المجرّي الذي عشق الإسلام والشرق
المجرّي الذي عشق الإسلام والشرق
حسن السعيد
الحاج عبد الكريم جرمانوس مستشرق مجريّ وعالِم، طبقت شهرته آفاق العالم. وُلد في بودابست، وتعلّم اللّغات الغربيّة: اليونانيّة، والّلاتينيّة، الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والإيطاليّة، والمجريّة، ومن اللّغات الشرقيّة: الفارسيّة والأورديّة، وأتقن العربيّة والتركيّة على أستاذيه: فامبيري، وغولد زيهر اللّذين ورث عنهما ولَعهما بالشرق الإسلاميّ. ثمّ تابع دراستهما بعد عام 1905م في جامعتي استانبول وفينّا. وصنّف كتاباً بالألمانيّة عن الأدب العثمانيّ (1906)، وآخر عن تاريخ أصناف الأتراك في القرن السابع عشر ، فنال عليه جائزة مكّنته من قضاء فترة مديدة في لندن، حيث استكمل دراسته في المتحف البريطانيّ.
وفي عام 1912م عاد إلى بودابست، فعُيِّن أستاذاً للّغات العربيّة والتركيّة والفارسيّة، وتاريخ الإسلام وثقافته في المدرسة العليا الشرقيّة. ثمّ في القسم الشرقيّ من الجامعة الاقتصاديّة، ثمّ أستاذاً ورئيساً للقسم العربيّ في جامعة بودابست (1948)، وظلّ يقوم فيه بتدريس اللّغة العربيّة، وتاريخ الحضارة الإسلاميّة، والأدب العربي قديمه وحديثه، محاولاً إيجاد حلقات اتصال بين نهضات الأُمم الإسلاميّة الاجتماعيّة والسيكولوجيّة، حتّى أُحيل على التقاعد (1965).
ودعاه "طاغور" إلى الهند أستاذاً للتاريخ الإسلاميّ، فعلمه في جامعات دلهي، ولاهور، وحيدر آباد (1929ـ1932)، وهناك أشهر إسلامه في مسجد دلهي الأكبر، وألقى خطبة الجمعة، وتسمّى ب "عبد الكريم". وقدم القاهرة وتعمّق في دراسة الإسلام على شيوخ الأزهر، ثمّ قصد مكّة حاجّاً وزار قبر الرسول(ص)،وصنّف في حجّته كتابه: الله أكبر، وقد نُشر في عدّة لغات (1940)، وقام بتحرِّيات علميّة (1939ـ1941) في القاهرة والسعوديّة نشر نتائجها في مجلّدين: شوامخ الأدب العربي (1952)، ودراسات في التركيبات اللّغوية العربيّة (1954).
وربيع عام 1955 عاد ليقضي بضعة أشهر في القاهرة والإسكندريّة ودمشق بدعوة من الحكومة ليحاضر بالعربيّة عن الفكر العربيّ المعاصر، وعن صور من الأدب المجريّ، ثمّ رجع إلى الشرق العربيّ في شتاء 1958، لاستكمال مصادر كتابه الجديد عن أدبائه المعاصرين. والذي صدرت بعض فصوله، وفيها قصص الكتّاب المعاصرين. وقد انتخب عضواً في المجمع الإيطالي(1952)، ومراسلاً للمجمع اللّغويّ بالقاهرة (1956)، وفي المجمع العلميّ العراقي (1962).
إرهاصات اعتناقه الإسلام
يروي الدكتور "عبد الكريم جرمانوس" خلفيّات اهتدائه إلى الإسلام فيقول: "كان ذلك في عصر يوم مطير، وكنتُ ما أزال في سنّ المراهقة، عندما كنتُ أقلِّب صحائف مجلّة مصوّرة قديمة، تختلط فيها الأحداث الجارية مع قصص الخيال، مع وصف لبعض البلاد النائية؛ بقيت بعض الوقت أقلِّب الصحائف في غير اكتراث إلى أن وقعت عيني فجأة على صورة لوحة خشبيّة محفورة استرعت انتباهي، كانت الصورة لبيوت ذات سقوف مستوية تتخلّلها هنا وهناك قباب مستديرة ترتفع برفق إلى السماء المظلمة التي شقّ الهلال ظلمتها..
ملكت الصورة عليَّ خيالي.. وأحسستُ بشوق غلاّب لا يقاوم إلى معرفة ذلك النور الذي كان يُغالب الظّلام في اللّوحة.. بدأتُ أدرس اللّغة التركيّة، ومن ثمّ الفارسيّة فالعربيّة. وحاولتُ أن أتمكّن من هذه اللّغات الثلاث حتّى أستطيع خوض هذا العالم الروحيّ الذي نشر هذا الضوء الباهر على أرجاء البشريّة".
وفي إجازة صيف كان من حظّه أن يُسافر إلى البوسنة وهي أقرب بلد شرقيّ إلى بلاده. وما كاد ينزل أحد الفنادق حتّى سارع إلى الخروج لمشاهدة المسلمين في واقع حياتها.. حيث خرج بانطباع مُخالف لما يُقال حول المسلمين.. وكان هذا هو أوّل لقاء مع المسلمين. ثمّ مرّت به سنوات وسنوات في حياة حافلة بالأسفار والدراسات، كان مع مرور الزّمن تتفتّح عيونه على آفاق عجيبة وجديدة.
ورغم تطوافه الواسع في دنيا الله، واستمتاعه بمشاهدة روائع الآثار في آسيا الصغرى وسوريا، وتعلّمه اللّغات العديدة وقراءاته لآلاف الصفحات من كتب العلماء، قرأ كلّ ذلك بعين فاحصة: "ورغم كلّ ذلك فقد ظلّت روحي ظمأى" كما يقول.
أثناء وجوده في الهند، وفي ذات ليلة رأى ـ كما يرى النائم ـ كأنّ محمّداً رسول الله (ص) يخاطبه بصوت عطوف: "لماذا الحيرة؟ إنّ الطريق المستقيم أمامك مأمون ممهّد مثل سطح الأرض. سرْ بخطى ثابتة وبقوّة الإيمان".. وفي يوم الجمعة التالية، وقع الحدث العظيم في مسجد الجمعة في دلهيّ.. حينما أشهر إسلامه على رؤوس الأشهاد..
وعن تلك اللّحظات المفعمة بالأحاسيس يتذكّر "الحاج عبد الكريم جرمانوس" فيقول: "كان التأثّر والحماس يعمّان المكان، ولا أستطيع أن أتذكّر ماذا كان في ذلك الحين.. وقف الناس أمامي يتلقّفونني بالأحضان. كم من مسكين مجهد نظر إليَّ في ضراعة، يسألني "الدعوات" ويريد تقبيل رأسي، فابتهلتُ إلى الله أن لا يدع هذه النفوس البريئة تنظر إليِّ وكأنِّي أرفع منها قدراً، فما أنا إلاّ حشرة من بين حشرات الأرض، أو تائه جادّ في البحث عن النور، لا حول لي ولا قوة، مثل غيري من المخلوقات التعيسة.. لقد خجلتُ أمام أنّات وآمال هؤلاء الناس الطيِّبين.. وفي اليوم التالي وما يليه كان الناس يفدون عليَّ في جماعات لتهنئتي،ونالني من محبّتهم وعواطفهم ما يكفيني زاداً مدى حياتي.
من آثاره
إضافة إلى ما ورد في ثنايا البحث، من عناوين مؤلّفاته، فقد ترك تراثاً علميّاً زاخراً بالعمق والتنوّع: قواعد اللّغة التركيّة (1925)، والثورة التركيّة، والقوميّة العربيّة (1928)، والأدب التركيّ الحديث (1931)، والتيّارات الحديثة في الإسلام(1932)، واكتشاف الجزيرة العربيّة وسوريا والعراق وغزوها (1940)، ونهضة الثقافة العربيّة (1944)، ودراسات في التركيبات اللّغويّة العربيّة (1954)، وابن الروميّ (1956)، وبين المفكِّرين (1958)، ونحو أنوار الشرق، ومنتخب الشعراء العرب (1961)، وفي الثقافة الإسلامية، وأدب المغرب (1964)، وكان يعدّ ثلاثة كتب عن: أدب الهجرة، والرحّالة العرب وابن بطّوطة، وتاريخ الأدب العربيّ.