يحيى وزكريا عليهما السلام بين اليهودية والنصرانية والإسلام

يحيى وزكريا عليهما السلام
بين اليهودية والنصرانية والإسلام
دراسة إسلامية مقارنة

كتبه
أبو عبد الرحمن غنيم غنيم عبد العظيم

منهج البحث
هذا البحث عبارة عن جزء من موسوعة قيد الإعداد التزم فيها المؤلف بالمنهج الآتي :
1- عرض السير من خلال الكتب المعتبرة ، خاصة ما لدى القوم ، وبيان أوجه التناقض بين الروايات متى أمكن.
2- عرض التاريخ الذى مرت به هذه المسائل بين العهد القديم والجديد والإسلام ما أمكن.
3- العرض للمسائل من خلال استقراء نصوص الكتاب المقدس والكتب المعتمدة لديهم.
4- بيان أصل هذه المسائل فى الديانات السابقة ما أمكن.
5- بيان تضارب المسألة في كتبهم وأقوال أئمتهم المعتبرين.
6- بيان ما ينقضها من كتبهم.
7- بيان الموقف الإسلام من النصوص والقضايا المختلفة.
8- بيان الخطر الكامن في هذه المسائل.
9- بيان منافاة هذه المسائل للفطرة والعلم ما أمكن.
10- تخريج النصوص والأقوال من مصادرها.
11- عند الاستدلال بنصوص السنة النبوية ، إن كان الحديث في الصحيحين أو احدهما اكتفيت بذلك ، وإن كان في غيرهما ذكرت قول الأئمة فيه.
وسوف ستم إنزالها تباعا على الموقع.
1-زكريا عليه السلام ودعوته لبنى إسرائيل

أولا : التعريف به
هو أحد أنبياء الله في بني إسرائيل ، كان على اليهودية ، وهو أبو يحيى عليه السلام ، فهو نبي كريم وأبو نبي كريم ، وقد زكاه الله عز وجل في كتابه الكريم فوصفه مع سائر الأنبياء بالصلاح في قوله تبارك وتعالى : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) .

وحينما تنازع بنو إسرائيل في كفالة مريم ابنة عمران عليها السلام كانت الكفالة من نصيبه ، وذلك لأنه كان نبيهم وأفضلهم ، وقد قص الله عز وجل علينا قصة كفالته لمريم عليها السلام في كتابه العزيز فقال : (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أن اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .

فقد كانت كرامات الأولياء تظهر على يد مريم عليها السلام ، وذلك جلي في رزق الله عز وجل لها ، وكيف كانت أمثال هذه الكرامات سببا في أن يطلب زكريا عليه السلام الولد من الله عز وجل حرصا منه على أن يقوم في بني إسرائيل من يقوم بشؤونهم ، فيرشدهم للتوحيد وينهاهم عن الشرك والتنديد.

أما عن عمله ، فقد أخبر النبي أن زكريا عليه السلام كان يعمل بيده ، يقول النبي أنه كان نجارا حيث قال : (كان زكريا نجارا) ، والنبي لا ينطق عن الهوى ، ولا يمكن أن يذكر أمرا دون فائدة ، فالفائدة التي يشتمل عليها هذا الخبر تؤدي إلى نقض أصل من أهم الأصول التي يعتنقها غالب النصارى ، هذا الأصل هو الرهبنة ، والتي تقوم على ترك الدنيا وما فيها والسياحة في البراري واعتزال الناس تقربا لله جل وعلا ، فلم يكن زكريا عليه السلام عالة على الخلق كهؤلاء الرهبان الذين نسوا أن في هذا الاعتزال سبيل لاندثار الحق ، إذا بعزلتهم يتخلفون عن دعوة العامة والمخالفين من الجهلة والمعاندين.

