لنعترف أنّ معظم معاركنا الفكرية في سوريا، معارك من فوق الحياة لا من تحتها، فالحياة السورية، تطرح إشكالات جوهرية تتصل بصلب الحياة من مثل: " العمل ومشاكل البطالة، التنمية الاقتصادية والصراع الدائر بين قوى السوق وقطاع الدولة، مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي وما ترتب عنه من تداعيات على لقمة الخبز وطرائق التفكير والعقائد"، وكذلك مشاكل تتصل بهجرة الريف إلى المدينة وهجرة المدينة إلى العالم الآخر، وهو التصحّر بما يحمل من بعد فكري وثقافي وربما أخلاقي"، والكثير من المشاكل التي تأتي تسبق في ترتيبها :" المثلية الجنسية، والأدب النسائي، والعراك بين شاعر لا يكتب القصيدة وشاعر ينقلها من شاعر راحل"، وبين المعارك القادمة من خارج الحياة وتلك القادمة من تلافيفها، ستظهر مشكلة قد تبدو من خارجها، ولكنها في الحقيقة من أساسها، وهي مشكلة معلقة على :" المجاملة والخوف والتأجيل"، وربما تنحية المشكلة وإدارة الظهر لها، باعتبار المشكلة " لا مشكلة" إن لم تلكم وجوهنا وصدورنا، وتلقي باللكمات على كامل الحياة فينا، وعنوان المشكلة :" الدين والدولة".
بداية، كل المشكلة تكمن في إنكار المشكلة، ولهذا ثمّة تصريحات من رجال دين ومن رسميين حكوميين، وكذلك من نخب سياسية وفكرية تقول، بأنّ سوريا لا تعاني لمن مشكلة تعايش ولا من مشكلة حوار ديانات، والدين وهو مادة ثانوية في الشهادة الثانوية، هو كذلك مادة ثانوية في الحياة نفسها. وهذا ليس صحيحا بكلّ المقاييس. والدليل أنّك لو واجهت واحداً من فطاحل الدعوة إلى (التعايش)، بزواج ابنته من غير دينها، وربما من غير مذهبها، وربما أيضا من مذهب على أطراف مذهبها، لتحوّل من متعايش إلى ناب ذئب. وهذا وحده يكفي للقول إنّ هنالك مشكلة، فكيف الحال مع التكفير وقد ضرب رأس الكثير ممّن كتبوا في نقد الفكر الديني، فما بالكم بتلك (التفقهات) التي تنال من (المرتدين)، وكلها تحت اللحاف، وما أن تنهض برأسها حتى تصير المشكلة المؤجلة مشكلة قائمة، وما التأجيل إلا "تأجيل" إطلاق الفكر النقدي، الذي ينحاز إلى الحياة بدل أن يبحث في جثث الموتى، وليس التأجيل إلا إيقاظا لكلّ نائم، والنائم لا بدّ أن يصحو؟
المشكلة ليست حصرية، فهاهي تعلن عن نفسها في مصر وفي الجزائر وفي اليمن، والعراق أكثر إعلاناتها دموية. وكلها، لو عدنا إلى جذورها لرأينا جذورها في إنكار اليوم لها، لتصبح قضية الغد الدامية، وتعطيل حوارها أو تأجيله في واقع الحال، ليس إلا تعطيلا للمتنوّر من النظر إليها، أمّا المظلم منها، فلا بدّ أنّه ينمو في الظلام ليعلن ظلاميته في أيّ نهار يقع تحت قبضته. وهذا يدعو للإعلان المعكوس وهو الإعلان عن المشكلة، ولنقل من هم أطراف المشكلة:
على الجانب الأوّل الدينيون بتنويعاتهم، وفي المتنوّع منهم، التكفيريون الذين يسحبون الحياة إلى الخلف ويَسِمُون المستقبل بكل اللعنات التي يحملها قاموسهم، إن لم يكن مستقبلا مفصّلا على قياس فقههم. وعلى الجانب الثاني صراع الظلاميين مع الظلاميين أنفسهم، وهؤلاء ينتمون إلى كل الملل والمذاهب والطوائف والديانات السماوية والوضعية. وعلى الطرف الثالث يقف العلمانيون واللادينيون والملحدون، والمتسائلون الذين لم يحسموا شؤون دنياهم وآخرتهم، ووحدهم هؤلاء من لا ظهرَ لهم ولا سندَ ولا مؤسسة ولا تمويل ولا إعلام. ووحدهم مشرذمون أفرادا، تغتصب أفكارهم ومواقفهم وعقائدهم منذ الولادة حيث لا يولدون إن لم يعمّدهم دينيٌّ بدشداشته، ولا يعترف بموتهم إن لم يلقنهم دينيٌّ أصول مغادرة الدنيا، ووحدهم أيتام بين متحاربين يتوافقون حين يجدّ الجدّ عليهم. وليس بعيدا مشهد خالد بكداش المسجّى في جامع من حيّ الأكراد الدمشقي، ووراء المصلّى جحافل من العمامات التي تلعن الشيوعية بعد أن عايشها الراحل من انطلاقة دولتها ومؤسّسها، حتى انهيارها على يد ميخائيل غورباتشيف، ولم يكن بوسع حزب شيوعيّ كالحزب الشيوعي السوري، أن يقرأ ما العمل؟ أو البيان الشيوعي، الكتاب الأكثر حظوة لديه فوق الجسد المسجّى، فيما حلّ المقرئ الشيخ فوق كلّ الأعلام الشيوعية. وهذا حال هادي العلوي، وقد حمله واحد من مشايخ الشيعة إلى مثواه الأخير آخر تعاليم الحوار مع جيرانه الموتى، ولا بد أن يكون هذا حال كاتب هذه السطور، وهو درزيّ منشغل بصفات الحاكم بأمر الله، باعتباره (أي الحاكم) شخصية شيزوفرانية، تصلح لحياة الرواية أكثر مما هي صالحة لرواية الحياة إن شئنا.
في المعادلة أطراف ثلاثة:
دينيون ينتمون إلى دينيين.
دينيون يكفّرون دينيين.
وثالث غائب إن أعلن عن نفسه، فلا بدّ أن تتجاور سكاكين المتناقضين من الدينيين متوافقة في جنازته، وهذا ليس حال الشارع وحده، بل هو حال النخب. وربّما ستكون المعارضات السورية، حريصة على استمراره، تماما كالنخب السائدة. وكلّ من يستحضر المعارضات السورية، بما في ذلك اليسارية منها، لا بدّ أن يعثر على ملامح التكفيريين بين (الكفار) أنفسهم، ودلائله ستظهر لاحقا بين الليبراليين الجدد، الذين أخذوا بالنموذج الأمريكي، فذهبوا إلى مؤتمر واشنطن للمعارضة السورية، وهناك استعادوا الحظيرة العربية، دون أن يستعدّوا لحاضرة الدولة، والدولة هنا ستأتي بمعنى :"دولة المواطن"، والتي تتحدد بنفي التمييز العرقي أو الديني أو الاثني أو الجنسي، لتكون الدولة بين ظهرانيهم:" دولة الكردي نقيض العربي، ودولة السنّيّ الذي يكفّر العلويّ، ودولة الرجل الذي مازال يعتبر المرأة ناقصة عقل وبنصف دين إن شاء أو بلا دين أصلا".. وهكذا سيلتقي المجموع الحائر بهويته، على إسقاط هوية الدولة، لاعتبارات الطائفة والقبيلة، وربما ما قبل قبل القبيلة والطائفة، وهذه باتت مشكلة سورية ممتازة، وهي المشكلة التي لم تسمح بظهور إسلاميّ متنوّر كما حال المصريّ جمال البنّا، وأجهضت احتمال ظهور علماني متنوّر بحجم اللبنانيّ حسين مروة، وأطلقت حوارات خجولة سقفها ما كتبه صادق جلال العظيم منذ ستّينات قرن فات، بدا وكأنه قرنٌ لن يتجدّد.
العلمانيون واللادينيون والملحدون في بيوتهم (هذا إن كانت لهم بيوتٌ)، أمّا عدد المساجد في سوريا فقد زاد عن (13) ألف حسب تقديرات تقترب من الدقّة عدا التكايا والزوايا والمساجد الصغيرة في مؤسسات وشركات، أما الكنائس فأجراسها تقرع في كل الأمكنة بما فيها القرى ذات الأقلية المسيحية، وللطوائف والمذاهب نصف الإسلامية وربع الإسلامية، مساجدها ومجالسها وهي بازدياد. وحين تذهب مجموعة من موسيقيي الروك أندرول، إلى واحد من أقبية المدينة لاستعادة شيء من ألفيس برسلي، فالنتيجة مداهمتهم بصفتهم " عبدة شيطان".
المساجد والكنائس والصومعة، تجد نفسها لتجدّد نفسها، فيما الأحزاب العلمانية، والأفكار التنويرية والشخصيات الملحدة، تحتجب وتختبئ، وحين تعلن، تعلن في المقاهي همسا، والكلّ ينام تحت سقف عباءة أو عمامة، وفي الكل:
واحد ينمو والآخر يخبو و:"يا دينيي العالم اتحدوا".