يميز كارل بوبر بين ما يطلق عليه الأخلاق "القديمة لدى المثقفين"، وبين ما يدعوه "أخلاقاً جديدة" : الأولى تضع الإنسان فوق مستوى الأخطاء، وتمنعه من أن يقترفها، وهي أخلاق لا متسامحة، والأخرى تعترف له بالحق في الأخطاء، ولا تطلب منه أن يعتذر عنها، وهذه أخلاق التسامح.
هذا الربط بين التسامح والخطأ له، كما نعلم، أصوله في أدبيات التسامح. فهو يعود لفولتير، أي لأحد كبار فلاسفة التسامح. وبوبر نفسه يعترف، كما يقول، "بأنه معجب إعجاباً كبيراً بالصياغة التي وضعها فولتير تحديداً للتسامح" ، حيث يجعل فولتير الخطأ أساس التسامح. كلنا قابلون لأن نخطئ، ولأن ننادي بارتكاب الخطإ. فـ "علينا، بشكل دائم، أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا"، و"انه لمن الجودة بمكان أن يقول المرء : قد أكون أنا على خطإ، وقد تكون أنت على صواب. فإذا قال الطرفان معاً هذا القول، سيكون هذا على الأرجح، كافياً للوصول إلى تسامح متبادل". معنى ذلك أساساً أن الدنو من الحقيقة، في هذه الأخلاق الجديدة، لا يعني بالضرورة تحقيق الإجماع، لا يعني بالضرورة محو الاختلافات. نفهم ذلك بكل سهولة إن نحن استحضرنا في ذهننا أن النقطة/المرجع في هذه الأخلاق هي الخطأ وليس الحقيقة. في هذا الباب يعطينا بوبر أمثلة تاريخية هامة - إذ لا ينبغي أن ننسى أنه فيلسوف علم قبل كل شيء - أمثلة على كون "الدنو من الحقيقة عبر التخاطب والحوار لا يعني تحقيق الاتفاق" ورفع الخلافات. يقول : "هناك في تاريخ العلوم، نقاشات شهيرة لم تؤد أبداً إلى أي اتفاق بين المتناقشين. ومن أشهر هذه النقاشات في قرننا العشرين، النقاش الذي دار بين أكبر عالمي فيزياء في عصرنا، أ.آينشتاين و نيلس بوهر. لم يؤد النقاش الذي دار بينهما إلى أي اتفاق. غير أن المهم هو أن كلاً منهما قد جعل آراءه أكثر وضوحاً، وأن كلاً منهما قد تمكن من العثور على محاجّات جديدة، و فائقة الأهمية". لنقل نحن إن كلا منهما اقترب من الآخر بابتعاده عن نفسه.
ليس التسامح إذن طريقاً محفوفاً باليقينيات والتوافقات، وإنما هو طريق الأخطاء والاختلافات. إنه ليس طريق التقارب والإجماع، وإنما طريق التباعد والخلاف. قد يبدو هذا الأمر نوعاً من المفارقة، خصوصاً إذا استحضرنا المعاني الأصلية للمفهوم، كما نلفيها عند أحد المؤسسين له فلسفياً، وأعني لوك، الذي يقرن في رسالته التسامح بـ "المحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة"، أو حتى إذا اكتفينا باستحضار المعاني اللغوية للكلمة التي تدل - كما نعلم - على الجود والسخاء والتوافق والقبول والتساهل.
لكن بعيداً عن هذه الأصول اللغوية والفلسفية، وربما ضدها، تدعونا هذه الأخلاق الجديدة إلى أن نعتبر أن القضية لا ترتد إلى الوقوف على بعض الحقائق، وغض الطرف عن زلات الآخرين وأخطائهم، وإنما أن نأخذ أخطاءنا على عاتقنا، ألا نتنكر للخطإ، أن نؤمن بـ"الحق في الخطإ" على حد قول روزا لوكسمبورغ.
مقابل الأخلاق التي تجعل المثقف خادم الحقيقة، تقوم أخرى تنظر إليه على أنه يمكن أن يكون سيد الخطأ، وتقر بأن مسؤوليتنا الفكرية ليست هي مسؤولية الدفاع عن الحقيقة ورعايتها، كي لا نقول التشبث بها وتقمصها، وإنما هي مسؤولية تقصي الأخطاء، مسؤولية الانفصال وأخذ المسافات على حد تعبير نيتشه، وهي مسؤولية مشتركة. على هذا النحو يغدو التسامح هو ما بفضله نبتعد أنا والآخر، عن أنفسنا بهدف التقائنا معاً وتقبل كل منا لاختلافاته، ودخولنا في حوار ننفصل بواسطته عن ذواتنا وننفلت من الوثوقية ونتحرر من عبودية الحقيقة.
المصدر: http://www.alawan.org/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%AD.html