احـذروا خطر الاستشراق
احـذروا
خطر الاستشراق
د. مــازن مطبقــاني
Mazen_mutabagani@hotmail.com
الحمد لله القائل: سيقول السفهاء من النّاس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ) البقرة 143(. وصلى الله على سيدنا محمد القائل: (أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد من الأنبياء قبلي ... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فهذه كلمات حول قضية مهمة يغفل عنها كثير من الناس، بل إن معظم الناس قد يسمع بكلمة استشراق، فلا يتأثر ولا يعرف لماذا كان الاستشراق خطيراً. بل ربما رأى البعض أن الحديث عن الاستشراق ترف لا حاجة لنا به. ويرى بعض آخر أن الاستشراق قضية من الماضي البعيد، وليس له وجود الآن، ولكننا نرى أن من الواجب الحديث عن هذا الأمر، وبخاصة في هذا الوقت بالذات الذي كشّر بعض الكفار في الغرب عن أنيابهم، ووصل الأمر بالبعض أن نادى بهدم الكعبة المشرفة.
إن الاستشراق كلمة ترد كثيراً في وسائل الإعلام المختلفة ولاسيما في الحديث عن أسباب الحملات الإعلامية المكثفة ضد الإسلام والمسلمين، وبخاصة ضد المملكة العربية السعودية. ولو سألت كثيراً من الناس: ما هذا الاستشراق الذي غذّى ويغذي هذه الحملات الإعلامية العنيفة ضدنا، لوجدت أن أكثر الناس سمعوا بالكلمة، ولكنهم لا يدركون حقيقة معناها.
وربما لم يلتفت أحد إلى أهمية دراسة الاستشراق دراسة علمية موضوعية قبل قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة، ولكن جهود هذا القسم انحصرت في الرسائل العلمية التي أنجزها عشرات من الطلاب، ولم يقيض لها الانتشار، وبقي الاستشراق غامضاً ( ) .
وثمة سبب آخر للاهتمام بالحديث عن الاستشراق؛ فكم كتب من كتب من أبناء المسلمين ومن الغربيين عن موت الاستشراق أو نهايته، حيث ردد هذه الفكرة أحد كبار المستشرقي،ن وهو برنارد لويس، عندما قال: إن الاستشراق، أو مصطلح الاستشراق قد ألقي به في مزابل التاريخ. وتلقف هذه الفكرة كثير من أبناء المسلمين، محاولين تأكيد موت الاستشراق، اقتناعاً منهم بهذه الفكرة. فأرجو أن يكون في هذه الكلمات ما يؤكد أن الاستشراق مستمر وماضٍ في مخططاته، وإن تغير الاسم من الاستشراق إلى دراسات الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى أو الدراسات الإقليمية أو دراسات المناطق، فما هي إلا مسميات لأصل واحد هو الاستشراق.
إن كثيراً مما نراه في العالم الإسلامي اليوم من تراجع عن تطبيق الإسلام، ومن ميل إلى الغرب أو انبهار به، وتبني الأنظمة الغربية والعادات والتقاليد والثقافة الغربية إنما هو من تخطيط الاستشراق. لقد زرع الاستشراق والتنصير في بلادنا عشرات المدارس بل مئاتها ليتـربّى فيها أجيال غريبة عن عقيدتها وقيمها وثقافتها، تتحدث فيما بينها اللغة الأجنبية أكثر مما تتحدث العربية، قليل منهم - إن وجد - من يصلي أو يصوم، وإن مارسهما فإنما هما طقوس لا تؤثر في حياته. فهو يصلي ثم ينطلق ليتعامل بالربا أو ليعيش حياة بعيدة جدّاً عن الإسلام.
ونحن نتحدث عن الاستشراق لا بد أن نؤكد مكانة هذه الأمة وأهمية الرسالة التي تحملها، فإن الله - عز وجل - أراد لها أن تكون الأمة المؤتمنة على خاتم الأديان والرسالات؛ فنبيها هو خاتم الأنبياء والمرسلين، والكتاب الذي جاء معه هو خاتم الكتب، وقد تكفل الله عز وجل بحفظ هذا الكتاب في قولـه تعالى(إنّا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون) (الحجر 9) وقد حملت هذه الأمة الأمانة، فنشرت العلم والمعرفة في شتى أرجاء الأرض، وعرفت البشرية العدل والتسامح، ونهضت هذه الأمة في جميع المجالات الحضارية حتى كانت كما كان الشيخ الغزالي - رحمه الله – يقول: هي العالَمُ الأول خمسة قرون لا تشاركها أمة أخرى في الأولية. كانت تأكل مما تزرع، وتلبس مما تحيك، وتدافع عن نفسها بسلاح هي تصنعه، وكانت تكتب بورق هي صانعته، نعم كان لها في دنيا الحضارة باع كبير، ولكن الخَـلَف من هذه الأمة حين تخلى كثير منهم عن تطبيق الإسلام التطبيق الصحيح أصبحنا من دول العالم الثالث، وأصبح يطلق علينا «الدول النامية» تلطيفاً لعبارة «الدول المتخلفة».
ونتساءل يا أخوتي: ما بال هذه الأمة التي اؤتمنت على خاتمة الرسالات قد فرّطت فيها، فلا تكاد تمشي في شارع من شوارعها من أقصى المغرب إلى إندونيسيا حتى ترى من مظاهر التغرب وتقليد الكفار ما يندى له الجبين. لقد قلدناهم في الظاهر فارتدينا ملابسهم، فلا يكاد يند عن تقليد الغرب في اللباس إلاّ الفلاحون والقرويون وبعض دول الجزيرة العربية. أما قَصَّات الشعر فحدث ولا حرج، فلم يعد كثير من المسلمين يعرف الطريقة الصحيحة لتسريحة الشعر؛ وذلك لتأثرنا بما تبثه وسائل الإعلام المختلفة من تلفزيونات وصحف ومجلات، حيث تجد لدى محلات الحلاقة مجلات لهذه القَصّات. وقد عرضت إحدى القنوات التلفزيونية برنامجاً للأطفال يعرض القَصّة الأوربية على أنها القصة العالمية ثم هناك القصات المحلية.
وإذا تركنا اللباس والشعر، وانتقلنا إلى طعامنا وشرابنا، فماذا نجد؟ لقد غرقنا في تقليد القوم في طعامهم وشرابهم، لقد أدمنّا المشروبات الغازية التي توزع لدينا بملايين الأطنان، وصرنا نعبئها في قوارير في بلادنا، ونفخر بأنها صناعة وطنية، وليس لها والله من الوطنية إلاّ الاسم. وأدمنّا المايونيز والكاتشب والتوباسكو، وتعودنا الهامبرجر، ألا تعلمون أيها الأحبة أن الجزء الأول من اسم هذا الطعام الهام يعني لحم الخنزير – أجاركم الله- وإن كانت كتب اللغة الإنجليزية المدرسيّة في المملكة تسمّي هذا الطعام، «الطعام الزبالة»، ولكن مع ذلك نصرُّ على تنـاوله بل والإكثار منه. ونتساءل: كيف وصلنا إلى التأثر بهم في الطعام إلى هذه الدرجة؟ أليس من الاختلاط بهم، والعيش معهم، ومشاهدة أفلامهم، والدراسة في مدارسهم وجامعاتهم؟
وإذا انتقلنا إلى اللغة التي نتحدث بها، فيا لهول ما نقف عليه من كم الألفاظ الأجنبية التي دخلت لغتنا! كأننا نفتخر أننا نعرف بضع كلمات باللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأوربية. وما أشبه الليلة بالبارحة، فقبل قرون كان شباب النصارى يتسابقون إلى معرفة اللغة العربية وإتقانها، بل إنهم أصبحوا يقولون الشعر باللغة العربية، بينما لا يحسنون اللاتينية لغة العلم والمعرفة عندهم. وكان الشباب النصارى أيضاً يرتدون الأزياء العربية ليعلنوا عن تحضرهم ورقيهم. فصاح أحد كبار الرهبان النصارى قائلاً: «إذا لم يكف هؤلاء الشبان الرقعاء عن التشبه بالعرب والمسلمين فسوف نعاقبهم عقاباً أليماً». فأين العالِم المسلم أو الفقيه الذي ينادي في شباب المسلمين اليوم أن تمسكوا بالإسلام واتركوا ما أنتم فيه من تقليد أعمى....؟
وإذا دخلنا بيوتنا لننظر في أوضاع تلك البيوت، فإذ بها ممزقة لا محبة فيها ولا رحمة، ولا سكن.. الرجل في واد والمرأة في وادٍ آخر والأولاد طبعاً في وادٍ ثالث. تُضطهد المرأةُ لجهل الرجل بالإسلام، ويعاني الرجل من استرجال المرأة، ناهيك عن ميوعة الشباب، حتى صح فينا قول الشاعر:
وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيب
كما تعاني بيوتنا من التأثر بالدعوة الغربية المزعومة لتحرر المرأة. وما ذاك إلاّ لجهل المرأة أن التحرر الحقيقي إنما هو في الإسلام، فهي تحارب الرجل وتستخدم معه كل الأسلحة التي تملك والتي لا تملك. أما الرجل فبدلاً من أن يعلمها كيف أن الإسلام أكرم المرأة وأمر بالإحسان إليها والرفق بها، ومثال ذلك سيد الخلق الذي يقول: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) تجده يعلن الحرب عليها أيضاً. وقد يكون أيضاً من دعاة تحرر المرأة المزعوم فلا يرى بأساً من أن تخرج المرأة متبرجة؛ بل تراه يدعو إلى ذلك ليقال عنه: إنه متحضر أو متقدم أو بلغ درجة عالية من الرقي. وما سبب ذلك إلاّ تلك السموم التي زرعتها وسائل الإعلام المختلفة في بيوتنا وفي أسرنا من خلال الأفلام والروايات، ومن خلال تقديم النماذج الغربية على أنها النماذج المثالية التي يجب أن نقلدها ونسير على منوالها.
وليس أمر الاهتمام بالمرأة مصادفة، ولكن أعداء هذه الأمة جربوا كافة الأسلحة لمحاربتها، فوجدوا أن تغريب المرأة وإغراءها بالخروج والمطالبة بالمساواة المزعومة ودعوتها إلى أخذ الحقوق والزج بها في مجالات اللهو والخنا والميوعة من أقوى الأسلحة لمحاربة هذه الأمة. ولا يغيب عن بالنا أن نابليون حين جاء مصر محتلاً جاء بعدد من المومسات الفرنسيات، واختطف عدداً من النساء المصريات وأجبرهن على الدعارة، فهو سلاح قديم جدّاً.
نعم الإسلام حرر المرأة وليس غيره، فقد انتقل بها من كونها متاعاً وسلعة إلى إعطائها مكانتها التي ارتضاها لها، حيث ضمن لها آدميتها وكرامتها؛ بل زاد على ذلك بأن نادى وأصر على معاملة المرأة بالرحمة. ألم يكن من بين آخر وصايا الرسول الإحسان إلى النساء عموماً بقولـه: «واستوصوا بالنساء خيراً».
لقد نال موضوع المرأة في المجتمعات الإسلامية من الاهتمام أكثر ممَّا ناله أي موضوع آخر، فصدرت عشرات المجلات أو مئاتها، وكتبت الكتب، ودبـّجت المقالات تدعو إلى التحرر المزعوم. وامتلأت القنوات الفضائية بالداعيات للتحرر المزعوم، فلا يكاد يمر أسبوع دون أن تظهر نوال السعداوي، أو من على شاكلتها في إحدى هذه القنوات الفضائية.
كما تعاني بيوتنا أيضاً من أنواع من عقوق الوالدين، فلم يعد ذلك الاحترام للوالدين أو المحبة التي تفوق أي محبـة، ولم يعد الوالدان يعاملان الأبناء بتلك الرحمة والمودة التي ينبغي أن تسود العلاقات في المنزل الواحد. ولقد طغت المادة على العلاقات بين أفراد البيت الواحد. ومن أهم أسباب السوء في العلاقة بين الوالدين والأبناء ما تبثه الأفلام الأجنبية من خروج الأبناء وبخاصة البنات من بيوت والديهم في سن مبكرة بحجة الاستقلال والتربية الحديثة.
وليس هذا فحسب، فلو أدرت مؤشر المذياع في إذاعاتنا لوجدت عجباً من البعد عن الجدية فبين كل أغنية وأغنية أغنية، ومن مذيعة تتكسر وتتثني في حديثها وكأنـها لم تسـمع بقـوله تعالى(يا نساءَ النبي لستنَّ كأحدٍ من النساء إنْ اتقيتنَّ فلا تخضعنَ بالقولِ فيطمعَ الذي في قلبه مرضٌ وقلنَ قولاً معروفاً) (الآية 32سورة الأحزاب) إلى مذيعة أخرى لا تكاد تحسن اللغة العربية الفصحى، بل غلبت عليها اللغة العامية لهذا البلد العربي أو ذاك. أما البرامج، فكثير منها - كما قال الأستاذ الشيخ أحمد محمد جمال، رحمه الله - تساعد على انحراف الشباب لما فيها من تناقض فهذا برنامج عن صحابي جليل، أو برنامج يتحدث عن الدين والأخلاق يتبعه برنامج حداثي يتناول ما يزعمون أنه تحرير المرأة وخروج المرأة وسفور المرأة واختلاط الرجال بالنساء، وكأنه لا حرمة لذلك الصحابي الجليل الذي لم يغادر طيب رائحته الجو، حتى كان الحديث الممل السخيف عن أنواع مما يسمى التمدن والتحضر.
ولو التفت إلى وسائل الإعلام الأخرى، لرأيت العجب، مجموعة ممن يسمون أنفسهم أهل الحداثة أو من آمنوا بمذهب الحداثة، وتظاهروا بأن الأمر مجرد تجديد في أشكال الشعر والنثر، ولكن الحقيقة التي يصرحون بها أن الحداثة نظرة إلى الحياة والكون تختلف عن النظرة التقليدية التي تنطلق من المسلّمات والثوابت التي جاء بها الإسلام الحنيف. إنهم يريدون تدمير الثابت والسائد وتفجير اللغة تفجيراً، ليس التفجير الذي يكون من الإبداع والجمال ولكن التفجير الذي هو صنو التدمير. وتسلل الحداثيون إلى وسائل الإعلام المختلفة، وجعلوا لهم روابط تربطهم وصلات تجمعهم، وتحزبوا ومنعوا غيرهم من الوصول إلى هذه المنابر؟
ولعلكم تتساءلون معي، لماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ إننا نسمع دائماً أن أحد ملوك الفرنجة (الملك الفرنسي لويس التاسع) قد سجن في مصر، وفي أثناء سجنه فكّر طويلاً في أسباب هزيمة الصليبيين من قِبَل المسلمين، مع أن الصليبيين لم تكن تنقصهم المعدات والعتاد والرجال والقوة والشجاعة وحب القتال. فتوصل إلى أن المسلمين لا يمكن هزيمتهم عسكريّاً، بل لا بد من الهزيمة الفكرية النفسية، ولا يمكن أن يكون ذلك إلاّ بالحرب الفكرية العقدية. ولكن من الذي سيقوم بهذه الحرب؟
إن الأمم الغربية المحاربة للإسلام عرفت مكانة الفكر والعلم منذ وقت مبكر، فوجدوا ضالتهم في نوع من الباحثين والمفكرين للتخطيط للمواجهة بينهم وبين الإسلام. أتدرون ما اسم هؤلاء العلماء الذين تخصصوا في دراسة العالم الإسلامي والتخطيط للمواجهة بينه وبين الغرب وسيطرة الغرب عليه؟ إنهم المستشرقون.
هؤلاء المستشرقون أطلق عليهم بحق الشيخ الأستاذ محمود شاكر «حملة هموم الشمال المسيحي» جاءوا إلينا في صور شتى وبتخطيط دقيق لمحاربة هذه الأمة. فمن هم المستشرقون؟ إنهم علماء من أهل الكتاب من الغرب(ألحد بعضهم وأنكر وجود الله، وأصبح بعضهم الآخر شيوعيّاً، ومنهم النصراني الحاقد على الإسلام والمسلمين من البروتستانت ومن الكاثوليك، ومنهم اليهودي الصهيوني المؤيد لإسرائيل أو الحاقد على الإسلام والمسلمين فقط لكونه يهوديـّاً ينطبق عليه قول الحق سبحانه وتعالى(لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون)(المائدة 82)
نعم من هو المستشرق؟ لأصور لكم نموذجاً من المستشرقين هو باحث انطلق يدرس اللغة العربية والدين الإسلامي، ويدرس المجتمعات الإسلامية، استهواه البحث في قضايا الشريعة الإسلامية، و اهتم بدراسة العقيدة الإسلامية، أو دراسة السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي. أو استهواه البحث في موضوع المرأة ومكانتها في المجتمع الإسلامي، وعلاقة هذه المكانة بما جاء في القرآن والسنة، هذا المستشرق دخل الجامعة خدمة يقدمها للكنيسة أو بحثاً عن مهنة يجني من ورائها الأموال، فإذا به بعد أن أصبح باحثاً وخبيراً بدأت تستعين به الحكومات الغربية في تقديم المعلومات لها عن العالم الإسلامي وأدق تفاصيل الحياة في المجتمعات الإسلامية.
هذا المستشرق يسير في ركاب الاستعمار يقدم له المعلومات والمشورة، ويتجسس على البلاد التي جاءها زائراً باحثاً، ويقوم بالترجمة للحاكم الاستعماري كما فعل كبار المستشرقين الفرنسيين من أمثال أغسطين بيرك، و ولوي ماسينيون، وقبلهما سلفستر دو ساسي أول رئيس لمدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس 1795م.
هذا المستشرق كان رحّالة جاب العالم الإسلامي بطلب أو دون طلب من حكومته، ولكنها في النتيجة قدرت جهده وأفادت منه، وأحياناً كانت تكلفه بمهمات معينة، فمن هؤلاء الرحالة من قام بجهد كبير في التحريش بين المسلمين وإثارة العداوات، فيذكر عن الرحالة الإنجليزي إدوارد هنري بالمر أنه كُلِّف بمهمة سياسية في مصر لمنع تأييد البدو لثورة أحمد عرابي، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى رحّالة آخر هو ريتشارد بيرتون الذي أطلق على نفســه «الحاج عبد الله».
ونجح الاستشراق في إقناع محمد علي والي مصر بأن يرسل بعثات دراسية إلى فرنسا ليس لأنها كانت أكثر الدول الأوربية رقيّاً وحضارة، ولكن لأنها كانت قد خرجت من الثورة الفرنسية التي قضت فيها على آخر معاقل الدين، وحطمت ما بقي للدين من نفوذ في النفوس، وبدأت فرنسا تعيش مرحلة من التفسخ والانحلال، فكان ابتعاث الطلاب العرب والمسلمين إليها أمراً مقصوداً. وقد كان هؤلاء الطلاب تحت إشراف المستشرق جومار وعدد من أعوانه.
وهل اقتصر الابتعاث على مصر وحدها؟ لا، لقد شاركتها دول أخرى، فهاهي تركيا وإيران والمغرب ترسل أبناءها للدراسة في فرنسا، بل إن تركيا تستقدم عدداً من المدربين العسكريين من فرنسا لتدريب قواتها. وهؤلاء المدربون لم يأتوا فقط للتدريب العسكري، بل جاء بعضهم ومعه مؤلفات كبار الأدباء الفرنسيين. أما الطلاب الذين ابتعثوا إلى فرنسا بخاصة والغرب بعامة، فقد كانوا دائماً تحت رعاية الدول الغربية، فقد أنهى طلاب البعثة المغربية إلى فرنسا تدريباتهم ودراستهم، فطلب المشرف على البعثة الإذن لهم من الحاكم المغربي أن يمدد لهم الإقامة في فرنسا ليتشبعوا بحضارتها وعظمتها.
ومن العجيب أن مسألة التشبع بحضارة الغرب وعظمته قد كانت مما كتبه نابليون إلى واليه على مصر يطلب منه بعث خمس مئة من المماليك، وإن لم يكن العدد كافياً، فليكن من العرب ومشايخ البلدان «يحتجزون في فرنسا مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على تقاليد فرنسا ولغتها، وعندما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليهم غيرهم».
هل الاستشراق هو هذا فقط؟ لا إن الاستشراق أعمق من كل هذا؟ لقد درس أبناؤنا في الغرب شتى المعارف من التربية وما أدراك ما التربية؛ فإن عدد الحاصلين على الدكتوراه في هذا المجال أكثر من أي مجال آخر، وكأن الأمر مقصود أن تضيع التربية، أو أن نقلد الغرب في تربيته، ومن المعلوم أن أبرز خصائص الأمم مناهجها التربوية، فإن فقدتها فقدت شخصيتها وكيانها واستقلالها. ودرس أبناؤنا التاريخ، وعلم الاجتماع، والاقتصاد والسياسة، ودرسوا اللغة العربية والأدب، ودرسوا حتى العلوم الشرعية على أيدي المستشرقين.
عاد هؤلاء الأبناء إلى البلاد فتولوا المناصب القيادية في شتى مناحي الحياة، فكان منهم المعلم والمربي والموجه ، وكان منهم أستاذ التاريخ وأستاذ علم الاجتماع وعلم السياسة والاقتصاد في الجامعة، بالإضافة إلى من تولى منهم مناصب في الإعلام بمختلف مجالاته من تلفاز وإذاعة وصحافة.
أصبحت حياتنا في شتى المجالات متأثرة بالاستشراق. فالذي درس في الغرب تتلمذ على كتب القوم وعلى فكر القوم، بل إنهم حرصوا على أن ينقلوا ما تعلموا إلى أبنائهم وتلاميذهم وإلى مجتمعهم. حتى الأدوات التي كانوا يستعملونها في الغرب حاولوا أن يستوردوها أو يأتوا بمثلها. لقد سمعت من أحد الذين عاشوا عشر سنوات في أوربا وأمريكا مديحاً لهذه البلاد، ولولا معرفتي به لقلت إنه حدث له مكروه في فهمه وعقله.
أين خطر الاستشراق في حياتنا المعاصرة؟ سأبدأ بالخطر العقدي وما أدراك ما الخطر العقدي؟ إن أخطر أمر وصل إلينا من الاستشراق هو أن بعضنا أصبح يرى أنه لا بد من الفصل بين الدين والحياة. يرى ما يراه أساتذته في الغرب أن العلمانية هي التي يجب أن تحكم حياتنا. فليس للدين أي مكان في الحياة إلاّ العبادات والطقوس، وهي أمور شخصية بين العبد وربه. أما السياسة والاقتصاد والاجتماع، فلا علاقة للدين بها. ونسي هؤلاء ما جاء في قولـه تعالى: (قلْ إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) [الأنعام:162]
نسي هؤلاء حديث «إنما الأعمال بالنيات»، حتى قيل: إن هذا الحديث يعادل ربع الإسلام. ليس في الإسلام فصل بين الدين والدنيا ولكن المستشرقين وتلاميذَهم أرادوا هذا الفصل وبقوة نفوذهم وسيطرتهم على وسائل الإعلام ومنابر التوجيه حاولوا فرض هذا الأمر. لقد قدمت إحدى الصحف استطلاعاً عن أبرز الكتب الذي ظهرت في القرن العشرين، فكان أحد أبرز كتابنا يصر على أن كتب قاسم أمين، وكتاب علي عبد الرازق (أصول الحكم في الإسلام) من أهم الكتب. وإذا تحدثوا عن أبرز المفكرين المسلمين المعاصرين ذكروا لنا هذا الرجل ومن على شاكلته.
وكان للاستشراق تأثير قوي آخر في ميدان السياسة، فها هي الديمقراطية قد أصبحت «صنم» القرن العشرين. فلو بحثت في أي صحيفة عن عدد المرات التي مرت بها كلمة ديمقراطية، لوجدت العجب العجاب. وما دروا أن هذه الديمقراطية تجعل التشريع من حق الشعوب أو من تنتخبه هذه الشعوب، بينما المشرّع هو الله عز وجل(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليهن فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق، لكلٍ جعلنا شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدةً ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)المائدة:48]. لقد ساوت الديمقراطية بين جميع أفراد الأمة في الأصوات دون أن تفرق بين أهل الحل والعقد وبين عامة الناس، وهذه الديمقراطية جعلت الردّة حقّاً من حقوق المواطنين حيث يمكن للشخص أن يبدل دينه كما يبدل ثوبه. أي ديمقراطية هذه التي تجعل من السعي وراء الرئاسة تجارة وبيعاً وشراءً.
لقد صرحت الدول الكبرى - وبتأثير من الاستشراق - أنه لا بد أن تنتشر الديمقراطية في جميع الأمم والشعوب، دون أن ينظروا إن كان عند المسلمين ما يناسبهم من فكر سياسي وتشريعات سياسية. لقد ظنوا أن الديمقراطية أعطت الشعوب حرية الرأي ونسوا أن أعظم حرية هي تلك التي جاء بها الإسلام، حيث أخرج الإنسان من كل عبودية عدا العبودية لله عز وجل.
والاستشراق في الشأن السياسي لـه وجه آخر؛ وهو الاهتمام في الدوائر الاستشراقية بمسألة الصحوة الإسلامية، أو النهضة الإسلامية، أو الإحياء الإسلامي، أو ما يطلقون عليه هم أيضاً «الأصولية الإسلامية»، ويطلق عليه الاستشراق أيضاً «التطرف الإسلامي» و«التشدد الإسلامي» و«الحربيون» أو «القتاليون». لقد أنفق الاستشراق الكثير من الأموال والوقت لدراسة هذه الظاهرة. وما هذه الظاهرة سوى رغبة حقيقية لدى جماهير الأمة الإسلامية أن تعود إلى دينها لتطبقه التطبيق الصحيح ليقود حياتها في السياسية والاقتصاد والاجتماع وفي السلوك والأخلاق.
لقد ظهرت مئات أو ألوف الكتب، وعقدت المئات من الندوات والمؤتمرات، وألقيت الألوف من المحاضرات حول الإسلام والصحوة الإسلامية. وإن المتتبع لهذا الأمر في الدوائر الاستشراقية ليظن أنه ليس للغرب هَمٌّ إلاّ متابعة هذه الصحوة. نعم إنهم يراقبونها ويدققون في كل كلمة تصدر عنها. بل إنهم يتصلون بزعماء الحركات الإسلامية أو العلماء النشطاء في مجال الدعوة إلى الله ليعرفوهم عن كثب. وقد توجه الدعوات إلى بعض زعماء النشاط الإسلامي لزيارة الغرب ليتعرفوا إليهم عن قرب، ومن هذا ما تفعله وكالة إعلام الولايات المتحدة في برنامج الزائر الدولي.
ولأضرب لكم مثالاً واحداً أو مثالين، ففي عام 1405هـ (1985م) عقد الكونجرس الأمريكي عدة جلسات، واستمع إلى شهادات عدد من العلماء والباحثين حول ما يطلق عليه «الأصولية» ونشرت محاضر تلك الجلسات، فإذ بها أربع مئة واثنان وأربعون صفحة، وقد قام بترجمتها باحث مسلم ونشرت في مجلة المجتمع في أكثر من خمسين حلقة. أما المثال الثاني فهو المستشرق الأمريكي الجنسية الأرمني الأصل ريتشارد هرير دكمجيان، الذي ألف كتاباً تناول في طبعته الأولى ستّاً وتسعين جماعة إسلامية، وتناول في الطبعة الثانية بعد سنوات أكثر من مئة وثماني جماعات إسلامية اطلع على كتاباتها العلنية والسرية، وقابل بعض الزعماء، وغير ذلك من المعلومات الاستخباراتية وليست العلمية.
نعم في المجال السياسي الاستشراق خطير؛ لأنه يقود السياسة الغربية لمواجهة الإسلام، ولو عقل هذا الاستشراق لأفاد من الإسلام، فهم- لو أعملوا تفكيرهم العلمي الذي يتشدقون به- لفهموا هذا الدين وحقيقته، ولكن أعمت أبصار الكثيرين منهم الأطماع الدنيوية، فهل لو قالوا للغرب: لا تخافوا الإسلام فالإسلام رحمة للعالمين، هل كان بإمكانهم أن يستمروا في أعمالهم ومناصبهم؟
وخطر الاستشراق في الاقتصاد يتمثل في ارتباط اقتصاديات العالم العربي الإسلامي بالاقتصاد الغربي. هاهي بلادنا العربية الإسلامية تسير في ذيل الأمم، نستهلك أكثر مما ننتج، غذاؤنا لسنا نحن الذين نزرعه حتى إذا بلغت إحدى الدول مرحلة متقدمة في زراعة القمح قامت القيامة ضدها وجاء الخبراء يقولون: نحن نعطيكم القمح بأقل مما يكلفكم. وإذا توجهنا إلى التبادل الاقتصادي بين الدول العربية والإسلامية لوجدناه في حده الأدنى، بينما التبادل التجاري بين الدول الإسلامية والدول الأوربية والأمريكية أكثر بكثير.
أما إذا تحدثنا عن الصناعة في عالمنا العربي الإسلامي، فهل نحن الذين نصنع سياراتنا أو طائراتنا أو نصنع سلاحنا؟ لا تكاد صناعاتنا تتجاوز صناعة أكياس البلاستيك وعلب المناديل الورقية والحفائظ وتعبئة المشروبات الغازية، وصناعة الحلويات والبسكويت وأشباهها. أما أموالنا فهي ذاهبة إلى جيوب الغرب. ما الأموال التي نقوم باستثمارها في بلادنا مقابل ما نستثمر منها في أوربا وأمريكا؟
أليس السلوك الاقتصادي أيضاً جزءاً من الخطر الاستشراقي؟ حيث إن كثيراً من أبنائنا الذين درسوا في الغرب عادوا وقد ترسخت معهم عادات استهلاكية معينة أخذوها من الغرب، أو فرضت علينا من خلال السينما العربية أو السينما المستوردة، فأصبحت أنماط سلوكياتنا الاقتصادية مرتبطة بالاقتصاد الغربي. إن ما تستهلكه البلاد العربية الإسلامية من المشروبات الغازية يصل إلى مليارات الدولارات، وقد صرح رئيس إحدى الدول المصدرة للبترول مخاطباً رئيس دولة غربية: إن ما تصدرونه إلينا من (سائل الإمبريالية الأسود)- الكوكاكولا لا تنخفض قيمته كما تنخفض قيمة نفطنا. بل إن برميل السائل الأسود (الكوكاكولا) أغلى أحياناً كثيرة من ثمن البترول. أليس هذا من الخطر الاقتصادي الذي يحاول الغرب من خلاله أن يبقينا تابعين لـه اقتصاديّاً؟
وللاستشراق خطر آخر أخرت الحديث عنه حتى نتـنبّه إليه جيداً. فقبل سنوات حضرتُ مؤتمراً تربويّاً في البحرين تعقده الجمعية العربية للقراءة، وهي فرع من الرابطة العالمية للقراءة، وهي منظمة أمريكية، تهتم في الظاهر بالتعليم والتربية، ولها فروع في شتى أنحاء العالم، وتعقد الندوات والمؤتمرات، وتسهم في نشر العلم والمعرفة (وهي في الحقيقة مؤسسة لنشر الفكر والثقافة الغربية) هذا المؤتمر البحريني كانت لغته الأساسية الإنجليزية، ولاحظوا أن الجمعية اسمها الجمعية العربية. أما المتحدثون، فهم من أمريكا وأوربا من نصارى عرب ونصارى غير عرب. أما التربية والتعليم، فهي ما تنتجه الفلسفة الغربية القائمة على الوثنية اليونانية والوثنية المسيحية المحرفة والمادية العلمانية المعاصرة. أما قيم الإسلام التي جاء بها النبيون فلا وجود لها.
أهذا هو الخطر التربوي الوحيد؟ لا، ولكني بدأت به لأقول: إن المدارس التي تسير في ركاب ما يسمى التعليم المزدوج هي التي ينشأ فيها أبناء كبار القوم أو عِلْيةِ القوم، كما كان أبناء الذوات والمتنفذين يدرسون في المدارس التنصيرية في الخليج قديماً، وفي المدارس الأجنبية حديثاً في الخليج وفي غيره. لقد بدأ مؤتمر البحرين بكلمة لطالبة بحرينية باللغة الإنجليزية. وتوالت الكلمات باللغة الإنجليزية.
وهل الرابطة العالمية للقراءة هي الرابطة الوحيدة التي تهتم بالتعليم في أنحاء العالم وفي محاولة نشر القيم التربوية الغربية في عالمنا؟ لا، يوجد منظمات أخرى، منها على سبيل المثال (التجمع للتربية العولمية) وكأنهم انطلقوا في مفهوم العولمة إلى عولمة التربية. وهل عولمة التربية إلاّ نشر التربية الغربية في جميع أنحاء العالم؟ والسبب في الخوف من أن العولمة المقصودة هنا هي الأمركة أو التغريب؛ فإن الغرب هو الذي يسيطر على هذه المنظمات ويسيرها. وحتى إن حاول أحد أن يدخل إليها وينشر فكره وقيمه ودينه وقفوا لـه بالمرصاد. إن أعضاء من هذه المنظمة كانوا يحضرون مؤتمراً عقد في عمّان بالأردن حول العلاقات العربية الأمريكية عام 1420هـ (2000م) فكم عدد العرب المسلمين الذين يمكن أن يدخلوا هذه المنظمة ويكون لهم صوت فيها؟
ومسألة التأثير في مجال التربية قديمة قديمة، فقد قدمت المؤسسات الكبرى الأمريكية؛ مثل روكفلر وفورد وغيرهما منحاً، وعقدت المؤتمرات حول أمور التربية في العالم العربي الإسلامي، ودعت إلى هذه المؤتمرات كبار رجال التربية من المسؤولين الحكوميين، وبخاصة أن معظم هؤلاء من الذين درسوا في الغرب في مجال التربية أو في الجامعات الأمريكية في بيروت أو القاهرة أو إستانبول.
وهل الاستشراق بعيد عن الجامعات الأجنبية في العالم العربي والإسلامي؟ فقد أصبحت هذه الجامعات معاقل استشراقية في بلادنا؛ لأن الذين يدرسون فيها إما من أبناء البلاد الأوربية أو الأمريكية، أو أبناء البلاد الذين يحملون الفكر الاستشراقي. لقد بدأ الاستشراق في قضية التربية منذ عقود بعيدة، فعندما كان المندوب السامي البريطاني يضع القيود على النشاطات التنصيرية الظاهرية غضب النصارى منه، فقال لهم: إنكم إن جابهتم الشعب العربي المسلم في عقيدته لثار عليكم، ولكني سأقوم بأمر يؤثر في هذا المجتمع- وبالتالي المجتمعات العربية الإسلامية- تأثيراً أقوى وعلى المدى البعيد، فأوكل أمر التعليم إلى القسيس دنلوب الذي وضع المناهج وأشرف على أخطر وزارة في مصر.
أتعرفون أن بعض البلاد العربية الإسلامية كانت تدرس في مدارسها الأرباح الربوية في الصف الأول المتوسط حتى ينشأ الشاب العربي المسلم وهو يرى أن هذه الفوائد أمراً طبيعيّاً وعاديّاً جدّاً، فهو يحسبه في درس الحساب، يحسب الربح البسيط والربح المركب، وكأنه يشعر بأن الربح المركب شيء طيب، فإن كان لـه مال، فلماذا لا يسعى إلى تحصيل هذا الأمر؟ هل وجدتم أخطر من هذا؟ وقس على ذلك بقية المناهج في البلاد العربية الإسلامية التي جعلت مادة الدين واللغة العربية من المواد التي لا يحتاج الطالب أن ينجح فيها لينتقل من صف إلى صف.
إذا كانت هذه بعض مظاهر خطورة الاستشراق، فماذا أعددنا لها؟ نحن بحاجة إلى أن نعرف الخطر بعمق، وأن نعرف كيف يفكر عدونا ويخطط لنستطيع أن نبني نحن خططنا لمواجهته. ولكننا في الوقت نفسه علينا أن نفكر أن نخرج من دائرة رد الأفعال لما فعله ويفعله الاستشراق إلى دائرة الفعل. لقد آن الأوان أن نعرف أن الهوية العربية الإسلامية هي التي تبدأ من الإيمان بالله عز وجل وكتبه ورسله، والإيمان بالجنة والنار إلى معرفة صفات المسلم الذي يقول فيه الحق سبحانه وتعالى:( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك بالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [البقرة:3-5].
نحن بحاجة إلى أن نربي أبناءنا وبناتِنا على الاعتزاز بالإسلام، أليسوا هم الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون شاهدة على الناس
( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرسولَ ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلاّ على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم، إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم)[البقرة:143]. ومن مقتضيات هذه الشهادة أن نعرف العالم الذي نعيش فيه، وأن نعرف الأمم الأخرى، ونعرف كيف نخاطبها بالإسلام. وأختم بقصة حدثت لي مع الشيخ أحمد ديدات، فقد كان في زيارة للمدينة المنورة، زرته لأدعوه ليلقي محاضرة في كلية الدعوة، وفي قسم الاستشراق بخاصة، فاعتذر لارتباطاته، فطلبت مقابلته، ولما عرف أنني من قسم الاستشراق قال لي بأسلوبه القوي الثابت: لعلكم في قسم الاستشراق تقومون بالرد على شبهات المستشرقين، فتقولون لهم: أنتم تتهمون الإسلام بأنه يضطهد المرأة ولكن الإسلام فعل للمرأة كذا وكذا.. لا ليس هذا هو المطلوب في مواجهة الغرب من اليهود والنصارى، ولكن قل لمن يحاورك منهم: انظر إلى مدينة نيويورك ،مثلاً، كم عدد المدمنين على الكحول فيها؟ كم عدد المدمنين على المخدرات؟ كم عدد الشاذين جنسيّاً والشاذات؟ ألا ترون نسبة الطلاق في مجتمعاتكم؟ كم عدد البيوت التي فيها أب وحده أو أم؟ ولو أضفت لـه أرقام الإحصائيات عن الجرائم بأنواعها من سرقة وقتل واغتصاب وسرقة سيارات وغيرها لما وجد ما يجيبك، ثم قل لـه: إن الحل لكل مشكلاتكم إنما هو في الإسلام.
نعم إننا بحاجة إلى أن نطبق الإسلام في حياتنا فنحن هداة خير، ورسل رحمة إلى البشرية، فمتى نحمل رسالتنا بجدارة. وأتساءل: ألم يأن الأوان لنقف في وجه الاستشراق ومخاطره، وأن نقوي مدارسنا، وأن نستغني عن الجامعات الأجنبية؟ فقد قال العلماء: إن تلقي العلم- وبخاصة العلوم النظرية- يجب أن يكون على يد مسلم تقي ورع مأمون في دينه وأخلاقه، ونحن قد جعلنا الحاقدين على الإسلام أساتذة لنا؟
لسنا دعاة انغلاق، ولكننا دعاة احترام لهويتنا وقيمنا وثوابتنا. إنّ الأمم الأخرى لديها ما يقوي تمسكها بدينها وأخلاقها. ألا ترون كيف أصدرت الحكومة الفرنسية، أو أعلى مجلس تشريعي فيها، قرارات بمعاقبة من يستخدم ألفاظاً أجنبية وهو يجد في الفرنسية بديلاً لها. فنحن أولى بالمحافظة على هويتنا وديننا. أسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا جميعاً للعودة لدينه عوداً جميلاً، وأن يشعَر كلُّ واحد منّا أنه على ثغر يجب عليه أن يحرسه حتى لا يأتي الأعداء من خلاله. ولنتذكر قول الصديق - رضي الله عنه - : «الله الله أن يؤتى الإسلام وأنا حي» والحمد لله رب العالمين.
* **