله عليه وسلم عبر "أغنية محمد" التي ألفها قبيل انتهاء حياته. وهو أول شاعر أوروبي مسيحي قام بتأليف ديوان كامل عن "الغرب والشرق"، مُجسدا فيه قيم التسامح والتفاهم والتعايش بين الحضارتين. ولم يكن جوته ليصل إلى ذلك، إلا بعد تواصله المثمر  مع الإسلام والمسلمين. بعبارةٍ أخرى، لقد كان احتكاكه بالرواية العربية، ثم الشعر العربي، ثم المخطوطات القرآنية، ثم الضباط البشكيك المسلمين، دافعاً له لكي يكتب مثل هذا الديوان.

 

حكايات ألف ليلة وليلة

 

كان لحكايات "ألف ليلة وليلة" وقع خاص على المجتمعات الأوروبية؛ فقد كانت أول عمل أدبي شرقي يصل إلى القارة الأوروبية في القرن الثامن العشر؛ وذلك بعدما ترجمها المستشرق الفرنسي أنطوان جلاند الذي عاش بين عامي 1646 و1715. أما الخصوصية الثانية لتلك الرواية، هي ظهورها في وقتٍ كان فيه الإنجيل هو الكتاب الوحيد المتربع على الساحة الفكرية الأوروبية، كما أوردت الدكتورة كاتارينا مومزين في كتابها "جوته والعالم العربي".

 

كان تأثر جوته بتلك الرواية تأثراً بالغاً. وقد عبرت الدكتورة كاترينا مومسين عن ذلك قائلةً: "إن كتاب ألف ليلة وليلة كان كتاب الحياة لجوته". كان كثيراً ما يلجأ إليه، مُتلَمساً فيه ذلك العبق العربي الأصيل المُتمثل في العالم الطبيعي غير المُتجسد، بكل ما فيه من بساطة ورشاقة ووضوح.

 

تأثر جوته – في "ألف ليلة وليلة" – بشخصية المرأة الشرقية  المتمثلة في شهرزاد؛ تأثر بلباقتها وذكائها وفطنتها. جذبته فكرة الراوي العربي المُربي؛ شده العرب المغامرون أصحاب العمائم وليس التيجان، ساكنو الخيام وليس القصور، حاملو السيوف وليس الحصون. أبهرته مدينة بغداد بثقافتها وعلمها وأدبها، ووصل ولعه بها في "ديوان الغرب والشرق" لدرجة قيامه بمساواتها بمدينة فايمر الألمانية، كما أوضحت مومزين. بل إنه كتب في وصيته قائلاً: "بمجرد أن تأتي بالترياق من بغداد، ينتقل المريض من حال إلى حال".

 

الشعر العربي

 

وكما فُتن جوته بالرواية العربية، فقد فُتن أيضاً بالشعر العربي. شغفته اللغة العربية، كما شغفته القيم العربية التي كانت تعكسها الأشعار والملاحم العربية؛ وبالذات قيم العزة والكرامة والحرية والشجاعة، سواءً مع العدو أو الصديق. من أكثر الأشعار التي أثرت فيه أشعار المتنبي التي تعرف عليها في أثناء دراسته في مدنة لايبسيج، عبر ترجمة رايسكيه، لدرجة أنه قام بإدراج بعض من نفحاتها في "فاوست". وكذلك كان تأثره بالملاحم الغنائية لأبي تمام التي حملت عنوان "حماسة"، وخاصةً ملحمة الشاعر "تأبط شراً بن جبير الفهمي"، حيث أغنيته المشهورة عن ثأر الدماء التي ترجمها جوته إلى الألمانية، كما أشارت مومزين.

 

كما وصل حد إعجابه باللغة العربية إلى درجة وصفه إياها في عام 1815: "ربما لم يحدث في أي لغة – هذا القدر العال من الانسجام بين الروح والكلمة والخط – مثلما حدث في اللغة العربية؛ إنه تناسق غريب في ظل جسد واحد". ووصل حد إعجابه بالمعلقات العربية إلى درجة قيامه بترجمتها في عام 1783 – بمساعدة أستاذه يوهان جوتفريد هيردير – إلى اللغة الألمانية، عبر مستندات لاتينية وإنجليزية. وكان من ضمن كلماته التي عبر من خلالها عن إعجابه بتلك المعلقات، كما أشارت مومزين، الكلمات التالية: "إنها كنوز طاغية الجمال...ظهرت قبل الرسالة المُحمدية، مما يعطي لنا الانطباع بأن القريشيين كانوا أصحاب ثقافة عالية؛ وهم القبيلة التي خرج منها النبي محمد".

 

وقد أدرج جوته شخصيات عربية كثيرة في "ديوان الغرب والشرق" الذي تألف من 12 كتاباً. فقد أدرج شاه عباس الكبير، تيمور الفاتح؟، السلطان سليم، الشعراء شمس الدين حافظ ؟ والمتنبي وحاتم الطائي.

 

القرآن الكريم

 

 كان لأستاذه هيردير - الذي استطاع بالرغم من فكره البروتستانتي أن يثبت نفسه كمؤرخ ثقافي غير منحاز للقوالب الموروثة – أثر جم على أفكاره. فهو أول من قاده إلى التطلع على الشعر العربي، وهو أيضاً أول من قاده إلى التعرف على القرآن الكريم؛ وكان ذلك في مدينة شتراسبورج عام 1770. 

 

 

اكتشف جوته روعة القرآن – الذي وصفه بـ"كتاب الكتب" كما أدلت مومزين – في بداية عقده الثالث؛ وذلك عندما قرأ أول ترجمة ألمانية للقرآن لديفيد فريدريش ميجيرلين. إلا أنه استاء من تلك الترجمة التي رآها مُحملةً لمضامين معادية كثيرة للإسلام، الأمر الذي دفعه إلى الدعوة لإيجاد ترجمة ألمانية أخرى أكثر تفهماً وإحساساً بروح القرآن.

 

تأثر جوته بآيات كثيرة من القرآن؛ فقام باقتباسها وإدراجها في أشعاره. ومن ثم، لاحظت مومزين انتصاف مقاطعه الشعرية ما بين الاقتباس القرآني وما بين كلامه هو؛ وهو ما ظهر جلياً في "ديوان الغرب والشرق". ومن أكثر ما تأثر به في القرآن، دعاء سيدنا موسى المأثور: "رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي". وكذلك تأثره بفكرة الاستسلام لله التي وردت في سورة البقرة: "بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".

 

 

إذا كان الإسلام معناه الخضوع لله

إذن فتحت الإسلام نعيش ونموت جميعاً

 

قل: لله المشرق ولله المغرب

يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم  (من الديوان)

 

إن عقيدة التوحيد، التي دعا إليها القرآن، من أكثر ما لفت انتباه جوته، كما أوضحت مومزين. تلك العقيدة التي تدعو إلى الانقياد لله الواحد الذي ليس كمثله شيء، ومن ثم تدعو إلى تحرر الإنسان من كل صنوف العبودية الدنيوية التي تمنع من عبادة الله الواحد. وكذلك كان تأثره بفكرة المشيئة الإلهية، وبضرورة استسلام الإنسان إليها؛ وهو ما طبقه بالفعل عند استقباله لموت صديقه كارل أوجوست، ومرض أخته غير الشقيقة. وهو ما جعله أيضاً ينبهر بالتربية الإسلامية التي تمزج بين الشجاعة وبين الاستسلام للمشيئة الإلهية. ولا غرابة أن نجد جوته بعد ذلك، كما تقول مومزين، يُعلن في سن السبعين عن تفكيره في الاحتفال بليلة القدر التي نزل فيها القرآن الكريم. ولا غرابة أيضاً، أن نجده يتحدث في شعره "هجرة" – افتتاحية "ديوان الغرب والشرق" – عن ذلك الهارب من أوروبا إلى الشرق الأصيل، متلمساً تلك العقيدة التوحيدية النقية التي يختص بها الإسلام.

 

وكان احتكاكه بالمسلمين أمراً أضاف إلى رصيد محبته للقرآن. فتعرفه على مجموعة من الضباط البشكيك المسلمين، الذين قدموا إلى فايمر في ديسمبر 1813 من ضمن الجيش الروسي المتحالف آنذاك مع ألمانيا، ضاعف من حبه لمل قرأه، كما أشارت مومزين، حيث وصفهم قائلاً: "لديهم هيبة خاصة"؛ و"هم ضيوف أحباء".

 

النبي مُحمد

 

 أُعجب جوته بالنبي مُحمد – كما كتبت مومزين – لكونه مزج بين أمرين: الشخصية التي أسست الدين الإسلامي، والشخصية التي ربت البشر من حولها إيمانياً وروحياً. لم يراه أبداً كاذباً أو شاعراً، بل رآه نموذجاً حياً للإنسان المكافح المُصابر الذي تعامل مع الدنيا وليس مع السماء فقط.

 

ومن ضمن أعماله حول النبي مُحمد "الدراما المُحمدية" التي قسمها إلى فصلين: بعثة النبي، وصور معانات تبليغ الرسالة. ومن اللافت للانتباه، أنه في نفس اللحظة التي كان يعكف فيها جوته على "الدراما المحمدية"، كانت مسرحية "تطرف النبي محمد" – لفرونسوا ماري آرويت فولتير – آخذة طريقها في الظهور. وبلغت حدة غضب جوته حينذاك، أنه منع أخته كورينليا من المشاركة في إعادة عرض المسرحية التي ظهرت في عام 1742.

 

كان النبي مُحمد من الشخصيات المحورية التي أوردها جوته في "ديوان الغرب والشرق". وكانت أغنيته "بعثة مُحمد" من الأغاني المهمة التي كتبها جوته قبل موته، ومن ثم لم يستطع إصدارها. إلا أنه تم العثور عليها بعد 88 عاماً من وفاته، على يد رايندرماريا رايكليه التي أخرجتها إلى النور في عام 1907.

 

وهذه إحدى أبيات "بعثة محمد":

 

حينما كان يتأمل في الملكوت

جاءه الملاك على عجل

جاء مباشرة بصوت عالٍ ومعه النور

 

اضطرب الذي كان يعمل تاجراً

فهو لم يقرأ من قبل – وقراءة

كلمة تعني الكثير بالنسبة له

 

لكن الملاك أشار إليه

وأمره بقراءة ما هو مكتوب

ولم يبال وأمره ثانية: اقرأ

 

فقرأ، لدرجة أن الملاك انحنى

واستطاع القراءة

واستمع الأمر وبدأ طريقه

 

 

مُجمل القول، إن العالم الآن في أمس الحاجة إلى مفكرين من أمثال جوته؛ مفكرين يحترمون الاختلاف والتنوع، ويرفضون الإذابة والتمييع. مفكرين يحتكون بالآخر ويدرسونه، من قبل أن يصدروا الحكم عليه. والأهم من ذلك، إننا بحاجة إلى سياسيين وإعلاميين مدركين لقيمة التعارف لكونها سُنة من سنن الخلق والوجود.

 

 

شيرين حامد فهمي

 المصدر: http://www.dw-world.de/dw/article/0,,2104415,00.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك