حاجة العقل العربي إلى الانفتاح والتسامح

حاجة العقل العربي إلى الانفتاح والتسامح

بقلم: عاصم منادي إدريسي 

"قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب". صدق الله العظيم
 
ليست غايتي في هذا القول التوقف عند مفهومي الانفتاح والتسامح، ولا وضع تحديدات أو تعريفات لهما، بل إنّ ما يهمّني هو إثارة بعض القضايا والمشاكل التي أصبح الوعي العربي الجمعي يتخبّط فيها، والتي قادت إلى غياب التسامح وقيم الانفتاح والحوار، لن يكون بوسعي تحليل هذا الوعي بنفس الطريقة التي حلله بها الدكتور، المرحوم عابد الجابري، لكنّي سأستعير منه مفهومين ناقش بهما العقل السياسي العربي، وهما مفهوما المحددات والتجليات، وأقصد هنا محددات هذا العقل وطرق عمله، وأيضا تجليات هذه الطرق ونتائجها على الثقافة العربية. وبعد أن نصل إلى المحددات والتجليات وآثارها وتداعياتها، سنضع ما نعتقد أنه سيساهم في تخفيف حدّة التوتّر والتعصّب التي باتت تتحكّم في العقل العربي وطرق عمله.
 
يعيش العالم وضمنه المجتمع العربي في إطار ما يسمّى بالثورة التكنولوجية والعلمية، والتي تعدّ وسائل الاتصال والمواصلات أحد أهمّ إنجازاتها، لقد غدا العالم قرية صغيرة يسهل الاطلاع على أهمّ مستجدّاتها في وقت وجيز، وقد تعزّز هذا التطوّر بالثورة المعلوماتية التي هيّأت المجال لالتقاء الملايين عبر العالم من خلال شبكات التواصل الالكترونية، كما أنها ساعدت على نشر المعلومات وأشكال المعارف المتنوعة والعلوم، وكان المفترض أن تكون هذه وسيلة مساعدة على تكريس قيم الانفتاح على الآخر والحوار معه وتقبّل اختلافه ورأيه ومعتقداته. لكن ما حصل كان العكس، فقد تمّ توظيفها[المشكلة ليست في التقنية في ذاتها، بل في طرق استعمالها] لنفس الغاية التي سبق وأن أنشئت من أجلها فضائيات كبرى وأعدّت لها برامج خاصة باتت تحظى بأكبر متابعة إعلامية، والقضية تتعلق بضرب وحدة الوعي العربي في مقتل من خلال اللعب على وتر النزعات الطائفية والمذهبية والاختلافات بين المذاهب الفقهية حول تفصيلات بسيطة لا تمسّ جوهر الدين في شيء، بل هي خلاف من أجل الاختلاف لا أكثر.
 لذا سنحاول في ما تبقى من أسطر أن نسعى إلى ملامسة جذور هذا الصراع ودوافعه الأساسية ومحركيه الخفيين والمستفيدين منه. همّنا في كلّ هذا أن نثير القضية للعلن، على أمل أن تلقى اهتماما أكبر من قبل صانعي القرار والغيورين على مستقبل هذه الأمّة.
لنسجّل بداية أنني عندما سأتحدّث عن الوعي العربي بشكل عامّ فأنا لا أصدر حكما عامّا على كلّ العرب من مفكّرين وإعلاميين وأدباء وفنّانين وباحثين، لكن هؤلاء لا يمثلون إلا قلّة قليلة أمام الأغلبية الساحقة التي لا تزال ترزح تحت نير الوصاية بكل أشكالها، وهذا هو ما أقصده بالوعي الجمعي، وهو الذي سينصب عليه تحليلي واهتمامي.
 
من الدعامات الأساسية التي يرتكز عليها هذا الوعي إيمانه بالازدواجية المتقابلة بين السنّة والشيعة تارة، والمالكية والشافعية تارة، والحنبلية والحنفية تارة، والعرب والأمازيغ تارة، والمسلمين والمسيحيين(الأقباط) والأكراد تارة أخرى، وأهم محدّداته سمتان يمكن القول إنّهما في ترابطهما الدائم يمثّلان وجهين لعملة واحدة. السمة الأولى داخلية تتوجه إلى الذات، أما الثانية فخارجية تتوجه إلى الآخر.
تقوم السمة الداخلية على النظر إلى الذات نظرة تمجيدية تحمل معها وهم الإمساك بالحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقاش، لأنها تمثل هويتها وجوهر وجودها. أما السمة الخارجية المصاحبة للداخلية فمنطقها احتقار الآخر وتبخيس أفكاره ومعتقداته ووسمه بالضلال والكفر والخطأ والزندقة والانحراف الأخلاقي، أما المرجعية التي يعتمدها هذا الوعي فهي العودة إلى الماضي والاحتماء به والاستنجاد بمقولات رجالاته كلما واجهته مشكلة أو صعوبة، وهذه إحدى آفات الوعي العربي اليوم أنه وعي ماضوي لا حاضر له ولا أمل في مستقبله.
 
فالماضي يمثّل بالنسبة له نموذجا في كلّ المجالات، باعتباره عصرا ذهبيا لا يمكن أن يخلق من جديد، فهو عصر الإيمان الصادق والمجتمع المتعاون المتضامن الذي يخلو من كل النقائص والعيوب، هكذا أضفى الوعي العربي على ذلك الماضي الذي ليس إلا تراثا إنسانيا مسحة من القداسة حتى يبعد عنه كل أشكال الشك والمساءلة، وما دام من الصعب إعادة إنتاجه اليوم، فالواجب تقليد صانعيه في المأكل والمشرب والملبس والتقاليد والعادات…مع ما في هذا من معاكسة لحركة التاريخ.
 
 وللتغطية على فشله في مسايرة وفهم ومواجهة مختلف التحولات والهموم التي يواجهها اليوم، وعودته الدائمة للماضي، اعتبر أنّ ضعف الثقافة العربية ليس إلا عقابا إلهيا على ابتعاد أهلها عن المقدّسات وسعي بعضهم إلى تقليد الغرب وتجاوز حكم السلف الصالح، ولن يرتفع هذا العقاب ما لم يتب الجميع ويعودوا إلى الأصل الصافي.
وخنقا لكلّ المحولات الفكرية الناقدة لهذا الوضع الغريب، عمد الوعي الماضوي إلى الخلط بين ما هو ديني وما هو دنيوي لإضفاء طابع القداسة على الكثير من الممارسات الإنسانية وتقديمها كما لو كانت واقعا حتميا لا يقبل التغيير، وهذا القول يتبعه تسخير خطير للدين، من خلال إشاعة فكرة الصبر على كل المصائب لأنها ابتلاء من الله، والطمع في التعويض الإلهي فيما بعد، وما الدعاء المعروف -اللهم لا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا - الذي تلهج به ألسنة المسلمين صباحا ومساء إلا دليل على هذه الشخصية الضعيفة المهزومة المستسلمة التي تمّت صناعتها في العصر الحالي من قبل من نصبوا أنفسهم حماة لدين الله وقائمين على توزيع رحمته بين عباده.
 
 كما تم تضييق دائرة المباح والمسموح به في مقابل توسيع دائرة الممنوعات والمحرمات، وفي هذا تخلّ واضح عن الأصل في التشريع الذي كان الإباحة، ليصبح التحريم هو الواسع، أما المباح فضيق وصغير، ولا يخفى ما في هذا القول من تغليب منطق التعسير على منطق التيسير. هكذا تم إهمال المقاصد الكبرى للدين في مقابل التركيز على الشكليات والتمسك بالمظاهر والطقوس التي أفرغت من مضمونها وقيمها، والتي يستدعي اختلاف الفقهاء والمذاهب في تفصيلاتها عقلية التحريم والتكفير والمنع والإباحة.
 
أمّا نتائج هذا الوعي فكثيرة يصعب حصرها، لكن يمكن جمع شتاتها تحت عنوان كراهية الغير - الذي قد يكون مخالفا للذات في المذهب أو الطائفة أو اللغة- واتهامه بالعمالة والخيانة والانتهازية، أما إذا كان هذا الغير ينتمي لنفس المذهب أو الطائفة، ويتبنّى تأويلا أو تصوّرا مخالفا لما يقرّره الوعي الجمعي فالتهم الجاهزة معروفة، ولن تخرج عن المروق والإلحاد والزندقة والكفر، ويتبع هذه التهم بطبيعة الحال إهدار الدماء والدعوة إلى قتل المخالفين تحت يافطة الجهاد في سبيل الله. إن أكثر ما يقلق الوعي الجمعي هو كل أشكال التجديد التي تبدأ بممارسة السؤال والتشكيك في مسلماته، لأنه يعرف بأن أطروحاته ضعيفة لا يعزّزها برهان ولا حجّة، لذا يخشى أن ينهزم التأويل الذي يمثله، ومن ثمّة يربّي كامل أفراده على الطبيعة التي يودّ أن يراهم عليها، ولا ينتج إلا الشبيه، وللحيلولة دون وجود مظاهر التمرد على هذه الأنماط الجاهزة من التفكير يعمل على قمع ومحاربة كل أنواع الفكر النقدي التي تنبني على الاقتناع بقوة الحجة والبرهان وليس الإيمان بالجاهز من الأفكار والأقوال.
 
هكذا أصبح الوعي العربي بكينونته الحالية ذا وجه واحد غاب عنه البعد الناقد الذي يؤمن بالتطور، وهو وجه استاتيكي ثابت، فإذا سألت في الدين فلا إيمان إلا إيمان السلف الصالح، وإذا سألت في العلم فلن تسمع إلا بالعلوم التي سموها بالربانية، وهي علما الناسخ والمنسوخ وعلم أسباب النزول، وإذا سألت في الأخلاق والعدل فلن تجد إلا الإشادة بعدالة وأخلاق الأوائل، فلماذا استمرت الثقافة العربية؟ أين هي صيرورتها التاريخية؟، أين هو الانتقال من حال قديمة ثبت ضعف مناهجها ومبادئها إلى حال جديدة تتلافى مواطن الزلل في سابقتها؟ .
 
فعلى المستوى العلمي والفلسفي لا نجد أنّ لنا حظا في ما أنتجه الغرب من نظريات فلسفية كانت أو رياضية أو فيزيائية، فنحن مجرد مستهلكين لها فقط، يحدث هذا رغم القفزة النوعية التي يعرفها المجتمع العربي من حيث عدد الجامعات والمعاهد العلمية والخريجين في مختلف التخصصات العلمية، وهنا نتساءل عن سرّ هذا التخلّف رغم كثرة المتعلمين والعلماء، وحلّ هذه المفارقة بسيط، إذ يعود أساسا إلى غياب الأدوات والميكانيزمات التي تسمح بالربط بين ما يتعلمه التلاميذ والطلبة من جهة، والواقع من جهة ثانية، فلا يكاد يظهر أثر لها على مستوى مناهج وطرق التفكير[إلا ما رحم ربي] والسلوك، لأن المناهج التعليمية لا تزال تعتمد منطق التلقين والنقل، وتغلبه على منطق الفهم والتفكير الحرّ، لذا تبقى الغاية من ضبط تلك التعلمات هي اجتياز الامتحانات وتحصيل الشهادات المؤهلة لولوج سوق الشغل، وبالتالي فالهاجس هنا هو دوما خبريّ لا معرفي، والدليل على هذا أن أغلب طلاب الجامعات وخريجي كليات العلوم والطبّ، ما زالوا متمسّكين بقناعاتهم حول الجنّ والسحر، ويتحدثون بكل جدية عن عذاب منكر ونكير والثعبان الذي يمزق في القبر من يبول واقفا…
 
أما فيما يخص الجانب التقني فكلّ ما ننعم به من أسباب الراحة ومن تقنيات [وسائل الاتصال والمواصلات، الطرق، الكهرباء، أجهزة طبية، العتاد العسكري] مستورد من الآخر، لأننا لم ننتجها، ولا يمكننا ذلك ما دمنا لم ننتج معارفها أصلا.
إذن، ما الذي أنتجه هذا الوعي العربي طيلة عقود طويلة؟، لا شيء ، ظل يجتر خطابات قديمة تنتمي إلى التراث، ويسعى للحفاظ عليها معتبرا أنها أرقى ما يمكن إنتاجه وأبهى أشكال الكمال الواجب تقليده، وبهذا أثبت أنه وعي مسطح لا يحمل آفاق وآمال التقدم والتطور.
 
إن من خصائص وسمات الوعي المسطح أنه يحمل ثقافة مغلقة بالضرورة، لأنها تتبنى|تعيش ثقافة أشخاص عاشوا لحظتهم التاريخية بشروطها وانتهوا، وتغيرت الشروط، وبات من اللازم أن تتغير الأفكار، لكن وبدلا من أن تكون الأفكار في خدمة الإنسان بات يخدمها ويسعى لتكييف حياته حتى تتلاءم معها، وفي ثقافة كهذه تتجسد عبادة الأفراد وتقديسهم وتختزل الإنسانية في جيل أو جماعة ويختزل التاريخ في لحظة واحدة، ثم إنّ الفرد الذي يحمل ثقافة كهذه مستبدّ بالضرورة، إذ لا يمكنها أن تستمرّ إلا بالعنف والإكراه، لأنها تعاكس قانون التاريخ الذي يقضي بالتغيير المستمر في كل المجالات ، وتصادر العقل والفكر الحرّ.
 
والدليل الحيّ على ضعف هذا الوعي وقوالبه هو حجم وعدد الإصدارات الفكرية والمعرفية التي تعرفها الثقافة العربية، فكلّ الإحصاءات تظهر حجم التراجع الكبير في معدلات القراء، إذ بات المجتمع العربي يتذيل قائمة الشعوب التي لا تقرأ، وهذه إحدى نتائج سيادة ثقافة الأذن والسماع التي وفّرتها الفضائيات والمواقع الإلكترونية، والتي غلبت على ثقافة القراءة والكتاب، ولا يخفى على المطلع الفارق بين الطريقتين، ثم إن من نتائج ثقافة السماع أن الفرد الذي يعتاد تلقي الآراء والمعلومات والأحكام من الآخرين تنغرس في نفسه - مع مرور الوقت – قناعة مؤداها أنه عاجز عن بلوغ الحقيقة لوحده بمعزل عن مساعدة من نصبوا أنفسهم سدنة لهياكل وهمية ألزموا الناس بالعودة إليها معتبرين أنهم أهل الذكر الواجب استفتاؤهم في كل صغيرة وكبيرة، ومن هم هؤلاء؟ وماذا يعرفون؟ وما الذي نعرفه عن مؤهلاتهم وشهاداتهم العلمية؟ وأين هي قراءاتهم المعاصرة للتراث القديم؟ 
 
إن أغلب من يملأون الفضائيات والمواقع مجرد ناقلين مرددين لمقولات التراث التي تشوهت نتيجة لترقيعها المستمر، فأنت تتابع حلقة كاملة من برنامج ديني لا تسمع فيها اجتهادا للمفتي في النص القرآني، وقلّما ترد آية كدليل، بل هناك تغييب تام له، مع حضور قوي للعنعنة الطويلة وقال فلان وورد عن فلان. ويمكن توزيع هؤلاء الفقهاء والمفتين إلى طرفين، طرف أدرك أن الترابط بين الدين والسلطة هجين لا بدّ من إنهائه، وأن على الدين أن لا يكون في خدمتها يبرر قمعها واستحواذها على خيرات الناس، ولا يكون أمام هؤلاء إلا الجهر بالحق وتحمل العواقب، أما النوع الثاني، ورغم علمه بالحقيقة إلا أنه يتعامى عنها ويأخذ نصيبه من الغنيمة مقابل تهدئة الناس وتدجينهم وتخديرهم وشغلهم عن طلب حقوقهم وحرياتهم، وبهذه الطريقة يضمن رغد العيش ويدرك أسباب الثراء والشهرة والنفوذ، ولتحقيق هذه المكاسب يختزل هؤلاء كل النقاشات الدينية في نواقض الوضوء ومبطلات الصلاة ومكروهات الصوم ومستحبات الزكاة وأجر رغيبة الفجر وعظيم ثواب الصابرين المحتسبين، وشكليات الطقوس والشعائر وألهوا الناس بحفظ أوردة الصباح وأذكار المساء ودعاء النوم واليقظة والدخول والخروج ودعاء الأحلام ودعاء دخول المرحاض والخروج منه…ترهات لا حصر لها.
 
 نحن هنا لا نبخس هذه الشعائر قيمتها، بل نضعها بين يدي القارئ الكريم للمقارنة فقط، أين هو الجانب الآخر من الدين؟، ألا يحث الإسلام على العدل والمساواة؟، ألا يدعو إلى احترام حقوق الإنسان؟ ألا يدعو إلى التوزيع العادل للثروات؟ انظر عزيزي القارئ في واقعك وسيشتعل رأسك شيبا عندما تدرك حجم الفساد الإداري والمالي والأخلاقي والتربوي الذي يعيشه العرب اليوم، ماذا فعلت بنا الزبونية والمحسوبية والرشوة؟. لم لا تتم مناقشة هذه القضايا من طرف من يزعمون أنهم لا يخشون في قول الحق لومة لائم؟.
 
 ولتكريس هذه العقلية المهزوزة المهزومة ما ينفك متصدرو فضائيات الفتوى يفصلون في أشكال التعذيب وأهوال القبور وما بعد الموت والشجاع الأقرع، وإقفال شبابيك الرحمة، ومن ثمة إشاعة ثقافة الترهيب والتخويف من الله، وغاية هذا الهجوم إرهاب الناس و مصادرة عقولهم، إلى درجة يبدو معها كما لو أن هناك نوعا من التوجه نحو تجريم الحياة والدعوة إلى الموت.أين التسامح الديني؟ أين ذهبت الرحمة الإلهية، "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم".صدق الله العظيم.
 
لقد تركنا هذا الوعي المسطح ممزقين بين خطاب دعائي يرفع أصحابه شعار (باب الاجتهاد مفتوح)، وواقع يكشف أن على كل مجتهد أن يكون على علم مسبق بالتهم الجاهزة -الكفر، الزندقة، الإلحاد - التي تنتظره إذا هو انتقد أو تساءل أو شكك. بين من يتشدقون في اليوم العالمي للمرأة أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وفتاوى يومية تردد أحاديث من قبيل (اطلعت على النار فوجدت معظم أهلها من النساء)، وكأن الأمهات لسن من النساء. بين من يدعون في أسبوع العلم أن الإسلام دين يحض على طلب العلم والبحث والمعرفة والتدبر، وبين ممارسات واقعية تمنع الناس من التفكير خوفا عليهم من الضلال.
 
والآن، ما هي الهموم والقضايا التي يثيرها الوعي العربي اليوم؟ ما هي انشغالات الشارع العربي؟ لا يمكنني هنا أن أقفز على الصحوة التي نعيشها اليوم من خلال مجموع الثورات السياسية التي حطمت جدار الصمت وكسرت حاجز الخوف في عدة بلدان عربية، ولا يسعني إلا الإشادة بها، ولنا عودة للموضوع في مقال آخر.
إلا أنني أجد نفسي مضطرا للتوقف عند آفة تنخر الوعي العربي وتقوده إلى التهلكة، وهي عنوان ودليل واضح يعكس بؤس هذا الوعي وتهافته وسقوطه، يتعلق الأمر بالصراع بين السنة والشيعة ، والذي يتم من خلال إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، فما هي أسباب هذا الصراع؟ ومن يحركه؟ ومن الذي يستفيد منه؟وما هي نتائجه على الوعي العربي؟
 
رغم أن أصول هذا النزاع تمتد إلى نهايات القرن الأول الهجري، إلا أن التوتر الذي يسم علاقة الطرفين اليوم لم يسبق له مثيل في التاريخ، فما الذي حدث اليوم؟ لا يختلف اثنان في أنّ العدوان الأمريكي على العراق كان سببا رئيسيا في اشتداد حدة التوتر بين المذهبين، فبعد أن وجد المستعمر نفسه في مواجهة مقاومة مسلحة - يقودها العراقيون موحدين- كبدته خسائر لم يكن يتوقعها، عمد إلى استخدام عنصر القبلية وتحريك الطائفية التي لا تزال تحكم المجتمع العراقي كغيره من المجتمعات العربية دون استثناء [وإن بدرجات متفاوتة]، لأن الوعي العربي لم يصل بعد إلى ممارسة سياسية يكون أفقها تكوين مجتمع مدني يتأسس على اعتبار كل أفراد المجتمع مواطنين بغض النظر عن طائفتهم أو مذهبهم أو جنسهم أو لونهم.
 
بدأت اللعبة الخبيثة بضرب بعض مقدسات ومساجد الشيعة بأيدي العملاء الصهاينة والغرب وغلاة السنّة ليردّ عليهم غلاة الشيعة بضربات أقوى، ولتنطلق واحدة من الحروب المذهبية التي خفّفت الضغط أوّلا عن المستعمر، وحصدت آلافا من الأرواح البريئة التي كان يفترض أن تسقط دفاعا عن الوطن، ولتعزيز هذا الشرخ وتوسيعه سيتم إطلاق فضائيات ومواقع إلكترونية وظيفتها إشعال نار الفتنة المذهبية، وهمها ضرب الفريق الآخر وتخطيئه وإظهاره بمظهر الضال الكافر المخالف لتعاليم الدين الحقيقي، ووصف تعاليمه ومعتقداته بالخرافة والوهم، هكذا اتخذ الصراع وجهين، أخطرهما الوجه الإعلامي الذي يشحن النفوس ويحرك العواطف، ليكون الوجه الثاني شغالا على المستوى الممارساتي.
 
هناك على الفضائيات [التي كانت وما تزال تشتغل بأجندة خارجية وتطبق سيناريوهات غربية] حيث يتم استقبال الألسنة والأقلام المأجورة من غلاة الطرفين الذين يتكلمون نفس اللغة ويحكمهم نفس المنطق، منطق التكفير والسخرية من المقدسات والاتهام بالخيانة والانتهازية والعمالة للمستعمر، يحدث هذا في مجتمع محكوم بالتشرذم الطائفي، مجتمع البعد الواحد الذي تختفي فيه دائما الممارسة العقلية النقدية المحايدة. وفي جو كهذا يرث الصغار عن الكبار نفس المنطق ونفس ردود الأفعال، وتستمر نفس القصة التي يصعب التكهن بنهايتها، وما يحز في النفس هو انخراط حفنة من أصحاب الفتوى وأشباه المثقفين و[العلماء ] الذين لهم وزنهم على الساحة العربية والإسلامية.
 
نفس الثغرة [الصراع الطائفي بين السنة والشيعة] سيتم توظيفها مجددا، وهذه المرة في الشرق الأوسط، فبعد أن استطاعت المقاومة اللبنانية أولا (حزب الله وحلفاؤه 2006) والفلسطينية (حركة حماس2009) ثانيا تحقيق النصر على الصهاينة وإنهاء عقيدة الجيش الذي لا يهزم، وإجهاض مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به إدارة بوش وحلفاؤها الغربيين وعملاؤهم العرب. وأمام تزايد شعبية مشروع المقاومة كحل واحد لتحرير الأرض العربية من الاحتلال الصهيوني، وأمام تزايد حدة الغضب الشعبي العربي من أنظمته التي سكتت على جريمة إحراق غزة ومحاصرتها، وتزايد الكراهية لأمريكا وإسرائيل، سيتم تنفيذ خطة جديدة صنعتها أياد غربية ونفذتها أياد عربية ( الأنظمة المعتدلة كما يسميها الغرب)، بواسطة مثقفين وسياسيين ومن خلال استثمار أقوى للإعلام.
 
ومؤدّى هذه الخطة أن الجديدة هو محاولة إبعاد الأنظار عن العدو الإسرائيلي وشغلها بالحديث عن المشروع الصفوي الإيراني الرامي إلى السيطرة على العرب وتشييعهم، ونتيجة للحملة الإعلامية الكبيرة فقد نجح هذا المشروع، وبات الوعي العربي سجينا لهذه الوضعية التي تمتاز بالخوف والقلق من المستقبل.
 
والآن، ما الذي جناه هذا الوعي من المهاترات والسجالات الطويلة التي استأثرت باهتمامه لأكثر من عقد من الزمن؟، مئات المنشورات والمجلدات ومئات الدعاة يؤثثون الفضائيات والمواقع الإلكترونية، وميزانيات ضخمة تبذر في معارك دونكيشوتية، بحيث لو استغلت للتعليم والمدارس والبحث العلمي لكان الوضع مختلفا، كل هذا لتبخيس قيمة الطرف المختلف وتخطيئه واتهامه ونسب الحق إلى الذات أو [النحن]، آلاف الحلقات التي تخصص لاستعراض أقاويل تنتصر لأهل السنة تارة، مصحوبة بسخرية لاذعة من معتقدات الشيعة ومقدساتهم، وأخرى تؤيد الشيعة وتحط من قيمة آراء السنة، غلاة هؤلاء وأولئك، وهم قلة[لا معتدلوهم وهم الأغلبية الساحقة] يتطاحنون ويخرفون، والغريب أن كلا الطرفين يرددان نفس الحجج والأقاويل يوميا دون أن تقود تلك الحلقات إلى نتيجة، بل إن واحدة من آثارها السلبية الكثيرة هي تأثيرها على عقلية الأجيال الصاعدة من حيث طرق النقاش والحوار والجدال، فبدلا من تبادل الدلائل والحجج، يبدأ الطرفان في السب والشتم والقذف وتبادل الاتهامات، في الوقت الذي يحرص فيه مديرو مثل هذه البرامج المقصودة على زيادة حدة التوتر بين الطرفين لتبلغ حدودا قد تنتهي بالطرفين إلى الضرب أحيانا، هل هذا هو الحوار والجدال والنقاش، هذه من البرامج التي يتوجب على الآباء أن يحرصوا ألا يتابعها أطفالهم وأبناؤهم الصغار خوفا على أخلاقهم من أن يتشبعوا بمثل هذه القيم البئيسة، والمتتبع الناقد المحايد لهذه البرامج يعي حجم السقوط والانحطاط اللذين بلغهما الوعي العربي.
 
ألم يحن الأوان بعد لهذا الوعي المتهالك أن يعترف بضعفه وعجزه عن مسايرة التحولات والمستجدات بأطر ماتت وانتهت صلاحيتها منذ قرون خلت؟. لقد بتنا في حاجة ماسة إلى إصلاح منظومتنا الفكرية، وتعني فكرة إصلاح مجال ما إعادة بناء أركانه وإعطاءه صورة جديدة بعد أن تكون الممارسات الإنسانية التاريخية قد طبعته بالتناقض وعدم التناسق، وحتى لا يقال إننا ننتقد من أجل النقد فقط، وبعد أن وصلنا إلى ما اعتقدنا أنها محددات الوعي العربي وتجلياتها، نقترح البدائل التي يمكن اعتبارها منطلقات للإصلاح.
 
أول ما ينبغي تغييره في هذه المنظومة هو تصورها لفكرة الحقيقة، يجب التخلي عن النظرة القديمة التي تقوم على الإيمان بالفكرة وتقديسها والاعتقاد الراسخ في صلاحيتها لكل زمان ومكان، فبالنسبة للوعي العربي، ما من موضوع يستحق الاستثناء من قانون التاريخ إلا القرآن الكريم، فهو الوحيد الذي يمتاز بالصدق المطلق، أما كل ما عداه ففكر إنساني يتموضع داخل التاريخ، وينسحب عليه قانون الملاءمة أو عدمها، إذ لا يصح أن نحكم على التراث بالصواب والخطأ، كما لا يصح تقديس أشخاصه وأفكارهم، فعظمتهم آتية من كونهم استطاعوا أن يفكروا ويجتهدوا لزمانهم، وبما أن لا أحد يشكك في قصور العقل الإنساني عن بلوغ الحقيقة المطلقة، فالأولى ألا يحمل أسلافنا فوق ما لا يقبلون هم أن يتحملوه، الأولى أن لا تطوع أفكارهم حتى تشوه وتبدل، لا لشيء إلا لمنع الاجتهاد والفكر الحر، من هنا نحكم أنه مهما بلغت صرامة حكمتهم ونفاذ بصيرتهم، فإننا نبقى
أقدر منهم على فهم ومعالجة قضايانا ومواجهة همومنا بأنفسنا.
 
ثم إن تجليات الصراع في الوعي العربي – كما بينا – لا ترتبط بتاتا بالقرآن أو تأويله، وإنما بما أنتجه السلف في إطار الصراعات التي كان محركها الداخلي السياسة والملك، بينما كانت تتخذ لباس العقيدة خارجيا، نحن لا ندعو للتخلي عن التراث وتهميشه، لأن فكرا يتنكر لتاريخه لا يستحق أن يكون فكرا، وإنما ندعو إلى الاستفادة من هذا التراث، من خلال الأخذ بصوابه، وعدم الوقوع في أخطائه،لأن سنّة التاريخ تقضي أن يكون الجيل القادم أكثر تطورا وتقدما وقوة وحكمة من سابقه، لأنه يستفيد من حكمة الأوائل ويغنيها بحكمته، لكن ما وقع عندنا هو العكس، أخذنا حكمتهم وأفسدناها بترقيعها المستمر، حتى باتت عالة علينا تخنقنا وتحول بيننا وبين كل محاولة للتقدم. 
 
يجب التسليم بأن الحقيقة ليست ملكا لطرف دون الآخر، كما أنها ليست في متناول الإنسان أبدا، وليؤمن الجميع أن لكل مذهب خرافاته وأوهامه ومعجزاته وكرامات أوليائه، ثم إن المعتقد لا يقوم بالصواب والخطأ، لأنه ليس علما، فهذه معايير النظريات العلمية التي إن صدقت اليوم كذبت غدا، ولا يزعج العلماء أن تكذب نظرياتهم، لأن العلم يتقدم والبشرية تتطور مع فناء النظريات، أما المعتقد فغير العلم.
 
 ولتلافي ما قد ينجم عن الاختلاف الطائفي لا بدّ أن تعمل النظم السياسية على منع كل التعاليم والمعتقدات التي تدعي الصدق المطلق وتدمر حق الغير المخالف لها في الوجود، لا بدّ من وضع حدّ لهذا الخلط بين المعتقدات وأمور الحياة، فلنعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، إذ من غير المعقول السماح باستمرار كل معتقد يهدد السلم والأمن الأهليين، فالمعيار الذي على أساسه يتم السماح باستمرار شعيرة أو طقس طائفي يجب أن يكون مساعدته على الاندماج بين مكونات المجتمع ونشر السلم بين أهلها، ألم يكن حريا بالنظام العراقي مثلا منع الزيارات التي يقوم بها الشيعة إلى مقدساتهم في النجف وكربلاء، ما دام أن ذلك يضمن سلامتهم، خاصة بعدما تبين أن الإرهابيين وأيادي الغدر تستهدف التجمعات الضخمة، فلا شيء أعلى في الدين من حفظ الحياة، " ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا".صدق الله العظيم.
 
إذا كانت العلوم الحقة – الرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء – قد تنازلت عن تبني فكرة الحقيقة المطلقة، فأنّى للتراث أن يتمتع بها؟ وبأيّ حقّ ننسبها لطرف وننزعها عن الآخر؟ أليس الله الكامل وحده من يملك حقّ التحليل والتحريم؟ أليس الوحيد المطلع على الضالّ والمصيب؟ فمن أين لنا أن نحكم على بعضنا البعض؟ إن عقلية التكفير والتضييق والمنع واللعن تتطاول على حق إلهي لم يفوضها الله لمباشرته على الناس، ألا إن الدين في يسر، وإنّ مع العسر يسرا، ولا يكلّف الله نفسا إلا وسعها، فلنترك مسألة الحكم لصاحبها، ولنعش الحياة بتفاصيلها، وليكن همنا الوصول إلى تأسيس مجتمع مدني يتعايش فيه الجميع متساوين أمام القانون مستفيدين من خيراتهم معتزين بكرامتهم لا يفرقهم معتقد ولا طائفة ولا عرق ولا لون، واعين بأن انتسابهم إلى مجتمع الإنسانية الكبير يفرض عليهم مواجهة قضايا وتحديات كبرى كمصير كوكب الأرض في ظلّ الاحترار العالمي، ومواجهة هموم تعصف بالتضامن الإنساني كمجاعة القرن الإفريقي. والكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات…
 
قد يسأل سائل: أين نركن بعد انهيار الحقائق والمسلمات، والجواب أننا لن نخرج عن القيم الإنسانية الكونية لنجد حقائق جديدة، وأهمّ هذه القيم قيمتا الحوار/التواصل والتسامح، إن الوعي الذي يرفض كل أشكال الفكر الوثوقي والدوغمائي يتأسس على الانفتاح على الآخر واحترامه والتحاور الدائم معه، وهنا لا توجد حقيقة دائمة، بل يتم تعويضها بـ"حقيقة" مؤقتة هي تلك التي يصل الفرقاء المتحاورون إلى التوافق بصددها في جوّ من الحرية واللاإكراه، في انتظار أن يتفقوا على حقيقة جديدة أقوى من الأولى، وهنا يتمّ التخلّي عن الوعي المتزمت المؤمن بالمطلق الذي يتبعه العنف والصراع، ليحل محله وعي منفتح قاعدته الانفتاح والاعتراف المتبادل والاستناد إلى قوة الحجة لا حجة القوة.
 
ثم إنّ الحوار لا يمكن أن يفضي إلى الانفتاح على الآخر والتعامل معه في ظل استحضار قيم التسامح ما لم يكن المتحاورون يتقاسمون الاعتقاد في مجموعة من القيم والمبادئ الكونية، وأهمها الإيمان بأن كل الخلافات والنزاعات يمكن حلها عن طريق العقل الحوار والتفاهم، كما أن الاعتراف بالعقل كقاسم مشترك بين الناس يتبعه اعتراف بمحدوديته ما دام الإنسان الذي يحمله كائن ناقص بالضرورة، ومن ثمة اختلاف طرق التفكير وتفاوت درجات المعقولية، وبالتالي اختلاف الثقافات والمعتقدات، وهذا الاختلاف سبب كافي لمحاولة فهم هذه الثقافات المتنوعة والتعرف عليها.قال تعالى :" يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". فلا فضل لسنّي على شيعي، ولا لشيعي على سنّي، ولا لمالكي على شافعي، ولا لحنفي على حنبلي، ولا لجعفري على زيدي، ولا لزيدي على إثنا عشري، ألا إن معيار التفاضل عند الله هو التقوى فقط، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
 
بقي أن أشير ختاما إلى أن ما يحتاجه الوعي العربي اليوم هو تهييج وإعادة تنشيط عناصر الرفض والنقد والشك والمساءلة والقدرة على رفع كلمة "لا"، خاصة في ظل الصراع العالمي الجديد الذي باتت واجهته هي وسائل الإعلام، ولنسجل جميعا أنه لا توجد وسيلة إعلام – مرئية أو مكتوبة أو مسموعة – واحدة يمكن الوثوق بنزاهتها وشفافيتها، لكنها تتفاوت من حيث نسبة الموضوعية والتعاطف مع هذا الطرف أو ذاك، فلا أحد يصرف الأموال الطائلة ليبحث عن المعلومة ويقدمها حبا في سواد أعين المشاهدين، فكل وسيلة إعلام تتبنى الدفاع عن مشروع أو طرف أو تنشد بلوغ غاية ما، والدليل هو ما نشاهده من تضارب في الروايات والقراءات وأساليب التضليل والتزييف، تبعا لتضارب المصالح والمنافع، حتى بتنا لا نكاد نعرف مع من نتعاطف ومن نؤيد، إنها فوضى يتخبط فيها الوعي العربي اليوم، وفي جو موبوء كهذا من اللازم على الإنسان أن يستمع إلى الرأي والرأي الأخر ويخضعهما معا لغربلة وفحص عقليين لتبيان قوتها ومواطن الزلل فيها، ومن يطلب الموضوعية لا بد أن يقف محايدا - رغم صعوبة الحياد – مستبعدا للعواطف والانفعالات حتى يلامس حكمه الصواب.
 

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك