حوار الأديان التفاف على عناصر الصراع
حوار الأديان التفاف على عناصر الصراع
بقلم: هوزان خداج
يتّسم العصر الحديث بالعديد من المقولات النابعة عن السعي لتحقيق التعاون الدوليّ في ظلّ النظام العالميّ الجديد؛ الذي يتطلّب توظيف كافّة الثقافات للاستفادة منها في العمليّات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تتحدّى الإنسان، من حماية البيئة والترشيد في استهلاك الموارد الطبيعية، وأزمة الطاقة والعمالة، وحماية السلام ونزع السلاح، إلى المساواة والدفاع عن حقوق الإنسان.. وصلت هذه التحدّيات أوجَهَا في ظلّ النظام الاقتصاديّ الحاليّ الذي يديم استغلال موارد المحيطات على صعيد الموادّ الخام والعمل والعمالة، واستمرار المصلحة المستأثرة التي تؤدّي إلى الصراع والتعصّب الدينيّ، والإرهاب الرسميّ وغير الرسميّ، والعنف والاحتلال، وذهبت كافّة الجهود المبذولة دون أن تثمر تعاونا حقيقيا بين الدول لحلّ المشكلات العالميّة وتحقيق تنمية عادلة ومتوازنة؛ لهذا بدأ البحث داخل بنية الدول عن تفعيل ما يوفّر مداخل للحوار والتفاهم والتقارب، لخلق إمكانية تقييد عناصر الصراع التي تسود علاقة الدول بعضها ببعض، وتضمّنت المقولات التي تمّ التداول فيها في العقود الأخيرة من القرن العشرين بعض المعطيات لتنفيذها، مثل احترام الحياة الإنسانية، والحاجة إلى القيم الروحية، والتضامن الإنسانيّ، وهي بمجملها تظهر وقع القيم الروحية باعتبارها عصبا له جانب كبير من الأهمّية في تحريك علاقات الجماعات البشرية المختلفة وطبائعها وأنماطها ويوجّه دوافعها ومساراتها في مجرى التاريخ، هذه القيم الروحية متمثّلة بشكل أساسيّ في الدّين الذي تحوّل إلى حالة من التعصّب وعدم قبول الآخر عند كثير من الجماعات، وفرض وجوده كأزمة من أزمات العصر في ظلّ غياب الحكومات العلمانية التي تبقيه في إطار العلاقة الخاصّة للفرد مع ربّه وتبعده عن السياسات العامة للدّول.
على هذا كانت انطلاقة الحوار بين الأديان، وفتح باب الحوار من الجانب الكاثوليكيّ، بين المسلمين والمسيحيين، الذين اتَّهم بعضهم بعضًا لأكثر من ألف وأربعمائة عام بأخطاء عقائدية، مع انعقاد المجمع الكاثوليكيّ الثاني عام 1965 وذلك في الإعلان البابويّ الذي صدر بعنوان "في زماننا هذا". وفي عام 1995 أسّست "اللجنة الإسلامية الكاثوليكية للتعاون"، وفي عام 1998 أبرم البابا يوحنا بولس الثاني اتِّفاقية مع جامعة الأزهر المصرية، وتلاها عقد حوارات ومحادثات في بلدان إسلامية أخرى، إلى أن اتَّهم البابا بنديكتوس السادس عشر الإسلام في محاضرته التي ألقاها في جامعة ريغنسبورغ بالخروج عن العقل وبالعنف، معتبرا إيّاها رسالة مفتوحة للحوار وإنّ مستقبل العالم يتوقَّف على السّلام بين المسلمين والمسيحيين، لينعقد في شهر تشرين الثاني 2007في روما، أوّل اجتماع للملتقى الإسلاميّ الكاثوليكيّ تحت شعار "محبّة الله ومحبّة الآخر"، واستقبل البابا ممثِّلين عن جميع الديانات العالميّة أثناء لقاء لصلاة جمعت ممثِّلين عن أديان متعدِّدة وأقيمت في مدينة نابولي، وفتح ممثِّلو الديانتين فصلاً جديدًا في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، تلاه العديد من المؤتمرات كمؤتمر حوار الأديان العالميّ الذي أقيم في مدريد برعاية السعودية، والمؤتمر الإسلاميّ العالميّ للحوار الذي عقد في مكّة.
هذا من الجانب المسيحيّ الإسلاميّ أما الجانب اليهوديّ، فقد وردت كثير إصدارات كثيرة كنشر مجلّد جديد يحتوي تسع مقالات تتناول الحوار الدينيّ في العصور الوسطى ويشير إلى قضايا الهوية الأوروبية، وبعض هذه المقالات ترجع إلى ندوة بحث عقدت في جامعة فرانكفورت، وكانت تتحدث عن الالتقاء اليهوديّ مع بقيّة الأديان منذ العصور الوسطى إلى يومنا هذا، فالناشران الكسندر فيدورا وماتياس لوتس باخمان، بحثا في إصدارهما "اليهود والمسيحيّون والمسلمون وحوار الأديان في العصور الوسطى"، الأسباب الفكرية للتسامح الدينيّ في القرن الثاني عشر. وضّح فيدورا فيه، أنّ مصطلح التسامح ينطبق على العصور الوسطى، حيث ذكر مثالا على ذلك العالم اليهوديّ أبراهام داوود والعالم المسيحيّ دومينيك جونديسالينوس. والناشر الثاني ماتياس لوتس باخمان اهتمّ برجل الدّين توما الأكويني وبالنصف الثاني من القرن الثالث عشر.. وأتى المقال الذي ألقاه هانس دايبر، المتخصّص في اللغة العربية، في ندوة بحث عقدت في جامعة فرانكفورت، وتحدّث فيه، عن رومان لول المولود في مايوركا عام 1234 الذي أبحر عام 1307 إلى مدينة بوجيه"عنّابة" بشمال الجزائر وتناقش هناك بالعربية مع أحد الفقهاء المسلمين، وبات يقارن نفسه كمسيحيّ بديانات التوحيد الأخرى، ويعتبر نصّ هذا الحوار الذي كتبه لول مرجعا مهمّا للتاريخ الفكريّ الأوروبيّ. أمّا الباحث الأميركيّ مارك كوهين أستاذ دراسات الشرق الأوسط والتاريخ اليهوديّ في جامعة برنستون والأستاذ الزائر والباحث في القاهرة والقدس وفي معهد الدراسات المتقدّمة ببرلين نشر كتابه "في ظلّ الصليب والهلال" مراجعة بياته هنريشس، دار نشر بيك، ميونيخ مارس/آذار 2005، مسلّطا الضوء على أوضاع اليهود في المجتمعات الإسلامية والمسيحية في العصور الوسطى وقدّم تحليلا لسبب الاختلاف في التعامل مع هذه الأقلّية في أوربّا والعالم الإسلاميّ.من جانب آخر تمّ إنشاء بعض المنظمات التي تعمل لإظهار الاحترام المتبادل لليهود والمسلمين كمعهد أرافا ومؤسّسة "المسلمون من أجل القيم التقدّمية"، الذي تعمل فيه مهناز أفريدي باكستانية الجنسية، التي تدرّس اليهودية والإسلام في عدد من جامعات جنوب كاليفورنيا. وتأتي جمعية أصدقاء نيفي شالوم/واحة السلام الأميركية التي تديرها ديانا أرمبروستر مؤلفة كتاب "دموع في الأراضي المقدّسة، أصوات من إسرائيل وفلسطين"، محاولة لإظهار العلاقة الجيّدة بين المسلمين واليهود. أمّا من حيث المؤتمرات، فقد كانت أولى المشاركات اليهودية في مؤتمر الدوحة لتعزيز الحوار بين الأديان الذي شارك فيه 86 شخصية تُمثّل الأديان السماوية ومن بينهم 8 حاخامات من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية في حين غاب عنها حاخامات من إسرائيل تمّت دعوتهم لحضور هذا المؤتمر. ليأتي في النهاية مؤتمر نيويورك، مدينة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، الذي استضافت فيه الأمم المتحدة بمبادرة من الملك عبد الله بن عبد العزيز بمشاركة سبعة عشر رئيس دولة وحكومة مؤتمر الحوار بين الأديان؛ الذي كان حوارا سياسيا بامتياز لأنّ القيّمين عليه هم ملوك ورؤساء ووزراء وقادة مجازر.
ممّا لاشك فيه، أنّ هذه المبادرات للحوار بين الأديان، تأتي في ظلّ النزاعات السياسية التي طال أمدها واختلطت فيها الأمور الدينيّة والثقافية بالأمور الاقتصادية والسياسية، لتكون مجرّد حوار طرشان في المنحى الدينيّ بالنسبة للدول العربية، وحوار مصالح في المنحى الاقتصادي السياسيّ للعالم الغربيّ، وذلك لعدم التوافق فيما يتحاورون لأجله وإلى ما سيصلون إليه، وهل هو بشأن الأديان أم أنّه مجرّد محاولات التفاف على الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، وهنا يجدر القول إنّ الاهتمام الغربيّ بالأديان وحصرا الإسلام لديه أسبابه المتمثّلة بوجود النفط، وهو عصب التطوّر المستدام الذي يتمّ التسابق للسيطرة عليه من قبل الدول الصناعية المتطوّرة، في هذه البقعة من العالم التي لا تشترك إلا هامشيا في عملية الإنتاج الصناعيّ، وهنا لا توجد علاقة مباشرة للدّين في موضوع اقتصاديّ سياسيّ بحت، لكنّ السياسة والاقتصاد كانا وما زالا يعملان بالتوازي كأسباب لسيطرة الأقوى وفوزه. أمّا السبب الثاني هو موضوع الهجرة الإسلامية إلى الدّول المتطوّرة والمنفتحة للبحث عن موارد الرزق وعن الحريات، ونتج عنها تجمّعات لها طابعها الخاصّ تعجز نسبيا عن التوافق والانسجام بين ثقافتها وهويتها، وبين المحيط الاجتماعي والبيئة الثقافية المنفتحة والمناخ الفكريِّ العام الذي يعيشون في خضمّه داخل هذه الدول العاملة والمنتجة، وفي معظم الأحيان يتمّ اختزال الجالية الإسلامية في العالم الغربيّ في هويتها الدينيّة وحسب، حيث تنظر الحكومات الغربية إلى المسلمين باعتبارهم فئة ذات إشكاليات اجتماعية، ومنذ السبعينات والأشخاص ذوو الخلفية المسلمة يحتلّون مكانة متقدمة في التقارير التي تتناول المشاكل الاجتماعية والجريمة والاضطرابات والعنف والفقر في كثير من الدول الأوروبية، وفي الثمانينات عانت مدن فرنسية وبريطانية من العنف وكان عدد كبير من المشاغبين ذوي خلفية مسلمة، ولمواجهة خطر الاضطرابات والقلاقل والتوترات الاجتماعية حاولت الحكومات أن تقيم اتصالات مع مجموعات واتحادات ومنظمات تدّعي أنها تتحدث باسم السكان المسلمين، لكنها لم تلغ مسألة انعدام التوصّل إلى حلول بشأن أولئك المهاجرين حتى وإن كانت تلك الأزمات ناتجة عن عوامل مختلفة غير الدين، كالفقر والبطالة و… وبقي اسم الدين الإسلاميّ واضحا في كافّة الاضطرابات التي حصلت كالاضطرابات في شمال بريطانيا في صيف 2001، كما واجهت قوّات الأمن الفرنسية مجموعة من الغوغائيين قاموا بأعمال عنف في المدن وكأنها تواجه ثورة إسلامية، الفارق الأساسيّ بين ما حدث في بريطانيا العظمى عام 2001 وفي فرنسا عام 2005 هو أنّ الحادي عشر من سبتمبر حوّل الانتباه في تلك الفترة إلى ما يطلقون عليه الصراع بين الأديان والحضارات، لتتحوّل بين عشيّة وضحاها مشكلات أوروبا الاجتماعية إلى مشكلات دينيّة بحتة بين الأفواج الأولى من المهاجرين من العالم الإسلامي إلى البلدان غير الإسلامية وبين سياسة تلك البلدان، فبدأت محاولاتها الخارجية بالحوار الدينيّ لتفعيل الثقافات الأخرى والاستفادة من وجودها دون الدخول باشتباكات وضغوطات داخل مجتمعاتها. أمّا السبب الثالث دون التوسّع بأسباب نشأته، فهو بروز الفكر الإسلاميّ السلفيّ المتعصّب والتيّارات المتطرّفة، التي تسعى لتحقيق دار السلام- وهي دار الإسلام- حيث يتعيّن أن يكون العالم أمّة واحدة، تحكمها تقاليد الإسلام، وأنّ الذي يخرج عن قوانينها يتعين محاربته لردّه إلى الصواب، وهذا ما تسعى الدول الغربية إلى محاربته أو تقليصه، رغم أنّها وقعت أحياناً بفخّ التعميم تجاه العالم الإسلاميّ الذي لا يمكننا اعتباره بالكامل أصوليّا أو متطرّفا، وإنّ الحركات الأصولية والإرهاب يتمّ دعمها وتوجيهها لأهداف سياسية وليس دينيّة فقط، وإنّ الفكر الدينيّ المتطرّف هو فكر آيل للسقوط بفعل التقادم لأنّ الزمن يمشي إلى الأمام فقط وهذه حتمية لا مفرّ من مواجهتها يوماً بالنسبة لهذه التيارات.
إنّ هذه الأسباب تجعل من حوار الأديان مجرّد لعبة سياسية تنقصها الأسس الصحيحة في ظل النزاعات السياسية؛ التي لا تحلّ إلا من خلال الحوار السياسيّ، ولا يمكن تحققيها طالما بقيت أسباب العداوة الفاضحة موجودة، كالحروب في أفغانستان والعراق وفلسطين وغيرها.. ولا يمكن اعتماد مصداقية الدول العربية التي تدعو إلى هذه الحوارات طالما تحمل في جوانب مجتمعاتها الكثير من الشقاقات الدينيّة أو الأثنية فهي لم تنجح في خلق هوامش حوار داخل بلدانها لتستطيع إيجاده مع الدول المتطوّرة، ولأنّها جملة بلدان ضعيفة متخلّفة ومتعارضة، غير قادرة على الوجود كطرف واحد ذي شخصية واحدة متميّزة في موضوع الحوار ونديّته، ولا يمكن اعتبارها ندّا للدول المتطورة صناعياً وتكنولوجياً، والأهم إنسانياً على صعيد قوانين المجتمع المدنيّ البعيدة كلّ البعد عن التمييز بين إنسان وآخر، وهو ما يبرز أن قضية الخلاف بين الغرب والشرق ليست فقط قضايا دينيّة وإنما قضايا سياسية ونضال للحصول على الموارد ومصالح ذاتية واستقلال وعلاقات قوّة وسيطرة ومحاولات لإحراز بعض المصالح من قبل الضعفاء ليس أكثر، وإنّ اعتماد الحوار الدينيّ هو مجرد غطاء هشّ لتمرير الاتفاقات السياسية والاقتصادية، التي تسير نحو قمع وإلغاء الاختلافات الثقافية والحضارية والدينيّة أو لخلق تسوية بين القيم المختلفة التي تميزها.. فلو أرادت هذه الدول الحوار بشكل فعليّ لسعت إلى العمل فيما وراء الثقافات الخصوصية، لإيجاد قاسم مشترك إنسانيّ أعظم من القيم الخاصة المغلقة وإيجاد فرص أكبر لتنويع المرجعيات، حتى نستطيع الوصول للانفتاح على الآخر والدخول مرحلة المجتمع المدنيّ فهو الذي يؤسّس لبناء حضارات مكتملة بإجماع إنسانيّ.
المصدر: http://www.alawan.org/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%86.html