ثانيا : زكريا عليه السلام يدعو ربه أن يهبه الولد
حينما رأى زكريا عليه السلام كرامات مريم عليها السلام ، تمنى أن يكون له الولد الذي يخلفه في بني إسرائيل بالعلم والدعوة ، فدعا ربه من أجل الولد الذي يخلفه في بني إسرائيل ، قال تعالى : (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) .
فقام عليه السلام يدعو ربه سرا أن يرزقه بالولد رغم كبر سنه ، وعقر زوجته ، لكنه كان عالما بقدرة الله جل وعلا في تغيير الأسباب والمسببات ، فرغم انقطاع الأسباب إلا أنه كان على يقين من قوة الله وقدرته ، فقام يدعو ربه سرا ، متوسلا بحاله لرب العالمين ، وحاجته للولد الذي يحمل هم هذا الدين ، قال تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) .
والوراثة المذكورة هنا ليست وراثة المال ، فإن الأنبياء كما يقول النبي لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر .

والدليل على أن المراد من الوراثة هنا هي وراثة العلم أمران :
الأول : أنه يخشى على مواليه ، ولو كان يريد المال لما تمنى الولد ، إذ أن الولد يرث بدلا منهم بل ويحجبهم من الميراث.
الثاني : أنه يريد ميراث آل يعقوب ، وكان ميراث آل يعقوب النبوة لا غير.
وهنا دارت المناجاة بين زكريا عليه السلام وبين ربه ، قال تعالى : (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) .
ومن هذه الآيات نرى كيف بشره الله جل وعلى بغلام صالح هو يحيى عليه السلام ، وأن الله هو شرفه بأن سماه من فوق سبع سموات ، كما بين الله جل وعلا هوان هذا الأمر عليه سبحانه وتعالى رغم انقطاع الأسباب ، فالله أصلح له زوجه لييسر حصول المطلوب ، قال تعالى : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
وحينما دعا ربه سأله أن يجعل له آية يعلم بها قبول دعوته ، قال تعالى : (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) .
وحينئذ جاءت البشرى بالقبول ، فقد بشرته الملائكة وهو قائم يصلي لربه بأن من يخرج من صلبه سيكون سيدا لا يأتي النساء ، وأعظم ما في البشارة أنه سيكون من أنبياء الله جل وعلا ، قال تعالى : (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) .

وجاءت الآية الدالة على قبول الدعاء ، وهي أن زكريا عليه السلام لن يستطيع الكلام مع قومه لمدة ثلاث ليال ، قال تعالى : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا )
ثالثا : عصمة زكريا عليه السلام في القرآن والإنجيل
لقد جاء الإسلام يرد اعتبار هؤلاء الأنبياء ويبين صلاحهم عصمتهم ، فأصلح ما أفسده اليهود والنصارى بعد تحريف الكتب وطمس الفطر ، فقد بين القرآن الكريم ذلك من وجهين:
الأول : أن الله اصطفاهم في قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) .
الثاني : الأمر باتباعهم في قوله تبارك وتعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) .
فالاصطفاء والأمر بالمتابعة إنما يكون للصفوة من الخلق ، ومن المحال أن يصطفي الله عبدة الأصنام والفسقة والزناة وشاربي الخمر ، وقد توعدهم في الآخرة بعذاب إما دائم أو مؤقت ، ثم يأمرنا بالقتداء بهم.
ثالثا : بيان الله عز وجل قدر طاعتهم وورعهم وخشيتهم
قال تعالى : (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)
فهم مسارعون للطاعة ، على ورع وخشية وتقوى ، بخلاف ما صوره عنهم اليهود والنصارى أنهم أهل زنا وكفر وكذب وشذوذ وغير ذلك ، وهذا ما يوافق الفطرة ، أن يأمر الله خلقه بالاقتداء بمن حسنت عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم.
كما وردت عصمة زكريا عليه السلام في الكتاب المقدس في إنجيل لوقا ، يقول لوقا : (كان في ايام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة ابيا وامراته من بنات هرون واسمها اليصابات *وكانا كلاهما بارين امام الله سالكين في جميع وصايا الرب واحكامه بلا لوم) .
والمراد من قول لوقا : " أنه بلا لوم" العصمة لا غير كما هو مفهوم من السياق ، فهو لم يرتكب خطيئة منفذا لشريعة الرب جل وعلا.

وقد ورد عنه في الكتاب المقدس كيف أنه عليه السلام كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في الوسط اليهودي المشهور عنه الاستحلال لما حرم الله وتغيير التعاليم المنزلة بتحريفها ، ففي سفر أخبار الأيام الثاني نجده يخاطب اليهود قائلا : (هكذا يقول الله لماذا تتعدون وصايا الرب فلا تفلحون لانكم تركتم الرب قد ترككم ) .

رابعا : قتل اليهود لزكريا عليه السلام
لقد صرح الله عز وجل في كتابه الكريم بطبيعة اليهود في معاملة الأنبياء وبين كيف أنهم كانوا يكذبون الأنبياء ويقتلونهم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) ، فكان غالب أحوالهم مع الأنبياء إما التكذيب وإما القتل.

وقد ورد بالإنجيل أن من جملة من قتل من الأنبياء على يد اليهود نبي الله زكريا عليه السلام ، (لكي يأتي عليكم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح) .
فزكريا بن برخيا كما يذكر ذلك مفسرهم المعتمد تادرس يعقوب ملطي في تفسيره للكتاب المقدس هو أبو يوحنا المعمدان-يحيى عليه السلام-.

2-يحيى عليه السلام : يوحنا المعمدان
أولا : يحيى عليه السلام في القرآن الكريم
كان يحيى عليه السلام هو البشارة لأبيه زكريا عليه السلام حينما دعا ربه ، وهذا من أعظم الدعاء الذي استجيب لنبي ، فالله أعطاه ولدا نبيا ، فكانت من أعظم الدعوات المستجابة لنبي ، كما كانت شفاعة موسى عليه السلام لأخيه هارون أعظم الشفاعات ، وذلك حينما سأل رب العالمين أن يكون أخوه هارون وزيرا له ، فأعطاه الله ما سأل.
وقد حملت به أمه أليصابات في نفس فترة حمل مريم بالمسيح وبينهما شهور يسيرة ، فحصلت المعاصرة بين هذين النبيين الكريمين ، وهو ما يوضح كيف أن الأنبياء كانت تسوس بني إسرائيل كما ذكر النبي ، وكيف تولاهم الله بالعناية بإرسال أكثر من رسول في نفس الزمان ، إلا أنهم قد قست قلوبهم وكفروا بربهم.
ومن صفاته الواردة في القرآن الكريم :
1- أن الله لم يجل له من قبل سميا : قال تعالى (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) .
واختلف في المعنى المراد بين عدة أوجه : قيل مثله لم تلد العواقر ، وقيل ليس مثله شبه ، وقيل لم يسم بهذا الاسم مثله ، والراجح هو الأخير ، وقد ورد هذا المعنى في الكتاب المقدس ، يقول لوقا: (فاجابت امه وقالت لا بل يسمى يوحنا * فقالوا لها ليس احد في عشيرتك تسمى بهذا الاسم ) .
2- القوة والبأس في الرأي : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)
3- الحنان والورع والتقوى : قال تعالى : (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا)
4- الصلاح : قال تعالى : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)
5- البر بالوالدين : قال تعالى :(وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)
ومن أجل هذه الصفات بشره الله عز وجل بالسلام في الدنيا والآخرة فقال : (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
6- أنه من خير شباب أهل الجنة : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران )
ثانيا : يحيى عليه السلام في السنة النبوية
لقد ورد فضل يحيى عليه السلام في السنة على النحو التالي :
1- ورد أنه من أسياد شباب أهل الجنة هو والمسيح ، فقد ورد في السنة قول النبي : (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ؛ إلا ابني الخالة عيسى بن مريم ويحيي بن زكريا ، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة ؛ إلا ما كان من مريم بنت عمران ) .
2- من خلال حرصه على تبليغ رسالة الله وأحكامه وخشيته من عقاب الله أن لم يبلغ أوامره ، فقد قال رسول : (إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات؛ أن يعمل بهن ويأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكاد أن يبطئ، فقال له عيسى: إنك قد أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال: لا تفعل يا أخي، فإني أخشى أن سبقتني إليهم أن أُعذب أو يُخسف بي) .
ثالثا: ما ورد عنه في الكتاب المقدس
1-البشارة به وبيان عصمته قبل مولده
حينما دعا زكريا ربه بأن يهبه الولد جائته الملائكة وبشرته بالولد ، وأن هذا الولد سوف يمتلأ من روح القدس ، بمعنى أنه سيكون نبيا من الصالحين ، لا يتناول مسكرا ، ولا يشرب خمرا ، وهذه هي سلوك الأنبياء بخلاف ما ورد عنهم في العهد القديم من كونهم زناة وفسقة وعبدو أصنام وشاربي خمر كما سيرد في قسم العقائد في هذه الموسوعة بإذن الله ، يقول إنجيل لوقا : (فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لان طلبتك قد سمعت وامراتك اليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا * ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته * لانه يكون عظيما امام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب ومن بطن امه يمتلئ من الروح القدس) .
ففي هذا النص نرى كيف أن البشارة جاءت أن هذا المولود سيكون له شأن كبير ، لا يشرب الخمر النجس الذي انتشر في بني اسرائيل رغم تحريمه في الغهد القديم ، وأن هذا الغلام سيأتيه الوحي.
ومن المفارقات أن النصارى تمر على هذه النصوص فلا ترى فيها شيئا ، فرغم استدلالهم على ربوبية المسيح وألوهيته بأن الروح القدس يحل عليه ، فهم لم يقولوا بألوهية يوحنا المعمدان رغم أن البشارة تقول أنه سيملئ من الروح القدس ، فلم يقولوا بحلول الروح القددس فيه كما زعموا في شأن المسيح ، وهذا يدل على فساد المنهج في الاستدلال وأنه عبيد للهوى.

2-ختانه عليه السلام
ورد ختان يحيى عليه السلام وتسميته في الكتاب المقدس ، وكان ذلك في اليوم الثامن حسب رواية لوقا حيث يقول : (و في اليوم الثامن جاءوا ليختنوا الصبي وسموه باسم ابيه زكريا) .
وهذا دليل على استقرار حكم الختان في شريعة اليهود واستمرار تطبيقها حتى عصر يحيى عليه السلام ، وسنجد أيضا أن المسيح عليه السلام ختن أيضا في الثامن ، وإنما كان بولس هو من أحدث المنع في الديانة النصرانية ، فهو محرف هذه الديانة كما سيأتي أن شاء الله ، وسوف نتكلم تفصيلا أن شاء الله عز وجل في الفروع في خصال الفطرة على الختان في الكتاب المقدس.
3- بعثته لبني إسرائيل وتكريزه بالتوبة
لقد ذكر لوقا قصة بعثة يحيى عليه السلام وفي أي سنة كانت وفي ولاية من ، وأبان الكتاب المقدس أن يحيى كان يكرز-أي يدعو- بمعمودية التوبة ، أي يدعو الناس للتوبة مما قد وقعوا فيه من خطايا ، فكان يعمد الناس في نهر الأردن كبداية عهد جديد في حياتهم للتخلص من الذنوب.
يقول لوقا : (و في السنة الخامسة عشر من سلطنة طيباريوس قيصر اذ كان بيلاطس البنطي واليا على اليهودية وهيرودس رئيس ربع على الجليل وفيلبس اخوه رئيس ربع على ايطورية وكورة تراخونيتس وليسانيوس رئيس ربع على الابلية * في ايام رئيس الكهنة حنان وقيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية * فجاء الى جميع الكورة المحيطة بالاردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا) .

4-المسيح عليه السلام يشهد له أنه أفضل من قام في بني إسرائيل
وقد شهد له المسيح في الكتاب المقدس أنه من أفضل من قام بين بني إسرائيل ، وذلك يثبت فضل يحيى عليه السلام بين أنبياء بني إسرائيل ، كذلك يثبت تواضح المسيح عليه السلام في عدم تفضيله نفسه على يحيى رغم كونه خاتم أنبياء بني إسرائيل وأنه من أولي العزم من الرسل ، وأنه صاحب المعجزات الغزيرة التي وردت في القرآن والسنة ، يقول المسيح كما يروي متى : (الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه) .

4-الإنجيل يظهر يحيى عليه السلام سيئ الخلق مع المدعووين
رغم ما ذكرناه من البشارة بعصمة يحيى عليه السلام قبل مولده ، إلا أننا نجد على عادة الكتاب المقدس في الطعن في الأنبياء أنهم يطعنون طعنا خفيا في يحيى عليه السلام ، فليس ذلك بالغريب على قوم كذبوا الرسل وقتلوهم ، فقد نالوا من غالب الأنبياء في العهد القديم والجديد ، فالطعن في الأنبياء لديهم أمر مطرد في العهدين.
يقول لوقا موضحا غلظة يحيى عليه السلام مع المدعويين : (و كان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه يا اولاد الافاعي من اراكم أن تهربوا من الغضب الاتي * فاصنعوا اثمارا تليق بالتوبة ولا تبتدئوا تقولون في انفسكم لنا ابراهيم ابا لاني اقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة اولادا لابراهيم ) .
فهل يليق لنبي من الأنبياء أن يسب المدعويين بهذه الطريقة ؟!
وهل السباب من الحكمة في الدعوة ومن مقومات قبولها لدى المدعويين؟!
لا ريب أن الغلظة في الدعوة سبب في غلق باب القبول والمناصحة وفتح باب العصيان والنفور ، وهذا ينافي الهدي الذي أمر الله به أنبيائه ، فالرفق في الدعوة أمر موافق للعقل والنقل في تحري الأصلح ، وأن الدعوة إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، قال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أن رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) .

5-تعميده للمسيح
يذكر العهد الجديد أن يحيى عليه السلام هو من قام بتعميد المسيح من نهر الأردن ، يقول لوقا : (و لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع ايضا واذ كان يصلي انفتحت السماء ) .
وهذا الموقف يستلزم الاستغراب حينما نقوم بدراسة ملابساته من أوجه :
الأول : شخصيات الموقف رجلان ، أحدهما يعتقد النصارى نبوته ، والآخر يعتقدون ربوبيته وألوهيته ، فهنا مرتبتان ، مرتبة الألوهية والربوبية ، والأخرى مرتبة النبوة ، فإذا كان الأنبياء هم الأعلم بالله ، فالموقف حينئذ يستلزم الآتي :
1- ألا يخرج عيسى عليه السلام مع عامة الناس للاعتماد ، لأنه رب ، لا يليق به أن يقوم نبي من أنبيائه أن يعمده من أجل غفران الخطايا.
2- أن يسجد يحيى عليه السلام للمسيح حين رؤيته باعتبار أن المسيح رب ، وهذا ما لم يحدث.
3- أن يقوم المسيح بتعميد يحيى عليهما السلام ، وذلك باعتبار أن المسيح رب ويحيى نبي ، وهو ما لم يحدث أيضا.
4- أن يقوم يحيى بإخبار القوم أن هذا هو الإله قد نزل من عليائه وتجسد ليكفر عنهم الخطيئة الأصلية ، وأن يسجدوا له ليغفر لهم خطاياهم بهذه المعمودية ، وهو ما لم يحدث أيضا.
لكن كل هذه الاافتراضات لم يكن لها محل عند يحيى أو المسيح عليهما السلام ، بل ولم تكن موجودة حتى عند سائر الأنبياء من قبل ، مما يدل على أن ربوبية المسيح وألوهيته وتجسده أمر لم يكن مطروحا في عصرهم ، ونفي كل هذه الافتراضات كاف لهدم العقيدة النصرانية المحرفة التي تزعم تجسد الإله من أجل الكفارة عن الخطيئة الأصلية.
الثاني: نتسائل : لماذا يتم تأخر تعميد المسيح حوالي ثلاثين عاما إن كان لذلك الأمر علة ؟!
الثالث : نتسائل : لماذا يعتمد المسيح بهذه المعمودية –معمودية التوبة-وهو بار معصوم كامل ، والتعميد في نهر الأردن إنما كان لمعمودية التوبة؟! أيتوب الرب؟!
الرابع : نتسائل : ما حاجة الرب أن يعتمد على يد عبد من عباده ، فإن كان رمزا فإلى أي شيء يرمز؟!

والباحث المنصف يجد نفسه أما دين لا يوافق النقل ولا العقل ، فالنقل متصارب يدل على التحريف ، والعقل يأبي ما يقولون ، فحق عليه قول رب العالمين : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)
6-سجنه ومقتله بسبب إنكاره للمنكر
لقد سجن يحيى عليه السلام وقتل من أجل مهر فاجرة من بني إسرائيل ، ألا وهي هيروديا زوجة أخيه فيليبس التي قد مات عنها ، وكانت الشريعة اليهودية تحرم الزواج بزوجة الأخ ، فلا يصح هذا النكاح ، وكان يحيى منكرا لهذا المنكر وأعلن حرمته في الشريعة اليهودية ، وكان ذلك الموقف عائقا من إتمام هذا العشق المحرم فقام هيرودس بسجنه ، يقول لوقا : (زاد هذا ايضا على الجميع انه حبس يوحنا في السجن) .
ومع كراهية هيروديا كيهودية لمنهج الأنبياء في الإصلاح والدعوة لشريعة رب العالمين ، والرغبة في إشباع الشهوة ولو كانت منافية للأحكام الواردة في الشريعة ، أرادت رأس يحيى عليه السلام كمهر لها ، ورغم أن هيرودس كان يكن كل الاحترام ليحيى إلا أنه قد فتن بهذه المرأة ونفذ له طلبها ، فكان مقتل يحيى عليه السلام في التو لأنها قد طلبت ما تريد في لحظة التي تعلم أن طلبها لا يرد ، يقول مرقس : (لان هيرودس نفسه كان قد ارسل وامسك يوحنا واوثقه في السجن من اجل هيروديا امراة فيلبس اخيه اذ كان قد تزوج بها * لان يوحنا كان يقول لهيرودس لا يحل أن تكون لك امراة اخيك ) .
وقد روى مرقس القصة كاملة كما يلي : (دخلت ابنة هيروديا ورقصت فسرت هيرودس والمتكئين معه فقال الملك للصبية مهما اردت اطلبي مني فاعطيك * واقسم لها أن مهما طلبت مني لاعطينك حتى نصف مملكتي * فخرجت وقالت لامها ماذا اطلب فقالت راس يوحنا المعمدان * فدخلت للوقت بسرعة الى الملك وطلبت قائلة اريد أن تعطيني حالا راس يوحنا المعمدان على طبق * فحزن الملك جدا ولاجل الاقسام والمتكئين لم يرد أن يردها * فللوقت ارسل الملك سيافا وامر أن يؤتى براسه )
وواقعة القتل أيضا وردت لدى لوقا (فقال هيرودس يوحنا انا قطعت راسه فمن هو هذا الذي اسمع عنه مثل هذا وكان يطلب أن يراه ) .
7-موقف المسيح من مقتل يحيى عليه السلام
من العجيب أن رواية كتبة الأناجيل لمقتل يوحنا عليه السلام لم تتعرض لموقف المسيح عليه السلام من هذه واقعة القتل ، وكأنه لا يعرفه أو لا يعنيه ، أو ربما لم يسمع بالخبر ، والسؤال الواجب طرحه : هل من المنطقي أن يكون هناك نبيان متعاصران يعيشان على نفس الأرض ، ويدعوان للتوحيد ، وينهيان عن الشرك والتنديد ، يقتل أحدهما ولا يكترث الآخر ، بل كأنه لم يعلم الخبر؟!.
هذا مما يجعل الأمر مستغربا ، فبينما تذكر الأناجيل أحداث لا أهمية لها ، ولا تقارن بمثل هذا الحدث ، إلا أنها تغفل عن ذكر واقعة من أهم الوقائع التي شهدها عصر المسيح ، ألا وهي مقتل نبي من أنبياء الله ، ليس ذلك فحسب ، بل وابن خالته.
وهذا إن دل فإنما يدل على أحد أمرين :
الأول : إما غفلة الرواة عن هذا الموقف أو جهلهم به ، وهذا يدل على أن رواة الأناجيل لم يتلقوا رواياتهم بالوحي كما يزعم سائر النصارى.
الثاني : أن عناية الرواة كانت منصبة تجاه تأريخ حياة المسيح فحسب ، وهذا يثبت أن تدوين الأناجيل كان أمرا شخصيا ، يدون كل راو ما يراه مناسبا.
وكلا الافتراضين يثبتان بشرية الكتاب وأنه ليس بوحي من رب العالمين.

والحمد لله رب العالمين

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك