مقدمات في علم مقالات الفرق

مقدمات في علم مقالات الفرق
تأليف د/ محمد بن خليفة التميمي

يسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران 102].
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسآلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء 1].
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} [الأحزاب 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد، فإن لكل علم من العلوم خصائصه ومقوماته وحدوده التي تميزه عن غيره من العلوم، ولذلك فلابد لكل علم من مقدمات توضح شيئاً من جوانبه المتعلقة بتعريفه وبيان أهميته وذكر بعض أصوله وضوابطه وقواعده وحدوده، ومسالك تأليف أهل ذلك الفن ومؤلفاتهم فيه، وغير ذلك من المسائل التي يحسن بالدارس أن يحيط بها علماً عند تناوله لذلك العلم بالدراسة والتحصيل .
وعلم "مقالات الفرق" هو أحد العلوم التي لقيت عناية كبيرة قديماً وحديثاً تأليفاً وتدريساً، ففي عصرنا الحاضر يعتبر تدريس هذا العلم في الكليات والأقسام الشرعية من الأمور الأساسية، فأحببت أن أدلي بدلوي فأعرف ببعض المقدمات الضرورية المتعلقة بهذا العلم ليستعين بها المطلع على جوانب هذا الفن، لعلها تفيده وتيسر له الإلمام بأساسياته.وليس غرضي من هذه المقدمات إعطاء معلومات تتعلق بمحتوى المادة العلمية لهذا العلم فهذا الجانب قد تناولته دراسات عديدة، وإنما الذي أهدف له هنا هو تقديم دراسة تتعلق بالجوانب العامة لهذا العلم، وقد سرت في ذلك وفق الخطة التالية:
المبحث الأول: التعريف بالمقالة واستعمالها في كلام أهل العلم.وفيه مطلبان
المطلب الأول: تعريف المقالة في اللغة والاصطلاح
المطلب الثاني: استعمال العلماء لمصطلح المقالة
المبحث الثاني: أهمية علم المقالات. وفيه مطلبان
المطلب الأول: أهمية علم المقالات في القرآن والسنة.
المطلب الثاني: أهمية علم المقالات عموماً.
المبحث الثالث: مناهج التأليف في علم المقالات والمؤلفات فيه.وفيه ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: مناهج التأليف في علم المقالات
المطلب الثاني: الكتب المؤلفة في هذا العلم
المطلب الثالث: أشهر الكتب المؤلفة في علم المقالات ومناهج مؤلفيها
الخاتمة: في أهمية التأليف في علم المقالات استقلالاً.
وبعد، فهذا جهد المقل أضعه بين يدي القارئ الكريم، وقد بذلت فيه قصارى جهدي، وغاية وسعي، فما كان فيه من صواب وحق فالحمد لله على توفيقه، وذلك من فضله ومنه، وما كان فيه من خطل، أو زلل، أو خلل، فأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة.
وأستميح القارئ الكريم عذراً إذا ما وجد في عملي هذا تقصيراً، فهذا جهد البشر، فأرجو من كل من اطلع على خطأ أو قصور أن يبادرني النصيحة مشكوراً مأجوراً.
والله أسأل أن ينفع بهذا العمل ويبارك فيه، وأن يجعله عملاً صالحاً ولوجهه خالصاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المبحث الأول: التعريف بالمقالة واستعمالها في كلام أهل العلم
المطلب الأول: تعريف المقالة في اللغة والاصطلاح:
أولاً: التعريف اللغوي:
ا - أصل الكلمة وتصريفها:
المقالة: مصدر على وزن (مَفْعَلَة) بفتح الميم، وإسكان الفاء، وفتح العين، بعدها لام مفتوحة فتاء، مأخوذة من القول، يقال: قال، يَقُولُ، قَوْلاً، وقِيلاً، وقَوْلَةً، ومَقَالاً، ومَقَالةً .
والمقالة بالتاء والمقال بدونها بمعنى واحد .
قال الفيروزآبادي: "القول: في الخير، والقال والقيل والقالة: في الشر، أو القول مصدر، والقيل والقال اسمان له، أو قال قولاً وقيلاً وقولة ومقالة ومقالاً" .
ب - معناها:
قال صاحب اللسان: "القول: الكلام على الترتيب، وهو عند المحقِّق كل لفظ قال به اللسان تاما كان أو ناقصا" .
ثم قال: "... فأما تجوزهم في تسميتهم الاعتقادات والآراء قَوْلاً، فلأن الاعتقاد يخفى فلا يعرف إلا بالقول، أو بما يقوم مقام القول من شاهد الحال، فلما كانت لا تظهر إلا بالقول إذ كانت سبباً له، وكان القول دليلاً عليها، كما يُسمَّى الشيئ باسم غيره إذا كان ملابساً له وكان القول دليلا عليه" .

ثانياً: التعريف الاصطلاحي:
جاء في المعجم الوسيط: "المقالة: القول، والمذهب، وبحث قصير في العلم أو الأدب أو السياسة أو الاجتماع ينشر في صحيفة أو مجلة" .
وهذا يعني أن لهذه الكلمة استعمالان:
أحدهما: استعمالها في فن العقيدة، وهو ما أشار إليه هنا بقوله: (المقالة: القول والمذهب).
والثاني: استعمالها في فن الأدب، وهو ما أشار إليه هنا بقوله: (بحث قصير في العلم أو الأدب........إلخ).
والذي يعنينا هنا هو الاستعمال الأول.
وأما تعريف علم مقالات الفرق: فقد قال طاش كبري زاده في تعريفه:
"علم مقالات الفرق : هو علم باحث عن ضبط المذاهب الباطلة المتعلقة بالاعتقادات الإلهية، وهي على ما أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة، اثنتان وسبعون فرقة.وموضوعه وغايته وغرضه ومنفعته ظاهرة جداً." .
وهذا التعريف حدد معالم هذا الفن من فنون العلم في ثلاثة معالم بارزة هي:
أولاً: قوله عن هذا العلم إنه: (علم باحث عن ضبط المذاهب الباطلة).
ثانياً: قوله: (المتعلقة بالاعتقادات الإلهية).
ثالثاً: قوله: (وهي على ما أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة، اثنتان وسبعون فرقة)
فحدود هذا الفن هي البحث عن ضبط المذاهب الباطلة، فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد،عند الفرق المنتسبة لهذه الأمة.
فهذا العلم يعنى بالخلاف الواقع في مسائل الاعتقاد ولا يبحث في المسائل الأخرى من أبواب الدين التي حصل فيها خلاف كمسائل الفقه والتفسير وغيرها.
وفي نظري أن التعريف جيد ويعطي صورة عن مضمون هذا العلم ومحتواه.
وأما تسميته لهذا العلم بـ "علم مقالات الفرق" فإن في هذا تمييزاً له عن "علم الأديان" الذي يعنى بمقالات الأمم الأخرى غير المسلمة، بينما اختص هذا العلم بمقالات الفرق المنتسبة إلى الإسلام.
فالمقالات عموماً تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المقالات الواقعة في هذه الأمة.
القسم الثاني: مقالات الأمم الأخرى.
ولذلك لما ألف أبو الحسن الأشعري في علم المقالات، ألف كتاباً سماه "مقالات الإسلاميين" وكتاباً آخر سماه "مقالات غير الإسلاميين".
ولكن الذي استقر عليه الحال في الوقت الحاضر هو الفصل بين هذين النوعين من المقالات، بتسمية مقالات غير الإسلاميين بـ "علم الأديان، وتسمية مقالات الإسلاميين بـ " علم الفرق".
ومن المعلوم أنه في العصر الراهن شققت بعض العلوم وفرع عنها عدة علوم ومن ذلك علم المقالات الذي تفرع إلى العلوم التالية:
1 - علم الفرق
2 - علم الأديان
3 ـ علم المذاهب المعاصرة
كما هو الحال في المقررات التعليمية وبخاصة في المراحل الجامعية.

المطلب الثاني: استعمال العلماء لمصطلح المقالة:
لاشك أن استعمال هذا المصطلح أعني "المقالات" أمر شائع وكثير في كتب المتقدمين، فكتب العلماء الأوائل ورد فيها استعمال هذا المصطلح بشكل كبير، حتى إنه من الصعب والمتعذر حصر تلك المواطن وجمعها، ولذلك فلا عبرة بما نحن عليه اليوم من ندرة استعمال هذا المصطلح وقلة استخدامه، ووجود الوحشة في أذهان بعض الدارسين عند سماعه،نظراً لذيوع استعمال مصطلح "الفرق" مكانه.
وسأورد بعض النماذج لاستعمال هذا المصطلح في كلام أهل العلم للتأكيد على صحة ما أقول.
1 - قيل لأبي حنيفة (150 هـ): "ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ قال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة، فإنها بدعة" .
2 - وقال أبو الحسن الأشعري (324هـ): "فإنه لابد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها، من معرفة المذاهب والمقالات، ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنفون في النحل والديانات... فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما التمست شرحه من المقالات واختصار ذلك وترك الإطالة والإكثار" .
ثم سرد مقالات مختلف الفرق مفتتحا الكلام على كل فرقة كبيرة بقوله مثلا: "مقالات الخوارج" ، "مقالات المرجئة" ، "مقالات المعتزلة" وهكذا...
3 - وقال عبد القاهر البغدادي (429 هـ): "وقد علم كل ذي عقل من أصحاب المقالات المنسوبة إلى الإسلام..." .
وقال: "فأما الفرقة الثالثة والسبعون فهي أهل السنة والجماعة... كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته..." .
و قال: "الباب الثالث من أبواب هذا الكتاب في بيان تفصيل مقالات فرق أهل الأهواء" .
ثم شرع في بيان هذه الفرق فيقول "الفصل كذا في بيان مقالات فرق كذا..." .
4 - وقال ابن حزم (ت 456 هـ): "فإن كثيرا من الناس كتبوا في افتراق الناس في ديانتهم ومقالاتهم كتبا كثيرة جدا،... وأضرب عن كثير من قويّ معارضات أصحاب المقالات فكان في ذلك غير منصف لنفسه..." .
وقال أيضاً: "وقد أفردنا في نقض هذه المقالة (وهي قول المجوس أن مدبر العالم أكثر من واحد) كتاباً..." .
5 - وقال الشهرستاني (ت 548 هـ): "لما وفقني الله تعالى إلى مطالعة مقالات أهل العالم من أرباب الديانات والملل وأهل الأهواء والنحل..." .
وقال أيضا: "فأهل الأهواء ليست تنضبط مقالاتهم في عدد معلوم..." .
6 - وقال أبو محمد اليمني (من علماء القرن السادس الهجري): "فمن هذا الباب دخل أهل البدع والأهواء على ضعفاء الناس في إفساد أديانهم، والاحتجاج بمقالتهم لا سيما على من جهل غموضه (أي القرآن) ومسلكه ومتشابهه" .
وبعد المقدمة شرع في ذكر الفرق فرقة فرقة ويفتتح الكلام على كل فرقة بقوله المقالة في ذكر كذا، نحو قوله في (1/18): "المقالة في ذكر فرقهم ـ أي الخوارج ـ" .
7 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ): "فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم....." إلى أن قال "فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل،لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا" .
وقال أيضاً: "فلا يعرف في المقالات المشهورة في العلم الإلهي مقالة أبعد عن الحق من مقالتهم، فإن مقالة اليهود والنصارى في العلم الإلهي خير من مقالتهم، ومقالات أهل البدع الداخلين في الملل، حتى الجهمية والمعتزلة ونحوهم من الطوائف التي تذمها أئمة أهل الملل هي خير من مقالتهم، وأعني بذلك مقالة أرسطو وأتباعه، وأما ما نقل عن الأساطين قبله فقولهم أقرب إلى الحق من قوله" .
وبهذه النماذج من أقوال العلماء يتضح مدى شيوع استعمال هذا المصطلح في كلامهم وجريانه في تعبيراتهم.

المبحث الثاني: أهمية علم المقالات
المطلب الأول: أهمية هذا العلم في القرآن والسنة
المتأمل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية يجد أن هناك عناية بجانب المقالات الباطلة، فقد أوردت النصوص عدداً من المقالات المخالفة لمنهج الحق وبينت زيفها، وحذرت منها، وذمت أصحابها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر

أولاً: ما جاء في القرآن الكريم:
ا - ما جاء عن مقالات اليهود
قوله تعالى {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق} .
وقال تعالى {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا} .
وقال تعالى {وقالت اليهود عزير ابن الله}
ب - ما جاء عن مقالات النصارى
قال تعالى {وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يظاهئون قول الذين كفروا من قبل} .
وقال تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}
وقال تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}
وقال تعالى {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ورح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً}
ج - ما جاء عن مقالات منكري البعث
وقال تعالى {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} .
وقال تعالى {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} .
د - ما جاء في مقالات منكري وجود الله
قال تعالى {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين}

ثانياً: ما جاء في السنة النبوية:
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية - وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة - فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها.
فرفع رأسه فقال: "أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"
2 - وعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"
3 - وعن عائشة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالا: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا
4 - وعن ابن عباس: سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله"
5 - وعن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى {اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة بل أنتم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم"
تلك بعض الإشارات عما حواه كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر مقالات اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم من أهل الباطل مما يؤكد ضرورة الاهتمام بتلك المقالات بقصد بيان زيغها وفسادها والرد عليها والتحذير منها ومن الوقوع فيها.

المطلب الثاني: أهمية علم المقالات عموماً
لعلم المقالات أهميته البالغة ومنفعته العظيمة باعتباره أحد العلوم المهمة التي أولاها العلماء اهتمامهم وتناولوها بالبحث والدراسة والتصنيف، وترجع أهمية هذا العلم لعوامل متعددة من أهمها مايلي:
أولاً:- رصد وكشف المذاهب المنحرفة عن الصراط المستقيم فذلك من الأمور المهمة التي ينبغي الاهتمام الجاد بدراستها، وإعطائها حقها من المتابعة والبحث، تحقيقاً لقول الله تعالى {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} ،
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "العالمون بالله وكتابه ودينه، عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرجهم من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الظلم إلى العدل، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه، فإن الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضاً لما انتقلوا عنه..." .
وهذا المفهوم يجليه قول عمر الفاروق رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"
ثانياً: الرد على أهل الأهواء والبدع حتى تنقطع شبهتهم ويزول عن المسلمين ضررهم، فتلك مرتبة عظيمة من منازل الجهاد باللسان، فقد صح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"
وقال الإمام ابن تيمية: "فالراد على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحي ابن يحي يقول: الذب عن السنة أفضل من الجهاد" .
وقال أيضاً: "وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة: مثل نقلة الحديث الذين يغلطون ويكذبون، ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلَّى واعتكف فإنما هو انفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء، لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً" .
ثالثاً: أن الدعوة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة والاجتماع عليها وبيان فساد ما خالفها وشذ عنها والتحذير منهم فيه تكثير للفرقة الناجية المعتصمة بالحق، وفيه أمر بالمعروف، قال ابن تيمية رحمه الله: "ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك ـ الافتراق بين المسلمين ـ فما فائدة النهي عنه؟
لأن الكتاب والسنة أيضاً قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة.
ففي النهي عن ذلك تكثير هذه الطائفة المنصورة وتثبيتها وزيادة إيمانها فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها" .
رابعاً: إن دراسة مقالات الفرق من باب معرفة الشر لتوقيه وتحذير الناس من الفرق المبتدعة التي تكاثرت وتكاتفت فتعددت السبل وكثرت المشتبهات، وفي ذلك نهي عن المنكر.
وقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" .
قال ابن تيمية ـ في تعليقه على أحاديث النهي عن التفرق ـ: "وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرق والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته منه لينجو من الوقوع فيه من شاء الله له السلامة" .
خامساً: بيان صلة الفرق الضالة والآراء المنحرفة المعاصرة بجذورها الخبيثة من الفرق القديمة أهل الأهواء والبدع وكشف حقيقتها وتلبيساتها على الناس، فإن تغيير الأسماء مع بقاء المسميات والمعاني من أساليب الخداع والمكر عند اليهود والزنادقة وأعداء الإسلام.
قال ابن القيم رحمه الله ـ بعد كلامه عن التحيل الباطل ـ: "وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه، فجعلها سترة وجنَّة يتستر بها من ارتكب ما نهي عنه فأخرجه في قالب الشرع.
كما أخرج الجهمية التعطيل في قالب التنزيه.
وأخرج المنافقون النفاق في قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشي.
وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان في قالب السياسة وعقوبة الجناة.
وأخرج الروافض الإلحاد والكفر والقدح في سادات الصحابة وحزب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوليائه وأنصاره في قالب محبة أهل البيت والتعصب لهم وموالاتهم.
وأخرج فسقة المنتسبين إلى الفقر والتصوف بدعهم وشطحهم في قالب الفقر والزهد والأحوال والمعارف ومحبة الله ونحو ذلك.
وأخرجت الاتحادية أعظم الكفر والإلحاد في قالب التوحيد وأن الوجود واحد لا اثنان وهو الله وحده فليس هاهنا وجودان خالق ومخلوق ولا رب ولا عبد بل الوجود واحد وهو حقيقة الرب.
وأخرجت القدرية إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات، أفعالها وأعيانها في قالب العدل، وقالوا: لو كان الرب قادراً على أفعال عباده لزم أن يكون ظالماً لهم فأخرجوا تكذيبهم بالقدر في قالب العدل.
وأخرجت الخوارج قتال الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم في قوالب متنوعة بحسب تلك البدع، فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق..." .
سادساً: إن عدم دراسة الفرق والرد عليها وإبطال الأفكار المخالفة للحق، فيه إفساح المجال للفرق المبتدعة أن تفعل ما تريد، وأن تدعو إلى كل ما تريد من بدع وخرافات دون أن تجد من يتصدى لها بالدراسة والنقد .
ولهذه العوامل وغيرها تبدو الضرورة ملحة لوجود هذا العلم واعتناء أهل العلم به، وهذا هو الواقع الملموس من تتبع جهود العلماء قديماً وحديثاً عبر القرون المختلفة، قال طاش كبري زاده في معرض تعريفه لعلم المقالات "وموضوعه وغايته وغرضه ومنفعته ظاهرة جداً."

المبحث الثالث: مناهج التأليف في علم المقالات والمؤلفات فيه
المطلب الأول: مناهج التأليف في علم المقالات:
سلك أصحاب كتب المقالات طريقان في ترتيب هذا الفن وفي ذلك يقول الشهرستاني: "ولأصحاب كتب المقالات طريقان في الترتيب:
أحدهما: أنهم وضعوا المسائل أصولاً ثم أوردوا في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة.
والثاني: أنهم وضعوا الرجال وأصحاب المقالات أصولاً ثم أوردوا مذاهبهم في مسألة مسألة" .
ولا شك أن أغلب المصنفين سلك المسلك الثاني. ومنهم الشهرستاني الذي علل ذلك بقوله: "لأني وجدتها أضبط للأقسام وأليق بأبواب الحساب" .
ومنهم عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق، حيث جعل أصحاب الآراء وزعماء الفرق أصولاً، ثم يورد آراء كل منهم في كل مسألة، كما قال: "...ونذكر في الباب الذي يليه تفصيل مقالة كل فرقة من فرق أهل الأهواء الذين ذكرناهم إن شاء الله عز وجل..." .
وممن جمع بين الطريقتين أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين فقد تميز كتابه بالجمع بين الطريقتين في عرض آراء الفرق، فالجزء الأول معظمه كان وفق الطريقة الثانية، وهي جعل أصحاب المذاهب أصولاً.
أما الجزء الثاني فهو وفق الطريقة الأولى، وهي جعل المسائل أصولاً، ثم إيراد في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة.
ومنهج الأشعري هذا جعل كتابه بمثابة كتابين مختلفين ضم أحدهما إلى الآخر، فمن أراد آراء الفرق في مسألة ما، أمكنه ذلك، ومن أراد آراء فرقة ما، أمكنه ذلك، وقد اقتضى منه ذلك شيئاً من التكرار الملاحظ لآراء الأشخاص في أكثر من موضع.
وممن وافق الأشعري في طريقته هذه ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل، حيث جمع بين الطريقتين، مع استعماله الطريقة الأولى، وهي جعل المسائل أصولاً أكثر.
ومنهم أيضاً أبو محمد اليمني في كتابه عقائد الثلاث والسبعين فرقة حيث جمع بين الطريقتين الأولى، والثانية.
وإذا ماخرجنا عن كتب المقالات فإنا نجد كتب الردود قد اعتمدت الطريقة الأولى، وهي جعل المسائل أصولاً، فهي تعنى ببيان الحق في مسألة من مسائل العقيدة والرد على المخالفين فيها، ومن ذلك على سبيل المثال:
الرد على الجهمية للإمام أحمد، والرد عى الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي، والرد على الجهمية لابن منده، والرد على بشر المريسي للدارمي، والرد على البكري، وعلى الأخنائي، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية، والصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي.
والملاحظ أن الغالب اليوم في طريقة عرض هذه المادة عند من يقوم بتدريسها هو استعمال الطريقة الثانية وهي وضع الرجال وأصحاب المذاهب أصولاً ثم إيراد مذاهبهم.

المطلب الثاني: الكتب المؤلفة في هذا العلم
من الكتب المؤلفة في هذا العلم:
1-المقالات : زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة (158هـ) .
2-المقالات والفرق: سعد بن عبد الله الأشعري القمي الرافضي (300هـ) .
3-المقالات : عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي المعتزلي (319هـ) .
4-المقالات في أصول الديانات: المسعودي أبو الحسن علي بن الحسين (346هـ) شيعي معتزلي .
5-المسائل والعلل في المذاهب والملل: له أيضاً.
6-الآراء والديانات للحسن بن موسى بن الحسن النوبختي الفارسي شيعي معتزلي (310هـ) .
7-جمل المقالات : لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (324هـ) .
8-مقالات الإسلاميين: له أيضاً.
9-مقالات غير الإسلاميين : له أيضا.
10-التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: أبو الحسين محمد بن أحمد الملطي الشافعي (377هـ) .
11-الملل والنحل : أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (403هـ) .
12-الملل والنحل : أبو منصور عبد القاهر البغدادي (429هـ) .
13-الفرق بين الفرق: له أيضاً.
14-تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة: لأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني (440هـ) .
15-المقالات والآراء والديانات : له أيضاً
16-الفصل في الملل والأهواء والنحل: لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (456هـ) .
17-الملل والنحل: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (548هـ) .
18-عقائد الثلاث والسبعين فرقة : لأبي محمد اليمني (من علماء القرن السادس الهجري) .
19-اعتقدات فرق المسلمين والمشركين: فخر الدين محمد بن عمر الرازي (606هـ) .
20-البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان: لأبي الفضل عباس بن منصور التريني السكسكي اليمني (683هـ) .
21-المقالات : علاء الدولة أحمد بن محمد السمناني الصوفي (736هـ) .
22-المنية والأمل في شرح الملل والنحل: أحمد بن يحي بن المرتضى اليماني الزيدي المعتزلي (840هـ) .
23-الملل والنحل : له أيضاً.
24-شارع النجاة : أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي (845هـ) .
25-وجيزة المقال في بيان ملل الضلال : أحمد بن السيد عثمان الدمشقي الحنفي (كان حيا سنة 1163هـ) .
والملاحظ على هذه المؤلفات أن جلها لاتحمل عقيدة أهل السنة والجماعة، فإذا ما استثنينا كتاب "التنبيه والرد" للملطي، وكتاب "عقائد الثلاث والسبعين فرقة" لأبي محمد اليمني، وكتب "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري (على ما عليه من ملاحظات سيأتي بيانها)، نجد أن باقي الكتب تمثل تياراً مخالفاً بل إنه في بعض الأحيان شديد المخالفة كالاعتزال أوالرفض.
ولكن لكون أكثر هذه الكتب تعتمد منهج النقل المجرد للمقالات دون تدخل في مناقشتها، فإنه قد يستفاد منها في هذا الوجه، أو قد يستفاد منها من وجه آخر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية "ومع هذا فيستفاد من كلامهم نقض بعضهم على بعض وبيان فساد قوله،فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل،وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى،فيبقى الإنسان عنده دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب."
المطلب الثالث: أشهر الكتب المؤلفة في المقالات ومناهج مؤلفيها.
من الحقائق التي يجهلها الكثير من الدارسين لهذا العلم أن أشهر الكتب التي يكثر تداولها بين أيديهم عند دراسة هذا العلم وهي "كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري،كتاب الفصل لابن حزم، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، والفرق بين الفرق للبغدادي" لا تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة، فهذه الكتب يصدق فبها قول شيخ الإسلام ابن تيمية "فالكتب المصنفة في مقالات الطوائف التي صنفها هؤلاء ليس فيها ما جاء به الرسول وما دل عليه القرآن، لا في المقالات المجردة، ولا في المقالات التي يذكر فيها الأدلة فإن جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه." .
وقوله أيضاً: "ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات، ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه. ونفس ما بعث الله به رسوله،وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل، الذي حكوا فيه أقوال الناس،لا ينقلونه لا تعمداً منهم لتركه،بل لأنهم لم يعرفوه،بل ولا سمعوه،لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين.". .
ومن أجل ذلك أحببت التنبيه على ما حوته هذه المؤلفات من مناهج، مع بيان عقائد أصحابها وسمات تلك المؤلفات، وذلك على النحو التالي:
أولاً: كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري "260 -324".
ا - عقيدته:
يعتبر أبو الحسن الأشعري امتداداً للمذهب الكلابي فأبو الحسن الأشعري الذي عاش في الفترة ما بين (260هـ -324هـ) كان معتزلياً إلى سن الأربعين، حيث عاش في بيت أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في البصرة، ثم رجع عن مذهب المعتزلة وسلك طريقة ابن كلاب وتأثر بها لفترة طويلة، ولعل السبب في ذلك أنه وجد في كتب ابن كلاب وكلامه بغيته من الرد على المعتزلة وإظهار فضائحهم وهتك أستارهم، وكان ابن كلاب قد صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم. ولكن فات الأشعري أن ابن كلاب وإن رد على المعتزلة وكشف باطلهم وأثبت لله تعالى الصفات اللازمة، إلا أنه وافقهم في إنكار الصفات الاختيارية التي تتعلق بمشيئته تعالى وقدرته، فنفى كما نفت المعتزلة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته. كما نفى أيضاً الصفات الاختيارية مثل الرضى، والغضب، والبغض، والسخط وغيرها.
وقد مضى الأشعري في هذا الطور نشيطاً يؤلف ويناظر ويلقى الدروس في الرد على المعتزلة سالكاً هذه الطريقة.
ثم التقى بزكريا بن يحي الساجي فأخذ عنه ما أخذ من أصول أهل السنة والحديث، وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى وذلك بآخر أمره.
ولكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك.
ولذلك قال عنه السجزي: (رجع في الفروع وثبت في الأصول) أي أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الأعراض وغيره.
وقال عنه الذهبي: "...وكان معتزلياً ثم تاب، ووافق أصحاب الحديث في أشياء يخالفون فيها المعتزلة، ثم وافق أصحاب الحديث في أكثر ما يقولونه، وهو ما ذكرناه عنه من أنه نقل إجماعهم على ذلك، وأنه موافق لهم في جميع ذلك، فله ثلاثة أحوال: حال كان معتزلياً، وحال كان فيها سنياُ في بعض دون البعض، وكان في غالب الأصول سنياً، وهو الذي علمناه من حاله، فرحمه الله وغفر له ولسائر المسلمين..." .
ب - منهج الأشعري في كتابه المقالات
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري،وقد ذكر فيه من المقالات وتفصيلها ما لم يذكره غيره، وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم. وليس في جنسه أقرب إليه منه، ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة وقال به الصحابة والتابعون لهم بإحسان: في القرآن،والرؤية،والصفات، والقدر،وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه،وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين.
وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين،المختلفين في أصول الدين.ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام) إلى أن قال (ومع هذا فيستفاد من كلامهم نقض بعضهم على بعض وبيان فساد قوله،فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل،وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى،فيبقى الإنسان عنده دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب.
وهذا مما مُدح به الأشعري ؛ فإنه بيّن من فضائح المعتزلة وتناقض أقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره،لأنه كان منهم،وكان قد درس الكلام على أبي علي الجبائي أربعين سنة،وكان ذكياً،ثم إنه رجع عنهم،وصنف في الرد عليهم،ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب،لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم،ولم يعرف غيرها،فإنه لم يكن خبيراً بالسنة والحديث وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم،وتفسير السلف للقرآن.والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا.
ولهذا يذكر في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة: يذكر قول كل واحد منهم وما بينهما من النزاع في الدق الجل.....؛ويذكر أيضاً مقالات الخوارج والروافض،لكن نقله لها من كتب أرباب المقالات،لاعن مباشرة منه للقائلين،ولا عن خبرة بكتبهم،ولكن فيه تفصيل عظيم،ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه،ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب.
فإذا جاء إلى مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمراً مجملاً تلقى أكثره عن زكريا بن يحي الساجي،وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية بغداد ونحوهم.وأين العلم المفصل من العلم المجمل ؟" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات، ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه. ونفس ما بعث الله به رسوله،وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل، الذي حكوا فيه أقوال الناس،لا ينقلونه لا تعمداً منهم لتركه،بل لأنهم لم يعرفوه،بل ولا سمعوه،لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين.
وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها، وفيه من الأقوال وتحريرها مالا يوجد في غيرها.وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم،وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم.
وجاء بعده من أتباعه ـ كابن فورك ـ من لم يعجبه ما نقله عنهم، فنقص من ذلك وزاد، مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته في الحديث ومقالات السلف الأئمة، وقد ذكر في غير موضع عنهم أقوالاً في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلاً".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وتأملت ما وجدته في الصفات من المقالات مثل كتاب الملل والنحل للشهرستاني، وكتاب مقالات الإسلاميين للأشعري، وهو أجمع كتاب رأيته في هذا الفن، وقد ذكر فيه ما ذكر أنه مقالة أهل السنة والحديث، وأنه يختارها،وهي أقرب ما ذكره من المقالات إلى السنة والحديث، لكن فيه أمور لم يقلها أحد من أهل السنة والحديث ونفس مقالة أهل السنة والحديث لم يكن يعرفها، ولا هو خبير بها، فالكتب المصنفة في مقالات الطوائف التي صنفها هؤلاء ليس فيها ما جاء به الرسول وما دل عليه القرآن، لا في المقالات المجردة، ولا في المقالات التي يذكر فيها الأدلة فإن جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه." .
ج - سمات كتاب مقالات الإسلاميين
من أبرز ما تميز به كتابه المقالات من السمات ما يلي:
1-قصر الأشعري الحديث في كتابه على الفرق الإسلامية، والسبب في ذلك أن له كتاباً آخر سماه (مقالات غير الإسلاميين)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ([كتاب مقالات غير الإسلاميين ] وهو كتاب كبير أكبر من [مقالات الإسلاميين ]) .
2-أغفل الأشعري في كتابه حديث الافتراق، فلم يتعرض له بشيء فضلاً عن أن يقيم كتابه عليه مثل ما فعل بعض المؤلفين الآخرين كما سيأتي.
3-سلك الأشعري في عرض الآراء منهج عرض آراء ومقالات الفرق، دون أن يكون للمؤلف أي توجيه في ذلك العرض، فلا تعقيب ولا رد ولا نقد ولا مناقشة لتلك الآراء، وقد التزم الأشعري بهذا المنهج في جميع كتابه، ولذا عدَّ مصدراً موثوقا به في نقل آراء الفرق الأخرى، وخاصة المعتزلة الذين يعدون من خصومه.
4-تميز كتاب المقالات بالجمع بين الطريقتين في عرض آراء الفرق، فالجزء الأول معظمه كان وفق الطريقة الأولى، وهي جعل أصحاب المذاهب أصولاً.
أما الجزء الثاني فهو وفق الطريقة الثانية، وهي جعل المسائل أصولاً، ثم إيراد في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة.
ومنهج الأشعري هذا جعل كتابه بمثابة كتابين مختلفين ضم أحدهما إلى الآخر، فمن أراد آراء الفرق في مسألة ما، أمكنه ذلك، ومن أراد آراء فرقة ما، أمكنه ذلك، وقد اقتضى منه ذلك شيء من التكرار الملاحظ لآراء الأشخاص في أكثر من موضع.
5-حصر الأشعري أصول الفرق في عشر فرق خلافا للمؤلفين الآخرين كما سيأتي.
6-اختلف منهج الأشعري في طائفة المعتزلة عن سائر الطوائف من حيث:
أ- عدم تقسيم المعتزلة إلى فرق، كما هو شأن سائر الفرق الأخرى.
ب- عرض آرائهم وفق الطريقة الثانية فقط، وهي جعل المسائل أصولا.
جـ- التوسع والإطناب في عرض آرائها توسعاً ملحوظاً، حيث استغرق الحديث عنهم نصف الجزء الأول تقريباً، ومعظم الجزء الثاني، وذلك لسعة علمه واطلاعه على دقائق آرائهم، ودقة فهمه لمقولاتهم.
7-كان الأشعري أعلم بالمقالات وقائليها، وأدق في نقل الأقوال، وعزوها إلى قائليها، وأكثر تحرياً ممن جاء بعده، بل إن كتابه هو مصدر معظم من جاء بعده من المؤلفين في مقالات الفرق، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع من كتبه منها قوله:
"والأشعري أعلم بمقالات المختلفين من الشهرستاني، ولهذا ذكر عشر طوائف، وذكر مقالات لم يذكرها الشهرستاني، وهو أعلم بمقالات أهل السنة وأقرب إليها وأوسع علماً من الشهرستاني" .
وقال: "ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء، لأنه أعلم بالمقالات، وأشد احترازاً من كذب الكذابين فيها..." .
وقال أيضاً: "ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري..." .
وقال: "وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها، وفيه من الأقوال وتحريرها مالا يوجد في غيرها" .
8-الإيجاز والاختصار في عرض الآراء والمقالات بوجه عام .

ثانياً: كتاب "الفرق بين الفرق" لعبد القاهر البغدادي "ت 429 هـ"
ا - عقيدته: هو أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي المتوفى سنة 429هـ ، وكان أشعري المذهب ويدل على ذلك عدة أمور منها:
1-اتفاق المترجمين له على نسبته إلى هذا المذهب
2-عرضه لعقيدة الأشعرية في كتابه الفرق بين الفرق على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية، ولم يصنف الأشعرية على أنها إحدى الطوائف بل جعلهم هم أهل الحق .
3-كتابه "أصول الدين" أكبر دليل على انتسابه إلى هذا المذهب، فقد ألفه على طريقة المتكلمين في تقسيمه لأبوابه، وتقريره لمسائل الاعتقاد على منهج الأشاعرة في مختلف الأبواب .
ب - منهج البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق
تميز منهج البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق بعدم ميزات من أهمها ما يلي:
1-اعتمد في تقسيم الفرق الإسلامية على حديث الافتراق، وسعى في تحديد الفرق طبقاً للعدد المذكور في الحديث.
2-كانت طريقته في عرض آراء الفرق بجعل أصحاب الآراء وزعماء الفرق أصولاً، ثم إيراد آراء كل منهم في كل مسألة.
3-تميز كتاب الفرق بين الفرق بحسن التنظيم وجودة الترتيب لآراء الفرق والتقسيمات المتعلقة بها.
4-قدم قبل الخوض في آراء الفرق بمقدمات، ضمنها ذكر الخلافات الواقعة في أول الأمة، وكيف وقع الافتراق، والإشارة إلى فرق الأمة إجمالاً، وتوسع في ذلك فكانت تلك المقدمات كالخلاصة لبقية كتابه.
5-اقتصر البغدادي على عرض آراء الفرق الإسلامية فقط.
6-وافق البغدادي في عده لأصول الفرق أبا الحسن الأشعري، حيث جعل كل منهما أصول الفرق عشرة ، وعد بعض الفرق خارجة عن الإسلام وإن كانت تنتسب إليه، كغلاة الشيعة .
7-عرض البغدادي الأشعرية وآراءهم عرضاً يفيد أنها العقيدة الصحيحة التي عليها جمهور أهل السنة والجماعة ـ في نظره ـ وهم معظم المسلمين كما زعم، ولم يدخلها ضمن تصنيفه للفرق الإسلامية .
8-كان عرض البغدادي للفرق أكثر شمولاً من عرض غيره، حيث يعطي القارئ تصوراً عن الفرقة من جوانب متعددة، سواء كانت تاريخية أو فقهية أو غيرها؛ إضافة إلى الآراء العقدية لها.
9-اتبع البغدادي في كتابه منهج التقرير والنقد، لا مجرد النقل الموضوعي لآراء الفرق، فكان يعرض آراء الفرق ومقولاتها، ثم يتبع ذلك بمناقشتها، وبيان بطلانها وتهافتها من وجهة نظره، وكانت مناقشاته وتعقيباته تتسم بالشدة، والقسوة وتصل إلى حد السب والسخرية والشماتة والتهكم بالرأي وصاحبه ، وذكر الإلزامات على الرأي، ومقارنة بعض آراء الفرقة بالمذاهب والأديان المنحرفة، بل يبلغ نقده حد الاتهام بالأعراض ، بل التكفير والإخراج من ملة الإسلام، وهذا في مواضع متعددة من كتابه، وخاصة في حديثه عن المعتزلة .

ثالثاً: كتاب الفصل لابن حزم "ت 456 هـ"
ا - عقيدته: هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي المتوفى (456 هـ)، أما مذهبه العقدي فإن ابن حزم لم يكن له مذهب عقدي متميز سار عليه في جميع أبواب الاعتقاد، بل نجده مضطرباً اضطراباً شديداً في مختلف المسائل العقدية، فنجده مثلاً يوافق المتكلمين في طريقة إثباتهم لوجود الله بطريق الحدوث، لكنه زاد عليهم في الاستدلال بالآثار الدالة في المخلوقات على وجود الصانع وهو أحد أدلة أهل السنة.
ونجده يستعمل العديد من مصطلحات المتكلمين المجملة، كنفي الجسمية والعرضية والزمانية والمكانية والحركة، مع أن الصواب في ذلك هو عدم النفي المطلق بل التفصيل في هذه المسائل.
ويوافق المعتزلة في إثبات الأسماء لله عز وجل مجردة عن المعاني المتعلقة بها، ومن غير أ ن تشتق منها الصفات، بل يعتبرها أنها أعلام محضة لا معنى لها.
والصفات التي يثبتها ابن حزم يرجعها إلى الذات كما هو مذهب طوائف من المتكلمين في هذه المسألة، ونجده أيضاً يؤول العديد من الصفات كالصورة، والأصابع، والساق، والاستواء، والنزول، وغيرها.
في حين نجده يوافق أهل السنة في جملة مسائل منها، مسألة الرؤية في الآخرة، والقرآن، وأنه كلام الله، وغالب مباحث أفعال الله تعالى، في باب القضاء والقدر.
في حين يوافق الأشاعرة في عدم تعليل أفعال الله تعالى خلافاً لأهل السنة والجماعة .
هذه بعض المسائل التي تبين اضطراب ابن حزم في منهجه العقدي مما يتعذر معه نسبته لطائفة معينة.
ب - منهج ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل
اتسم منهج ابن حزم في كتابه الفصل بعدة سمات من أبرزها ما يلي:
1-شمل كتاب الفصل الحديث عن الفرق الإسلامية والملل الأخرى من مختلف الأديان، وركز ابن حزم حديثه عن أهل الكتاب، وأولاهم اهتماماً كبيراً حتى استغرق ذلك جزءاً كبيراً من الكتاب، بينما حديثه عن الفرق الإسلامية كان مختصراً ويسيراً.
2-لم يعتمد ابن حزم في كتابه على حديث الافتراق، بل ضعفه وأبطله وأنكر صحته .
3-جعل ابن حزم أصول الفرق خمسة وهي: "المعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج، وأهل السنة" .
4-سلك ابن حزم في طريقة عرضه لآراء الفرق الطريقتين المتبعتين في ذلك، وهما: إما جعل المسائل أصولاً ثم ذكر من قال بها من مختلف الطوائف، وهي التي استخدمها أكثر، وإما جعل أصحاب المقالات وزعماء الفرق أصولاً، ثم ذكر قولهم في كل مسألة.
5-سلك ابن حزم في كتابه منهج التقرير والنقد لمختلف الآراء، ولم يكتفي بمجرد العرض الموضوعي لها، بل لم يدخر جهداً في إبطال ونقد كل مذهب ومقالة عرضها تخالف ما يعتقده، وقد كان في نقده ومناقشته لتلك الآراء عنيفاً، شديداً في عباراته وألفاظه، قوياً في رده، خاصة في مناقشته لأهل الكتاب فيما تضمنه كتابهم المقدس ـ بزعمهم ـ حيث نقده نقداً شديداً، وبين تحريفه.
ومع قسوته وعنفه إلا أنه كان موضوعياً، وكان نقده علمياً لا عاطفياً حماسياً.
6-جاء كتاب ابن حزم مضطرباَ في ترتيبه غير منظم، وقد أصاب السبكي في ذلك عندما قال: "وكتاب الملل والنحل للشهرستاني هو عندي خير كتاب صنف في هذا الباب، مصنف ابن حزم وإن كان أبسط منه، إلا أنه مبدد ليس له نظام..." .
وقد علل أصحاب دائرة المعارف الإسلامية وجود هذا الاضطراب في كتاب ابن حزم بقولهم: "إن الترتيب المنطقي لهذا الكتاب ـ الفصل ـ مضطرب إلى حد ما؛ بسبب إدماج رسائل مستقلة فيه..." .

رابعاًً: كتاب الملل والنحل للشهرستاني "ت 548"
ا - عقيدته: هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ ، وكان الشهرستاني أشعري المعتقد ويدل لذلك عدة أمور منها:
1-إجماع المترجمين له على نسبته إلى المذهب الأشعري في المعتقد، ولم يخالف في ذلك أحد .
2-دلالة العديد من كتبه على انتسابه إلى المذهب الأشعري في المعتقد، مثل كتابه الملل والنحل الذي قرر فيه أن المذهب الأشعري هو مذهب أهل السنة والجماعة، وتصريحه في كتابه نهاية الإقدام حين يعرض آراء المذهب الأشعري بقوله: "نقول، قلنا، قولنا، قول الحق" ، وغير ذلك؛ بخلاف عرض آراء المذاهب المخالفة، حيث يصدرها بقوله: "قالوا، يقولون، قولهم، حققوه" ، وغير ذلك.
فكاتبه هذا ـ في جملته ـ تقرير للمذهب الأشعري بأدلته وحججه ومناقشة الآراء المخالفة والرد عليها .
ومن الأمور التي اشتهرت في حق الشهرستاني اتهامه بالميل إلى الفلاسفة الباطنية، ومن العلماء الذين وجهوا له هذا الاتهام ابن أرسلان الخوارزمي ، وعلي بن أبي القاسم البيهقي ، والسمعاني ، والذهبي .
وقد دافع عنه آخرون وحاولوا تبرئته من هذه التهمة منهم السبكي ، وابن حجر العسقلاني ،والدكتورة سهير محمد مختار .
وقد حقق القول في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية وبين رأيه في هذه التهمة قائلاً: "أما قوله (يعني بذلك ابن مطهر الحلي) إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية، فليس كذلك بل يميل كثيراً إلى أشياء من أمورهم، بل يذكر أحياناً أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية منهم ويوجهه؛ ولذا اتهمه الناس بالإسماعيلية، وإن لم يكن الأمر كذلك، وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته، وقد يقال: هو من الشيعة بوجه، ومع أصحاب الأشعري بوجه... وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم..." .
ومما يؤكد ذلك أن الشهرستاني صنف في ذكر فضائح الباطنية ، وفي الرد على ابن سينا الفيلسوف الإسماعيلي، يقول ابن القيم: "وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه (المصارعة) أبطل فيه قوله بقدم العالم، وإنكار المعاد، ونفي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم" .
وإن كان للشهرستاني بعض الردود على مطاعن الشيعة في الصحابة ، ووصفهم بالحيرة والضياع ، إلا أن ميله للتشيع أمر مؤكد في حقه كما قال شيخ الإسلام عنه: "وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم، فإن هذا الكتاب ـ الملل والنحل ـ صنفه لرئيس من رؤسائهم، وكانت له ولاية ديوانية، وكان الشهرستاني مقصود في استعطافه له، وكذلك صنف له كتاب المصارعة..." .
وربما كان هذا التذبذب محاولة منه لإرضاء الطرفين، أهل السنة والشيعة، والله أعلم.
ب - منهج الشهرستاني في كتابه الملل والنحل
تتمثل أبرز سمات المنهج الذي سار عليه الشهرستاني في كتابه الملل والنحل في النقاط التالية:
1-جمعه بين الحديث عن الفرق الإسلامية وملل ومذاهب أخرى، فكتابه أشبه بالموسوعة المختصرة في الأديان والمذاهب والفرق المختلفة.
2-اعتماده حديث الافتراق، حيث بني تقسيمه للفرق على ضوئه، وتكلف في حصر الفرق وتحديدها ليطابق العدد المذكور في ذلك الحديث.
3-اشترط الشهرستاني في أول كتابه بأن يسلك المنهج الموضوعي في العرض دون التعقيب أو النقد أو الرد ، إلا أنه لم يلتزم بهذا الشرط بل كانت له بعض التعقيبات والمداخلات أثناء حديثه عن بعض الفرق والطوائف.
4-اقتصر في عرض آراء ومقالات الفرق على طريقة جعل أصحاب المقالات وزعماء الفرق أصولاً، ثم إيراد تحت كل منهم آراءه في مسألة مسألة، وعلل ذلك بأنه أضبط للأقسام وأليق ببيان الحساب .
5-حصر المؤلف أصول الفرق في أربع فرق كبار هي: "القدرية، الصفاتية، الخوارج، الشيعة" .
6-عدم الدقة في النقل وقلة العلم بمقالات بعض الفرق، كما قال ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض المقارنة بين كتابه وكتاب المقالات للأشعري الذي وصفه بضد ذلك فقال: "...والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالاً ضعيفة، يعرفها من يعرف مقالات الناس، مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلاً، ولكن هذا الباب وقع فيه ما وقع. ولهذا لما كان خبيراً بقول الأشعرية وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة،كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين. وأما الصحابة والتابعون وأئمة السنة والحديث، فلا هو وأمثاله يعرفون أقوالهم، بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة، وإنما سمعوا جملاً تشتمل على حق وباطل" .
ولعل هذا الخلل وقع منه بسبب مصادره في النقل حيث صرح شيخ الإسلام بأن أكثر مصادره هي كتب المعتزلة وقلة خبرته بالحديث وآثار السلف، فقال: "والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب المعتزلة..." .
وقال أيضاً: "والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين، ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين، ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول الكبار، لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام، وإنما ينقلون ما يجدونه في كتب المقالات، وتلك فيها أكاذيب كثيرة من جنس مافي التوريخ " .
7-تضمن منهج الشهرستاني في كتابه العناية بالأسماء والمصطلحات، فلا يكاد يذكر فرقة في حديثه إلا يسميها، بل قد يذكر أكثر من اسم لها إن وجد، ويعزو الآراء إلى قائليها، سواءً كانوا فرقة أو أفراداً.
8-تميز كتاب الشهرستاني عن غيره من المصنفات في المقالات بحسن التنظيم، وجودة الترتيب للفرق وآرائهم.
9-تميز منهجه العام في العرض بالإيجاز والاختصار.
10-قدم لكتابه قبل الخوض في آراء الفرق بمقدمات ضمنها ذكر الخلافات الواقعة في أول الأمة، وتوسع في ذلك، وبين كيف وقع الافتراق، وأشار إلى فرق الأمة إجمالاً، حتى كأنما أجمل كتابه في تلك المقدمات .

الخاتمة
أهمية التأليف في علم المقالات استقلالاً.
لاتزال الحاجة ماسة إلى تخليص مادة هذا العلم مما أصابها من تشويه وقلب للحقائق بسبب ما حوته أكثر كتب هذا الفن ذيوعاً وانتشاراً، ولذلك أود أن ألفت النظر إلى ضرورة إعادة صياغة هذا العلم وذلك لوجود عدة ثغرات هي بحاجة إلى معالجة ألخصها من خلال عدة وقفات على النحو التالي:
الوقفة الأولى: علم مقالات الفرق يُعنى كما هو معلوم بالمقالة وقائلها، ولكل جانب من هذين الجانبين أهميته؛وارتباطه مع الجانب الأخر،ولكن مع ارتباط الجانبين في بعض النواحي إلا أن لكل واحد منهما جانب من الخصوصية والاستقلالية.
ومن المعلوم أن المقالة قد تشترك فيها أكثر من فرقة، والفرقة قد تكون لها أكثر من مقالة، وغالباً ماتندثر بعض الفرق ولكن مع ذلك تبقى أفكارها فتتلقفها فرق أخرى بمسميات جديدة،كما هو مشاهد في عصرنا الحاضر، فبعض أفكار المعتزلة والخوارج ومقالاتهم تنادي بها اليوم بعض الطوائف والجماعات المعاصرة التي قد لا ترتبط بتلك الفرق إلا من جهة تبنيها لبعض أفكارها،وبطبيعة الحال لا يمكن أن تنسب إلى تلك الفرق انتساباً مطلقاً لأنها قد لا تتفق معها في سائر أفكارها الأخرى، فلكي تُنسب جماعة أو طائفة إلى المعتزلة ـ على سبيل المثال ـ فلا بد أن تكون مقرة بالأصول الخمسة المعروفة عندهم وهي (التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعد والوعيد)
وقد جرت العادة - في الغالب الأعم - أن تُدرس الفرقة ثم يتم التعرف على بعض مقالاتها التي اشتهرت بها الأمر الذي يجعل الدارس يربط المقالة بالفرقة التي قالت بها،مما يصرف الذهن عن التنبه إلى كون تلك المقالة قد يكون هناك من تبناها من الفرق الأخرى،أو أنها قد تظهر في فترات زمنية لاحقة تحت مسميات جديدة غير التي كانت تعرف بها سابقاً في كتب الفرق المتقدمة،ومثل هذا اللبس يقع فيه بعض الدارسين مما يجعلهم يخلطون بين تلك الحقائق ولا يميزون بينها مما يؤثر سلباً على الهدف الأسمى الذي بسببه أدرج هذا الفن في علم العقيدة،وخص بالبحث والدراسة.
ثم إنه مع تباعد الأزمنة وانقراض بعض الفرق، وبقاء أكثر مقالاتهم التي أحدثوها حتى زمننا هذا ووجود مسميات جديدة تحمل تلك الأفكار السابقة، فإني أرى الحاجة ماسة إلى دراسة المقالات بنوع من الاستقلالية عن الفرق التي تبنتها قديماً، حتى يسهل رصد تلك المقالات وتتبعها جذوراً وفروعاً.
ولا شك أن أهل الاختصاص يدركون أن الغاية من دراسة علم الفرق هو معرفة المقالات المخالفة مع ما يستدعيه ذلك من التعرف على بعض الجوانب التاريخية ذات العلاقة بالفرق التي تبنت تلك المقالات وما تفرع عنها، فالمقالة تأتي في المقام الأول فهي بيت القصيد، وقطب رحى علم الفرق،.
ولكن مع هذه الدعوة لابد من التنبيه على ضرورة المحافظة على الروابط القائمة بين الجانبين وذلك للارتباط الوثيق بينهما،ولا يعني كلامي السابق أنني أدعو إلى الفصل الكلي بين الجانبين، أو أنني أنتقد المنهج الأخر المعتمد على وضع الرجال وأصحاب المقالات أصولاً ثم إيراد مذاهبهم في المسائل مسألة مسألة فلهذا المنهج فوائده وخصائصه.ولكن مقصودي هو ضرورة إيجاد التوازن بين الجانبين وأن يعطى كل جانب حقه من العناية والاهتمام والبحث والدراسة وذلك للمبررات السابق ذكرها
الوقفة الثانية: إن عناية كتب الفرق تنصب - في الغالب الأعم - على النقل المجرد للمقالات دون الدخول في تفاصيلها، فلا تتعرض إلى جذورها وشبهها ومسائلها والردود عليها أو الانتصار لها، فتبقى دراسة هذه الجوانب قاصرة ومحدودة الجانب ولا يمكن استيفاؤها من هذا الوجه.
وهذا الجانب له أهميته عند دراسة هذا العلم فكثير من المقالات هي في حقيقتها دخيلة على هذه الأمة، إذ هي دسيسة من دسائس أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ، فالبحث في جذور هذه المقالات ومعرفة أصولها يعين على معرفة طرق أهل الباطل وكشف أساليبهم،ويُمكن من صدهم وفضح باطلهم وهذا الجانب لا توليه كتب الفرق الاهتمام اللازم
فمثل هذا الحال يستدعي أن تدرس المقالات بنوع من الاستقلالية عن دراستها من خلال ارتباطها بدراسة فرقة بعينها كما هو الحاصل في دراسة مادة الفرق اليوم
الوقفة الثالثة: يدرك المتخصص في هذا الفن أن غالب من ألف في هذا الباب ليسوا من أهل السنة،وإنما هم من المعتزلة أو الرافضة أو الأ شاعرة،ولذلك فإن مشاهير الكتب المؤلفة في علم الفرق لا تعبر عن مذهب أهل السنة والجماعة،وليس لدى أصحابها الدراية اللازمة بعقيدة أهل السنة والجماعة،وفي اعتقادي أن عزوف كبار علماء أهل السنة عن التأليف بمثل هذه الطريقة التي سار عليها أصحاب تلك المؤلفات له ما يبرره، فالعبرة في المقام الأول للأقوال لا لقائليها ولذلك كثرت مؤلفاتهم في المسائل والردود وقلت في باب الفرق ؛ بل انتقدوا منهج وطريقة تلك المؤلفات،وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلاً مجرداً، مثل كتاب "المقالات" لأبي الحسن الأشعري،وكتاب "الملل والنحل" للشهرستاني،ولأبي عيسى الوراق ؛أو مع الانتصار لبعض الأقوال،كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم - فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم.أما الحق الذي بعث الله به رسوله،وأنزل به كتابه،وكان عليه سلف الأمة - فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف،بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال،والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه،وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه،بل لا يعرفونه.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام ؛ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض ؛ وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب)
الوقفة الرابعة: أن المقالات تتفاوت في الكم والكيف، فهناك مقالات كبيرة تندرج تحتها جملة من الأقوال وتتشعب عنها أنواع من الأراء والأفكار والمسائل ، ومثل هذه المقالات بحاجة إلى دراسة مستقلة توضح تلك الجوانب وتشرح تلك الأفكار والأراء، وتبين نوع العلاقة وأوجه الخلاف وحجج كل قول ومن قال به.ومن ثم يذكر من تبنى تلك المقالات وقال بها.
الوقفة الخامسة: لما كان البحث عن معلومات هذا الفن إنما يتأتى غالباً من أحد طريقين هما:
أولاً:النظر في الكتب المؤلفة في علم الفرق.
وثانياً: الرجوع إلى الكتب المؤلفة في مسائل الاعتقاد.
والطريق الأول أسهل بكثير من الطريق الثاني،وذلك نظراً لكون كتب الاعتقاد ليس لها نمط موحد في ترتيب الأبواب والمسائل، فيندر أن تجد كتابين يتفقان في ترتيب المسائل وطريقة سردها، ولذلك فإن من الصعوبة بمكان البحث عن معلومة تتعلق بمسألة أو مقالة معينة في تلك الكتب،مع كون تلك الكتب تحتوي على مادة كبيرة في موضوع علم المقالات، وبالأخص كتب أهل السنة،الأمر الذي يستدعي في نظري أن تجرد تلك المادة الضخمة وتجمع ليسهل الاستفادة منها والرجوع إليها، وهذا متيسر بإذن الله لو أن هذا العلم أفرد بالتصنيف والتأليف بصورة مستقلة.
وفي الحقيقة لا تزال مادة علم المقالات إلى يومنا هذا موزعة ومشتتة بين عدة علوم، فهناك كتب علم الفرق، وكتب علم العقيدة، وكتب علوم التأريخ والرجال، وغيرها من كتب الفنون، وتحتوي كتب التراجم والسير وتأريخ الرجال من كتب أهل السنة، على مادة جيدة في هذا المجال، ومن ذلك على سبيل المثال مؤلفات الذهبي، وهذه المادة هي كذلك بحاجة إلى جمع وإخراج ودراسة،لتعطي إضافة مهمة في هذا الجانب
ولعل فيما كتبته في هذا البحث دافعاً لإحياء لهذا الجانب وحافزاً لمزيد من الكتابات التي تثري هذا المجال الذي هو بأمس الحاجة إلى أقلام الدارسين،والله الموفق.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك